الشهید السید محمد باقر الصدر

آل الصدر

السيد صدر الدين الصدر

هو السيد صدر الدين محمّد بن السيد صالح، بن السيد محمّد، بن السيد إبراهيم شرف الدين، بن زين العابدين، بن السيد نور الدين الموسوي العاملي.

هو فخر من مفاخر الشيعة، وعالم فذّ من كبار علماء المسلمين، ومن نوابغ العلم والأدب، قلّ من يضاهيه في الفضيلة والتقوى.

ولد في قرية (معركة) من قرى جبل عامل، ونشأ ونما علميّاً في النجف الأشرف، ثم هاجر إلى الكاظميّة، ومنها إلى اصفهان، ثمّ عاد إلى النجف الأشرف، وتوفي ودفن فيها رحمه اللّه.

والده (السيد صالح) من أكابر العلماء، وكان مرجعاً للتقليد، وزعيم الطائفة الاماميّة في بلاد الشام، هاجر من جبل عامل إلى النجف الاشرف فرارا من الحاكم الظالم في جبل عامل وقتئذٍ (أحمد الجزّار) وتوفي في سنة (1217) هـ / (1802 م).

ولد السيد صدر الدين الصدر في (21) من ذي القعدة من سنة (1193 هـ / 1779 م) في جبل عالم، هاجر في سنة (1197 هـ / 1783 م) مع والده إلى العراق، وسكن النجف الأشرف، واهتمّ بتحصيل العلوم الأسلاميّة والمعارف الإلهيّة في صغر سنّه، حتى إنّه كتب تعليقة على كتاب قطر الندى وهو ابن سبع سنين. وقد نقل عنه أنّه قال: حضرت بحث الاستاذ الوحيد البهبهاني في سنة (1205 هـ / 1790 م) وكنت أبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، وكان الاستاذ معتقداً بحجّيّة مطلق الظنّ، ومصرّاً على ذلك. وحضرت في نفس السنة بحث العلامة الطباطبائي السيد بحر العلوم، وقد قالوا: إنّ السيد بحر العلوم كان ينظم آنئذٍ ما أسماه بـ (الدرّة) وكان يعرضها على السيد صدر الدين لما يلاحظ فيه من كماله في فنّ الأدب والشعر.

وقد ذكر السيد حسن الصدر في تكملة (أمل الآمل) أنّ الشيخ جابر الكاظمي – الشاعر المعروف مخمّس القصيدة الأزريّة – قال: (إنّ السيد الرضي أشعر شعراء قريش والسيد صدر الدين أشعر من السيد الرضي).

بلغ السيد صدر الدين الصدر مرتبة الاجتهاد قبل بلوغه سنّ التكليف، وقد أجازه بالاجتهاد صاحب الرياض رحمه اللّه في سنة (1210 هـ / 1795 م) وصرّح بأنّه كان مجتهداً قبل أربع سنين.

وهذا يعني أنّه قد بلغ الاجتهاد في السنة الثالثة عشرة من عمره الشريف، وهذا مالم يسمع نظيره إلّا بشأن العلامة الحلي والفاضل الهندي، على أنّه يفوقهما في فنّ الشعر والأدب.

وقد ذكر السيد حسن الصدر في تكملة (أمل الآمل): أنّ الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر والشيخ حسن بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء – وهما من أكابر أساتذة النجف الأشرف – كانا يُدينان بالفضل للسيد صدر الدين عند رجوعه من اصفهان إلى النجف الأشرف، وكانا يجلسان لديه جلسة التلميذ لدى أستاذه.

ودخل يوماً السيد صدر الدين على المحقّق صاحب الجواهر رحمه اللّه فأقبل صاحب الجواهر إليه آخذاً بعضده، وأجلسه محلّه وجلس أمامه وتذاكرا في العلم والفقه، وانجرّ الكلام إلى اختلاف الفقهاء في مسألة مّا، فبيّن السيد ببيان فائق اختلاف الفقهاء في تلك المسألة مع اختلاف طبقاتهم من العصر الأوّل إلى زمانه، وفرّع الخلاف في ذلك على اختلافهم في المباني والمسالك، وشرح تلك المباني والفروق فيما بينها .. فتعجّب الشيخ صاحب الجواهر من تبحرّ السيد، وقال بعد ذهاب السيد: (يا سبحان الله، السيد جالس جميع العلماء وبحث معهم، ووقف على أذواقهم ومسالكهم. هذا واللّه العجب العجاب، ونحن نعدّ أنفسنا من الفقهاء! هذا الفقيه المتبحّر).

وكانت للسيد رحمه اللّه كلمات ومقاطع خاصّة لدى مناجاته للّه تعالى منها قوله:

رضاك رضاك لا جنات عدن*** وهل عدن تطيب بلا رضاكا

تزوج السيد صدر الدين رحمه اللّه ببنت الشيخ الأكبر صاحب كاشف الغطاء، وولدا ابناً اسمه السيد محمد علي المعروف بـ (أقا مجتهد) وكان من أكابر عصره ونوادر دهره.

وقد ابتلى السيد رحمه اللّه في أواخر حياته في اصفهان باسترخاء في بدنه شبه الفالج، ورأى في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له: أنت ضيفنا في النجف الأشرف، فعرف السيد من هذه الرؤيا أنّ وفاته قد اقتربت، فهاجر إلى النجف الأشرف، وقد توفي في ليلة الجمعة أوّل شهر صفر من سنة (1264 هـ / 1848 م) ودفن في الزاوية الغربيّة من الصحن الشريف قريباً من الباب السلطاني.

مؤلفات السيد صدر الدين

  1. اسر العترة، كتاب فقهي استدلالي.
  2. القسطاس المستقيم في اصول الدين.
  3. المستطرفات في فروع لم يتعرّض لها الفقهاء.
  4. شرح منظومة الرضاع، وهي ما نظم بها كتاب الرضاع باسلوب رائع، ثمّ شرحها، كما شرحها أيضاً آية اللّه الميرزا محمد تقي الشيرازي.
  5. التعليقة علي رجال أبي علي.
  6. قرّة العين، كتاب في علم العربية كتبه لبعض أولاده. وقد ذكر تلميذه في‏ أوّل معدن الفوائد: أنّ كتاب قرّة العين على صغره يفوق المغني لابن هشام على طوله.
  7. شرح مقبولة عمر بن حنظلة.
  8. رسالة في حجّيّة الظنّ.
  9. رسالة في مسائل ذي الرياستين.
  10. قوت لا يموت، رسالة عمليّة باللغة الفارسيّة.

مشايخه

روى السيد صدر الدين رحمه اللّه عن أكثر من أربعين عالماً، نشير إلى بعضهم:

  1. روى عن والده واستاذه السيد صالح، عن جدّه السيد محمّد، عن استاذه الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي بجميع طرقه المذكورة في آخر الوسائل.
  2. روى عن العلامة الطباطبائي بحر العلوم المتوفي سنة (1212 هـ / 1797 م)، وكان يعبّر عنه بالاستاذ الشريف.
  3. روى عن العلامة المير علي صاحب الرياض المتوفي سنة (1231 هـ / 1816 م).

وكان السيد معجباً بصاحب الرياض، وكان يعتقد أنّه يفوق المحقّق القمّي صاحب القوانين في الفقه وقوّة النظر.

  1. روى عن المحقّق السيد محسن الأعرجي صاحب (المحصول)، وكان السيد رحمه اللّه معجبا بزهده وتحقيقاته، توفي سنة (1228 هـ / 1813 م).
  2. روى عن السيد الجليل المتبحّر الميرزا مهدي الشهرستاني الموسوي الحائري المتوفي سنة (1278 هـ / 1861 م).
  3. روى عن الشيخ الجليل الفقيه الشيخ سليمان معتوق العاملي المتوفى‏ سنة (1228 هـ / 18133 م).

طلابه

وقد ربّى السيد صدر الدين علماء تخرّجوا علي يده منهم:

  1. السيد ميرزا محمّد هاشم صاحب كتاب (أصول آل الرسول).
  2. السيد محمّد باقر الموسوي صاحب كتاب (روضات الجنّات).
  3. شيخ الفقهاء والمجتهدين الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه اللّه صاحب كتابي (المكاسب والرسائل).
  4. حجة الإسلام السيد محمد حسن المجدّد الشيرازي قدس سرّه.
  5. الشيخ شريف العلماء.

السيد إسماعيل الصدر

استاذ الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى السيد إسماعيل الصدر، ولد في اصفهان سنة (1258 هـ / 1842 م). والده المرحوم السيد صدر الدين العاملي الذي مضت ترجمته.

بعد وفاة والده عام (1264 هـ / 1848 م) تربّى في كنف أخيه السيد محمّد علي المعروف بـ (آقا مجتهد) وكان معروفاً بالذكاء الخارق حتى عدّ في أوائل بلوغه سنّ التكليف من العلماء الفضلاء.

هاجر في سنة (1280 هـ / 1863 م) من اصفهان إلى النجف الأشرف‏ لغرض التتلمذ على يد الشيخ الأنصاري، ولكن حينما وصل إلى كربلاء توفي الشيخ الأنصاري، فلم ينثنِ السيد إسماعيل عن عزمه الهجرة إلى النجف الأشرف، فسافر إليها، وتتلّمذ على يد الفقهاء والعلماء آنئذٍ، كما اشتغل بالتدريس وتربية الطلاب أيضاً.

اكتسب السيد رحمه اللّه في فترة بقائه في النجف الأشرف إضافة إلى الفقه والاصول والحديث معلومات أخرى عقليّة، كعلم الكلام والفلسفة والرياضيات والهندسة والهيئة والنجوم على النسق القديم، مع الاطلاع على آراء جديدة.

وأخيراً أصبح من خواص تلاميذ المجدّد الشيرازي، وبعد هجرة المجدّد الشيرازي إلى سامراء بقي السيد الصدر يمارس نشاطه العلمي في النجف الأشرف.

سافر في النصف من شعبان من سنة (1309 هـ / 1981 م) إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السّلام، وهناك وصلته رسالة من استاذه الشيرازي يطالبه فيها بالسفر إلى سامراء فلبى دعوة أستاذه، وذهب إلى سامراء، وكان عازما على الرجوع إلى دار هجرته النجف الأشرف، لكنّه حينما وصل إلى سامراء ألزمه استاذه بالإقامة فيها. وكان السبب في ذلك أنّ السيد المجدّد الشيرازي كان قد ترك التدريس في سنة (1300 هـ / 1883 م) تقريباً: لكثرة الأشغال والمراجعين وضعف المزاج، فأناط مسؤولية التدريس بالسيد إسماعيل الصدر، وذلك في عام (1309 هـ / 1981 م) فأصبح محورا للتدريس في الحوزة في سامراء، وكان اجتماع أهل الفضل والعلم في درس السيد الصدر أكثر من غيره.

وهكذا استمرت سامراء محوراً لإشعاع العلم، وكعبة لآمال العلماء، ومحط أنظار الفضلاء في التعليم والتعلّم، وتربية الأخلاق، وتهذيب النفس إلى أن فُجع العالم الإسلامي بوفاة المجدّد الشيرازي. وانتقلت المرجعيّة والزعامة الشيعيّة من بعد المجدّد الشيرازي إلى السيد الصدر.

وكان السيد الصدر زاهداً في الزعامة والمرجعيّة، ولهذا عزم بعد وفاة المجدد الشيرازي بسنتين على ترك بلد مرجعيّته وقتئذٍ، وهو سامراء فتركها مهاجرا إلى النجف الأشرف، وطلب من العلماء والأكابر أن لا يتركوا سامراء. وحينما وصل في سفره إلى كربلاء استخار اللّه تعالى على الإقامة في النجف الأشرف، فكانت الاستخارة تدل على النهي، فاتّخذ من كربلاء مقراً له.

وقد هاجر من سامراء عدد من العلماء والأكابر رغم طلبه منهم عدم الهجرة، والتحق بهم بعد ذلك آخرون، فأصبحت كربلاء كعبة آمال العلماء والفضلاء إلى أن مرض السيد في سنة (1334 هـ / 1916 م) فسافر إلى الكاظميّة للعلاج، وتحسّن حاله في أوّل الأمر، ولكن تدهورت صحتّه بعد ذلك، وتوفي رضوان الله عليه في (12 جمادي الاولى عام 1338 هـ / 1919 م) ودفن بجوار جدّه الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام في مقبرة عائليّة لآل الصدر.

كان رحمه اللّه آية في العفّة، وعلوّ الهمّة، والاعتماد على النفس، والتوكّل على اللّه‏ تعالى، وكان مروّجاً للدين، ومربّياً للعلماء، وعوناً للمشتغلين والدارسين، وكهفاً للفقراء والمساكين، يوصل الأموال إلى مستحقيها بلا منٍّ، وأحياناً لم يكن يعرف أنّ المال من قبله.

أساتذته

  1. أخوه السيد محمد علي المعروف بـ (آقا مجتهد)، درس على يده السطح العالي وبعض كتب اللغة العربية والرياضيات.
  2. الشيخ محمد باقر الاصفهاني، درس على يده بحث الخارج لمدة عشر سنين.
  3. الفقيه المتبحر الشيخ راضي النجفي.
  4. الشيخ الفقيه استاذ العلماء والمحققين الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
  5. الاستاذ الاكبر المجدد الشيرازي.

طلابه

قد ربى السيد إسماعيل الصدر تلاميذ وعلماء كثيرين تخرجوا على يده في النجف الاشرف وسامراء وكربلاء والكاظمية، نكتفي بالإشارة إلى أهمهم:

  1. آية الله الحاج السيد أبو القاسم الدهكوري الاصفهاني، تتلمذ على يد السيد الصدر في سامراء، ثم هاجر إلى اصفهان، وأصبح مرجعا عاما من مراجع المسلمين.
  2. حجة الإسلام الحاج السيد حسين الفشاركي الاصفهاني.
  3. آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين الكاظمي، وبعد وفاة أستاذه أصبح أحد المراجع الكبار في الكاظميّة.
  4. حجة الإسلام والمسلمين الميرزا علي آقا الشيرازي، ابن المجدد الشيرازي.
  5. حجة الاسلام والمسلمين السيد علي السيستاني، تتلمذ على يده في سامراء وكربلاء وهاجر إلى مشهد الرضا (عليه السلام) وأصبح أحد المراجع العظام في تلك الديار.
  6. استاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الميرزا محمد حسن النائيني.
  7. حجة الإسلام والمسلمين الميرزا محمد حسين الطبسي.
  8. آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين.
  9. أية الله المجاهد الإمام عبد الحسين شرف الدين.

أولاده

خلّف من بعده أولاداً أربع كانوا جميعاً آية في العلم، ومحاسن الأخلاق والورع والتقوى، وهم:

  1. آية الله السيد محمد مهدي الصدر.
  2. آية الله السيد صدر الدين الصدر.
  3. حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جواد الصدر.
  4. آية الله السيد حيدر الصدر.

السيد حيدر الصدر

وهو والد سيدنا الشهيد الصدر (رضوان الله عليهما) كان مثال العالم العابد الزاهد، ولد في سامراء في شهر جمادى الاولى عام (1309 هـ / 1891 م). قال بعض العلماء العامليين في تاريخ ولادته:

فحيدر واليمن قد جاءا معاً *** فناد بالتاريخ يمن قد ظهر

هاجر بصحبة والده إلى كربلاء في سنة (1314 هـ / 1896 م) ودرس المقدمات والعلوم العربية على يد عدة من العلماء الفضلاء ثم درس بحث الخارج على يد أبيه السيد إسماعيل الصدر، وعلى يد السيد الحسين الفشاركي، والمرحوم آية الله الحائري اليزدي في كربلاء، وأصبح في عنفوان شبابه من العلماء المرموقين المشار إليهم بالبنان.

قال عنه صاحب الذريعة في كتابه أعلام الشيعة: (وقد رأيته مراراً سواء في أيام والده أو بعدها، فوقفت على غزارة علمه، وكثرة فضله، وكان دائم الاشتغال كثير المذاكرة، قلّ ما دخل مجلساً لاهل الفضل ولم يفتح باباً للمذاكرة والبحث العلمي، وكان محمود السيرة حسن الاخلاق محبوباً عند الناس.

كان المرحوم آية الله السيد حيدر الصدر آية في الزهد والتقوى وعدم الاكتراث بالدنيا وزينتها، وكان همه منصباً على العلم والمعرفة والتحقيق، لا يترك فرصة تمرّ لا يستثمرها لطلب العلم،

وفاته

توفي رحمه الله في الكاظمية ليلة الخميس 27 جمادي الثانية 1359 هـ / 1940 م ودفن في مقبرة لآل الصدر.

وكنت قد سمعت زوجته تقول: (لما توفي السيد حيدر بتنا تلك الليلة من دون عشاء لقلة ما في أيدينا، واستمر حالنا في تقشف وضيق لأكثر من شهر بعد وفاته). علماً أنّ المترجم له كان من كبار مراجع الشيعة في ذلك العصر، وهذا يلقي ضوءاً على زهده وعدم اكتراثه بالدنيا وزينتها، فطوبى له وحسن مآب.

مؤلفاته

  1. رسالة في مباحث وضع الألفاظ.
  2. تعليقة على الكفاية.
  3. رسالة في المعنى الحرفي.
  4. رسالة في تبعيض الأحكام لتبعيض الأسباب.
  5. الشبهة الحيدرية في تلاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.
  6. تعليقة على العروة الوثقى.

وله رسائل اخرى، ومما يؤسف له أن هذه الكتب والرسائل كلها مفقودة، عدا أن الشبهة الحيدرية تعرض لها الشيخ آقا ضياء العراقي في مجلس درسه، فكتبت بقلم بعض طلابه في تقرير بحثه.

أولاده

خلّف السيد حيدر الصدر من بعده ابنين وبنتاً، يعتبر كل واحد منهم جوهرة لا تقدر بثمن وهم:

  1. آية الله السيد إسماعيل الصدر رحمه الله وستقدّم ترجمته بقلم أخيه السيد الشهيد الصدر قدس سره.
  2. آية الله العظمى مفجر الثورة الاسلامية في العراق، شهيد العصر السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه.
  3. العلوية الفاضلة الشهيدة السعيدة السيدة آمنة الصدر (بنت الهدى) رضوان الله عليها.

السيد اسماعيل بن السيد حيدر

وعن ترجمة المرحوم السيّد اسماعيل الصدر قدس سره كتب سيدنا الشهيد الصدر ترجمة نادرة طافحة باللوعة والحسرة على فقده لركن من أركان الإسلام، وعمود من أعمدة الشريعة، وأمل كانت تعلّق به الكثير من الطموحات لخدمة الرسالة المقدّسة. وهذه الترجمة تغني عن كلّ تعليق وهذا نصّها:

(ترجمة السيد اسماعيل الصدر رضوان الله عليه:

آية في الذكاء والفطنة وحضور الذهن وسرعة الانتقال، ومن الأفذاذ في خلقه وتواضعه وطيب نفسه وطهارة روحه، ونقاء ضميره وامتلاء قلبه بالخير والحب لجميع‏ الناس. رافقته اكثر من ثلاثين سنة كما يوافق الابن أباه، والتلميذ استاذه، والصديق صديقه، والأخ أخاه في النسب، وأخاه في الآمال والآلام، وفي العلم والسلوك، فلم أزدد إلا إيماناً بنفسه الكبيرة وقلبه العظيم الذي وسع الناس جميعاً بحبّه ولكنّه لم يستطع أن يسع الهموم الكبيرة التي كان الفقيد يعيشها من أجل دينه وعقيدته ورسالته، فسكت هذا القلب الكبير في وقت مبكّر.

كنت أراه وهو في قمّة شبابه منكبّاً على التحصيل والعلم لا يعرف طعم النوم في الليل إلا سويعات، ولا شيئاً من الراحة في النهار، مكدوداً باستمرار متنامياً باتصال، يزداد علماً يوماً بعد يوم، وهو الى جانب ذلك مكدوداً في العبادة والالتزامات الدينية التي تنميه روحياً ونفسياً والتي وصل بسببها في السنوات الأخيرة من إقامته في النجف الأشرف إلى درجة عالية في الصفاء والروحانية، ولا أزال أذكر مرة كنت أمشي فيها معه فبادرني مخبراً بأن حادثة معيّنة سوف تقع عندما نصل إلى النقطة الفلانيّة من الطريق، وقد وقعت بالفعل كما أخبر دون أيّ ترقّب مسبق، وأنا أقدّر أنّ المرحوم كانت له في تلك الفترة من هذه الانفتاحات الروحيّة الشي‏ء الكثير.

ولد رحمه الله في الكاظمية سنة (1340 هـ / 1921 م) في شهر رمضان، وترعرع في كنت والده، وقرأ بعض المقدّمات عليه، وقرأ السطوح على جماعة كعمّه الإمام السيّد محمد جواد الصدر، والحجة الميرزا على الزنجاني.

بعد أن اكمل السطوح تأهب للهجرة إلى النجف وقد بلغ درجة عالية من الفضل اكبر نسبياً بكثير من مستوى دراسة السطوح لما يتمتع به من ذكاء ونبوغ وجِدّ. ولا انسى أنه ألّف قبل هجرته الى النجف رسالة في طهارة اهل الكتاب، ورسالة في حكم القبلة للمتحير، وهما رسالتان لا تزالان بخطه حتى الان، وهما تدلان على نضج علمي ودقة استيعاب لا يصل اليه عادة الّا من طوى مرحلة من بحث الخارج بجد وكفاءة. وقد اطلع وقتئذٍ على الرسالتين، او على الاولى منهما فقيه آل ياسين آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين فاعجب بما اطلع عليه وذكر ان هذا بوادر الاجتهاد.

وحينما هاجر إلى النجف الأشرف حضر بحث فقيه آل ياسين قدس سره وأبحاث آيات الله الشيخ محمد كاظم الشيرازي والسيد محسن الحكيم والسيد عبد الهادي الشرازي والسيد أبو القاسم الخوئي والشيخ مرتضى آل ياسين.

وقد اجيز بإجازة الاجتهاد من آية الله السيد عبد الهادي الشرازي وآية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، وكتب آية الله الحائري بشأنه في جواب جماعة يسألونه عن حاكم شرعي يرجعون إليه في مرافعاتهم يشهد بانه حاكم شرعي نافذ الحكم.

وقد تمخّص عن نتاج فقهي جليل في تلك الفترة وهو كتابه شرح استدلالي موسع لكتاب بلغة الراغبين في فقه آل ياسين، وهو الرسالة العملية لآية الله الامام الشيخ محمد رضا آل ياسين، وقد شرح المرحوم هذا المتن الفقهي في عدة مجلدات تربو على آلاف الصفحات، وهو شرح يدل على مرتبة عالية من الاجتهاد والفقاهة وسعة الاطلاع وحدة الذكاء.

وقد شرع قدس سره في الخارج وحضر عليه جماعة من الطلبة نصف دورة كاملة من الاصول الخارج، وقد انقطع تدريسه هذا بهجرته الى الكاظمية حوالي سنة (1380 هـ / 1960 م) حيث اصبح هناك محوراً للعلم والدين ومركزاً لزعامتها الدينية.

وقد بدأ في الكاظمية ببحث في التفسير كان يحضره اكثر من مائة من الجامعيين والمثقفين، اضافة الى تدريساته الأخرى في الفقه والاصول لعدد من علماء المنطقة في الكاظمية وبغداد.

وقد ازدهرت الحياة العلمية وأساليب العمل الديني والتبليغ على يده ازدهاراً كبيراً.

وكان رحمه الله يعطي باستمرار لخط عمله من روحه وقلبه وجهده، ويكلف نفسه فوق ما تكلف عادة، فهو المجتهد المتعبد الذي يقبل على عبادته إقبالًا عظيماً، وهو المدرّس الذي يبذل من الجهد في تدريسه الشي‏ء الكثير، وهو المسؤول الديني الذي يمارس مسؤوليّاته ويتفاعل معها بكلّ وجدانه وهمّته. كان – علم الله – في عناء مستمر، ورغم كلّ الاتعاب والجهود كان من أحسن خلق الله استقبالًا للناس ومن أوسعهم صدراً في المعاملة معهم حتى اختار الله له جواره قبل سنتين في ستة ذي الحجة (1388 هـ / 1968 م‏).

خلّف عدداً كبيراً من المؤلفات التي تمثل بمجموعها تركة علميّة من أنفس التركات وهي كما يلي:

  1. شرح فقهي استدلالي موسع لكتاب بلغة الراغبين يحتوي على عدة مجلّدات، وهو أهمّ إنتاج علمي للمرحوم.
  2. تعليقة على الكفاية في الاصول ضمّنها آراءه ومناقشاته بصورة موسّعة.
  3. تعليقة عمليّة على العروة الوثقى مع اشارات إجماليّة إلى الدليل أحياناً.
  4. تعليقة على كتاب التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة، قام فيها بإبراز رأي الفقه الجعفري في المسائل التي تعرّض لها الكتاب، طبع منها الجزء الأوّل.
  5. محاضرات في تفسير القرآن، طبع منها الجزء الأوّل.
  6. شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عليه السلام.
  7. تقريرات السيد الخوئي في الاصول.
  8. تقريرات السيد الخوئي في الطهارة.
  9. تقريرات السيد الخوئي في المكاسب.
  10. رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز.
  11. شرح لكتاب النكاح من العروة الوثقى.
  12. تعليقة على الجزء الثاني من شرح اللمعة.
  13. رسالة في حكم التزاحم بين الحج والنذر.
  14. رسالة في تشخيص المدعي والمنكر.
  15. رسالة في بيع الصبي وأحكامه.
  16. رسالة في أسباب اختلاف المجتهدين.
  17. مستدرك الأعيان، يحتوي على ملاحظات على كتاب أعيان الشيعة.
  18. تعليقة عمليّة على رسالة بغلة الراغبين.
  19. تقرير البحث الفقهي للإمام الفقيد الشيخ محمد راضا آل ياسين.
  20. فوائد في الفقه والاصول.
  21. فصل الخطاب في حكم أهل الكتاب.
  22. رسالة في معنى العدالة واخرى في حدّ الترخص للمسافر.
  23. رسالة في قبلة المتحير.
  24. رسالة في صلاة الجمعة.
  25. رسالة في اللباس المشكوك.
  26. رسالة علميّة في فروع العلم الإجمالي.

وللمرحوم ولدان وبنت، والوالدان هما السيد حيدر الصدر والسيد حسين الصدر الذي أقام صلاة الجماعة في صحن الامامين الكاظمين بعد والده، والبنت هي زوجة السيد حسين السيد محمد هادي الصدر)

قال سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد جعفر الصدر انه لما توفيت والدة سيدنا الشهيد الصدر رضوان الله عليه نقلوا جثمانها الى النجف الاشرف لتدفن في مقبرة الإمام شرف الدين التي تقع على الجانب الايسر للخارج من الصحن الشريف باتجاه شارع الطوسي، فهيئوا مكاناً لها داخل المقبرة الى جانب ولدها المرحوم السيد اسماعيل الصدر، وفي اثناء الدفن سقط الجدار الفاصل بين قبرها وقبر ولدها فوجدوا جسده رضوان الله عليه على حاله لم يتغيّر ولم يتبدّل رضوان الله عليه واسكنه فسيح جنانه مع أجداده الطاهرين.

الشهيد الصدر

نسب السيد الشهيد وولادته

لآل الصدر شجرة نسب تتصل بالإمام موسى بن جعفر عليه السلام ومنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يتوارثها رجال الاسرة بعناية ودقة، ومن العجيب أن السيد الشهيد يتصل بجده الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إما بمجتهد أو عالم فاضل، فكلّ رجال هذه الاسرة علماء أفاضل أو مراجع كبار. وهي ميزة فريدة قلما تتوفر لُاسرة من الاسر.

نسبه رحمه الله

شهيدنا العظيم آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر.

بن السيد حيدر، بن السيد إسماعيل، بن السيد صدر الدين، بن السيد صالح، بن السيد محمد، بن السيد إبراهيم شرف الدين، بن السيد زين العابدين، بن السيد علي نور الدين، بن السيد حسين، بن السيد محمّد، بن السيد حسين، بن السيد علي، بن السيد محمد، بن السيد تاج الدين، بن السيد محمد، بن السيد عبد الله، بن السيد أحمد، بن السيد حمزة، بن السيد سعد الله، بن السيد محمد، بن السيد علي، بن السيد عبد الله، بن السيد محمد، بن السيد طاهر، بن السيد الحسين، بن السيد موسى، بن السيد إبراهيم المرتضى، بن السيد الإمام موسى بن جعفر.

ولادته رحمه الله

في كنف جده الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في مدينة الكاظمية ولد شهيدنا الصدر يوم (25) ذي القعدة (1353 هـ / 1934 م).

وهذا اليوم من الأيام المباركة، لما ورد من أنّ فيه دحت الأرض، وفي ليلته ولد إبراهيم الخليل وعيسى بن مريم عليهما السلام، وشاء الله عز وجل أن يعد هذا الوليد المبارك إعداداً يؤهله فيه ليكون أميناً لرُسُلِهِ وحصنا لشريعته، ومثلًا أعلى وقدوة صالحة لعباده، وليحمل من الآمال والطموحات والهموم ما هي بحجم هموم الأنبياء، ويسير على خطهم وخط خاتمهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نقلت والدته رحمها الله أنّه كانت في غاية السعادة وهي تحتضن وليدها المبارك، فقد كانت ظروف الحياة الصحيّة قاسية، فالأمراض والآفات تأخذ الكثير ولا تدع إلا القليل، فكانت ترقُب وليدها وتدفع عنه النوائب التي حرمتها من أشقاء له في سالف الأيام، والخوف والقلق يشوب الأمل في نفسها، وكانت تقول: (ما كان يعيش لي من الأولاد إلا القليل) فقد كانت تجربتها – كامٍّ – قاسية جدا لكثرة من فقدت من أولاد.

ولكن شاء الله عز وجل أن يحرس ابنها العبقري بعينه ويذخره لخدمة رسالة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، كما شاء تعالى أن يذوق شهيدنا العظيم اليُتم منذ سني حياته الاولى، فلم يتمتع بعاطفة أبيه وحبّه، ولم يذق من طعم حنانه إلا سنوات قليلة.

ورافق الحرمان العاءفي وضنك في العيش؛ ليزيد من عملية صقل الوليد الفريد، ويرقى بتربيته وإعداده إلى أفضل ما يمكن، ولعل تلك سنة الله تعالى فيمن يختارهم لحمل أعباء رسالته: (أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيماً فَأَوىٰ … وَ وَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغۡنَىٰ)‏[1] وقد سأله رضوان الله عليه أحد أصحابه عمّا إذا كان يتذكر والده السيد حيدر الصدر رحمه الله فقال: ليس في ذاكرتي شي‏ء عنه إلا صورة غير واضحة، وأنا بحكم من لم يرَ أباه.

لقد أثرت هذه الظروف على شخصية السيد الشهيد تأثيرا إيجابياً، خلافاً لما قد يًتصوّر من أن اشتداد المحن وصعوبة الظروف تترك آثاراً سلبية في نفس الإنسان، فلا اليتم ولا الفقر حالا بينه وبين أن يشق طريقة نحو الهدف الذي كان يسعى إليه، فتجاوز كل الصعاب التي واجهته وهو في أهم وأخطر مرحلة من مراحل البناء والتكامل.

والدة السيد الشهيد الصدر

وأما والدته فهي العابدة التقية الصابرة بنت المرحوم آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين، سلسلة الدين والتقى والعلم.

فأبوها هو آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين أحد أعاظم فقهاء عصره، المعروف بالزهد والعبادة والتقوى.

ولد في الكاظمية، وتربّى في كنف جدّه المرحوم آية الله الشيخ محمد حسن آل ياسين، الذي كان من مفاخر علماء الشيعة، والذي أمضى الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه نيابته عنه على ما ورد في قصة المرحوم الحاج علي البغدادي المذكورة في مفاتيح الجنان‏.

هاجر المرحوم الشيخ عبد الحسين آل ياسين من الكاظمية إلى سامراء، وتتلمذ على يد المجدد الشيرازي، وبعد أن توفي جده الشيخ محمد حسن انتقلت إليه زعامة الشيعة في بغداد والكاظمية.

ثمّ هاجر إلى كربلاء، وتتلمذ على يد المرحوم السيد اسماعيل الصدر، فوصل إلى مرتبة عالية من الاجتهاد، وعاد بعادها إلى الكاظمية، وأصبح من مراجع الشيعة في التقليد والفتوى، وأصبحت مرجعيّته عامّة. توفي رحمه الله في 18 صفر 1351 هـ / 1932 م في الكاظمية، ودفن في النجف الأشرف في مقبرة آل ياسين.

كانت المرحومة والدة السيد الشهيد والله مثال التقوى، امتلأت روحها حباً لله تعالى ورسوله وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وعليهم، وحتى في الأيام الأخيرة من حياتها كان عشقها لأهل البيت ولأمير المؤمنين عليه السلام يطغى علا ما كانت تعاني من آلام وأمراض فتخرج مستعينة بابنتها البارة الشهيدة بنت الهدى رحمهما الله لزيارة قدوتها وإمامها رغم ما كانت تعاني من صعوبة كبيرة في مشيتها.

وكانت لا تفارق القرآن، فهي رفيقته في كل وقت تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكلما انتهت منه عادت إليه.

وكانت دائمة الذكر لله تعالى، تلهج بتسبيحه وتحميده، وما انقطعت عن ذلك حتى فارقت نفسها المطمئنة برحمة ربّها بدنها الطاهر، ولقيت ربها راضية مرضية، وكانت في فترة الحجز نموذجاً رائعاً في الصبر والثبات والاتكال على الله عز وجل، فلم تتململ يوماً مما كان يصيبها بسبب الحجز من فقد الدواء الذي كان به قوام حياتها، بل كانت تتظاهر بالصحة والسلامة لتُشعر السيد الشهيد بعدم أهمية المعاناة الكبيرة التي تعيشها، رحمها الله وأسكنها الفسيح من جنّاته.

 أولاد الشهيد الصدر

خلف السيد الشهيد الصدر ولداً واحداً هو سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد جعفر الصدر حفظه الله الذي يواصل نهج والده في العلم والتقوى‏ وخدمة الدين الحنيف ولد في عام (1390 هـ / 1970 م) وخلف كذلك خمس بنات طاهرات نقيات.

 عبقريته المبكّرة

وممّا يروى في مجال عبقرية السيد الشهيد رضوان الله عليه المبكرة أنّه رحمه الله حينما بلغ العاشرة أو الحادية عشرة من العمر وجد نفسه – داخل الأسرة – بين نزعتين متخالفتين تتجاذبانه نحو منحين متغايرين في التخطيط لمستقبله، فمن جانب كانت والدته تحثّه على الدراسة في الحوزة واختيار حياة الطلبة، ومن جانب آخر كان المرحوم السيد محمد الصدر[2] يرغّبه في مستقبل يضمن فيه سعادة دنياه والعيش في رفاه ودعة بعيداً عن حياة الحوزة وما يكتنفها من فقر وفاقة.

أما السيد الشهيد فقد وقف موقفاً عملياً حسم به ذلك التجاذب وأشعر تلك الأطراف التي تقاطعت رغباتها بمستقبله بواقع ما يطمح إليه، فقد أضرب تقريباً عن الطعام من دون إعلان، واكتفى من الطعام بقطعة صغيرة من الخبز يسدّ بها رمقه طوال الليل والنهار.

بعد أيام أحسّ الجميع – بالإضراب الهادئ – فسألوه عن السبب فقال: إنّ الذي يستطيع أن يعيش على قطعة صغيرة من الخبز أياماً عديدة قادر على أن يستمر إلى آخر العمر كذلك، فأنا لا أخشى من الفقر ولا أخاف من الجوع.

واستطاع أن يقنع الجميع بصواب رأيه بالالتحاق بالحوزة العلمية والانخراط في صفوف ورثة الأنبياء رغما ما قد يواجهه من صعوبة الحياة وجدب العيش فيها، وأثبت أنّ إرادته في اختيار هذا الطريق إرادة لا يزعزعها شي‏ء.

ومما يجدر ذكره أن السيد الشهيد كان قبل أن يتفرغ للدراسة في الحوزة العلمية قد تعلم القراءة والكتابة، وتلقى جانباً من الدراسات الحديثة في مدارس منتدى النشر الابتدائية في الكاظمية، فكان رغم صغر سنه موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لما وجدوا فيه من ذكاء كبير ووعي مبكّر، ونبوغ حادّ، وقابليات عظيمة.

 الهجرة إلى النجف الأشرف والدراسة فيها

النجف الأشرف مهوى الأفئدة ومحط القلوب، إليها تشدّ الرحال على مرّ الأجيال، كيف لا وهي تضمّ في رحابها باب مدينة العلم وصيّ رسول ربّ العالمين، الذي ببركة نفحاته عاشت الحوزة العلمية التي خرّجت فطاحل العلماء الأجلاء، فكان من الطبيعي أن يستهوي ذلك قلب المرحوم آية الله السيد اسماعيل الصدر ومعه شهيدنا السيد الصدر رضوان الله عليه فهاجرا الى النجف عام (1365 هـ / 1945 م) مع كافة أفراد العائلة. ومن هذا التاريخ بدأت مسيرة السيد الشهيد العلميّة.

ورغم عبقريّة السيد الشهيد الصدر وما كان يتمتع بن من ذكاء خارق ولياقات تؤهله للاستغناء عن الحضور لدى اساتذة وعلماء، وهو قد فهم أكثر كتب المقدمات من دون استاذ فإنّه مع ذلك حرص على الحضور والجلوس أمام الأساتذة والتلقي منهم والاستفادة من أبحاثهم، لا بل كان يعتزّ بحضوره ويفتخر به، وسوف نرى في طيّات هذا الكتاب مجموعة من الرسائل الخطّية تشير إلى مدى احترامه واعتزازه بأساتذته.

هذا وقد حضر قدس سره عند جملة من الاساتذة أو استفاد منهم بشكل وآخر وهم آية الله الشيخ ملا صدرا البادكوبي، درس عنده الجزء الثاني من الكفاية والأسفار الأربعة، وحضر لدى آية الله الشيخ عباس الرميثي، وآية الله الشيخ محمد تقي الجواهري، درس عنده الجزء الأوّل من الكفاية وقسماً من كتاب اللمعة.

هؤلاء أساتذة شهيدنا الصدر رحمه الله وقد حضر عند بعض الأساتذة الآخرين بعض المواد الدراسيّة ككتاب المكاسب الذي اتفق مع استاذه – وهو المرحوم السيد محمد الروحاني قدس سره – على أن يستمع الاستاذ لشرح السيد الشهيد للمادة العلميّة ويناقشه في الموارد التي تحتاج إلى نقاش الاستاذ أو توضيحه.

تعليقه على (بلغة الراغبين)

ومما يذكر عن نبوغ وذكاء السيد الشهيد رضوان الله عليه في تلك الفترة، والمكانة التي وصل إليها وهو في سن مبكرة أنه لمّا توفي الشيخ آل ياسين رحمه الله في سنة (1370 هـ / 1950 م) علّق المرحوم آية الله الشيخ عباس الرميثي على رسالة آل ياسين المسمّاة بـ (بلغة الراغبين) ولشدة اعتقاده بذكاء ونبوغ السيد الشهيد طلب منه حضور المجلس الخاص بكتابة التعليقة ليشارك هو أيضا بعمليّة الاستنباط.

وكان الشيخ الرميثي يقول له في ذلك التاريخ: (أن التقليد عليك حرام).

وهذا يدل على أن السيد الشهيد كان قد بلغ مرتبة الاجتهاد وهو في سنّ مبكّرة جداً.

وقد سمعت السيد الشهيد يقول: إني لم اقلّد أحدا منذ بلوغي سنّ الرشد.

وكان السيد الشهيد رضوان الله عليه في تلك الفترة قد كتب أيضاً تعليقة على رسالة المرحوم الشيخ آل ياسين المسمّاة بـ (بلغة الراغبين)، وكان يأسف على ضياع تلك النسخة التي تعتبر من أغلى ذكريات عمره العلمي.

لمن یکن من دأب شهيدنا العبقري أن تحوم أبحاثه العلميّة حول سطوح المطالب بعيداً عن العمق، بل كان يغور إلى إعماقها حتى تبدو له خفاياها بحيث لا يترك مجالًا لاي باحث من أن يزداد عليه تحقيقاً أو تعميقاً، ولم يكن متردداً في ما يرتبه من نتائج أو ما يختاره من حلول وآراء، وكان يمتلك قدرة فائقة على سبر غور المطالب العلميّة رغم تعقيدها وتشعّبها دون أن تختلط عليه مباحثها، بل كان يمتلك من الوضوح ما يمكّنه من الإحاطة التامّة بها، ويقلل إلى درجة كبيرة فيها خطأه. فكان يأتي فيها بالتحقيق الجديد أو الإبداع المبتكر فتراه مهيمناً بشكل مطلق على كل المطالب العلميّة التي بحثها أو كتبها.

كان رضوان الله عليه حينما يقرأ أو يكتب أو يفكّر ينقطع عن المحيط الذي يعيش فيه، وينسجم مع الحالة التي هو فيها انسجاماً بنحو لا يشعر معها بما حوله. یقول أحد أصحابه: كنت في أحيان كثيرة أردع أطفاله الصغار عن اللعب أو الصياح ظنّاً منّي أن ذلك يوفر له جواً مناسباً للتفكير والمطالعة، إلا أني لاحظت أن شهيدنا لا يعبأ بما يحدث حوله، ولا يتضجّر من الضجيج والصياح، فسألته عن سبب ذلك فقال لي:

(حينما أنسجم مع المطالب العلميّة لا أشعر بما حولي).

تقول زوجته العلوية التقيّة أم جعفر: حينما يستغرق السيد في المطالعة أو التفكير ينسى كل شي‏ء، حتى طعامه، فأراني مضطرة في آخر الأمر إلى قطع تأمله أو مطالعته، فأقول له: لقد قرب الظهر ولا شئ عندنا، عندها يقوم ليشتري بنفسه ما نحتاج إليه. ومن الطرائف في هذا الباب ما كان يذكره من أنه كان يستغرق أحياناً في التفكير بشكل مستمر طوال اليوم والليل ولا ينقطع إلا عند النوم، ثم إنه عندما كان يستيقظ يبدأ من نفس النقطة التي انتهى إليها عند النوم، وبذلك يفسر قدرته على استيعاب جميع هذه المطالب.

نشاطه التدريسي ومؤلفاته‏

النشاط التدريسي

كان للسيد الشهيد رضوان الله عليه مجلسان للتدريس:

الاول: بحث الاصول، وكان يلقيه في مسجد الجواهري بعد أذان المغرب بساعة في الأيام الدراسيّة من الأسبوع.

الثاني: بحث الفقه، وكان يلقيه في جامع الطوسي في الساعة العاشرة صباح كل يوم من الأيام الدراسيّة.

وكان له بالاضافة الى ذلك مجلس درس ثالث في بيته عصراً للخواص من طلابه كان يتضمن فقهياً لمدة من الزمن ثم تحول اخيراً الى بحث فلسفي في تحليل الذهن البشري وكثيراً ما كانت تدور في هذا الاجتماع قضايا سياسيّة واجتماعية وغيرها.

وكان للسيد الشهيد – قبل فترة التصدّي للمرجعيّة – محاضرات رائعة كان يلقيها في مناسبات وفيّات الأئمة عليهم السلام على طلابه، سجّل بعضها بصوته وطبعت فيما بعد باسم (أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف).

ويجب أن نشير إلى أنّ أبحاثه الفقهية والاصولية المسجّلة بصوته مع باقي مؤلّفاته وكتاباته ومحاضراته قد صادرتها السلطة العفلقية بعد فترة من استشهاده، ولم يحفظ من محاضراته وابحاثه المسجلة بصوته إلا القليل عند بعض طلابه.

مؤلفات السيد الشهيد

  1. غاية الفكر في علم الاصول. وهو عشرة أجزاء طبع مها الجزء الخامس فقط وفقدت الأجزاء الأخرى.
  2. فدك في التاريخ.
  3. فلسفتنا.
  4. اقتصادنا. يشتمل على قسمين.
  5. المدرسة الإسلامية. وهي سلسلة صدر منها عددان هما: (الانسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية) (وماذا تعرف عن الاقتصاد الاسلامي).
  6. المعالم الجديدة للُاصول.
  7. البنك اللاربوي في الإسلام.
  8. الاسس المنطقية للاستقراء.
  9. بحوث في شرح العروة الوثقى.
  10. موجز أحكام الحج.
  11. الفتاوى الواضحة.
  12. دروس في علم الاصول. في ثلاث حلقات تشتمل الثالثة منها على جزئين.
  13. بحث حول الولاية.
  14. بحث حول المهدي.
  15. تعليقة على رسالة بُلغة الراغبين. وهي مفقودة الآن مع كلّ الأسف.
  16. تعليقة على منهاج الصالحين للسيد الحكيم قدس سره في جزئين.
  17. سلسلة أبحاث (الإسلام يقود الحياة) وهي:

أ) لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.

ب) صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.

ج) خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.

د) خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.

هـ) منابع القدرة في الدولة الإسلامية.

و) الاسس العامّة للبنك في المجتمع الإسلامي.

  1. محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن. وطبعت تحت عنوان (المدرسة القرآنية). وللسيد الشهيد رضوان الله عليه مؤلّفات أخري صادرتها السلطة، منها كتاب كنت أراه يؤلفه في فترة الحجز، لم يضع له اسما، وقد سألته عن موضوعه فقال: إنه في أصول الدين‏.

وله كتاب آخر عن تحليل الذهن البشري، لم يتمّه، وقد صادرته السلطة بعد استشهاده.

أخلاقه وسيرته الذاتيّة

 أخلاقه العامة

يُعتبر السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه مدرسة متميّزة في نهجها الأخلاقي والسلوكي الديني والاجتماعي على حدٍ سواء.

 حقيقة العاطفة عنده

إنّ عاطفة السيد الشهيد قدس سره وأحاسيسه صادقة بمعنى الكلمة، فهو لا يعرف التصنّع والتمثيل، إذا تألم لأحدٍ تألم من أعماقه، وإذا أحبّ أحداً أحبه من قلبه، ومن عاش مع السيد الشهيد يدرك ذلك بسهولة من خلال تصرفاته وانفعاله مع الحالة، ومن تأثير ذلك على وجهه وملامحه، وسوف نرى في طيّات هذا الكتاب ما يشهد لذلك.

إنّ هذه العاطفة لله، طلباً لمرضاته، وتقرّباً اليه عزّ وجلّ، وليست حالة فطرية جُبل عليها فقط، نعلم، إنّه استطاع أن يربيها وينميّها حتّى يراها الرائي وكأنّه جُبِل عليها، ثم سخرها لخدمة الأهداف العظيمة والمبادئ السامية، وكان يتحكّم به بالشكل الذي تقتضيه مصلحة الإسلام.

من سمات هذه العاطفة أنها عامّة شاملة لكل الناس، فليست هي لأهله وذريّته وأرحامه، ولا لطلابه والمقرّبين منه فحسب، بل لكل أبناء الأمة.

عطفه على أعدائه

ومن العجب أن تمتدّ هذه العاطفة حتى إلى أعدائه، ففي فترة الحجز كانت قوات الأمن تطوّق منزل السيد الشهيد تطويقاً تامّاً وكأنهم ذئاب يتربّصون به لينقضّوا عليه، فكانت هذه العاطفة تمتدّ حتّى إلى هؤلاء. يروى أحد طلابه: في ظهر أحد أيام الاحتجاز كنت نائماً في غرفة المكتبة فاستيقظت على صوت السيد الشهيد وهو يقول:

(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)

وظننت أنّ حدثاً مّا قد وقع، فسألته هل حدث شي‏ء؟ فقال:

(كلا، بل كنت أنظر إلى هؤلاء [ويقصد قوات الأمن‏] من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبّب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار.

فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوّقون منزلكم، ويعتقلون المؤمنين الأطهار من محبّيكم وأنصاركم، هؤلاء هم الذين روّعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممّن هم في أعمارهم؟

فقال: (ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب أن نعطف حتّى على هؤلاء، إنّ هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفّر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، كم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين).

ثم نزل إلى الطابق الأرضي وأيقظ خادمه الحاج عباس وأمره أن يسقيهم الماء.

وشهد الله، لم أتمالك نفسي وأنا أراه يرقّ حتّى لهؤلاء، وتذكّرت جدّه الحسين عليه السلام يوم سقى الحرّ بن يزيد الرياحي وعسكره في طريق كربلاء، ويوم جلس يبكي في نهار عاشوراء وهو ينظر إلى الالوف المؤلّفة، فيُسأل ممَّ بكاؤك يا بن رسول الله فيجيبهم بأن بكائي لهؤلاء الذين سيدخلون النار بسببي.

فما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبهك بأجدادك الطاهرين يا أبا جعفر، فلقد أحييت بمواقفك مواقف أجدادك الطاهرين وجعلتنا نعيشها حيّة ماثلة في شخصك، فسلام عليك حيّاً وميتاً.

ومن العجيب أنّ هذه المشاعر الحيّة، والعواطف الصادقة أثّرت حتّى على هؤلاء الذين كانوا يطوقّون منزل السيد الشهيد من قوات الأمن. وأتذكّر أنّ أحدهم وكان (ضابط أمن) وكان يرأس هذه القوات بعث رسالة شفهيّة إلى السيد الشهيد قال فيها: (سيدي لا تتنازل لهؤلاء الجبناء – يقصد حكّام البعث – إنّهم يرتجفون خوفاً منك، إنّ حذاءك أشرف منهم جميعاً …).

وقد قام هذا الضابط بخدمات كبيرة خلال فترة الحجز.

نموذج من مواقفه الحازمة

ونجد إلى جانب هذا كلّه المواقف الحازمة التي لا تقبل المجاملة والتساهل، لأنّها متعلقة مباشرة بامور الإسلام، او العمل الإسلامي والمرجعي، نجد صورة اخرى للسيد الشهيد الصدرتختلف عما مضى وتؤكِّد أنّه شي‏ء آخر، قد يحسبه من لا يعرف العاطفة ولا المشاعر والأحاسيس.

 أخلاقه مع أساتذته‏

من الامور الجديرة بالبحث والتوثيق موضوع أخلاق وسلوك السيد الشهيد رضوان الله عليه مع أساتذته لأنّه يكشف عن بعض جوانب السلوك الشخصي والروحي له.

يمكن أن نقدّم صورة متكاملة عن علاقته بأهمّ أساتذته الذي تتلمذ عنده بالمعنى الحقيقي للكلمة وهو آية الله العظمى المرحوم السيد الخوئي قدس سره فإنّه يعتبر الاستاذ الحقيقي له والذي حضر أبحاثه الفقهيّة والاصوليّة فترة طويلة من الزمن، ومن خلال ذلك يمكن أن نشكّل صورة إجمالية لسلوكه مع أساتذته الآخرين رحمهم الله جميعاً – قياسياً على ذلك.

فمثلًا لما اشيع في فترة من الزمن بأنّ العلاقة بيهما أصابها الفتور والبرود فكتب أحدهم سؤالًا وطلب من السيد الشهيد الإجابة عليه وهذا نصّ السؤال والجواب:

(بسم الله الرحمن الرحيم‏

من المعلوم لدينا علاقتكم الروحية منذ القديم مع سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الأعلى السيد الخوئي دام ظله الوارف، لكن هناك بعض المسموعات التي أوجبت الإجمال ممّا استدعى أن نتوجه إليكم بالسؤال مباشرة عن هذا الموضوع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

إنّ هذا السؤال الذي تفضلتم بتوجيهه إليَّ يوجب شكري من ناحية إذ تتيحون لي بذلك الفرصة للتعبير عن واقع يعيش في نفسي، ويؤلمين من ناحية اخرى ألماً شديداً لأنّه يوحي بأنّ علاقة هي من أشرف وأطهر وأقدس العلاقات في حياتي وكأنّها عرضة للشكّ والإجمال، وهي علاقتي بسيدنا واستاذنا وسندنا استاذنا آية الله العظمة الإمام الخوئي دام ظلّه الوارف، هذا الاستاذ الذث ابصرت نور العلم في حوزته وذقت طعم المعرفة على يده، وإنّ أعظم ما ينعم الله به على الإنسان بعد الإيمان العلم، ولئن كنت قد حصلت على شي‏ء من هذه النعمة فإنّ فضل ذلك يعود إليه، فلست إلا ثمرة من ثمرات وجوده وفيضه الشريف، وولداً من أولاده الروحيين.

وإذا كان هناك من يحاول غضّ النظر عن هذه الحقيقة أو ينسب هذا الغضّ إليَّ إمّا لأجل صرف قلب الأب عن ابنه، أو لأجل استغلال مكانة هذا الابن للتاثير على المقام الأعلى للأب فإنّي اغتنم فرصة سؤالكم الكريم لأقول لكم بكلّ وضوح: إنّي أتعامل مع السيد الخوئي دام ظله – وسأظلّ كذلك – كما يتعامل الابن مع أبيه، والتلميذ مع استاذه، والطالب مع مرجعه، وقد صرّحت بذلك مراراً للناس وللطلبة وللمسؤولين، ولا أرضى عن أيّ شخص إلا أن يعترف بذلك ويتعامل معي ومعه دام ظله على هذا الأساس، وإذا أراد شخص أن ينوّه باسم هذا الجانب فليعلم أنّ ممّا يزعجني أشدّ الإزعاج أن يخرج هذا التنويه من مقتضيات العلاقة الطوليّة بين الابن وأبيه والتلميذ واستاذه، وكلّ خروج عن هذه المقتضيات مناقض لسلوكي وتعاملي، وقد جرى ديدن العلماء على التمييز بين الأمرين، بين الإفتاء وإصدار ما يتضمن ذلك لمن يحتاج إليه في عمله الديني الشخصي، وبين الالتزام بمتطلبات المرجعيّة العليا وصيانتها، ونحن نرى لزوم التمييز بين هذين الأمرين فلا يجوز الخلط بينهما، ولا يجوز مسّ مقام المرجعيّة العليا، ولا يجوز أيّ عمل يقصد به تفتيت الشمل المجتمع للمؤمنين على مرجعيّتهم العليا وتمزيق كلمتهم.

وإني أبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يمتّعنا بدوام وجود السيد الاستاذ والاستظلال بظله الوارف والقيام بواجب البنوّة له والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

8 جماد الاولى 1396 هـ [/ 1976 م‏]

محمد باقر الصدر)

وعلى الصعيد العملي سلك رضوان الله عليه نفس السلوك فقد اتخذ نهجاً في وجوب احترام شخص السيد الخوئي قدس سره فلم يتعرّض له إلا بكلّ خير، وكان يذهب لزيارته وتفقّد أحواله وأوضاعه الصحّية بين الحين والآخر وإلى آخر يوم قبل احتجازه ومن ثمّ استشهاده.

وأمّا على المستوى المرجعي فإنّ السيد الشهيد قدس سره رغم علمه بحاجة الشعب العراقي إليه أكثر من غيره لقدرته على تفهّم احتياجاته ومتطلّبات حياته والظروف السياسيّة التي يعيشها فإنّه مع ذلك حرص على احترام مرجعيّة الإمام الخوئي قدس سره يما يقتضيه الأدب والاحترام لا في العراق فقط بل وفي كلّ مكان يتواجد فيه الشيعة، وقد أوصى طلابه مراراً وتكراراً على الالتزام بعدم إبرازه كمرجع إلا في حدود الطولية لا العرضيّة، وأصرّ على إبراز مرجعية المرحوم السيد الخوئي على أنها المرجعية الاولى ففي رسالة له بعثها إلى سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد الغروي ذكر هذا المعنى‏.

سيرته مع الناس والاهتمام بهم‏

من السمات البارزة والمتميّزة في شخصيّة الإمام الشهيد الصدر سلوكه وطريقة تعامله مع الناس عموماً.

هذا السلوك الذي ضرب فيه أروع الأمثلة في معنى (المداراة) والمحبّة والتعاطف، والتفهّم لهموم الناس ومشاكلهم ومشاركته لهم فيها، والتعايش معهم بمشاعر إسلاميّة وإنسانيّة، واستيعاب السلبيات والمشاكل بقلب منفتح وروح كبيرة.

إنّ معظم الذين التقوا به، أو حضروا مجلسه العام، من عامّة الناس وخاصّتهم أحسوا بتلك السمة، كان يقوم احتراما لكل وافد عليه، ويحترم كل أحد ويستبشر بكل زائر، يحب الناس من قلبه وأعماقه، ويكفي لكي يدخل هذا الرجل إلى قلبك أن تلتقيه أو تجالسه مرّة واحدة، فسوف تشعر وقد امتلأ كيانك بحبّه.

وما من شكّ في أنّ أهمّ المقوّمات التي يجب أن تتوفّر في القائد هو هذه الروح الأخلاقية العالية، وهذه الشفافيّة الكبيرة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)،[3] وكان شهيدنا الصدر كذلك رحيما بالمؤمنين، ليناً لهم، يتبع حبه من أعماق قلبه.

قال أحد تلامذه: لقد عشت مع الشهيد الصدر رضوان الله عليه أمدا طويلا، فكنت أعجب من حلمه وصبره وصفحه، كان يلتقي ما يوجّ إليه بصبر تنوء منه الجبال، ويصفح عمّن أساء إليه بروح محمّدية.

ولا نريد هنا إلا تسجيل بعض النماذج مما كان من خلقه، وهي تقصر عن التعبير الكامل عما كانت تحله روحه من سمو وعلو.

  1. طلب أحد (الطلبة) اجتماعا خاصاً بالسيد الشهيد رحمه الله، وفي هذا اللقاء طلب مساعدة ماليّة ليتمكّن من إجراء عملية جراحيّة لزوجته، وكان وضعها حرجا من هذه الناحية.

كان الوضع المالي للسيد الشهيد في تلك الفترة يعاني ضيقا وشدّة، ومع ذلك أخرج مائة دينار وسلّمها إيّاه، واعتذر من قلّته. أخذها الرجل حامدا شاكرا، وكان هذا المبلغ في ذلك الحين مبلغا لا بأس به.

تحدث هذا الرجل في مجلس من مجالس النجف عن كرم السيد الشهيد وأريحيته، وذكر قصّته معه، فتحفّز أحد الحاضرين – طمعا في المال لا لحاجته إليه – ليكرّر ما يشبه تلك القصّة فجاء يطلب المال لحاجة ذكرها، واعتذر السيد الشهيد بعدم توفر المال لديه، وأوعده أنه متى ما توفّر يحقّق له ما يريد.

ظن هذا الرجل أن هذا الاعتذار تبرير لحرمانه ومنعه من العطاء، وليس عذرا واقعيّا فانهال على السيد الشهيد يكيل التهم والشتائم، فقال له: إنكم تصرفون الحقوق الشرعيّة لشراء الذهب لنسائكم وبناتكم، تبنون القصور، وتشترون السيارات، قبل يومين جاء فلان فأعطيته مائة دينار، وأنا اليوم أطلب منكم فلا تعطيني.

أمّا السيد الشهيد فظل صامتا يستمع إليه وحاول تهدئته بما يمكن لن لم تجد معه تلك المحاولات.

هنا يقول أحد أصحابه: كنت قد قرّرت وأنا أسمع إلى وقاحته أن ألقنه درسا فقد تملّكني الغضب والانفعال. وكان السيد الشهيد قد لمح ذلك في وجهي.

فلّما أراد الخروج خرجت معه إلى باب المكتبة، فأمرني رضوان الله عليه بالجلوس، وظلّ ساكتا سمع صوت غلق الباب المنزل حيث تأكّد من خروجه، هنا قال لي:

(ماذا كنت ستفعل؟ فأخبرته بما كنت عزمت عليه).

فقال: لا بأس عليك، إنّني أسمع أكثر وأقسى ممّا سمعت، ويجب عليك أن ترتفع بأخلاقك وصبرك إلى مستوى المسؤولية، فإنّي بالرغم مما سمعت من هذا الرجل من تهم وشتائم، فإني لا أحمل عليه حقدا ولا كرها لأنه لو أطلع على أوضاعي لما صدر منه ما صدر، وسوف يأتي اليوم الذي يندم فيه، ويصلح خطأه).

وشاء الله – عز وجل – أن يأتي هذا اليوم، وجاء الرجل يعتذر يقبّل يد السيد الشهيد ورجله، وعندها ذكّرني بما نصحني به وقال: هكذا يجب أن نتعامل مع الناس.

  1. بلغه أن أحد أبناء المراجع قال لمدير أمن النجف: (ماذا تنتظرون بالصدر، هل تريدونه خمينيّا ثانيا في العراق لماذا لا تعدمونه ….)

فقال رضوان الله عليه لمّا بلغه ذلك:

(غفر الله لك يا فلان، إن قتلوني اليوم، قتلوكم غدا ..).

ولم يزد على ذلك شيئاً.

نماذج من تعامله مع الشعوب الأخرى

وإذا أردنا أن نبتعد عن الانطباعات الخاصّة والوقائع الشخصيّة وتركنا الحقائق تتكلّم في افق اوسع تجد عنده الصدر والقلب الذي يعيش مع المسلمين في العراق وباكستان وإيران والهند ومع كلّ مسلم في أقطار الأرض وأنحائها بروح واحدة يعيش معهم آلامهم وهمومهم ومشاكلهم ولنقف مع بعض المحطات التي تستحق الوقوف عندها لما تحمل من مؤشرات روحيّة وأخلاقيّة رفيعة.

من تلكَ المحطات موقفه من الشعب اللبناني الأبي أثناء الأزمة الكبيرة التي خيّمت عليه فكان ضحيّتها الفقراء والمعوزين والمستضعفين، لم يقف الصدر مواسياً بكلمات المواساة وعبارات الرحمة والشفقة وإن كان ذلك مطلوباً وحسناً، لكنّه وقف بما يملك من قدرة ماليّة وماديّة وإن كانت محدودة، فهو تارة يبعث المال لمساعدتهم واخرى بصرف الحقوق الشرعيّة عليهم من دون حاجة إلى مراجعته واستئذانه. ويجب أن أعترف ان ما قدّمه (رضون الله عليه) لا يعتبر شيئا ذا بال من ناحيتين: فمن ناحية إنّ المال المقدّم ليس كبيراً ليسدّ حاجاتهم الكبيرة، ومن ناحية اخرى إنّ الأزمة والحاجة قد بلغا حداً جعل كلّ مال كثير لا يساوي شيئاً، في الوقت نفسه لا يُعتبر السيد الشهيد الصدر (رضون الله عليه) من المراجع الذين تغدق عليهم الأموال بشكل منتظم لتمكّن من الإسهام مساهمة فعّالة، بل كان في بعض الأحيان يوفّر رواتب الطلبة بصعوبة شديدة، وكان من أحيانٍ اخرى يستقرض ليتمكّن من إعطاء الرواتب ومع ذلك فإنّ مساهمته وعدم استئثار حتى بهذا القليل يعتبر من المواقف الي يجب أن تسجّل له، وأن نعتزّ ونفتخر بها نحن أبناء الأمة.

 سيرته مع أسرته وأهل بيته‏

لست مبالغاً إذا قلت: إنّ للسيّد الشهد الصدر رضوان الله عليه في سيرته واسلوبه وخطابه الأخلاقي مع اسرته، وأعني آل الصدر – أيدهم الله – وأهل بيته وأعني زوجته المكرّمة وأبناءه ووالدته واخته الشهيدة تميّزاً خاصّاً لم أرَ مثله فيما أعرف. وإذا كانت مشاعر القربى الفطريّة تفرض نوعاً من السلوك الأخلاقي‏ المتميّز والعلاقات الحميمة، والمحبّة والمودّة فإنّي أعتقد أنّ السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه كان إلى جانب ذلك حريصاً على إعطاء تلك العلاقات طابعاً هادفاً يخدم من خلاله ما يؤمن به من كون القائد يجب أن تكون له خصوصيّات إيجابية نموذجيّة بحيث يكون قدوة للآخرين.

 مع أهل بيته

وإذا أردنا أن نتعرّف على سيرته مع أهل بيته فسوف نجد صورة رائعة طافحة بكلّ ألوان المشاعر الإسلامية والإنسانية والروحية جسّد فيها صورة الابن البار مع والدته، والأخ الوفي الحنون لُاخته، والزوج المخلص لزوجته، والأب النوذجي لابنه وبناته.

كان رضوان الله عليه رغم انشغاله بهموم العمل المرجعي والمسؤوليات الإسلامية الكبيرة وما يكتنف ذلك من مشاكل وصعاب، لا يغفل الجانب التربوي ولا يتساهل في مسئوليته تجاه كلّ من في بيته.

كان في كلّ يوم يجلس إلى والدته رحمها الله يؤنسها بحديثه ويخفّف عنها من آلام ما تعاني من أمراض ومشاكل صحيّة، ويخفّف من قلقها عنه، فقد كانت رحمها الله تشعر بقلق كبير على سلامته ولها إحساس بأنّ السلطة سوف لن تتركه على أيّ حال، فكان رضوان الله عليه يدخل إلى قلبها بكلّ الوسائل ليبدّد هذه المشاعر أو يقلّل من سطوتها، فكان في كلّ يوم يجلس معها في غرفتها ومعه كتبه ودفاتره ويبقى معها – في أكثر الأحيان – حتّى العصر يكتب ويعدّ أبحاثه وغير ذلك، واستمرّ على ذلك حتّى اليوم الأخير قبل اعتقاله ومن ثمّ استشهاده.

وكان مع اخته الشهيدة بنت الهدى رحمها الله في غاية الرقة واللطافة، وهو يدرك أنّ هذه البطلة المضحية التي ضحّت بمستقبلها كإمرأة من أجل امّها وأخيها تستحقّ كلّ إجلال وإكبار، ولذلك أعطاها الكثير من وقته وجهده في سبيل تعليمها وتثقيفها، ونضجت (رضوان الله عليها) نضوجاً كبيراً مصحوباً بوعي شامل للواقع السياسي والاجتماعي والإسلامي في العراق، فكانت نموذجاً مصغّراً لأخيها فيما تحمل من هموم إسلاميّة، وصفاء روحي، وهدفيّة واعية لأعمالها وجهودها.

وبالنسبة لزوجته المكرّمة العلويّة الفاضلة ام جعفر (حفظها الله) فقد كانت تحتلّ من قلبه موقعاً كبيراً، إذ كانت شريكته في السرّاء والضرّاء، وتحمّلت من أجله الكثير من العناء والمشقّة بدأت من حين تغرّبها بعد هجرتها إلى العراق وانتهت بالحجز وما صاحبه وما أعقبه من صعاب ومشاكل، فكانت تستحقّ وبكلّ جدارة اهتمامه الكبير وعنايته الخاصّة، فكان رضوان الله عليه يدرك أهمية هذه التضحيات ولذلك أولاها الكثير من الحنان والاحترام، وإنّي منذ عرفتها لم أرَ ولا مرّة واحدة ما عكّر صفو علاقتهما أبداً فلا مشاكل ولا منغّصات وهو أمر عجيب حقّاً.

أمّا مع ابنه وبناته فكان رحمه الله في غاية الرقّة والمحبّة والحنان يلاعب الصغار ويؤنسهم، ولم يحاول في يوم من الأيّام أن يضربهم أو يهينهم، بل كان ينهج أفضل السُبل في تربيتهم، يتعامل معهم بروح الصداقة فيما تقتضيه الظروف، وبروح الابوّة في أحيانٍ اخرى.

وأتذكّر أنّه رضوان الله عليه حينما تنتهي جلسته اليوميّة في كلّ يوم عند أذان الظهر يدخل إلى بيت العائلة يستقبله أطفاله وكأنّه قادم من سفر بعيد، تمتلئ قلوبهم بالفرح والسرور.

وكان إذا تحدّث إليه أحدهم – وهم ما بين العقد الأوّل والثاني من أعمارهم – يصغي إليه إصغاءه للكبار يناقشه ويحاوره، وهو يحاول بذلك أن يزرع في نفوسهم الثقة والاعتماد على النفس وقوّة الشخصيّة. وأتذكر أنّ إحدى بناته الصغار – وكان عمرها في حدود العاشرة أو أقلّ – كانت قد أعدّت دفتراً وفي كلّ يوم كانت تطلب منه كتابة حديث أو رواية فلم يكن يتردّد في التجاوب معها فيملي عليها حديثاً أو رواية، وكانت تحفظ ما يكتب لها، وكان يسمّيها لقمان الحكيم، وهي عقيلة الشيهيد الصدر السيد مؤمّل الصدر رحمه الله.

وكان رضوان الله عليه يربّي أطفاله على أنّهم ملك للإسلام، وإنّ ما في أيديهم من أموال أمانة لا ملك‏.

وكان رضوان الله عليه قد اتّفق مع زوجته المكرّمة السيّدة امّ جعفر حفظها الله في حال صدور ما يستوجب العقوبة من أحدهم أن تقوم هي بضربه وتأديبه، وكذلك حوّلني نفس الشي‏ء فيما يناسب، وكان يعلّل ذلك بأنّ الأولاد أكثر إنشداداً إلى الام بحكم الفطرة والتربية والمخالطة، وسرعان ما تستطيع إزالة ذلك من قلوبهم، أمّا الأب فإنّه بحاجة إلى وقت أطول ليُحدث نفس الشي‏ء، هذا إضافة إلى أنّه أكثر قدرة من غيره على تغذيتهم بالمفاهيم والأفكار الإسلاميّة، وهذا الأمر يحتاج إلى أرضيّة سليمة وقلوب محبّة.

ورغم تواضعه رضوان الله عليه مع أطفاله فإنّ هيبته كانت تفرض احترامهم له، والتزامهم بحدود العلاقة المؤدّبة.

زهده وعزوفه عن الدنيا

فلقد كان المثل الرائع في الزهد بمفهومه الإسلامي الصحيح.

فكان الزاهد الحقيقي الذي يعتبر قدوة صالحة لمن أراد أن ينهج هذا الخط ويمثّله.

ولم يكن الشهيد الصدر يتزهّد في حكام الدنيا، لأنه لا يملك شيئا منها أو لأنه فقد أسباب الرفاهية في حياته فصار الزهد خياره القهري، ولو كان كذلك لأغفلت الكتابة عن هذا الجانب من حياته، بل زهد في الدنيا وهي مقبلة عليه، وزهد في الرفاه وهو في قبضة يمينه، وكأنه يقول (يا دنيا غرّي غيري).

أن يكون بإمكان الشهيد الصدر قدس سره أن يحيى أفضل حياة، ويعيش أسعد عيش بماله الخاصّ الحلال الطيّب، ومع ذلك يزهد في مأكله وملبسه، وشراء دار أو سيّارة، أو غر ذلك، فهو الزهد الحقيقي الذي يجعل الإنسان يكبر هذه الشخصية العملاقة.

والزهد بذاته حسنة يتقرّب بها الإنسان إلى بارية عز وجل ويكسب بها رضاه، والشهيد الصدر أحد الأعلام في سماء التقوى يتوهّج نورا مع الزاهدين من علمائنا الأبرار، إلا أني اعتقد أنّه استهدف بزهده أيضا ما هو أكبر من مسألة تربية النفس وتطهيرها، إنه أراد أن يجسّد النموذج المثالي للمرجع الربّاني، وينشئ مرجعيّة ترابيّة زاهدة تجسّ مفهوم القيادة العلوية المضحيّ، تكتفي بمطرين وقرصين، كما كان علي عليه السلام يفعل، فكانت سيرته وسلوكه أبلغ داع للإسلام، ومبلغ له.

لقد أدراك الشهيد الصدر قدس سره أن المرجعية بما هي كيان قيادي للمسلمين مستهدفة من قبيل السلطة الحاكمة، في ظرف كانت تواجه فيه انتقادات خطيرة من بعض قواعدها الشعبية يتعلّق ببعض القضايا الماديّة، فكان لابدّ من حمايتها لأن في ذلك حماية الإسلام، فكان الهدف إذن هو الدفاع عن الإسلام.

فهو زهد جمع بين حسنتين، التقرّب إلى اللّه تعالى بذات الفعل، والدفاع عن دينه بتجسيده سلوكيّا.

كان رحمه الله زاهدا في ملبسه بالمقدار الذي تسمح به الظروف الاجتماعية، في الوقت الذي كان بإمكانه لبس أرقة الأقمشة. ويعلم الله أنه ما رأيته لبس عباءة يزيد سعرها عن خمسة دنانير في الوقت الذي كانت تصله أرقى أنواع الملابس والأقمشة ممن يحبّونه ويودّونه.

وكان رضوان الله عليه قد أمرني بالاحتفاظ بجميع الهدايا من الأقمشة وغيرها لتوزيعها على الطلبة فيما بعد، وكان إذا حضر في مجلسة العامّ المنعقد قبل ظهر كل يوم لاحظ أوضاع الطلبة الحاضرين، فإن رأى أن ملابس أحدهم غير لائقة ومناسبة لشأن طالب العلم ويأمرني بإيصال قطعة قماش له مع أجرة خياطتها.

وفي يوم من الأيام دخل عليه خادمه الوفي (محمّد علي المحقّق) في وقت لم يتوقّع دخول أحد عليه، وكان رحمه الله جالسا في مكتبته فوجده يأكل خبزا يابسا وبيده قدحا من الماء، ولم يكن يتوقّع صعود الأخ محقّق في تلك الساعة، فخجل رحمه الله خجلا شديدا، وأدار وجهه إلى الحائط وهو لا يدري ما يفعل.

وحدّثني الأخ محقّق (حفظه الله) أنه سمع السيد الشهيد يخاطب خادمة كانت عندهم تعرف بأم صالح بقوله: (إذا بعثتي بوجبة الغداء لآغاي محقّق، فابعثي معه الخبز الحار، واتركي لنا الخبز البارد).

رغم تحسن الوضع المالي للسيد الشهيد في السنوات الاخيرة فقد بقي حال منزله من ناحية التأثيث وما فيه من لوازم منزليّة على حاله، وكنت في فترة الاحتجاز احدّث نفسي فأقول لو أن السلطة البعثيّة أرادت مصادرة محتويات هذا المنزل فهل ستجد شيئا ماديا يستحق المصادرة؟ ومع ذلك فبعد استشهاده سلبت السلطة جميع ما فيه من أشياء بسيطة لتؤكّد خبثها ودناءتها.

وقد سمعت السيد الشهيد يقول:

(يجب علي وأنا في هذا الموقع – يعني المرجعيّة – أن أكون – في مستوى العيش – بمستوى الطلبة الاعتيادي).

وكان رحمه الله كذلك، فإن ما في بيته بمستوى ذلك إن لم يكن أدنى.

فمحتويات منزله عبارة عن غرفة الاستقبال وفيها سجّادة لا أعلم هل أهديت له أم قد، اشتراها لأنها قديمة، وعلى يسار غرفة الاستقبال غرفة أخرى مفروشة هي مقبرة آل المامقاني رحمه الله ليس للسيد الشهيد فيها قليل أو كثير.

وإذا صعدت إلى المكتبة وجدتها مفروشة بقطعتين مما نسميّه بـ (البسطة) وهي جزء من صداق والدة السيد الشهيد.

وفي داخل – مسكن العائلة – توجد غرفة هي للنوم وللضيوف ولجلسة العائلة الاعتياديّة لا تحتوي إلا على أبسط المفروشات.

و توجد غرفة فوقها خاصّة بالسيد الشهيد رحمه الله مفروشة بما نسميّه بـ (الكنبار) مع منادر النوم، وهذه الغرفة أقرت إلى المخزن من غرفة الاستراحة والنوم.

وكان حله في مأكله كذلك، إذ يحاول الاكتفاء مع عائلته بأبسط ما يمكن، ويحرص على الاحتفاظ بمستوى مقبول من العيش، وكانت زوجته الطاهرة تكتب في كل يوم ورقة صغيرة باحتياجات البيت وتسلّمها (لآغاي المحقق) ليوفرها لهم، وهي الاحتياجات البسيطة المتعارفة، فأمرني رضوان الله عليه بالإشراف على تلك الورقة خشية أن يكون فيها من الطلبات أكثر من المألوف، بل كان في بعض الأحيان بشرف عليها بنفسه، وسمعته يقول: لا أرضى بشراء الفواكه مهما كان المبررّ، حتّى لو كان ذلك من أجل الضيوف، ويجب أن ننتظر إلى الوقت الذي يتمكن جميع الناس من شرائها.

 

إن الزهد من سمات هذه العائلة المظلومة، وخلق من أخلاقها، فقد تعوّدوا على العيش والاكتفاء بما هو موجود، بل كانوا لا يحبّون التمايز والتفاخر على غيرهم.

استشهد وهو لا يملك وسيلة للنقل (السيارة) وكان أحد الأخيار قد أوصى بسيارته (التويوتا) للسيد الشهيد ولما استلمها أمر ببيعها ليضيف قيمتها إلى أموال الرواتب والمساعدات، في وقت كان بأمس الحاجة إلى وسيلة للتنقّل، فمن ناحية كان يواجه رحمه الله حرجا من أخلاق بعض السواق وتصرفاتهم، ومن للتنقل، فمن ناحية أخرى كانت الأوضاع الأمنية تتطلّب ذلك، ورغم إلحاحنا عليه بعدم بيعها، إلا أنّه أصرّ على ذلك، وظلّ إلى آخر يوم من حياته مكتفيا في تنقّله بسيارات الاجرة أو سيارات الأصدقاء.

استشهد رضوان الله عليه وهو لا يملك دارا ولا عقارا، ولم أره يفكر إلا بشراء مقبرة له ولطلابه وسوف أتحدث عنها.

لقد شهدت عدّة عروض قدّمت له لشراء دار له من أموال خاصّة وليست حقوقا شرعيّة، ومن ذلك عرض تقدّم به تاجر من أهل البصرة، وكان محبا للسيد الشهيد فقد علم بأن دارا تقع إلى جانب منزل السيد الشهيد معروضة للبيع فحاول شراءها وأخبره بأن مال الشراء مال شخصي وليس حقوقا شرعيّة، فرفض السيد الشهيد قبول هذا العرض وقال له:

(إذا اشتريت هذه الدار فإني سوف اوقفها لسكن الطلاب ولن أسكنها أبداً).

فقال المتبرّع: أريدها دارا خاصّة لكم.

فقال السيد الشهيد:

(أنا لن أمتلك دارا حتّى يتمكّن كلّ طلبة من شراء دور لهم، وحينئذ سأكون آخر من يشتري).

 

استشهد رضوان الله عليه وهو يسكن في دار أسرة آل المامقاني الكرام وكان قد تبرّع بذلك سماحة آية الله الشيخ محيي الدين المامقاني حفظه الله وهي تتكوّن من شقّين، شقّ لسكن العائلة وآخر مقبرة للأسرةز

وهكذا عاش شهيدنا الصدر إمّا مستأجراً أو في دار تبرّعيّة غير ملكيّة فرضوان الله عليه وهو في دار القرار.

 عبادته وانقطاعه إلى الله تعالى‏

من الجوانب الرائعة في حياة السيد الشهيد رحمه الله الجانب العبادي، ولا يستغرب أحد إذا قلت: إنّه رحمه الله كان يهتّم في هذا الجانب بالكيف دون الكمّ، فكان يقتصر على الواجبات والمهمّ من المستحبّات.

كانت السمة التي تميّز تلك العبادات هي الانقطاع الكامل لله سبحانه وتعالى، والإخلاص والخشوع التاميّن، قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).[4] كان رحمه الله لا يصلّي، ولا يدعو، ولا يمارس أمثال هذه العبادات إلا إذا حصل له توجّه وانقطاع كامل، وكان متكتّماً على أمره هذا، ومتخفيّاً في عبادته، ولا يعرف أقرب الناس منه شيئاً عن هذا الأمر.

الأمر الذي يثير الدهشة أن يتمكن الإنسان، وخاصّة من هو في مثل موقع السيد الشهيد رحمه الله والذي يعيش الكثير من المشاكل والهموم الكُبرى أن يتجرد منها في ثلاثة أوقات على الأقلّ، بحيث تحصل له حالة من الانقطاع والخشوع التامّين في كلّ يوم وعلى مدى العمر. إنّ هذا الأمر من الامور الشاقّة جداً، والتي لا يتمكن إلا النوادر ممن تحقيقها على هذا المستوى الرفيع.

طلب منه عدد كبير من العلماء والمؤمنين الصلاة بهم إماماً في الحسينيّة الشوشتريّة، وكان بعض أهل الرأي، ومنهم المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين رحمه الله يرون ضرورة هذا العمل لأنه يشكّل حصانة للسيد الشهيد من بطش السلطة واعتدائها، ويجعل وجوده الديني والاجتماعي أمراً واقعياً يصعب تحدّيه. وبعد أن عُرضت الفكرة عليه رفضت قبولها.

وفيما بعد أصرّ عليه خاله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، وألحّ عليه كثيراً، فاضطر إلى الاستجابة، فصلّى بالناس إماماً صلاتي الظهر والعصر في الحسينيّة الشوشتريّة.

فقال:

(إنّي آليت على نفسي منذ الصغر أن لا اصلّي إلا بحضور قلب وانقطاع، فأضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتّى أتمكن من طرد الأفكار التي في‏ ذهني، حتّى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم للصلاة).

ولم تكن هذه الحالة خاصّة بالصلاة فقط، بل كانت تمتدّ إلى كلّ أشكال وصور العبادة الأخرى، ولقد سمعته خلال فترة الحجز – ولم أسمعه قبل ذلك – يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين وشجي، ودموع جاريّة، يخشع القلب لسماعه، وتسمو النفس لألحانه، وهو في حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن، إنّه مشهد عجيب يعجز القلم عن وصفه، وما فيه من معنويات كبيرة.

المرجعية والحوزة العلمية في حياة الإمام الشهيد الصدر

مرحلة ما قبل التصدّي للمرجعيّة

من المواضيع الجديرة بالبحث موضوع المرجعيّة – فكراً وسلوكاً – في حياة الشهيد الصدر، وكيف كان يعمل ويخطط للنهوض بها إلى مستوى الطموح الإسلامي الكبير، وبما يواكب متطلّبات العصر الحديث، وحاجاته المتجددة؟

والحوزة العلميّة باعتبارها مؤسسة علميّة ودينية تعيس في ظل المرجعيّة، وتعيش المرجعيّة في كنفها، كيف كان يراها الإمام الشهيد الصدر؟ وهل كان يخطط لإعادة بنائها وتنظيم كافّة مرافقها الدراسية والمنهجيّة والإداريّة بما يتناسب مع دورها في الحياة الإسلامية، ومع مقتضيات العصر وحاجاته الراهنة والمستقبليّة؟

ولا اريد هنا أن استعرض تاريخ المرجعيّات والحوزة العلميّة على امتداد التاريخ، وما لهما من نقاط إيجابية ومواقف رائعة، أو ما عليها من سلبيات شكّلت نقاط ضعف ومحاسبة ترشحت منها مشاكل كبيرة ورثتها المرجعيات الواعية وتحمّلت عواقبها ودفعت ثمناً غالياً وكبيراً تسبب في تأخير حصاد المردودات الإيجابية لصالح المسيرة الإسلامية الكبرى.

إنّ ذلك يحتاج إلى دراسات مستقلّة تبحث المسألة من جذورها القديمة، إنّما أشير فقط إلى ما كان منها محل اهتمام السيد الشهيد رحمه الله.

لقد وجد شهيدنا العظيم أن أوّل وأهم قضية يجب أن تعالج هي الحالة الذاتيّة في المرجعيّة، إذ المفروض على كل مرجعيّة أن تعتمد الموضوعيّة اسلوباً في عملها المرجعي، لأنه يحقق أكبر قدر من الخدمة الإسلام، ولا بد لكل مرجعيّة أن تكون حلقة في سلسلة كبرى، ولبنة قوية تشدّ اللبنة التي سبقتها والتي تليها، والمرجعيّة الجديدة يجب أن تواصل علمية البناء من حيث انتهت المرجعيّة التي سبقتها، لا أن تبدأ من نقطة الصفر كما هو الحال في اسلوب المرجعيّة الذاتيّة، لأنّ المرجعيّة الدينية ليست مجداً شخصياً ولا وقفاً على صنف دون آخر، بل هي مسؤولية دينية ومقام رباني، وعلى هذا الأساس لا يجوز أن تُترك هذ الأمانة رهناً للظروف والأوضاع، ولا بدّ من إيجاد صيغة سليمة تضمن استمرار عمل المرجعيّة وتكفل سلامة مسيرتها.

وقد عالج شهيدنا الصدر ذلك بوضع اطروحة المرجعيّة الموضوعيّة

والقضية الأخرى المهمة هي افتقار المرجعيّة والحوزة إلى نظام واضح المعالم، محدّد الصورة، يحكم كافة المجالات.

كان السيد الشهيد رحمه الله قد شخّص تلك المشاكل، واقترح لها الحلول الناجعة قبل تصديّه العملي للمرجعيّة، فكان طموحه وتفكيره باتجاه بناء هيكل مرجعي وحوزوي متين ينسجم مع متطلبات العصر، ويلبّي المستجدّات في حياة الامة بما يخدم الإسلام على أكمل وجه، ولم يكن بالإمكان إحداث هذا التغيير بين عشية وضحاها، خاصّة إذ أخذنا بنظر الاعتبار أجواء الحوزة، والتقاليد التي تسودها، وكذلك الإمكانات العمليّة والماديّة في مجال التنفيذ بالنسبة للسيد الشهيد، التي كانت محدودة إلى درجة كبيرة.

ولم يكن من خيار أمام سيدنا الشهيد رحمه الله في تلك الفترة إلا الاستفادة من الوضع‏ الموجود، والإمكانات المتاحة لإحداث بدايات التغيير حسب، الاطروحة التي كان قد وضعها.

ومن المؤكد أنّ عملية التغيير التي كان يستهدفها الشهيد الصدر في تلك المرحلة كانت شاملة للمرجعيّة والحوزة من جانب، وللامّة من جانب آخر، إذ يبدو من تاريخ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في أواخر عام (1957 م) المصادف لربيع الأوّل (1377 هـ) وتأسيس جماعة العلماء في عام (1958 م)، أنّ ما كان قد صمّم على تنفيذه خطّة شاملة وعامّ لكيلهما.

تأسيس جماعة العلماء

وظهرت اولى معالم التغيير بتأسيس جماعة العلماء في النجف الأشرف، وإصدار مجلة الأضواء، ومما لا شكّ فيه أن الشهيد الصدر كان قد أدى دوراً كبيراً في دعمها وتطورها وتنميتها بكل ما يملك من طاقات وإمكانات، وهو وإن لم يكن عضواً فيها إلا أن تأثيره كان يتم عن طريق خاله المرحوم آية الله الشيخ المرتضى آل ياسين، الذي كان يثق ثقة تامّة بسيدنا الشهيد الصدر وبحكته وتخطيطه.

وعن جماعة العلماء ومبررات وجودها وأهدافها كتب سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم (حفظه الله) عن تلك الفترة ما يلي:

(لابد لأن نفهم عمق الأحداث التي سوف أتناولها، والمواجهة التي وقت بين الإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه وحزب البعث في العراق، من أن نرجع إلى بدايات سنة (1378 هـ / 1958 م) أي بعد التغيير في الحكم الذي حصل في العراق بد انقلاب الرابع عشر من تموز عام (1958 م/ 1378 هـ)، فقد ظهرت على سطح المسرح السياسي في العراق مجموعة من التيّارات السياسيّة والفكريّة، بعد أن حصل الشعب العراقي نتيجة الانقلاب على بعض المكاسب السياسيّة والاجتماعيّة.

وقد احتدم الصراع في المرحلة الاولى بين التيار الماركسي الذي كان يقوده الحزب الشيوعي العراقي والذي كان يحصل على الدعم المعنوي من قائد الانقلاب عبد الكريم قاسم من جانب، ومجموعة التيّارات السياسية الأخرى كالتيار القومي الذي كان يجمع بين الناصريين والبعثيين وغيرهم، والذي كان له وجود سياسي في الحكم وفي الشارع، بسبب الدعم الذي كان يحصل عليه من الجمهورية العربيّة المتّحدة حينذاك بقيادة جمال عبد الناصر، وكالتيار الإسلامي الذي كانت تتعاطف معه جماهير واسعة من الشعب العراقي المسلم دون أن يكون له وجود سياسي قويّ، عدا بعض الأحزاب السياسية الإسلامية الصغيرة.

وقد وجد علماء النجف الأشرف أنّ من الضروري أن يطرح الإسلام كقوّة فكريّة وسياسيّة أصيلة تنتمي إلى السماء، وتمتدّ جذورها في الشعب المسلم.

وولدت من أجل ذلك اطروحة (جماعة العلماء) التي مكن أن نقول بحقّ إن وجودها يرتبط بشكل رئيسي بعقليّة السيد الشهيد الصدر، واهتمامات المرجعيّة الدينيّة وطموحاتها الكبيرة التي كانت تتمثّل بالمرحوم الإمام السيد محسن الحكيم، بالإضافة إلى الشعور بالحاجة الملحّة لمثل هذه الاطروحة لدى قطّاع واسع من الامة.

ورغم أن السيد الشهيد رضوان الله عليه لم يكن أحد أعضاء جماعة العلماء لصغره عمره، إلا أنّه كان له دور رئيسي في تحريكها وتوجيهها، كما ذكرت ذلك في مذكّراتي عن جماعة العلماء في النجف الأشرف.

ومن خلال ذلك تمّكن علماء النجف الأشرف أن يطرحوا الخطّ الإسلامي الصحيح، ويعملوا على القوّة السياسيّة الإسلاميّة المتميّزة.

وقد باشرت جماعة العلماء – بالرغم من قوّة الأحداث، وعدم توفّر الخبرة السياسيّة الكافية، وتخلّف الوعي الإسلامي في الامة – عملها من أجل إرساء قواعد هذا الخطّ الأصيل، وذلك من خلال بعض المنشورات والاحتفالات الجماهيريّة، والاتّصال ببعض قطّاعات الشباب، وإصدارها لمجلة الأضواء الإسلامية التي كانت تشرف عليها لجنة توجيهيّة مكوّنة من شباب العلماء، كان لها اتّصال وثيق بالسيد الشهيد الصدر.

بعد مضي أقلّ من عام تمكّنت جماعة من العلماء من بناء قاعدة إسلامية شابّة، ولذا قرّرت هذه الجماعة إصدار نشرة الأضواء الإسلاميّة كأداة للتعبير عن وجودها من ناحية، ولمواصلة السير في الطريق الذي رسمته من ناحية ثانية.

وقد بعثت مجلة الأضواء من خلال خطها الفكري والسياسي، ومن خلال ما رسمته من معالم الطريق الإسلامي وخطوطه العريضة، وبالأخصّ الخطوط التي كانت ترسم ضمن موضوع – رسالتنا – الذي كان يكتبه السيد الشهيد بإسم جماعة العلماء، وبإذنها طبعاً بعث الروح الإسلامية في قطّاعات واسعة من الجماهير.

وسافرت إلى لبنان في سنة (1380 هـ / 1960 م) حيث كانت طموحاتنا أن أنقل أفكارنا إلى ذلك البلد، وودعت السيد الاستاذ الشهيد حيث كان في الكاظميّة حينذاك بعد أن عشت معه أياماً، وكنت أراسله باستمرار في رسائل طويلة، وكان يجيبني باخرى يتحدث فيها عن عواطفه الفيّاضة وهمومه الإسلاميّة.

وفي هذه الرسائل بدأ السيد الشهيد يحّدثني عن هجمة قاسية شرسة، قام بها حزب البعث تستّرت ببعض أهل العلم، فلقد كانت الواجهة في هذه الهجمة بعض من ينتسب إلى أهل العلم، ولكن كانت يد حزب البعث وراءها، حيث يطرح السيد الاستاذ في بعض رسائله بأن المحامي (حسين الصافي) الذي كان معمماً من قبل، ومن عائلة علميّة، وله صلات شخصيّة وطيدة ببعض أهل العلم، ومسؤول حزب البعث في النجف الأشرف كان وراء هذه الحملة، وتحدّث إلى بعض الأشخاص لإثارتهم.

فقد كتب السيد الشهيد في صفر (1380 هـ / 1960 م) يقول:

(لقد كان بعدك أنباء وهنبثة، وكلام، وضجيج، وحملات متعدّدة جُنّدت كلّها ضد صاحبك[5]‏ وبغية تحطيمه … ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء، أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم فأخذوا يتكلّمون وينتقدون، ثم تضاعفت الحملة، وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي – ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببيّة وارتباط بين الحملتين، أو لا – تنبري هذه الجماعة …. فتذكر عنّي وعن جماعة ممّن تعرفهم شيئاً كثيراً من التهم من الأمور العجيبة.)

ومن الملاحظ أن البعثيين استعملوا في هذه الحملة اسلوبين رئيسين:

الأوّل: اسلوب الاتّهام بأن هذه المجلة لا تعبّر عن رأي جماعة العلماء، وإنّما هي تعبّر عن رأي تنظيم سياسي ديني سرّي يستغل اسم جماعة العلماء، وقد كان الاتّهام بالتنظيم السياسي في تلك الفترة الزمنيّة يعتبر تهمة شنيعة، بسبب التخلّف السياسي الديني في أوساط المتديّنين، وبالأخص أهل العلم منهم.

الثاني: موضوع (رسالتنا) الذي يكتب باسم جماعة العلماء، وكان يكتبه السيد الشهيد الصدر دون أن يعرضه على أحد منهم، فقد كتب السيد الشهيد في نفس الفترة، يقول:

(كما أن هناك زحمة من الإشكالات والاعتراضات لدى جملة من الناس، أو (الآخوندية) في النجف على النشرة، وخاصّة (رسالتنا)، باعتبار أنها كيف تنسب إلى جماعة العلماء مع أنها لم توضع من قبلهم، ولم يطلعوا عليها سلفا، وأن في ذلك هدرا لكرامة العلماء، هذا في الوقت الذي يقول الأخ …. إنّ الكلمة في بغداد متّفقة على أن (رسالتنا) كتابة تجديد وابتكار تختص بمستواها الخاصّ عن بقية الأضواء.).

وقد كتب في 6 ربيع الأول 1380 هـ / 1960 م:

(لا أستطيع أنّ أذكر تفصيلات الأسماء في مسألة جماعة العلماء وحملتها على الأضواء …. ولكن اكتفي بالقول: بأنّ بعض الجماعة كان نشيطاً في زيارة أعضاء جماعة العلماء لإثارتهم على الأضواء، وعلى (رسالتنا)، حتّى لقد قيل: إنّ الشيخ الهمداني الطيّب القول قد شُوّهت فكرته عن الموضوع …. وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل بالنسبة إلى جملة من الطلبة مع الاختلاف في بعض الجهات.)

وقد كتب أيضاً:

(فإنّني اجيبك على سؤالك فيما يخصّ من موقف الخال، فإنّ الشيخ الخال كان في الكاظميّة بعيداً عن الأحداث نسبياً، ولم يطّلع إلّا على سطحها الظاهري، وهو ماضٍ في تأييده (للأضواء) ومساندته لها، وقد طلب …. أن يكتب إلى بعض جماعة العلماء لتطييب خاطرهم، وجلب رضاهم عن (الأضواء) …. فكتب إلى .. وأخبره بأنّ (الأضواء) لم تكن تصدر إلا بعد مراقبته وإشرافه، أنّها تناط الآن .. كما أخبره بأنّ كاتب (رسالتنا) سوف ينقطع عن الكتابة …).

وأيضاً كتب السيد الشهيد:

(فقد حدّثني شخص في الكاظمية أنه اجتمع في النجف الأشرف فأخذ يذكر عنّي له سنخ التُهم التي كالها حسين الصافي من دون مناسبة مبرّرة. وعلى كل حال، عسى أن يكون له وجه صحّة في عمله إن شاء الله).

وقد كان لهذه الإثارة دور كبير في تحريك جماعة العلماء بالخصوص ضد السيد الشهيد، فأنّ دوره الأساسي كان في أوساط المتشدّدين من أهل العلم‏ البعيدين عن التيار الإسلامي وهمومه، ومشاكل الامة وانحرافاتها الفكريّة والسياسيّة، ولذا كان تأثيره على جماعة العلماء محدوداً …

وقد أحسن السيد الاستاذ الشهيد الصدر في معالجة الموقف بهدوء حيث تمسّك بالصبر والسكوت، فقد كتب يقول:

واما واقع (الأضواء) هنا فهو واقع المجلة المجاهدة في سبيل الله و قد هدأت – والحمدلله – حملة جماعة العلماء علیها بعد أن تم إشعارهم بأنهم المشرفون علیها، غیر أن حملة هائلة – علی ما أسمع – یشنها جملة من الطلبة، ومن یسمی بأهل العلم، أو یحسب علیهم، وهی حملة مخیفة، وقد أدت – علی ما قیل – إلی تشویه سمعة (الأضواء) فی نظر بعض أکابر الحوزة، حتی کان جملة ممن یسمیهم المجتمع الآخوندي مقدسین، أو وجهاء لایتورعون عن إلصاق التهم (بالأضواء) وکل من یکتب فیها…

ومن الجدير بالذكر أنه كان الإخوان في اللجنة التوجيهية يتسامحون في تقديم ما يكتبونه إلى الجماعة للإشراف المباشر عليه خوفاً من ملاحظات تبديها الجماعة تمسّ الصيغ الجديدة التي كانوا يقدمونها للأفكار الإسلامية التي كانت تمد التيار الإسلامي الواعي بالوقود والعطاء.

ولكن التجربة التي مارسوها بعد الضجّة دلّلت على أن جماعة العلماء كانت على درجة من الوعي تجعلها لا تعارض مثل هذه الأفكار، بل تمنحها التأييد والقبول؛ لأنه يشهد رضوان الله عليه بعد ذلك في تاريخ 18 ربيع الأوّل فيقول:

(وأسرة (الأضواء) التي لا غبار عليها وجه من الوجوه مورد للاطمئنان الكامل، وهم يعرضون مقالاتهم على الثلاثة، ولم يصادفوا لحدّ الآن مشكلة مبدأيّة في هذا المقام، والحمد لله الرب العالمين).

(حدسي أن (الأضواء) سوف تستمر إن شاء الله تعالى لأنّها تتمتّع الآن برصيد قويّ من الداخل والخارج، فمن الخارج بلغت عدد الاشتراكات (….) ومن الداخل تتمتّع برضا جماعة العلماء).

وهكذا تمكّن السيد الشهيد رضوان الله عليه بحكمته وصموده وصبره أن يواصل طريقه مع إخوانه وتلامذته في الجهاد، وأن يقفوا جميعا في وجه هذه الهجمة الشرسة التي استغلت أخسّ المشاعر في الإنسان، واستعملت أخبث الأساليب، وتمكّن بسبب ذلك الخط الإسلامي الأصيل أن يستمر في تفاعله مع الامة وتأثير فيها).

وكتب سماحته كذلك عن جماعة العلماء ودرو الإمام الشهيد الصدر فيها:

(… وكانت الفكرة العملية لدى الشهيد الصدر حولها أنّ إيجاد تنظيم يضم نخبة من العلماء الواعين الذين لديهم استعداد لممارسة العمل السياسي ولو بالحدّ الأدنى أمر مهم وعندها يكون التحرّك من خلالها ذا طابع جماعيّ ويمكن أن يحقّق الأهداف التالية:

أ) الواجهة السياسيّة ذات الصيغة الشرعيّة في نظر الامة وذات العمق التاريخي المتجذّر والتي يمكن تحت غطاءها – أن يتمّ التحرّك المرحلي في بناء الحزب والقيام بالنشاطات الفكريّة والثقافية … في المقاطع المختلفة.

ب) دفع الامة باتجاه العمل السياسي واضفاء الشرعيّة عليه وكسر الحاجز النفسي الذي بناه الاستعمار في محاولته لفصل الدين عن السياسة خصوصاً في أوساط الحوزة العلمية حيث كانت تيعش تحت تأثير هذا الاتجاه من ناحية وما خلّفته إحباطات العمل السياسي للحوزة العلمية من آثار ونتائج في السابق.

ج) تطوير العمل السياسي في وسط الحوزة العلمية بعد أن عمل الاستعمار على عزلها وتحجيم دورها، بل منعها في بعض الأحيان بالقوة عن ممارسة هذا الدور بحيث أصبح العمل السياسي وكأنّه من الامور الغريبة والمفروضة في بعض أوساط الحوزة العلمية. وثم يمكن لهذه الجماعة أن يكون لها دور مهم في إسناد ودعم دور المرجعية الدينية الرشيدة في التصدّي للعمل السياسي.

د) مواجهة التيّارات الثقافيّة والسياسيّة ذات البعد الإلحادي وكذلك الانحرافات الأخلاقيّة والسلوكيّة في الامة والتي كانت تحتاج إلى تصدٍّ واسع وفعّال من قبل الحوزة العلمية.

وقد كانت المرجعية الدينية الرشيدة المتمثلة بالإمام الحكيم تلتقي في تحرّكها السياسي وتصوّراتها العملية مع الأهداف الثلاثة الأخيرة من وراء تأسيس جماعة العلماء بالإضافة إلى أهداف اخرى، الأمر الذي أدّى إلى أن يقوم الإمام الحكيم قدس سره بالمساهمة مع بقية العلماء المنضومين تحت هذا التشكيل بتأسيس ودعم جماعة العلماء التي كانت تضمّ كبار علماء النجف الأشرف من الطبقة الثانية والثالثة بعد المراجع الكبار، والذين كانوا ينطلقون في نشاطاتهم وتصوراتهم من أهداف المرجعية، ويمكن تلخيص الأهداف الأخرى المرحليّة لتأسيس جماعة العلماء- من وجهة نظر المرجعيّة وفي إطارها- بالأهداف التالية:

أ) المطالبة بالحقوق المهضومة للمسلمين بشكل عامّ والشيعة بشكل خاصّ سواء على المستوى المدني أو الديني، وطرح الفكر السياسي الإسلامي على الامة.

ب) اتخاذ المواقف السياسيّة تجاه الأحداث التي تواجهها الامة وتطوراتها، وإيجاد تيّار سياسي إسلامي في مقابل التيّارات الأخرى الوضعيّة التي غزت العراق وبلاد المسلمين مع الاهتمام بطرح هذا التيّار والفكر من خلال العمل الجماعي للحوزة العلميّة.

ج) محاولة الجمع بين جميع أطراف الحوزة العلمية المتمثلة بالمراجع العظام في صفّ واحد تجاه الأحداث والمواقف، حيث كانت هذه الجماعة تمثّل في انتماءها الحوزوية مختلف الأطراف المهمّة فيها، بالرغم من أنّ المرجع الأعلى آنذاك هو الإمام الحكيم رضوان الله عليه الذي برزت المرجعية فيه بشكل واضح بعد وفاة آية الله البروجردي رضوان الله عليه سنة 1380 هـ / 1960 م.

وعلى هذا الأساس أمكن أن تتكوّن هذه الجماعة في النجف الأشرف التي كانت تسندها المرجعيّة الدينيّة وتلقي في الوقت نفسه تبنّياً غير محدود من الشهيد الصدر (رضون الله عليه) الذي كان حينذاك شابّاً معروفاً بالفضل في أوساط الحوزة العمية، ولكن لا يسمح له عمره بالانضمام إلى قائمة أسماء الجماعة.

ولكنّه مع ذلك كتب جميع بياناتها السبعة، كما كان يكتب باسمها (كلمتنا) في مجلة الأضواء على الغالب.

وكان يفكر بالبداية أن ينشر باسمها كتاب (فلسفتنا) إلا أنّه عدل عن هذه الفكرة بعد ذلك لما أثاره بعض الأشخاص ضدّه من (تهمة) أنّه يرغب باستخدام اسم الجماعة للتستّر على تحرّكه السياسي الواقعي وهو التحرّك الحزبي.

كما أنّه انقطع عن كتابة (كلمتنا) بعد ذلك باسمها بعد أن اثير هذا الموضوع ضدّه أيضاً.

وكانت لعلاقته الخاصّة برئيس هذه الجماعة خاله آية الله الشيخ (مرتضى آل ياسين) وببعض أعضائها من أرحامه وأصدقائه أمثال ابن عمه السيّد (محمد صادق الصدر) وأخيه السّد (اسماعيل الصدر) وآية الله السيد (محمد تقي بحر العلوم) وحجة الإسلام والمسلمين السيد (باقر الشخص) وغيرهم الأثر الكبير في قدرته على التأثير في مسار هذه الجماعة.

كما كان لوجود حجة الإسلام السيّد (مهدي الحكيم) وأخيه السيد محمد باقر الحكيم (كاتب هذه السطور) في جهاز مرجعية الإمام الحكيم الأثر المهم في التنسيق بين أهداف المرجعية من تشكيل جماعة العلماء وفكرتها والأهداف الخاصّة للحزب الذي كان حينذاك في بداية وجوده ولم يكن قادراً على ممارسة التأثير إلا من خلال هذه العلاقات الطبيعية التي كانت موجودة قبل وجود الحزب نفسه.

وبهذا الشكل تمكّنت هذه الجماعة أن تحظى بتأييد المرجع العام وكلّ المراجع الآخرين، كما تحظى في الوقت نفسه بقبول شباب الحوزة الذي يتطلّع للعمل المنظّم الخاصّ لأنّها كانت تمثّل من ناحية فعلية وضرورية للمرجعية وللحوزة العلمية من جهة، وللتنظيم السياسي الخاصّ من جهة اخرى، كما أنّ أعضاءها كانوا يمثلون الطبقة الثانية في الحوزة العلمية الذين يأتون بعد المراجع العظام.

وبهذا أصبحت جماعة العلماء في النجف الأشرف نموذجاً يقتدى به في ساحة العمل السياسي في وسط المرجعية الرشيدة والحوزات العلمية والتنظيم الخاصّ.

وعندما توقّف جماعة العلماء في النجف الأشرف أو تقلّص نشاطها لأسباب لا مجال لتفصيلها الآن نجد انبثاق فكرة جماعة علماء في بغداد والكاظمية لتحقيق أهداف المرجعية ذاتها بعد أن تولّت المرجعية مباشرة قيادة العمل السياسي وأصبحت قادرة على تجسيد وحدة الحوزة العلمية باعتبارها المرجعية العليا. وقد تميّزت جماعة العلماء في بغداد والكاظمية بنشاطها في الستينات وكانت تضمّ في أعضاءها كبار علماء بغداد والكاظمية وكانت غالبيّتهم الساحقة من المستقلين والعاملين في إطار المرجعيّة وحدها بالإضافة إلى بعض العلماء المعدودين الذين يرتبطون بالتنظيم).

وذكر السيد الحكيم أسماء اللجنة المشرفة على جماعة العلماء في النجف الأشرف وهو آية الله المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين، وآية الله المرحوم الشيخ حسين الهمداني، وآية الله المرحوم الشيخ خضر الدجيلي.

وأما أعضاء الجماعة فهم آية الله المرحوم السيد محمد تقي بحر العلوم، وآية الله المرحوم السيد موسى بحر العلوم، وآية الله المرحوم السيد محمد باقر الشخص، وآية الله المرحوم الشيخ محمد رضا المظفّر، وآية الله السيد مرتضى الخلخالي، وآية الله المرحوم الشيخ محمد طاهر آل شيخ راضي، وآية الله الشيخ محمد جواد آل شيخ راضي، وآية الله المرحوم السيد محمد صادق الصدر، وآية الله المرحوم الشيخ محمد حسن الجواهري، وآية الله المرحوم السيد اسماعيل الصدر، وآية الله الشيخ محمد تقي الايرواني.

 تأسيس مدرسة العلوم الإسلامية

والخطوة الأخرى التي كانت باتّجاه تغيير الأوضاع على الصعيد الحوزوي مساهمته في تأسيس (مدرسة العلوم الإسلامية) والتي كانت تحت رعاية وإشراف آية الله العظمى السيد الحكيم رضوان الله عليه، وهي أوّل محاولة جادّة لتنظيم الوضع الدراسي في الحوزة، والخطوة الاولى نحو تبني اسلوب (المراحل) في الدراسة الحوزوية.

وعلى كل حال، لم تسلم جماعة العلماء ولا مدرسة العلوم الإسلامية (الدورة) من معارضة قويّة استهدفت وأدهما معاً من قبل بعض الجهات التي لم يكن يروق لها هذا اللون من التجديد. ولعلّ الرسائل التي كتبها السيد الشهيد رضوان الله عليه إلى سماحة السيد محمد باقر الحكيم (حفظه الله) تكشف عن حجم المعاناة التي كان الشهيد الصدر يعانيها من جرّاء هؤلاء وأمثالهم.

ومما يجدر ذكره هنا أنّ الإمام الشهيد الصدر كتب في هذه الفترة أحد الروائع الفكرية التي أتحف بها العالم الإسلامي وهو كتاب (فلسفتنا) الذي لبّى فيه أكبر حاجات العالم الإسلامي وقارع فيه الفكر الماركسي الإلحادي الذي كان يهيمن على ما كان يسمّى بالمعسكر الشرقي.

هذه أهمّ النشاطات التي كانت قائمة على أساس الاطروحة الشاملة التي وضعها الشهيد الصد رفي فترة ما قبل التصدي للمرجعيّة.

الشهيد الصدر يرفض التصدّي للمرجعية

وبعد وفاة الإمام السيد الحكيم رضوان الله عليه (1394 هـ / 1974 م) حاول بعض علماء العراق المبرّزين وبعض الأوساط العلميّة في حوزة النجف الأشرف دعوة السيد الشهيد الصدر إلى التصدّي للمرجعيّة، إلا أنّه رفض ذلك بإصرار مفضّلًا مصلحة الإسلام الكبرى على ما يمكن أن نسمّيه بالمجد الشخصي والمكانة الدينية والاجتماعيّة الشخصيّة.

وكان ممّن حاول استجلاء الأمر تمهيداً لإرجاع الناس إليه في التقليد آية الله المرحوم السيد مير محمد القزويني قدس سره عالم محافظة البصرة وصاحب التأثير القوي فيها. إلا أنّ السيد الشهيد اعتذر عن القبول وكتب له رسالة جاء في مقطع منها:

(قبل بضعة أيام جاء ابن اختكم العزيز ومعه بعض الإخوان الأعزّاء إليَّ وذكروا أنّ سماحتكم تودّون التفضّل بالإطلاع على بعض بحوثي الفقهية فأرسلت تلبية للرغبة الأخوية المقدّسة التي بلغتني عنكم بعض ما كتبه الطلاب من بحوثي في كتاب الطهارة من العروة الوثقى، وأنا أودّ يا مولاي العزيز بهذه المناسبة أن أشكر لكم عنايتكم الأخويّة بي التي أعتبرها بحقّ من كنوزي في الحياة ومن آمالي الكبيرة في خطّ الإسلام العظيم وفي نفس الوقت أؤكّد لسماحتكم أنّي أرسلت تلك البحوث لمجرّد أن يطلع أخ على بحوث أخيه غير راضٍ بأي وجه من الوجوه بأن يرتّب عليها بعض الآثار التي أشار إليها اولئك الإخوان الأعزّاء الذين بلّغوني رغبتكم الشريفة فإنّهم ذكروا أنّ سماحتكم ترغبون في الاطلاع على بحوثي الفقهيّة وتقييمها من الناحية العلميّة لكي تتّخذوا موقفاً معيّناً تجاه المؤمنين الراغبين في الرجوع إليّ في مسائلهم الدينيّة، وهذه النقطة التي اريد أن اتحدّث عنها إلى سماحتكم فعلًا لأشرح بين يديكم واقع تقديري للموقف، إنّي لا افكر فعلًا بأيّ شكل من الأشكال في القيام اجتماعيّاً بمهام الإفتاء ونحوها من الشؤون التي يمارسها اليوم المراجع الكبار أطال الله في أعمارهم لأني أنظر إلى القيام بهذ الشؤون بوصفه معنى حرفيّاً وأداة لخدمة الإسلام لا بوصفه معنى إسمياً باعتباره سبيلًا لخدمة الإسلام فأنا أحسّ في الوقت الحاضر الذي يملأ فيه الفراغ بالمراجع الكبار أنّ دخولي إلى تلك المجالات ليس فيه مكسب للإسلام …).

وكان رأي السيد الشهيد الصدر في تلك التفرة أنّ الجهود والطاقات يجب أن تتكاتف لدعم مرجعيّة عليا قادرة على سدّ الفراغ الذي تركه رحيل الإمام الحكيم في ظلّ ظروف قاسية جداً، إذ أنّ السلطة البعثيّة كانت قد استعدّت لتنفيذ مخطط يستهدف المرجعيّة الدينية والحوزة العلمية وهو كان يُعبّر عنه بـ (القضاء على الرجعية) ولم تكن متحرجة أو متورعة من ارتكاب أبشع الجرائم إذا كان ذلك يحقق لها هدفها. إنّ الشهيد الصدر كان يدرك أنّ الصراع الذي دار بين الإمام الحكيم وسلطة البعث لم يكن صراعاً شخصياً، وإنّما كان الصراع صراعاً عقائدياً يتجاوز الحدود الشخصية، وهذا الأمر يفرض أن تكون النجف مستعدة لمواجهة بهذا المستوى.

وعلى هذا الأساس وجد رضوان الله عليه أنّ الضرورة والظروف الموضوعيّة تحتّم تأييد مرجعيّة واحدة وقويّة تتخطّى بسرعة مراحل البناء المألوفة والمتعارفة بحيث لا يتيسّر للسلطة المجرمة تنفيذ مخططها كما تريد، ومن هذا المنطلق تبنى رضوان الله عليه مرجعيّة الإمام الخوئي قدس سره فأرجع إليه في التقليد – حسب شروط اتفقا عليها – وحرص كلّ الحرص على دعم مرجعيّته بكلّ ما كان يملك من إمكانات.

ولم يكن هذا الدعم والتأييد لمرجعيّة المرحوم الإمام الخوئي قدس سره ليمرّ دون أن يتعرّض الشهيد الصدر لكثير من العداء والمضايقات من بعض الجهات التي لم تكن راغبة بذلك وكانت تتوقع أن تحصل على هذا الدعم دون غيرها، ومن المؤكد أنّ السيّد الشهيد لم يكن غافلًا عن ردود الفعل السلبيّة المتوقعة التي ستترتّب على دعمه لمرجعيّة الإمام السيّد الخوئي قدس سره إلا أنّه قدّم مصلحة الإسلام العليا على الأضرار والمصالح الشخصيّة، وهذا هو شأن القائد الرسالي الهادف.

مرحلة التصدّي للمرجعيّة

أسباب التصدّي للمرجعيّة

أثبتت الأحداث أنّ الفراغ الذي تركه رحيل الإمام الحكيم قدس سره لم يُملأ بالشكل المطلوب سياسيّاً واجتماعياً – وإن كان من الناحية الفقهيّة قد مُلأ كاملًا – وبدأت الامور تسير إلى ما لا يحمد عُقباه وبدأت علامات الخطر واضحة فيما سوف تصل إليه أوضاع الامة والمرجعيّة والحوزة في العراق.

لقد كان واضحاً لمن له أدنى دراية بالأوضاع في العراق أنّ الضرورة كانت تقتضي التصدّي السريع لمرجع يفهم حياة الامة والمجتمع العراقي بالذات من كلّ الزوايا والمناحي، ويحيط بالظروف والأوضاع إحاطة كاملة، ويعرف ما يجب ويلزم من مواقف وما لا يجب ولا يلزم، ولا يجعل التقيّة خطاً ثابتاً في عمله، ولا يفرّق فيه بين (الكيان المرجعي) كمقام ربّاني له لوازم ومقتضيات قد تفرض الإقدام على التضحية كما فعل الأئمة عليهم السلام، وبين المرجع باعتباره إنساناً من أبناء الامة له الحقّ في حماية نفسه بالطريقة التي يراها من دون تأطّر بكيان ديني أو قيادي.

وأتذكّر أنّ من الامور التي هزّت الشهيد الصدر رحمه الله في تلك الفترة، أنّ أحد المؤمنين سأل أحد المراجع الكبار عن جواز أو حرمة الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق، فأفتاه بالجواز، وكان ذلك المرجع خائفاً من أن يكون السائل من جواسيس السلطة، أو أنّه يخشى من انعكاس ذلك على السلطة لو أفتى بالحرمة، مما كان يسبب له أضراراً شخصيّة، وإلا فنحن نعلم أنّ هذا المرجع يحرّم في الواقع الانتماء الى حزب البعث العميل وانه أجلّ من ان يفتي بالجواز واقعا. وكان تعليق السيد الشهيد على هذه القضية وغيرها أنّ الوضع إذا استمر بهذا الشكل فانّ الأجيال التي سوف تأتي سترى الانتماء إلى حزب البعث أمراً طبيعياً لا حرج فيه، ولهذا السبب تصدّى رضوان الله عليه إلى الإفتاء بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صورياً، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، فكان هو المرجع الوحيد الذي أفتى بذلك وحزب البعث في أوج قوّته، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدّت إلى استشهاده.

وأستطيع أن أقول: إنّ الإمام الشهيد الصدر توصّل إلى قناعة تامّة استند فيها إلى ما ترشّح من واقع التجربة أنّ الوضع في العراق عامّة والنجف باعتبارها مركز الحوزة والمرجعيّة خاصّة بحاجة إلى مرجعيّة من نمط آخر قادرة على معالجة مشاكل خطيرة وكبيرة وإيجاد حلول جريئة أو اتخاذ مواقف قد تسخط السلطة وتغضبها.

انّ السلطة لم تجرأ في زمن مرجعيّة الامام الحكيم قدس سره على ارتكاب هذه الجرائم لأنّ الإمام الحكيم كان لها بالمرصاد، ليس فقط لأنّ مرجعيّته كانت مرجعيّة عامّة بل لأنّه كان يملك الشجاعة الكافية لمراجعة السلطة، هذه الشجاعة التي كانت تجعلها تحسب له ألف حساب، وكان بحقّ أن يعبّر السيّد الشهيد الصدر عنه بـ (الإمام المجاهد) لأنّه كان يقف بحسب ما تمليه عليه المسئوولية الشرعية من دون ملاحظة لأوضاع الشخصية، وكان السيد الحكيم قدس سره يعلم يقيناً أنّ أيّ مواجعة مع السلطة سوف لا تكون لصالحه شخصياً قطعاً ولكنّه مع ذلك حرص أن يبذل كلّ ما في وسعه للحفاظ على الكيان الإسلامي مهما كانت الأضرار الشخصيّة.

هذه الروحية فقدتها النجف بعد الإمام الحكيم.

وعلى كلّ حال وجد الشهيد الصدر نفسه مضطراً إلى التصدّي المرجعي – ولو بشكل محدود – وإن كان يميل نفسيّاً إلى التريّث وتأجيل عمليّة التصدّي إلى وقت آخر.

 استعداده للتنازل عن المرجعيّة

ومن المعروف أنّ السيد الشهيد ابتعد عن كل المظاهر التي كانت تلازم – عادة – عمليّة التصدّي، فلا جهاز دعائي يرشد الناس إلى تقليده، ولا رسالة عملية توزع مجانا ولا تمييز في إعطاء الرواتب على أساس حضور البحث، أو الولاء الشخصي، وابتعد عن كل مظهر من المظاهر التي يُعرف المرجع من خلالها، والأعظم من كل ما تقدم استعداده الدائم للذوبان في أي مرجعيّة صالحة تخدم الإسلام، والتنازل عن وجوده كلّه لصالحها، وكان هذا الخط ثابتاً على طول حياته المرجعيّة. ففي بداية تلك المرحلة – وكما حدّثني سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد الهادي الشاهرودي (حفظه الله) وهو أحد طلابه المقربين – أنّ السيد الشهيد خاطب خاصّة طلابه في اجتماع خاصّ بهم فقال لهم:

(يجب عليكم أن لا تتعاملوا مع هذه المرجعيّة – وقصد مرجعيّته – بروح عاطفية وشخصية، وأن لا تجعلوا ارتباطكم بي حاجزاً عن الموضوعيّة، بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الإسلام، فأي مرجعيّة اخرى استطاعت أن تخدم الإسلام وتحقّق له أهدافه يجب أن تقفوا معها، وتدافعوا عنها، وتذوبوا فيها، فلو أنّ مرجعيّة السيد الخميني مثلًا حقّقت ذلك، فلا يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيّته).

وكان هذا الكلام قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بعشر سنوات تقريباً.

وأما ما بعد ذلك، فيكفينا ما كتبه بخطّه الشريف في الرسالة التي وجّهها إلى طلابه في إيران في أوائل انتصار الثورة الإسلامية المباركة، والتي أعلن فيها بوضوح عن تنازله وذوبانه في مرجعيّة السيد الإمام رحمه الله وأكّد فيها بوضوح كامل على أنّ المرجعيّة وسيلة لا غاية، فمتى ما حقّقت مرجعيّة من المرجعيّات الصالحة الأهداف الخيّرة توخّاها رضوان الله عليه فيجب أن تنصهر المرجعيّات الأخرى فيها، فقد كتب رحمه الله:

(إنّ الواجب على كل واحد منكم، وعلى كلّ فردٍ قدّر له حظّه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة أن يبذل كل طاقاته، وكل ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقّف في البذل؛ والبناء يشاد لأجل الإسلام، ولا حدّ للبذل؛ والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام …

ويجب أن يكون واضحاً أيضاً أنّ مرجعيّة السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابدّ من الالتفات حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم …).

وقد سمعته مراراً يقول أمام بعض من كان يعترض على تأييده للسيد الإمام والثورة الإسلامية:

(لو أنّ السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما تردّدت في ذلك، إنّ السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إلى تحقيقه ….).

ومن الواضح أنّه لا مصلحة شخصية وراء ذلك الاندفاع للتنازل عن وجود مرجعي قائم قد امتدّ إلى معظم العالم الإسلامي، إلا مصلحة الإسلام الكبرى، والحفاظ على كيان الرسالة ومصالح الامة.

أضف إلى ذلك أن القاعدة التي انطلق منها السيد الشهيد إلى المرجعيّة، والتصدّي لُامور المسلمين كانت من القوّة والمتانة بالقدر الذي يكفي للامتداد السريع إلى كافة طبقات الامة المثقّفة الواعية التي تشكّل قاعدة البناء القويّة لكلّ تحرّك وعمل، وتلك القاعدة هي مؤلّفات السيد الشهيد، وما تميّزت به من عمق وإبداع وأصالة.

وعلى صعيد الحوزة العلميّة استطاع السيد الشهيد أن يثبت فقاهة منقطعة النظير وهو في المرحلة الاولى من عمره العلمي، وتجلّى ذلك أوّلا يما ضمّن بحثه التاريخي (فدك في التاريخ) من أبحاث فقهيّة كانت قد عبّرت عن عمق وأصالة قلّ نظيرها لمن هو في مثل عمره، ثم جاء بعد ذلك ما كتبه في مجال الفقه والأصول، ليعزز هذه الرؤية:

 المرجعيّة الموضوعيّة

وبالنسبة للمرجعيّة فقد كان رحمه الله قد وضع لها مخطّطاً شاملا، ونظاماً دقيقاً في محاولة لإخراجها من الطابع الخاصّ إلى النظام المؤسساتي الثابت، الذي لا يتغيّر بتبدّل الشخص.

كما أن السيد الشهيد أضاف بعض الملحقات والاقتراحات لمشروع المرجعيّة الموضوعيّة فيما بعد، وقد لخّصها سماحة آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه (مباحث الاصول).

عقبات التصدّي للمرجعية

أما المشاكل والعقبات التي واجهها رضوان الله عليه بعد التصدي، فلا تكاد تحصى، لكثرتها وتنوعها، بعضها مصدره السلطة، والآخر مصدره المجتمع الذي عاش فيه، وبعض الجهات في الحوزة.

إلا إنّ أهمّ معاناة كان يعيشها الشهيد الصدر رحمه الله هي عدم قدرة الحوزة على استيعابه، وفقدان الفهم الكافي له في مجتمعه. فكان يشعر بغربة قاتلة في ظل تلك الأجواء التي جعلته بين الحين والآخر يتمنى الموت. كان يقول حينما تتراكم عليه المشاكل الناشئة من هذا الوضع:

(لقد بلغت من العمر ما بلغه أبي وأخي، فلِمَ لا يعاجلني الموت ويُريحني).

وكان رضوان الله عليه صبوراً كتوماً، لا يشتكي، ولكن في بعض الاحيان كان الصبر يعيا أمام عِظم المشاكل، فتصدر منه تلك الأنات واللوعات، والله يعلم إلى أيّ مدى كان الهمُّ يتصاعد، فيضطر إلى الشكوى، بل أيّ مشاكل كانت تلك التي لا يطيقها ذلك القلب الكبير.

كان الشهيد الصدر رضوان الله عليه يسعى لإحداث تغيير في كيان الحوزة والمرجعية من الأساس، بما يلبي الحاجات الحاضرة والمستقبليّة، وبما ينسجم مع متطلبات العصر والحياة، ويحقق للمرجعية والحوزة الحماية الكاملة، والاستقرار الثابت.

وحتى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الامة، ما كان إلا من أجل حماية كيان الإسلام والامة الإسلامية، ومن الغريب أنّ البعض كان يسمح لأبنائه بالانتماء إلى حزب البعث الصليبي، ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الإسلامية. كان البعض ينتقد العلماء أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي للعراق فيقول: إنهم حرّموا على أبنائنا دخول المدارس الإنجليزية في العراق، ولم يفتحوا لهم مدارس إسلامية، واليوم أسّس لهم العلماء حزباً إسلامياً ليحصنهم من الانتماء إلى حزب البعث، أو الحزب الشيوعي ومن الإلحاد عموماً فإذا بهم كالبنيان المرصوص ضدّه.

وعلى كل حال وجد الشهيد الصدر نفسه أمام أمر واقع لا مجال للتغاضي عنه، وسواء كانت عمليّة التصدي للمرجعية طولية أو عرضية فإنّ الظروف الموضوعية والحاجات الملحة اقتضت الامتداد السريع لوجوده بين أبناء الشعب العراقي وخاصة الطبقة الواعية والمثثفة التي وجدت فيه أملًا، لا على مستوى الضرورة الفقهية فقط، بل وتلبية الحاجات الثقافية والفكرية التي كان يمتلك القدرة الكبيرة على ملئها بأفضل الوسائل.

وقبل ذلك وجدت قطّاعات من الحوزة العلمية في النجف في مدرسته الفقهية والاصولية ألواناً من الإبداع والعمق والإصالة تجذب من يتوخّى هذا النوع من التجديد فأصبح مجلس درسه من المجالس الرئيسية وآراؤه الفقهية والاصولية مورد اهتمام العلماء والفقهاء.

لقد أصبح الوجود المرجعي للسيد الشهيد الصدر أمراً لا يمكن تجاهله ولعلّ من عاش تلك الفترة يشهد بمستوى تفاعل الشعب العراقي المنقطع النظير مع مرجعيّته رغم الظروف السياسية والأمنية القاسية.

حياته السياسية والجهادية

استراتيجيّته السياسيّة والجهادية

للسيّد الشهيد الصدر رضوان الله عليه رؤيته واستراتيجيّته الخاصّة عن العمل السياسي والجهادي وتميّزه في محتوى واسلوب الطرح، ورغم أنّ الأجواء السياسيّة والإرهابيّة في العراق لم تكن تسمح له بتدوين كلّ التفاصيل عن هذه المواضيع الحساسّة والخطيرة بالشكل الذي كنّا نأمله ونتوقعه منه، إلّا أنّنا ولحسن الحظ يمكننا أن نستكشف الملامح العامّة والأُطر الرئيسيّة لكلّ تلك المواضيع من خلال ما كتبه في (اطروحة المرجعيّة الموضوعيّة) ومن سلسلة (الإسلام يقود الحياة) ومن بياناته التي خاطب بها الشعب العراقي عام 1979 م وهو في الحجز، ومن بياناته بمناسبة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ومن خلال الرسائل التي أشار في بعضها إلى ذلك، ومن شهادات بعض طلابه.

رؤيته عن إقامة حكومة إسلاميّة في عصر الغيبة

كان السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه يعتقد بأهميّة وضرورة إقامة حكومة إسلاميّة رشيدة في عصر الغيبة، تحكم بما أنزل الله عزّ وجلّ، وتعكس جوانب الإسلام المشرقة، وتؤكّد قدرته على بناء حياة نموذجيّة للبشريّة، وتبرهن بهديها وخصائصها على أنّ الإسلام هو النظام الوحيد القادر على تلبية كلّ حاجات الإنسان بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة.

يقول السيّد الشهيد الصدر رضوان الله عليه في رسالة له بهذا الخصوص:

(وفي هذا المجال نودّ أن نؤكّد الحقائق التالية:

الحقيقة الأُولى: أنّ تطبيق الإسلام فريضة واجبة، وأنّ إعادة الإسلام إلى كلّ مجالات الحياة، وإقامة النهضة الحقيقيّة للأُمّة على أساسه شرط ضروريّ في استعادتها لمجدها وكرامتها وإصالتها وتغلّبها على ما تواجه من مشاكل التخلّف والتمزّق والضياع، والمسلمون جميعاً يؤمنون بهذه الحقيقة وفي مقدّمتهم الشيعة الإماميّة الذين كانوا أبداً في طليعة من حمل مشعل الإسلام وضحّى في سبيله، ولم يسقط الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام صريعاً في المحراب إلّا في سبيل الإسلام وتطبيقه، ولم يخرّ سيّد الشهداء الإمام الحسين صريعاً على أرض كربلاء الطاهرة إلّا في سبيل الإسلام ومن أجل تطبيقه …)

وعلى هذا الضوء نرى أنّ مسألة تطبيق الإسلام في الحياة من الثوابت التي لا ينبغي النقاش فيها في فكر السيّد الشهيد الصدر. ولم تكن هذه الرؤية إفرازاً لنجاح الثورة الإسلامية في إيران ذلك أنّ كتابة هذا النصّ كان قبل انتصار الثورة في إيران بعدّة سنوات، وهو في الفترة التي أعلنت فيها باكستان عن نيّتها لتطبيق الشريعة الإسلاميّة.

ويرى رضوان الله عليه أنّ تطبيق الإسلام له متطلّبات أساسيّة، ومن أهمّ هذه المتطلّبات وجود اجتهاد متحرّك يستطيع أن يستنبط حلولًا من الكتاب والسنة تلبّي متطلّبات الحياة العصريّة وتعالج مشاكل الإنسان المعاصر.

ويجب أن لا يُقتصر في هذا المجال على تجارب لفقهاء تفصلنا عنهم عدّة قرون مارسوا الاجتهاد وفق متطلّبات ذلك الزمان لتفرض اليوم على مجتمعنا المعاصر لا بل على المجتهد اليوم – إذا كان على رأس القيادة – أن لا يقتصر فقط على ما استنبطه وتوصّل إليه لأنّ الآراء الفقهية لا يمكن أن تشكّل الأساس المطلق للحياة الإسلاميّة على مرّ الزمن، وأنّه لابدّ من إعادة النظر في الموروث الفقهي وإعادة صياغته اعتماداً على المصادر الأُولى للإسلام بما ينسجم مع متطلّبات الحياة العصرية ومستجدّاتها، لا أنْ نعتمد على استنباطات فقهيّة لفقهاء تفصلنا عنهم مئات السنين أوجدت حالة من عدم التناغم بين واقع الحياة والموروث الفقهي.

وإنّ على وليّ الأمر أن ينتقي من آراء الفقهاء الآخرين ما هو أقرب إلى روح الإسلام، وما هو أنفع وأصلح للمسلمين.

يقول رضوان الله عليه بهذا الشأن ضمن الرسالة المشار إليها:

(الحقيقة الثانية: أنّ تطبيق الإسلام على مجتمع معاصر يتطلّب اجتهاداً حيّاً متحرّكاً واعياً قادراً على الاتصال المباشر بمصادر الإسلام الأُولى من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة، واستمداد المنهج الكامل للحياة منهما، على الرغم من البعد الزمني، وتجدّد المشاكل، وتراكم التعقيدات خلال ثلاثة عشر قرناً من الزمن، ولا يمكن عمليّاً الاقتصار على حدود التجربة المحدودة التي مارسها فقهاء معيّنون في مرحلة تاريخيّة سابقة تفصلها عنّا قرون عديدة من الزمن، فإنّ المطلق هو الشريعة، وأمّا الاجتهاد فهو محدود بحدود ما يعيشه المجتهد من حاجات مجتمعه ومشاكل مرحلته، ومهما كان المجتهد غنيّاً في فقهه فإنّ آراءه لا يمكن أن تشكّل الأساس المطلق للحياة الإسلاميّة على مرّ الزمن، وهذا يعني أنّنا بحاجة إلى اجتهاد حيّ متحرّك، بل إلى ألوان من هذا الاجتهاد، وعلى وليّ الأمر دائماً أن ينتقي من آراء المجتهدين الذين يمثّلون الإسلام والشريعة بحقّ ما هو أقرب إلى روح الإسلام ومصالح الأُمّة وأكثر انسجاماً مع ظروف توعيتها ونهضتها …).

ويرى الإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه ان الفقه الإسلامي الإمامي هو القادر على إثراء الدولة الإسلاميّة بكلّ ما هو لازم لاستمرار مسيرتها وتلبية متطلّباتها وذلك لأنّ الفقه الامامي لا زال حيّاً متحرّكاً بسبب مواصلة علماء الشيعة لحركة الاجتهاد إلى يومنا هذا، وهذه الخصيصة اعطت الفقه الإمامي القدرة على الاستجابة لتقديم الحلول المناسبة لمشاكل الإنسان المعاصر، خلافاً للمذاهب الفقهيّة الأُخرى التي أغلقت باب الاجتهاد منذ قرون وتخلّفت في قدرتها على مواكبة متطلّبات الحياة.

أما على الصعيد العملي فإنّ السيّد الشهيد الصدر – قدّس سرّه – قام بمبادرات حيويّة في مقدّمتها كتبه القيّمة (اقتصادنا) و (فلسفتنا) و (البنك اللاربوي) وغيرها، هذه الكتب التي تعتبر مقدّمة ضروريّة في إطار إيجاد قناعة لدى المسلمين بأنّ الإسلام كان ولا يزال قادراً على مواكبة الحياة بكلّ تفاصيلها المتجدّدة.

ولم يقتصر في كتاب (اقتصادنا) الجزء الثاني في محاولته اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام على فقه الشيعة الإماميّة فقط، بل اعتمد كذلك على آراء وفتاوى المذاهب الإسلاميّة الأُخرى انطلاقاً من رؤيته – قدّس سرّه – بأنّ الإسلام كيان واحد والشريعة واحدة رغم تعدّد الاجتهادات في فهم النصّ أو الاجتهاد فيه، فقد نقل عن الماوردي في الأحكام السلطانيّة عن الإمام مالك، وعن البخاري وسنن أبي داود، وكتاب الأُم للشافعي، وتكملة شرح القدير، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ونقل آراء أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم من علماء المذاهب الإسلاميّة وكتبهم. ثم توّج كلّ ذلك بما كتبه في أواخر عمره الشريف بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران بسلسلة قيمة باسم (الإسلام يقود الحياة) لإعطاء القواعد الشعبيّة رؤية مبسّطة وواضحة عن هذا الموضوع.

ولاية الفقيه‏

وكما تقدّم قبل قليل فإنّ الإمام الشهيد الصدر رضوان الله عليه توصّل إلى تصحيح التوقيع الشريف وعلى ضوءه قال بولاية الفقيه، ومن أهمّ الوثائق لإثبات ذلك:

أوّلًا: ما ذكره رحمه الله في بحث الاجتهاد من كتاب (الفتاوى الواضحة). ونصّه: (المجتهد المطلق إذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعيّة في مرجع التقليد – المتقدّمة في الفقرة 4 – جاز للمكلّف أن يقلّده كما تقدّم، وكانت له الولاية الشرعيّة العامّة في شؤون المسلمين شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينيّة والواقعيّة معاً).

وما ذكره أيضاً في نفس المصدر من قوله رحمه الله (وإذا أمر الحاكم الشرعي بشي‏ء تقديراً منه للمصلحة العامّة وجب اتباعه على جميع المسلمين، ولا يعذر في مخالفته حتّى من يرى أنّ تلك المصلحة لا أهميّة لها).

وثانياً: ما ذكره رحمه الله في تعليقته على كتاب (منهاج الصالحين) ونصّه:

(… وأمّا إذا كان الحكم على أساس ممارسة المجتهد لولايته العامّة في شؤون المسلمين فلا يجوز نقضه حتّى مع العلم بالمخالفة، ولا يجوز للعالم بالخطأ أن يجري على وفق علمه).

القيمومة على العمل الإسلامي‏

وكان السيّد الشهيد الصدر يعتقد أنّ القيمومة على العمل الإسلامي يجب أن تكون للمرجعيّة الواعية العارفة بالظروف والأوضاع، المتحسّسة لهموم الأُمّة وآمالها وطموحاتها.

ولو تركنا جانباً ما كنا نسمعه من السيّد الشهيد الصدر حول هذا الموضوع فإنّ ما كتبه بقلمه الشريف في مناسبات متعدّدة ومنها اطروحته عن (المرجعيّة الموضوعية الصالحة) وكذلك البيانات التي أصدرها بمناسبة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وغير ذلك يكفينا بما لا يدع مجالًا للشكّ لإثبات هذا الموقف.

ففي بحث المرجعيّة الصالحة كتب تحت عنوان (أهداف المرجعيّة الصالحة) أنّ من أهداف المرجعيّة الصالحة:

(القيمومة على العمل الإسلامي، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام وفي مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ …).

ومن هذا النصّ نستكشف أنّ دور الفقيه لا يقتصر على تحديد وتبيين الحكم الشرعي فقط بل يتعدّاه إلى إعطاء المفاهيم التي يقدّمها العاملون للعالم الإسلامي والتي تعني المواقف السياسيّة وغيرها. إضافة إلى مل‏ء مناطق الفراغ التي لا يوجد موقف شرعي محدّد يعطي رؤية واضحة عنها، والتي قد يؤدي عدم الوضوح فيها إلى مخالفة شرعيّة أو انحراف عن الأحكام الشرعيّة الأوّليّة، أو لأنّها تسبب أضراراً كبيرة للإسلام ومصالح المسلمين ومن هنا يأتي دور الفقيه لإسناد الصحيح منها وتأييده وتصحيح الخاطئ وتعديله، إضافة إلى تشخيص الموضوعات في بعض الأحيان فيما تقتضيه الحاجة.

رأيه في العمل الحزبي‏

ممّا لا شكّ فيه أنّ الظروف والأوضاع السياسيّة، في العراق تفرض انبثاق عمل سياسي وجهادي منظّم، يعمل لخدمة الإسلام وتثبيت أركانه ونشر أفكاره معتمداً على الأساليب العصريّة التي لا تتعارض مع الإسلام.

والعمل الحزبي أو التنظيمي – بمفهومه الإسلامي – من الأساليب الفعّالة التي تضمن اختزال الزمن، وتسارع الخطى نحو الهدف الكبير المتمثّل بإقامة حكومة الإسلام الرشيدة، فمن خلاله تتوحّد المواقف تجاه مختلف الأُمور بين الجماعة المنظّمة مما يسهل الكثير من الصعاب، ويحد من كثير من المشاكل.

وعلى هذا الأساس كان الإمام الشهيد الصدر لا يرى بأساً بنهج هذا الاسلوب على أن يكون الحزب، أو الأحزاب – في فرض تعدّدها – تحت قيمومة المرجعيّة، وأذرعاً لها، لا كياناً قياديّاً مستقلًا.

تأسيس حزب الدعوة الإسلاميّة

أمّا عن موضوع تأسيس حزب الدعوة الإسلاميّة فإنّ سماحة آية الله السيّد كاظم الحائري كتب عن ذلك ما يلي:

(إنّ الاستاذ الشهيد رحمه الله مرّ بأدوار عديدة في عمله السياسي، والتطوّر المشهود في أساليب عمله يرجع إلى عدّة أسباب:

  1. أنّ العمل المتكامل في فترة طويلة نسبيّاً من الزمن بطبيعته يتطّلب المرحليّة والتطوّر والتغيير بمرور الزمن، بمعنى أنّ ما يصحّ من العمل في مرحلة منه قد لا يصحّ في المرحلة المسبقة، والعكس هنا – أيضاً – صحيح.
  2. أنّ تبدّل العوامل الخارجيّة الذي قد لا يكون من أوّل الأمر بالحسبان، يؤثّر – لا محالة – على طريقة العمل.
  3. أنّ أصل النظريّة في اسلوب العمل قد تنضج وتتكامل وتتطوّر في ذهن الإنسان بمرور الزمان، ممّا يؤثّر على اسلوب العمل، ويؤدّي إلى تطويره.

إنّ استاذنا الشهيد رحمه الله أسّس في أوائل شبابه حزباً إسلاميّاً باسم – حزب الدعوة الإسلاميّة – وكان هذا في وقته تقدّماً ملحوظاً في الوعي السياسي بالنسبة لمستوى الوعي المتعارف آنئذٍ في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، حتّى أنّ كثيراً من المتديّنين بالتديّن الجاف آنذاك كان يرمي من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية – فضلًا عمّن يؤسّس حزباً إسلاميّاً – بالانحراف عن خطّ الإسلام الصحيح، وبالارتباط بالاستعمار الكافر. كلّ من يدّعي ضرورة إقامة الحكم الإسلامي كان يُتّهم بمثل هذه الاتّهامات؛ لأنّ إقامة الحكم الإسلامي لا يكون في نظرهم إلّا بعد ظهور الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الله الشريف.

أمّا تاريخ تأسيسه رحمه الله لهذا الحزب فهو عبارة عن شهر ربيع الأوّل من سنة (1377 هـ / 1957 م‏) حسب ما قاله الحاج محمّد صالح الأديب حفظه الله وهو يُعدّ أحد أعضاء النواة الاولى، أو يُعدّ إحدى اللبنات الأوّليّة لبناء صرح الحزب.

وأيضاً قال الحاج محمّد صالح الأديب: إنّ السيّد الشهيد رحمه الله خرج من التنظيم بعد تأسيسه إيّاه بحوالي أربع سنين ونصف أو خمس سنين.

وكان قصّة خروجه من التنظيم على ما حدّثنا الحاج الأديب – حفظه الله – ما يلي:

كثر الكلام من قبل بعض المغرضين لدى المرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم – قدّس سرّه – على الشهيد الصدر رحمه الله بحجّة تأسيسه للحزب، أخيراً جاء (حسين الصافي) وهو رجل بعثي لئيم إلى المرحوم آية الله الحكيم وقال: إنّ السيّد الصدر وآخرين ممّن ذكر أسماءهم، قد أسّسوا حزباً باسم حزب الدعوة الإسلاميّة، وبهذا سيهدمون الحوزة العمليّة، بدأ يهدّد ويتكلّم ضدّ من أسماهم مؤسّسين للحزب، فنهره آية الله السيّد الحكيم، وقال له: أفأنت أحرص على مصالح الحوزة العلميّة من السيّد الصدر؟ ثمّ أخرجه من بيته بذلّ وهوان، ثمّ أرسل رضوان الله عليه أحد أولاده إلى السيّد الصدر رحمه الله وقال له عن لسان والده:

إنّ دعم كلّ الوجودات الإسلامية والأعمال الإسلاميّة هو من شأنك وممّا ينبغي لك أن تقوم به، أمّا أن تحسب على جهة إسلاميّة معيّنة وحزب خاصّ، فهذا لا ينبغي لمن هو مثلك في المقام العلمي والاجتماعي الشامخ. والذي يجب أن يكون دعامة لكلّ الأعمال الإسلاميّة من دون التأطّر بإطار خاصّ.

قال السيّد الشهيد – قدّس سرّه – سأفكّر وأتأمّل في الأمر، وفي اليوم الثاني أرسل رحمه الله رسالة مفصّلة إلى حزب الدعوة عن طريق الحاج محمّد صالح الأديب، وكانت خلاصة ما هو مكتوب في الرسالة بعد التأكيد الشديد على ضرورة استمراريّة عمل – حزب الدعوة الإسلاميّة – والإشادة الكبيرة بذلك: أنّ آية الله الحكيم طلب منّي أن لا أكون في التنظيم، وأنا أفهم أنّ هذا رأي إلزامي له، وعليه فأتوقّف الآن عن الانتماء إلى التنظيم طالباً منكم الاستمرار بجدّ في هذا العمل، وأنا أدعمكم في عملكم الإسلامي المبارك.

انتهي ما أخذته من الحاج محمّد صالح الأديب حفظه الله.[6]

وبعد ذلك مضت الأيام والليالي، إلى أن تصدى السيّد الشهيد رحمه الله للمرجعيّة بالتدريج من بعد وفاة المرحوم آية الله العظمى الحكيم، وطرح أخيراً فكرته عن ضرورة الفصل بين جهاز المرجعيّة الصالحة والتنظيم الحزبي بسبب أنّ المرجعيّة الصالحة هي القيادة الحقيقيّة للأُمّة الإسلاميّة وليس الحزب، وإنّما الحزب يجب عليه أن يكون ذراعاً من أذرع المرجعيّة وتحت أوامرها، والتشابك بين التنظيم الإسلامي والجهاز المرجعي يُربك الأُمور.

وما يدرينا لعل الاستاذ الشهيد رحمه الله كان مؤمناً بهذه الفكرة منذ تأسيسه للحزب، وإن أجّل إبرازها للوقت المناسب، فلم يكن هناك تناقض بين المرحلتين من عمله.

وقد أنشأ رحمه الله في بيته ضمن العشرة الأخيرة من سني عمره المبارك مجلساً أُسبوعياً كان يضم عينة طلابه، وكان يتداول معهم البحث في مختلف الأُمور الاجتماعية والقضايا الأساسيّة، وكانت تطرح في هذه الجلسات الكثير من مشاكل المسلمين في شتّى أرجاء العالم، وكان يُبرّر لمن يحضر هذه الجلسات تبني الأُستاذ الشهيد لتلبية حاجات المسلمين في كلّ مكان من البلاد الإسلاميّة وغيرها، وتفكيره الدائب في كلّ ما ينفع الإسلام والمسلمين، وتخطيطه الحكيم للحوزات العلميّة، ولمل‏ء الشواغر العلمائيّة في كلّ بلد يوجد فيه تجمّع إسلاميّ، ولإرشاد العاملين ضدّ الكفر والطاغوت في جميع البلدان، وما إلى ذلك.

ولست هنا بصدد سرد الأبحاث التي كانت تدور في تلك الجلسات الأُسبوعيّة إلّا بالمقدار الراجع من تلك الأبحاث إلى ما نحن بصدده من بيان استراتيجيّته رحمه الله في العمل السياسي وهي ثلاث نقاط:

أوّلًا: موقفه من العمل المرحلي المعروف عن حزب الدعوة الإسلاميّة الذي تبنّاه عند تأسيس الحزب.

ثانياً: اطروحته للمرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة.

ثالثاً: رأيه في مدى صحّة اشتراك الحوزة العلميّة في الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة.

أمّا الأوّل: وهو العمل المرحلي لحزب الدعوة الإسلاميّة الذي تبنّاه رضوان الله عليه لدى تأسيسه للحزب، فالمعروف اليوم عن حزب الدعوة هو الإيمان بمراحل أربع للعمل:

  1. مرحلة تكوين الحزب وبنائه، والتغيير الفكري للأُمّة.
  2. مرحلة العمل السياسي التي بضمنها جلب نظر الأُمّة إلى الأُطروحة الإسلاميّة للحزب، ومواقفه السياسيّة، وتبنّيها لتلك المواقف ودفاعها عنها.
  3. مرحلة استلام الحكم.
  4. مرحلة رعاية مصالح الإسلام والأُمّة الإسلاميّة بعد استلام الحكم.

ولكن الذي نقله الأُستاذ رضوان الله عليه في تلك المجالس الأُسبوعيّة لطلابه هي المراحل الثلاث الأُولى كما هو مثبت في النشرات الأوّلية للحزب، ولم يتعرّض للمرحلة الرابعة.

وعلى أيّة حال فقد تناول الأُستاذ رحمه الله هذا العمل المرحلي بالبحث، ولم يكن غرضه من ذلك شجب أصل كبرى المرحليّة في العمل، فإنّها من أوّليات العمل الاجتماعي، وقد طبّقها رضوان الله عليه فيما كتبه عن عمل المرجعيّة الصالحة، وإنّما الذي بيّنه في بحثه عن ذلك هو النقاش في مصداق معيّن بلحاظ الانتقال من المرحلة الأُولى إلى المرحلة الثانية.

وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هو: أنّنا حينما نعيش بلداً ديمقراطيّاً يؤمن باحترام الشعب وآرائه، ولا تجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أيّ حساب وكتاب، يكون بالإمكان افتراض حزب مّا يبدأ عمله بتكوين بنية ذاتيّة بشكل سرّي، ثمّ يبدأ في مرحلة سياسيّة علنيّة، ومحاولة كسب الأُمّة إلى جانبه، وجرّها إلى تبنّي تلك المواقف السياسيّة، ولكنّ الواقع في مثل العراق ليس هكذا، ففي أيّ لحظة تحسّ السلطة الظالمة بوجود حزب إسلامي منظّم يعمل وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام تُقتِّل وتُشرِّد وتسجن وتُعذِّب العاملين،

وتخنق العمل في تلك البلاد قبل تماميّة تعاطف الأُمّة معه، وتحرّكها إلى جانبه، فما لم يصادف هناك تحوّل آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الأُولى إلى المرحلة الثانية. قال رحمه الله هذا الكلام بحدود سنة 1392 هـ / 1972 م‏)

ويعتقد سماحة السيّد محمد باقر الحكيم أنّ (تأسيس حزب الدعوة الإسلاميّة – كان – في أواخر صيف 1378 هـ / 1958 م) وليس في سنة 1377 هـ / 1957 م كما نقله السيّد الحائري عن الاستاذ الحاج محمد صالح الأديب. ويرى كذلك أنّ سبب خروجه من الحزب (الشك في دلالة آية الشورى – الذي – انتهى به إلى الشك في صحّة العمل الحزبي الذي لا معنى له – في نظر الشهيد الصدر آنذاك – إلّا إذا كان يتضمّن الدعوة إلى قيام الحكم الإسلامي، فإذا لم تكن النظريّة حول قيام الحكم الإسلامي واضحة فكيف يمكن إيجاد تنظيم يسعى إلى هذا الهدف دون أن يكون الهدف نفسه واضح المعالم؟ وعلى هذا الأساس انسحب الشهيد الصدر من تنظيم حزب الدعوة الإسلاميّة، بعد أن كان يمارس فيه دور القيادة الفكرية).

ولكنّه ذكر كذلك أنّ خروجه من الحزب اقترن مع (طلب الإمام الحكيم منه الانسحاب من الحزب في الحادثة المعروفة التي أشرت إليها في بعض الكتابات).

علاقته بحزب الدعوة الإسلاميّة

بقي موضوع هامّ هو العلاقة بين الشهيد الصدر وحزب الدعوة الإسلاميّة والمراحل التي مرّت بها العلاقة بينهما سلباً وإيجاباً. ومهما كان سبب خروجه من قيادة الحزب وهل هو تغير مبناه الفقهي من الشورى إلى ولاية الفقيه، أو طلب الإمام الحكيم منه ذلك، أو لاقترانهما معاً فإنّ المهم أن نشير في نهاية المطاف إلى المراحل في مستوى العلاقة بينهما.

أمّا ما أعرفه عن هذا الموضوع فإنّ علاقة الإمام الشهيد الصدر بحزب الدعوة الإسلاميّة – بعد انفصاله عنه لم يكن جافياً وإنّما كان موقف الدعم والتأييد والمساندة بالأُسلوب والحدود التي كانت تسمح بها الظروف.

ثم أعقب ذلك فترة من البرود في العلاقة، كان من أسبابها أنّ السيّد الشهيد الصدر طلب من قيادة الحزب إخراج شخص معين من قيادة الحزب لأسباب موضوعيّة، فرفضوا ذلك وأصرّوا على بقاءه، فحدث ما يشبه القطعية بينهما. ولم تمرّ فترة طويلة على ذلك حتّى اضطرّ الحزب إلى إخراج هذا الشخص للأسباب التي ذكرها السيّد الشهيد الصدر ولكن ليس لأمره.

وفي سنة (1972 م) إثر الهجمة التي تعرّضت لها الحوزة العلميّة في النجف الأشرف والاعتقالات الشاملة التي عمت معظم الطلبة والمؤمنين وكان في طليعتهم سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ خالد أبا ذر وغيره، أبرز السيّد الشهيد الصدر رأيه في ضرورة الفصل بين المرجعيّة وبين العمل الحزبي. وفي هذا الوقت كتب اطروحة (المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة).

وفي سنة (1974 م/ 1394 هـ) إثر الاعتقالات الرهيبة التي انتهت بإعدام الشهداء الخمسة[7] وصدور أحكام السجن بحق آخرين أصدر رضوان الله عليه فتوى بتحريم الانتماء لأي حزب سياسي إسلامي ونصّ الفتوى كما يلي:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

سماحة آية الله العظمى الإمام السيّد محمد باقر الصد – دام ظلّه – بعد الدعاء لسيّدي بمزيد التأييد والتسديد أرجو التفضّل بالجواب على السؤال التالي:

ما هو رأي سماحتكم في موقف الحوزة العلميّة تجاه الأحزاب السياسية الدينيّة كحزب الدعوة وغيره فهل يجوز الانتماء إليها أو لا أفتونا مأجورين.

السيّد حسين السيّد محمد هادي الصدر

بسم الله الرحمن الرحيم‏

لا يجوز ذلك لأنّنا لا نسمح بشي‏ء من هذا القبيل وقد ذكرنا رأينا هذا مراراً إذ أوضحنا أنّ طالب العلم الديني وظيفته أن يعظ ويرشد ويعلّم الأحكام الشرعيّة بالطريقة الواضحة المألوفة بين العلماء ومن الله نستمدّ الاعتصام وهو وليّ التوفيق.

1394 هـ / [1974 م‏] محمد باقر الصدر).

وقد تكون العلّة الحقيقيّة لإبراز هذه الفتوى ونشرها ليس موقفه من الأحزاب السياسيّة الدينيّة فقط – وإن كان يرى ذلك لازماً لمن حوله وفي جهازه المرجعي على أقل تقدير – وإنّما يعود لأسباب متعدّدة نذكر منها:

  1. أنّ الإندماج والتلاحم بين الحوزة العلميّة والعمل السياسي الحزبي سيؤدّي إلى انعكاس جميع الأخطار السياسيّة التي يتعرّض لها العمل الحزبي على الحوزة العلميّة، فإذا تمّ القضاء على العمل الحزبي من قبل السلطة فسوف يؤدّي ذلك إلى القضاء على الحوزة العلميّة أيضاً.
  2. إنّ من وظيفة الحوزة العلميّة أن تشمل برعايتها جميع قطّاعات الأُمّة الإسلاميّة، والانتماء إلى العمل الحزبي قد يمنع عن مثل هذه الرعاية الشاملة لقطّاعات كبيرة من الأُمّة.

رأيه في العمل العسكري‏

وكان السيّد الشهيد الصدر يري ضرورة وأهميّة العمل العسكري والجهادي، بعد أن تستنفذ الوسائل السلميّة قدرتها على الإقناع في ظلّ الأنظمة المستبدّة الظالمة. وقد باشر ذلك على الصعيد العملي ولو بشكل محدود في السنوات الأخيرة من عمره الشريف، وكان يقول ما معناه: إنّ هذا النظام ويعني نظام – العفالقة في العراق – قضى على كلّ مظاهر الحرّية في العراق بالحديد والنار، فلابدّ من مقارعته بالقوّة. وقد طلب من أحد الأوفياء المقرّبين منه أن يباشر عمليّة الإعداد لهذا العمل بإقامة معسكرات بسيطة وسريّة للتدريب على السلاح، وكان ذلك على ما أتذكر في حدود عام 1970 م.

ومن المؤكّد أنّ بياناته الثلاثة التي وجهّها إلى الشعب العراقي تعبّر بوضوح عن إيمانه بأهميّة العمل العسكري والجهادي إذ من خلالها يمكننا أن نضع أيدينا على تفاصيل رؤيته عن هذا الموضوع.

الصراع بينه و بين السلطة الحاكمة

منذ الأيّام الأُولى لوصول حزب البعث العميل إلى السلطة عام (1388 هـ / 1968 م) أدرك السيّد الشهيد رضوان الله عليه خطورة هذا النظام، وما يحمل من أفكار هدّامة، ومخطّطات إجراميّة ضدّ الإسلام، والمراكز والقوى الإسلاميّة.

كان من الطبيعي في بادئ الأمر أن ترفع السلطة شعارات برّاقة عن الحريّة، والعدالة الاجتماعية والاقتصاديّة بهدف تضليل الجماهير، والتمويه عليهم. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتىّ كشف النظام عن وجهه البشع، وصورته الحقيقيّة وهويّته الإلحاديّة، وتوجّهاته الحاقدة والمعادية للدين من خلال ممارساته وأعماله التي فاقت في الإجرام والوحشيّة كلّ تصوّر.

جاء هذا الحزب العميل ليسخّر ثروات العراق وأمواله وما فيه من طاقات وإمكانات للقضاء على الإسلام واجتثاثه من قلوب العراقيين وأرواحهم، واستبداله بعقيدة ميشيل عفلق، والعيسمي، وأمثالهم من الماسونيين وعَبَدة الصليب، فحارب الإسلام بضراوة بالغة، وقتّل العلماء والصلحاء من أبناء العراق دون رحمة، فتضرّجت أرض العراق بدماء أبنائها وشبابها بما لا نظير له في التاريخ.

كانت الخطوة الأُولى التي كشفت حقيقة هذا النظام هي توجيه تهمة الجاسوسيّة للشهيد السعيد السيّد مهدي الحكيم رحمه الله، وكان المستهدف الحقيقي بذلك هو الإمام الحكيم رحمه الله مرجع الشيعة العامّ، وبالتالي المرجعيّة العامّة نفسها، والتي كانت حربة في قلوب العفالقة، وشوكة في عيونهم.

ثم أعقبتها الخطوة الثانية التي تمثّلت بإعدام الشهيد عبد الصاحب دخيّل رحمه الله بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلاميّة.

وتلا ذلك حملات التهجير والتسفير للطلبة وأبناء الشعب، بذريعة أنّ هؤلاء من أصل إيراني. وكان الهدف الحقيقي هو إفراغ الحوزة العلميّة في النجف وغيرها من الكوادر العلميّة تمهيداً للقضاء عليها، وكذلك الإخلال بالنسبة المئويّة للشيعة في العراق.

واستمرّ مسلسل الإجرام في حلقاته المُعدّة والمدروسة دون انقطاع، فكان له في كلّ يوم ضحيّة، وله في كلّ ساعة قرباناً من خيرة أبناء العراق يفترسه بأنياب صليبيّة حاقدة.

وركّز النظام في حملاته على قمع مراكز القوّة في الحوزة العلميّة، ومواطن الوعي فيها، وكان الشهيد الصدر رحمه الله يمثّل تلك القوّة وذلك الوعي، فكان هدفاً لتلك الحملات الشرسة والضربات القاسية في وقت قلّ فيه الناصر والمُعين.

وأصبح الشهيد الصدر، المرجع النموذجي في تاريخ المرجعيّات والمراجع الذي يتعرّض لأبشع أنواع الظلم وألوان الاضطهاد بعد أن تظافرت على اضطهاده كلّ القوى، فتعرّض للاعتقال والتعذيب، ثم نال الاستشهاد مع أُخته المظلومة بنت الهدى، وهي حالة لا مثيل لها في تاريخ المرجعيّات.

جهاده رحمه الله للإطاحة بصدّام‏

لقد أثبتت سلطة البعث من خلال ممارستها أنّها عدوّة الإسلام العنيد، وأنّ هدفها هو إبعاد الدين عن حياة العراقيين، حتّى في أبسط مظاهره وأشكاله، وكلّنا نعلم أنّ العلمانيّة شعار حزب البعث وروحه التي يحيا بها، وهل نتوقّع من حزب أسّسه ونمّاه ميشيل عفلق عابد الصليب والناقوس أن يفعل غير ذلك.

لقد تجرّأت سلطة البعث على ما لم يجرأ عليه حاكم أو حكومة، فمنعت الأذان الذي هو شعار الإسلام من الإذاعة،[8] وجعلت المساجد والحسينيّات والمحافل الدينيّة هدفاً لسهامها وحملاتها الوحشيّة، وجعلت المؤمنين الطاهرين خِيرة أبناء العراق ضحايا تقتطف رؤوسهم كلّما شاءت دون رحمة أو شفقة، وخصّصت لهم قسماً كبيراً من مديريّات الأمن باسم (الشعبة الخامسة) لمكافحة الرجعيّة، ولا زالت دماء عشرات الآلاف منهم تصبغ جدرانها، وهي السند الحي الذي يشهد لهم بالفداء ولأعدائهم باللؤم والخباثة.

لم تكن القوى المعارضة للسلطة بالمستوى القادر على مواجهتها ومقارعتها وجهاً لوجه، فالحركات الوطنيّة – كما يسمّونها – قد فقدت كلّ قوّة، والأحزاب الإسلاميّة كانت ولا تزال تحبو وهي مع ذلك نالت من الاضطهاد والعنف ما لم تنله الأحزاب الأُخرى غير الإسلامية وهي في أوج قوّتها وعنفوان شبابها.

والمرجعيّة بشكل عامّ – إذا استثنينا مرجعيّة الإمام السيّد محسن الحكيم رحمه الله التي كانت واعية لدورها ومسؤوليّتها – كانت تعيش هموماً أُخرى بعيدة عن هذا الخطر.

وكنّا نرى مواكب الفتوّة والطلائع والرفاق تمرّ من قرب حرم أمير المؤمنين علي عليه السلام تنشد ألحان الصليب وشعاراته، متحدّية عليّاً عليه السلام في مضجعه، وكانت أناشيد الإشادة بالبعث التي تبثّ مع مكبّرات الصوت تختلط مع الأذان.

وكان السيّد الشهيد رضوان الله عليه يراقب تلك الأوضاع بدقّة، وكان قلقاً إلى حدّ كبير وهو يواكب المسيرة التائهة في دياجير الظلام. ورغم أنّ إمكاناته المادّيّة لا تتيح له الكثير من الفرص، ورغم أنّ كيانه المرجعي ووضعه الاجتماعي كان محدوداً قياساً بالآخرين لا يمكّنه من العمل إلّا في حدود ضيّقة، ومع ذلك فقد خطى عدّة خطوات باتّجاه إسقاط النظام، واقتلاع جذوره، وتحرّك رضوان الله عليه باتّجاهين:

الاتّجاه الأوّل: كان نحو تفتيت حزب البعث في المجتمع العراقي واعتباره وجوداً غير مشروع.

الاتّجاه الثاني: كان لإسقاط النظام، أو على اقلّ تقدير اجتثاث الرأس الذي يقف وراء كلّ تلك المخططات الإجراميّة التي استهدفت الإسلام والمسلمين.

وكان تشخيص السيّد الشهيد رحمه الله أنّ صدّاماً التكريتي هو الرأس المدبّر للنظام، وكان هذا التشخيص في وقت مبكّر جدّاً، وقبل استلام صدّام لكافة السلطات، وقد سمعته كراراً يردّد هذا التشخيص، ويقول:

(ما دام هذا الشخص في الحكم لا يمكننا عمل شي‏ء، بل إذا سكتنا عنه فسوف يُحطّم ويهدّم الكيان الإسلامي في العراق).

وعلى هذا الضوء بادر السيّد الشهيد رضوان الله عليه إلى القيام بعدّة أعمال، أذكر منها التالي:

  1. على أساس الاتّجاه الأوّل، وهو تفتيت حزب البعث واعتباره وجوداً غير مشروع أصدر رضوان الله عليه فتواه بتحريم الانتماء إلى حزب البعث.

لم يكن هذا الموقف تحدّياً للسلطة فرضته طبيعة الصراع، كما لم يكن السيّد الشهيد رحمه الله بوجوده المرجعي والاجتماعي بمستوى هذه الصراحة الخطيرة والمواجهة المباشرة مع السلطة العاتية المجرمة، بل كان رحمه الله يقدّر العواقب الكبيرة والأخطار الهائلة التي تترتّب على هذا الموقف، وهو يعلم أنّه يعيش في الحوزة التي لم تكن مستعدّة لمساندته والدفاع عنه، باستثناء شرائح قليلة منها لا تدفع عنه ضيماً، وهو يعلم أنّ إمكاناته ليست بمستوى هذه المواجهة الخطيرة، كما أنّ السلطة من حيث القوّة والإمكانات قادرة على كسب الصراع بسهولة، ومع ذلك قرّر السيّد الشهيد أن يتّخذ هذا الموقف وبوضوح تامّ.

وكان لهذا الموقف ما يبرّره، فقد وجد رضوان الله عليه أنّ المكاسب أكبر من الخسائر بالنسبة لمجمل الوجود الإسلامي في العراق على المدى البعيد، وبدون اتّخاذ هذا الموقف ستكون النتيجة معكوسة.

وكان يقول:

(إنّني أعلم أنّ هذه الفتوى سوف لن تؤثّر في الوقت الحاضر التأثير المرجوّ منها؛ وذلك لأنّ السلطة طوقت حياة المواطن العراقي في كلّ مناحيها، وخاصّة الاقتصاديّة بالانتماء لحزب البعث، وسواء أفتينا بحرمة الانتماء أم لا فإنّه على كلّ حال سينتمي للحزب، ولكن فرق بين أن ينتمي وهو يعلم أنّ هذا العمل محرّم شرعاً، وبين أن ينتمي وهو يرى أنّ الانتماء أمر طبيعي لا حرج فيه من الناحية الشرعيّة، إنّ هذا الأمر في غاية الأهميّة، ويجب أن نأخذه بنظر الاعتبار).

ومن المؤكّد أنّ المردود الإيجابي لهذه الفتوى كان كبيراً، بل أقلق السلطة وهي في أكمل مراحل قوّتها، ولم تتمكّن من اتّخاذ ردّ الفعل المناسب الذي كنّا نتوقّعه في ذلك الوقت.

والحقيقة أنّ هذا الموقف المشهود يعتبر من أشجع وأنبل المواقف للسيّد الشهيد رضوان الله عليه قياساً إلى الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في العراق.

  1. كانت الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة في فترة مّا من تاريخ العراق قد فرضت على العلماء والفقهاء أن يتّخذوا موقفاً سلبيّاً من مسألة الدخول في الجيش العراقي، فأفتوا بالحرمة على أساس أنّه عمل مع الظالمين، أو اعانة لهم في ظلمهم. وكان من الطبيعي أن يتجنّب الأخيار الدخول في الجيش متطوّعين. أمّا من لم يكن مهتمّاً بالتديّن والالتزام، فإنّه وجد في الانضمام إلى الجيش فرصة مناسبة للعيش، خاصّة وأنّ الأوضاع الاقتصاديّة كانت في تلك الفترة رديئة للغاية.

ولمّا ولدت التيارات القوميّة والحزبيّة وجدت في الجيش والقوّات المسلّحة مرتعاً خصباً للعمل، فحزّب كلّ حزب ما يستطيع منه، وبمرور الزمن أصبح الجيش العراقي اليد الضاربة للأحزاب العلمانيّة والتيّارات القوميّة.

أمّا الإسلام فقد خسر أبناءه، بل أصبحوا ضدّه، وصار هذا الجيش حربة يطعن بها الإسلام والقيم الربّانيّة، وتسفك بيده دماء خيرة أبناء العراق.

كان السيّد الشهيد رضوان الله عليه وهي يُعدّ لمرحلة المواجهة الشاملة يعرف خطورة هذا الفراغ، وضرورة معالجته، وكان في المرحلة الأُولى يفكّر بالمراكز الحسّاسة في الجيش، ومصادر القرار فيه، وعلى هذا الأساس سمح لنخبة منتخبة من الشباب بالانتماء إلى الجيش والقوّات المسلّحة على أمل أن يكونوا النواة الطيّبة للسيطرة العمليّة على الجيش وتسخيره لخدمة الإسلام.

وأمكن خلال فترة وجيزة الوصول إلى بعض قواعد القوّة الجويّة، أو المراكز الحسّاسة في الجيش، حتّى أنّ أحد الطيّارين الذي كان يُستدعى في بعض الأحيان لمرافقة طيّارة نائب رئيس الجمهوريّة قد تعهّد للسيّد الشهيد بضرب طيّارة صدّام وإسقاطها في الوقت المناسب، وكان رحمه الله مهتمّاً بهذا التعهّد.

ولأهميّة الجيش العراقي ودوره الخاصّ والكبير اهتمّت السلطة العميلة في السيطرة عليه سيطرة تامّة، وحرّمت على كلّ عراقي لا ينتمي لحزب البعث الدخول فيه، وأخذت من كلّ عسكري تعهّداً خطيّاً يقضي بإعدامه في حال انتمائه لحزب آخر غير حزب البعث.

  1. قام رضوان الله عليه بتشكيل خلايا فدائيّة ترتبط به بصورة غير مباشرة، مهمّتها اغتيال الطاغية المجرم صدّام التكريتي، وكان المباشر لهذا العمل المرحوم الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي، والمرحوم الشيخ جليل مال الله، والمرحوم الشيخ قاسم ضيف، وبعض الإخوة الأعزاء ممّن لم نذكرهم، وهؤلاء يقومون باختيار الشباب المُضحّين الانتحاريين، وتوزيعهم على المناطق التي يتردّد عليها الطاغية، متربّصين به الفرصة المناسبة على أساس خطّة موضوعة.
  2. تمكّن رحمه الله في الفترة الأخيرة من حياته من إرسال أحد الأطباء (وهو الدكتور هاشم …) لينضمّ إلى الكادر الطبّي الخاصّ برئاسة الجمهوريّة، لينفّذ نفس المهمّة السابقة، إلّا أنّه اكتُشف خلال فترة إعداده لتنفيذ المهمّة وتمّ إعدامه‏

هذه بعض القضايا التي وقعت في إطار الإعداد لمواجهة النظام وإسقاطه، ذكرتها على نحو الاختصار.

المواقف المعاديَة له من قبل السلطة

الاعتقالات التي تعرّض لها الشهيد الصدر

الاعتقال الأوّل‏

اعتقل السيّد الشهيد رضوان الله عليه في ظلّ حملة إرهابيّة شنّتها السلطة وقادها المجرم المعروف ناظم كزار مدير الأمن العام في ذلك الوقت ونفّذها المجرم مهدي البياتي مدير أمن النجف آنذاك.

كتب سماحة آية الله السيّد كاظم الحائري حفظه الله في (مباحث الاصول) عن ذلك الاعتقال، الظروف التي أحاطت به ما يلي:

(اعتقل في سنة (1392 هـ / 1972 م)، وكان ذلك – في الظن الغالب – في شهر رجب، أو في أواخر جمادي الثانيّة، والقصّة كما يلي:

ذكر رضوان الله عليه ذات يوم أنّه بلغني خبر يقول: إنّ البعثيّين سيعتقلونني في هذه الليلة، وفي صبيحة تلك الليلة عرفنا أنّه لم يقع شي‏ء من هذا القبيل.

وفي الليلة الثانية ابتُلي مصادفة بالتسمّم أو ما يشبهه، ممّا كان يحتمل أداؤه إلى الموت، فطلب إيصاله إلى المستشفى، وكنت أنا والمرحوم السيّد عبد الغني رحمه الله بخدمته، ولا أذكر ما إذا كان شخص آخر أيضاً معنا أو لا، فأخذناه إلى مستشفى النجف، وبعد فترة من الزمن جاءت زوجته أُمّ جعفر، وأُخته بنت الهدى إلى المستشفى لعيادته، ثمّ رجعتا إلى البيت، ورجعت أنا أيضاً إلى بيتي، وبقي معه في المستشفى المرحوم السيّد عبد الغني الأردبيلي رحمه الله واطلعنا بعد ذلك على أنّ رجال الأمن العراقي طوّقوا في تلك الليلة بيت الأُستاذ، واقتُحم البيت لغرض اعتقاله، فقال لهم الخادم (وكان خادمه وقتئذٍ محمّد علي محقّق): إنّ السيد غير موجود، ولا أعلم أين ذهب السيّد، فبدأوا نضربه ليعترف لهم عن مكان السيّد، إلّا أنّه أبى، وأصرّ على إنكاره رغم علمه بمكان السيّد، وجاءت زوجته امّ جعفر، وقالت لهم: إنّ السيد مريض، وقد انتقل إلى مستشفى النجف، فانتقل رجال الأمن إلى مستشفى النجف، وطوّقوا المستشفى وطالبوا المشرفين على المستشفى بتسليم السيّد. فقالوا لهم: إنّ السيّد مريض، وحالته خطيرة، وإذا أردتم نقله، فنحن لا نتحمّل مسؤوليّة ذلك إذا ما مات بأيديكم.

وأخيراً وقع الاتّفاق على أن يُنقل السيّد تحت إشراف رجال الأمن إلى مستشفى الكوفة،[9] على أن يكون معه المرحوم السيّد عبد الغني الأردبيلي بعنوان مرافق المريض، وهكذا كان، فقد نقلوا السيّد الاستاذ إلى مستشفى الكوفة، ووضعوه في ردهة المعتقلين، وعند الصباح ذهب السيّد محمّد الغروي إلى مستشفى الكوفة كي يطّلع على حال السيّد الاستاذ، فالتقى بالمرحوم السيّد عبد الغني رحمه الله فقال له: إنّ رجال الأمن قد وضعوا قيد الحديد على يده الكريمة، فأخبرني السيّد الغروي بذلك، فذهبت أنا إلى بيت السيّد الإمام الخميني دام ظله حيث كان وقتئذٍ يعيش في النجف الأشرف، وتشرّفت بلقائه، وحكيت له القصّة.

ثمّ كثرت في صبيحة ذاك اليوم مراجعة الناس على الخصوص طلاب العلوم الدينيّة، والعلماء العظام، أمثال المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر إلى مستشفى الكوفة يطالبون بلقاء السيّد، والجلاوزة يمنعونهم عن ذلك. ودخل البعض على السيّد رغماً على منع الجلاوزة، وكاد أن يستفحل الاضطراب في وضع الناس، فخشيت الحكومة من نتائج الأمر، فرفع القيد من يد السيّد.

وبعد فترة وجيزة أطلقت السلطة سراح السيّد الاستاذ، ووضع في القسم العادي – غير ردهة المعتقلين – في مستشفى الكوفة، وبعد ذلك رجع إلى مستشفى النجف، وبعد أن تحسّنت حالته الصحيّة رجع إلى البيت، وكثرت زيارة الناس والوفود إليه، واستمر الأمر بهذا الوضع إلى أيام وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام حيث أقام السيّد الشهيد في بيته مأتماً للإمام الكاظم كعادته في كلّ سنة، وكان المجلس يغصّ بأهله، وكان الخطيب في ذلك الحفل السيّد جواد شبّر.

وكان يقول السيّد الاستاذ رحمه الله إنّ هذا الاعتقال قد أثّر في انشداد الأُمّة إلينا أكثر من ذي قبل، وتصاعد تعاطفها معنا.

وكان المفهوم لدينا وقتئذٍ أنّ مرض السيّد رحمه الله كان رحمة، وسبباً لتأخير تنفيذ ما يريده البعثيون من أخذه مخفوراً إلى بغداد، إلى أن اشتهرت القصّة، وضجّ الناس، واضطرّت الحكومة إلى إطلاق سراحه من دون الذهاب به إلى بغداد).

الاعتقال الثاني (وانتفاضة صفر الخالدة)

شدّدت حكومة البعث يوماً بعد آخر على الشعائر الإسلاميّة بهدف تطويقها والقضاء عليها. واتخذت سياسة التدرّج للوصول إلى هذا الهدف، وقد شجّعها على تخطّي مراحل مهمّة في ممارساتها الإجراميّة والتطاول في غيّها وطغيانها في مراحل تحقيق هدفها المنشود ممّا اعتبرته نجاحاً باهراً في مواقفها سكوتُ الناس على ما تعرّض له السيّد الشهيد رحمه الله والحوزة العلميّة في النجف الأشرف، لما كانا يمثّلانه من حصن منيع للإسلام، ومصدر خطر جدّي يهدّد حاضر الحزب وأهدافه المستقبليّة، حيث لم ترَ في ممارستها الإرهابيّة ضدّ هذا الوجود الإسلامي أيّ ردّ فعل من شأنه إثارة مخاوف السلطة، فقد كانت تجسّ النبض بواسطة إشاعات تثيرها قبل عمليّة الاعتقال تلفّق من خلالها التهم والافتراءات السياسيّة ضدّ هذا الوجود المقدّس، وعندما لم تواجه بردّة الفعل المناسبة من قِبل الجماهير كانت تعتبر ذلك مؤشّراً على نجاح لعبتها، وأن تلك الإشاعات قد فعلت فعلتها في التضليل، فترى الجوّ مناسباً للدخول في مرحلة متقدّمة في سلّم مواجهة الإسلام واقتلاع جذوره، وعلى هذا الأساس مدّت يدها المجرمة إلى شعائر سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، فتمكّنت وبسبب الضغط والإرهاب من استغلال الشعائر الحسينيّة – وخاصّة المواكب التي اعتاد الناس تنظيمها في شهر محرّم وصفر – لصالحها، وأجبرت الشعراء والمنشدين (الرواديد) على ذكر أحمد حسن البكر رئيس الجمهوريّة وصدّام حسين التكريتي الذي كان نائباً له وقتئذٍ، والإشادة بما تسمّيه إنجازات الثورة في قصائدهم ورثائهم.

وشرعت في تنفيذ سياستها خطوة خطوة، بدءاً من الأقضية والنواحي، لتشمل محافظات العراق جميعاً في مرحلة لاحقة، باستثناء مدينتي النجف وكربلاء، حيث إنّ الأوضاع القائمة فيهما أكثر صعوبة وتعقيداً من غيرهما، ولكن لم تمضِ إلّا سنوات قليلة حتّى اقتربت الحملة من النجف وكربلاء، وحاولت أن تنفّذ فيهما المنع المطلق عن ممارسة جميع الشعائر الحسينيّة تقريباً، فبدأت بمنع مواكب المشاة إلى كربلاء.

كان المفروض بسلطة البعث أن لا تقف من هذه الشعائر موقفاً سلبيّاً، ما دامت ترفع شعار الحريّة كشعار من شعاراتها الرئيسيّة التي تدّعي العمل لأجل تحقيقها، بل وكان عليها أن تحترم مشاعر المسلمين، وتخلّي سبيلهم في إقامة شعائرهم الدينيّة والمذهبيّة التي تعدّ حقاً طبيعيّاً لكلّ إنسان في أن يعبّر عن إرادته الدينيّة ومعتقداته الفكريّة ما دامت لا تخلّ بأمن البلاد

حاربت سلطة البعث العميل هذه الشعيرة الحسينيّة حرباً شعواء فكشفت بذلك القناع عن وجهها البشع، وأفصحت عن نيّاتها الحاقدة ممّا حرّك نهضة الجماهير، وأيقظها، وحرّك الغيرة على الدين في عروقها، ولن تنفع اليوم الاتّهامات السياسيّة، والمبرّرات الأمنية لتغطية هذه الجريمة النكراء، فوقف أبناء الشعب العراقي المسلم الغيور موقفاً مُشرّفاً في انتفاضة صفر الخالدة عام (1397 هـ)، المصادف لـ (9 شباط 1977 م)؛ لأنّه أيقن أنّ هذه الزمرة الحاكمة على العراق تستهدف القضاء على الحسين عليه السلام بكلّ ما يمثّله من ثورة ورسالة وأهداف إنسانيّة شريفة، وتريد محوه من صفحة وجدان الشعب الحسيني في العراق لغرض زرع ما جاء به المؤسّس البعثي (عفلق) من بلاد الغرب بكلّ ما يحمله من قيم غريبة على البعد الديني للعراق، ومن منهج اجتماعي من المدرسة اليهوديّة الماسونيّة التي خطّطت للقضاء على الإسلام منذ أمدٍ ليس بقصير.

أحسّت السلطة أنّ الجماهير في النجف الأشرف ومَن وفد إليها من المحافظات الاخرى تستعدّ للانطلاق بمسيرة كبرى إلى كربلاء متحدّية المنع الصارم الذي أعلنته خلال اجتماع جاسم الركابي محافظ النجف برؤساء المواكب في ذلك التاريخ.

وخرجت المسيرة في الوقت المقرّر وهو يوم الجمعة 17 صفر (9 شباط/ 1977 م) باتجاه كربلاء صارخة بشعار التحدّي (لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفاً سيّدي يا حسين)، وتحوّلت الشعارات بسبب ردّة الفعل القويّة إلى شعارات معادية للسلطة، ولكلّ أعداء الحسين عليه السلام، فأرعب ذلك حكومة البعث العميل وأدركت فشل خطّتها، فحاولت تلافي الخطأ بإلغاء قرار منع المسيرة، خاصّة بعد حصول اصطدام في اليوم الثاني في خان النصّ، وسقوط بعض الشهداء، واستعداد العشائر للدخول في مواجهة مع النظام.

ولكن لم يكن بمقدور هذا الإجراء أن يحلّ الأزمة، خاصّة وأنّ المسيرة كانت قد قطعت أكثر من ربع الطريق باتّجاه كربلاء المقدّسة.

وكانت بعض العربات العسكرية التي تنقل المعتَقلين الذين يقبض عليهم من قِبل قوّات الأمن في الطريق إلى كربلاء يطلق سراحهم أو يُشجّعوا – من قبل العسكريين انفسهم – على الهروب قبل وصولهم إلى معتقلات النجف، وهذه الخطوة كانت هامّة جدّاً لأنّها تكشف عن عدم قناعة الجيش بالسلطة

كان السيد الشهيد الصدر يتابع الاحداث بدقّة، وكان كما ذكرت آنفاً في غاية السرور والارتياح وهو يتلقّى أنباء تحدّي أنصار الحسين عليه السلام لسلطة أعداء الحسين، وصمود أبناء الشعب أمام دباباتهم ومدرّعاتهم وطائرات الميك التي كانت تحلّق فوق الرؤوس بأمتار قليلة.

وممّا زاد من ارتياحه سماعه لأنباء انضمام أعداد كبيرة من قطعات الجيش العراقي وأعضاء من حزب البعث الحاكم إلى صفوف الثوّار. وكان يعتبر ذلك مؤشّراً على بزوغ صحوة الشعب العراقي وإدراكه لحقيقة النظام الحاكم الذي ظلّله فترة طويلة. وكان يقول:

(إنّ هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إنّ هذه المواكب وهذه الشعائر هي التي زرعت في قلوب الأجيال حبّ الحسين عليه السلام وحبّ الإسلام، فلابدّ من بذل كلّ الجهود للإبقاء عليها رغم حاجة بعضها إلى التعديل والتهذيب …).

وكان رضوان الله عليه قد أمر أحد تلامذه بتقديم الأموال لكافّة المواكب التي كانت بحاجة إلى مساعدة ودعم، بل وبعث بالكثير من الأموال إلى المواكب الاخرى التي لم تعتد طلب المساعدات والتبرّعات.

وعلى كلّ حال كانت انتفاضة صفر عام 1977 م انتفاضة تاريخيّة أرعبت السلطة وحطّمت كبرياءها، خاصّة بعد فشل التدخّل العسكري والأمني في القضاء عليها.

وأرادت أن تحافظ على الحدّ الأدنى من كرامتها وحفظ ما تبقّى لها من ماء وجهها وذلك بكفّ الثّوّار عن ترديد الشعارات المعادية (للبكر وصدّام) وأن يدخلوا إلى كربلاء بشعارات حسينيّة فقط، أمّا بالنسبة للسيّد الشهيد الصدر رحمه الله فقد جاء إليه محافظ النجف المدعو (جاسم الركابي) وطلب منه التدخّل بإرسال وفد يطلب من الثّوار أن لا يردّدوا شعارات معادية للسلطة، ويُبلّغهم بتراجعها عن قرار منع المسيرة الحسينيّة، ويطلب منهم الهدوء والاكتفاء بترديد الشعارات الحسينيّة فقط، وإذا تحقّق ذلك فإنّ السلطة لن تتعرّض لأحدٍ منهم بسوء وتعتبر ما حدث قضيّة عابرة.

فقال له السيّد الشهيد الصدر: (ومَن يضمن سلامة الوفد الذي أبعثه إليهم؟).

فقال الركابي: (أنا أضمن سلامة الوفد، ولو حدث لهم شي‏ء فسوف اقدّم استقالتي، وأحلق شاربي، إنّ هذا تعهّد مني ومن وزير الداخليّة عزت الدوري).

ومهما يكن من أمر فإنّ السيّد الشهيد الصدر وجد نفسه محرجاً في حال امتناعه من إرسال وفد بعد ان استجاب سماحة آية الله العظمى السيّد الخوئي قدّس سرّه الذي كان المرجع الأعلى لطلب السلطة فأرسل وفداً ضمّ عدداً من العلماء منهم نجله المرحوم السيّد جمال الخوئي ليقوموا بتهدئة الثوّار، وسوف يُفسّر موقف السيّد الشهيد رحمه الله في حال عدم استجابته بأنّه موقف مخالف ومعادي للسلطة، ومؤيّد للثوّار.

وعلى كلّ حال فبعد أن طلب منه الركابي ذلك اجتمع رضوان الله عليه مع بعض طلابه، ومنهم سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد محمد باقر الحكيم حفظه الله اتخذ فيه بعد استشارتهم في الأمر القرار بإرسال وفد يمثّل السيّد الشهيد برئاسة السيد الحكيم، وكان السيّد الحكيم حفظه الله يرى أنّ عدم الاستجابة أفضل؛ لأنّ السلطة سوف لن تفي بتعهّداتها (وكان رأي السيّد الشهيد في الواقع كذلك) إلّا أنّه مع ذلك استجاب لرغبة السيّد الشهيد رحمه الله وذهب إلى الثوّار، وتحدّث معهم بما يجب.

وكان المفروض أن يُقدّر هذا الموقف ويُشكر من قبل رجال السلطة؛ لأنّه حقن الدماء بحكمة، وكان المفروض – وعلى أقلّ تقدير – أن لا يُعتقل، ولكن الذي حدث أنّ محافظ النجف الذي كان قبل ساعات يستغيث بالسيّد الشهيد قام هو بنفسه باعتقال السيّد الحكيم وسلّمه إلى قوّات الأمن بعد أن استدعاه إلى منزل المرحوم السيد مصطفى جمال الدين ومنه إلى المخابرات العامّة.

ولم يخضع السيّد الحكيم لأيّ لون من المحاكمة، وإنّما ابلغ وهو في سجن المخابرات العامّة بالحكم عليه بالسجن المؤبّد، ثمّ نُقل إلى سجن أبي غريب.

ولم يقدّم محافظ النجف استقالته، ولم يحلق شاربه – كما وعد من قبل – بل توجّهت السلطة بغضب وحقد إلى الشهيد الصدر رضوان الله عليه لتنتقم منه باعتباره الرمز الحقيقي للنجف بما تحمل من تراث ديني وعلمي عريق، ولترهب باعتقاله الآخرين.

الاعتقال الثالث‏

قبل غروب الشمس من يوم الاثنين المصادف (16 رجب 1399 هـ / 1979 م) بدأت قوّات الأمن ومنظّمة حزب البعث تطوّق منزل السيّد الشهيد رضوان الله عليه، والشوارع والأزقّة القريبة منه أو المحيطة به، ومنعت المرور منها منعاً باتّاً.

وجاء الليل بسكونه وهدوئه يُخيّم على النجف إلّا هذا الزقاق حيث مستقر سيدنا الشهيد، إذ تحث الخطى، وتتعالى حركة الحشود، تمزّق ذلك السكون في ساعات تلك الليلة، وكان الاستعداد قائماً على قدم وساق تمهيداً لاعتقال السيّد الشهيد.

سلّم السيد الشهيد في نفس اللیلة (الخاتم) الذي يعبّر عن إمضائه والذي يختم به فتاواه ورسائله إلى من يثق به من المقرّبين منه خشية أن يُسلب منه بعد اعتقاله واستشهاده فيستغلّ في تزوير ما تحتاج إليه السلطة من فتاوى مثلًا.

وفي الصباح الباكر، والناس نيام، لم نشعر إلّا والباب قد فتحت، وإذا بالمجرم (أبو سعد) مدير أمن النجف يطلب مقابلة السيّد الشهيد رحمه الله، ولم تكن هذه الزيارة! غير متوقّعة، أو مباغتة، فقد كانت كلّ الدلائل تُشير إلى أنّ السيّد الشهيد سوف يُعتقل في هذا اليوم، وعلى كلّ حال، اجتمع هذا المجرم بالسيّد الشهيد، فقال: سيّدنا: إنّ القيادة ترغب بالاجتماع بكم.

السيد الشهيد: أنا لا أرغب بالاجتماع بهم.

مدير الأمن: لابدّ من ذلك.

السيد الشهيد: أنا لا أذهب معك، إلّا إذا كنت تحمل أمراً باعتقالي.

مدير الأمن: نعم، أحمل أمراً باعتقالك.

هنا أجابه السيد الشهيد، فقال:

(أيّ سلطة هذه، وأيّ نظام هذا .. إنكم كمّمتم الأفواه، وصادرتم الحرّيات، وخنقتم الشعب بقوّة الحديد والنار ..

تريدون شعباً ميّتاً يعيش بلا إرادة.

تريدون شعباً بلا كرامة ..

وحين يُعبّر شعبنا عن إرادته، وحين يتّخذ موقفاً من قضيةٍ مّا، وحينما تأتي عشرات الآلاف من أبناء شعبنا لتعبّر عن ولائها للإسلام والمرجعيّة، تقوم قائمتكم، فلا تحترمون شعباً، ولا ديناً، ولا قيماً، بل تلجأون إلى القوّة لتكمّوا الأفواه، وتصادروا الحرّيات، وتسحقوا كرامة الشعب.

أين الحريّة التي تدّعونها، وجعلتموها شعاراً من شعاراتكم؟

أين هذا الشعب الذي تدّعون أنكم تدافعون عنه، وتحمون مصالحه؟

أليس هؤلاء الآلاف الذين جاءوا ليعبّروا عن ولائهم للمرجعيّة هم أبناء العراق؟

لماذا يستولي الرعب والخوف على قلوبكم إنّ عبّرت الجماهير يوماً عن إرادتها ورغبتها؟).

وظلّ السيّد الشهيد رحمه الله يواصل هجومه بتوجيه أمثال هذه الاعتراضات إلى مدير أمن النجف الذي كان مضطرباً وقلقاً، وقد وقع تحت تأثير هذه المفاجأة، فلم يتكلّم بشي‏ء، وظلّ ساكتاً.

ثمّ خاطب مدير الأمن، فقال: (هيّا لنذهب إلى حيث تريد).

خرج السيّد الشهيد رضوان الله عليه بشمائل علويّة، وشجاعة هاشميّة وقد صمّم على الشهادة وهو يذكر الله – عزّ وجلّ – ويردّد (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر).

خطاب الشهيدة بنت الهدى‏

كانت الشهيدة الخالدة بنت الهدى – رضوان الله عليها – قد سبقت الجميع إلى حيث تقف سيارة مدير الأمن في شارع الإمام زين العابدين عليه السلام، والتي كانت ستنقل السيّد الشهيد إلى بغداد، وهناك وقفت وكأنّها زينب – سلام الله عليها – في شجاعتها وصبرها وتضحيتها، تخاطب الظالمين الذين احتوشوا أخاها وقد زاد عددهم على ثلاثمائة شخص من قوّات أمن، وأعضاء في حزب البعث، ومرتزقة من هنا وهناك.

وأمام هذا الحشد الكبير ألقت الشهيدة خطبتها فقالت:

(انظروا – وأشارت إلى الجلاوزة المدجّجين بالسلاح ورشاشات الكلاشنكوف – أخي وحده بلا سلاح، بلا مدافع، بلا رشاشات ..

أمّا أنتم فبالمئات مع كلّ هذا السلاح.

هل سألت أنفسكم لِمَ هذا العدد الكبير؟ ولِمَ كلّ هذه الأسلحة؟

أنا اجيب … والله لأنّكم تخافون … ولأنّ الرعب يسيطر على قلوبكم.

والله إنّكم تخافون؛ لأنّكم تعلمون أنّ أخي ليس وحده، كلّ العراقيين معه، وقد رأيتم ذلك بأعينكم، وإلّا فلماذا تعتقلون فرداً واحداً لا يملك جيشاً ولا سلاحاً بكلّ هذا العدد من القوّات؟

إنّكم تخافون، ولولا ذلك لما اخترتم اعتقال أخي في هذا الوقت المبكّر .. لماذا تجيئون لاعتقاله والناس نيام؟

ممّن تخافون؟ .. ومَن تخشون؟ .. إسألوا أنفسكم؟

ثمّ وجّهت خطابها إلى السيد الشهيد: إذهب يا أخي، فالله حافظك وناصرك، فهذا طريق أجدادك الطاهرين ..)

غادر السيّد الشهيد رضوان الله عليه النجف الأشرف إلى بغداد.

خرجت العلويّة الشهيدة إلى حرم الإمام علي عليه السلام لتعلن عن خبر اعتقال السيّد الشهيد. وبقيت رحمها الله تفكّر فيما يجب أن تفعل في تلك الساعات العصيبة الحرجة، وكأنّها تقول: أنا ابنة علي عليه السلام لن أسكت، ولن أصبر على الضيم والهوان.

وحين أيقنت أنّ الوقت قد حان، والفرصة قد أتت خرجت إلى الحرم الشريف، وعند ضريح سيّد المظلومين علي عليه السلام نادت بأعلى صوتها:

(الظليمة الظليمة …

يا جدّاه، يا أمير المؤمنين، لقد اعتقلوا ولدك الصدر ..

يا جدّاه، إنّي أشكو إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد ..

ثم خاطبت من كان في الحرم الشريف، فقالت:

(أيّها الشرفاء المؤمنون، هل تسكتون وإمامكم يُسجن ويُعذب؟

ماذا ستقولون غداً لجدّي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم؟

اخرجوا وتظاهروا واحتجّوا ..).

وقوع الجريمة والتكتّم عليها

وفي مساء اليوم التاسع من نيسان 1980 م، وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءاً قطعت السلطة التيّار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف. وفي ظلام الليل الدامس تسلّلت مجموعة من قوّات الأمن إلى دار المرحوم الحجّة السيّد محمد صادق الصدر رحمه الله، وطلبوا منه الحضور معهم إلى بناية محافظة النجف، وكان بانتظاره هناك المجرم مدير أمن النجف (أبو سعد)، فقال له: هذه جنازة الصدر واخته، قد تمّ إعدامهما، وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما.

فقال المرحوم السيّد محمّد صادق الصدر: لابدّ لي من تغسيلهما.

فقال له مدير الأمن: قد تمّ تغسيلهما وتكفينهما.

فقال: لابدّ من الصلاة عليهما.

فقال مدير الأمن: نعم، صلِّ عليهما.

وبعد أن انتهى من الصلاة قال له مدير الأمن: هل تحبّ أن تراهما؟

فقال: نعم.

فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد السيّد الشهيد رضوان الله عليه مضرّجاً بدمائه، وآثار التعذيب على كلّ مكان من وجهه، وكذلك كان حال الشهيدة بنت الهدى رحمها الله.

ثمّ قال له: لك أن تُخبر عن إعدام السيّد الصدر، ولكن إيّاك أن تُخبر عن إعدام بنت الهدى، إنّ جزاءك سيكون الإعدام.

ولمّا حانت وفاة المرحوم السيّد محمّد صادق الصدر رحمه الله أخبر عن شهادة بنت الهدى.

وقد دفن السيّد الشهيد في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف وإلى جانبه اخته الطاهرة بنت الهدى في مكان أعرفه على نحو الإجمال.

وضربت السلطة العفلقيّة المجرمة طوقاً من التعتيم على جريمتها النكراء، فلم يعلم بالحادث إلّا القليل من أبناء النجف الذين تسرّب إليهم الخبر عن طريق بعض (الدفّانة) الذي يعملون في مقبرة النجف المسمّاة بـ (وادي السلام).

وكانت السلطة تنفي في بعض الأحيان وقوع الجريمة، وفي أحيان اخرى تثبتها، وكان النفي والإثبات يتمّ عن طريق كوادر حزب البعث العميل، فوقع الناس في حيرة شديدة، ولا أحد يستطيع أن يشخّص الموقف العملي المناسب تجاه هذه الجريمة الكبرى. وكانت الأسماع في تلك الفترة متّجهة إلى إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران – القسم العربي – فكان أملهم أن تنجلي الحيرة بما سوف يُذاع عن هذا الأمر الخطير من خلالها. ويظهر أنّ خبر استشهاد السيّد الصدر رحمه الله وصلهم بعد وقوع الجريمة بعدّة أيّام، فأعلن الإمام الراحل السيّد الخميني رحمه الله نبأ الاستشهاد من خلال بيان تأبيني مهم، ومنه عرف الناس بوقوع الجريمة الكبرى.

وهكذا خسر العالم الإسلامي والشعب العراقي خسارة لن تُعوّض، وفقدا علماً خفّاقاً في سماء الإيمان والعلم والمعرفة ..

واغتالته يد الطاغية الجبّار، المولع بدماء المؤمنين الأبرار المجرم صدّام حسين التكريتي. فويل لكلّ جبّار أثيم‏.

(وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)

بيان الإمام الخميني قدّس سرّه

وقد أصدر الإمام الراحل السيّد الخميني رضوان الله عليه بياناً تاريخياً أعلن فيه عن استشهاد الإمام السيّد الصدر واخته المظلومة بنت الهدى، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم‏

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

تبيّن – ببالغ الأسف – من خلال تقرير السيّد وزير الشؤون الخارجيّة، والذي تمّ التوصّل إليه عن طريق مصادر متعدّدة وجهات مختصّة في الدول الإسلاميّة، وحسب ما ذكرته التقارير الواردة من مصادر اخرى: أنّ المرحوم آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر وشقيقته المكرّمة المظلومة، والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة الشهادة الرفيعة على أيدي النظام البعثي العراقي المنحطّ، وذلك بصورة مفجعة!.

فالشهادة تراثٌ ناله أمثال هذه الشخصيات العظيمة من أوليائهم، والجريمة والظلم أيضاً تراثٌ ناله أمثال هؤلاء – جناة التاريخ – من أسلافهم الظلمة.

فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلاميّة، على أيدي أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنّما العجب هو أن يموت مجاهدوا طريق الحقّ في الفراش دون أن يلطّخ الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم!.

ولا عجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة، وإنّما العجب أن تمر الشعوب الإسلاميّة، وخاصّة الشعب العراقي النبيل، وعشائر دجلة والفرات، وشباب الجامعات الغيارى، وغيرهم من الشبّان الأعزّاء في العراق، على هذه المصائب الكبرى التي تحلّ بالإسلام وأهل بيت رسول الله – صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم – دون أن تأبه لذلك، وتفسح المجال لحزب البعث اللعين لكي يقتل مفاخرهم ظلماً الواحد تلو الآخر.

والأعجب من ذلك هو أن يكون الجيش العراقي وسائر القوى النظاميّة آلة بيد هؤلاء المجرمين، يساعدونهم على هدم الإسلام والقرآن الكريم.

إنّني يائس من كبار القادة العسكريين، ولكنّني لست يائساً من الضبّاط والمراتب والجنود، وما أتوخّاه منهم هو: إمّا أن يثوروا أبطالًا وينقضّوا على أساس الظلم، كما حدث في إيران، وإمّا أن يفرّوا من معسكراتهم وثكناتهم، وألّا يتحمّلوا عار مظالم حزب البعث.

فأنا غير يائس من العمال وموظّفي حكومة البعث المغتصبة، وآمل أن يضعوا أيديهم بأيدي الشعب العراقيّ وأن يزيلوا هذا العار عن بلاد العراق.

أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة.

وها أنا اعلن الحداد العامّ لمدّة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم الأربعاء الثالث من شهر (ارديبهشت) الثالث والعشرين من نيسان، كما اعلن يوم الخميس عطلة عامة؛ وذلك تكريماً لهذه الشخصيّة العلميّة، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلميّة، ومن مراجع الدين ومفكّري المسلمين.

وأرجو الخالق تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظيمة على الإسلام والمسلمين.

والسلام على عباد الله الصالحين.

الثاني من شهر ارديبهشت 1359

روح الله الموسوي الخمينيّ)

[1]. الضحى: 6 و8.

[2]. كان رئيساً للوزراء ولمجلس النواب في الحكومات المتعاقبة في العراق.

[3]. آل عمران: 159.

[4]. المؤمنون: 1-2.

[5]. يعني نفسه رضوان الله عليه.

[6]. ما زال الكلام لسماحة السيد الحائري حفظه الله.

[7]. الشهداء الخمسة هم، الشهيد السيّد عماد التبريزي، والسيّد عز الدين القبّانجي، والشيخ عارف البصري، والسيّد حسين جلو خان، والسيّد نوري طعمه رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جنانه.

[8]. وقد أعادته فيما بعد امتصاصاً لنقمة الجماهير.

[9]. لأنّ في مستشفى الكوفة ردهة للاعتقال.