تأثير العوامل الدولية والإقليمية على قرار إعدام الإمام الشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

يصعب النظر إلى قضية اعدام المفكر الاسلامي الامام محمد باقر الصدر في عام 1980 من زاوية واحدة، فلا يمكن اعتبار إعدامه على انّه حدث واقعي يهم العراق وحده، ذلك ان الشهيد الصدر لم يكن شخصية منغلقة على الوضع العراقي فقط، انما كان ينفتح على مجمل الحالة الإسلامية في العالم الاسلامي، ومن هذه النقطة بالذات، فان اعدام الشهيد الصدر لا يعني الدائرة الشيعية دون السنية، لقد كان الإسلام هو الهم الاول عند الشهيد الصدر، ولذلك جاء اعدامه بحجم اهتماماته وتطلّعاته الفكرية والسياسية والاجتماعية. وربما لا يحتاج هذا الانفتاح والشمولية التي كانت لدى الشهيد الصدر إلى دليل، فنظرة سريعة إلى مؤلفاته تعطي انطباعاً واضحاً على ان السيد الصدر كان ينطلق من القاعدة الإسلامية العامة ويفكر للامة الإسلامية ويعمل لأجل تحكيم الإسلام.

وحينما يخرج الشهيد الصدر من الدائرتين العراقية والشيعية، فان اعدامه لا يمكن النظر إليه بأي حال من الاحوال على انّه قرار اتخذته الحكومة العراقية وحدها، ولا يعني هذا الاتهام على انّه يأتي في سياق «نظرية المؤامرة» في تحليل القضايا السياسية في المنطقة والعالم.

ان التعامل السياسي والأمني وكذلك الاعلامي مع الحالة الإسلامية في المنطقة وبالخصوص بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام 1979، بدأ يأخذ طابعاً شمولياً، أي ان هناك استراتيجية محددة الخطوات والاهداف يتعامل من خلالها مع الحالة الإسلامية عموماً سواء كانت على شكل شخصيات اسلامية أو حركات اسلامية أو دولة اسلامية.

ومن خلفية هذا التعامل الاستراتيجي، فان المعطيات التي حصلت في المنطقة الإسلامية منذ بداية عقد الثمانينات ولحد الآن تؤكد بما لايدع مجال للشك، بأن العراق كان بمثابة المحطة الاولى التي انطلقت منها العملية السياسية والامنية الجديدة في التعامل مع الحالة الإسلامية لتشمل فيما بعد كل الدول الإسلامية وبالخصوص العربية منها.

ان نظرة سريعة لمجمل التطورات التي حدثت في المنطقة بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران ومن ثم اعدام الشهيد الصدر تشير بوضوح إلى قضيتين اساسيتين:

الاولى: اسلوب الحكومة العراقية في قمع الحالة الإسلامية في العراق والذي بدأ باعدام الامام الشهيد الصدر. فهذا الاسلوب اصبح فيما بعد نموذجاً لباقي دول المنطقة في التعامل مع الحالة الإسلامية.

الثانية: امكانية قيام نظام الحكم في العراق وبعد الاسلوب القمعي في التعامل مع الحالة الإسلامية داخلياً، بعملية عسكرية هجومية ضد النظام الاسلامي في ايران. أو ما اعتبر بالسياج العراقي امام الموجة الخمينية.

ان اسلوب القبضة الحديدية في مواجهة الحالة الإسلامية سواء كانت على شكل اعدام الشهيد الصدر وتصفية الحركة الإسلامية داخلياً ومن ثم الانتقال خارج الحدود للهجوم على ايران، قد بدأت تطبيقاته في العراق ومن ثم انتقلت إلى باقي دول المنطقة عند الحاجة.

ومما يلفت الانتباه هنا هو ان الحكومة العراقية حصلت على دعم دولي واقليمي في غاية القوة والوضوح من اجل تنفيذ هاتين القضيتين. فكما ان الدعم العالمي لصدام حسين في حرب الخليج الاولى كان استثنائياً،فان الحماية الدولية لقرار الحكومة العراقية بإعدام الشهيد الصدر كان غير عادي. فبأستثناء عدد محدود من التقارير التي صدرت عن بعض منظمات حقوق الإنسان وكذلك مقالات في بعض الصحف الغربية حول شخصية الامام الصدر، فان الموقف الغربي كان بشكل عام مؤيد للحكومة العراقية. كم هي المفارقة كبيرة بين موقف الحكومات الاوروبية ازاء اعدام الشهيد الصدر واخته بنت الهدى، وبين موقفها ازاء الفتوى التي اصدرها الامام الخميني ضد سلمان رشدي صاحب كتاب «الآيات الشيطانية». لماذا يتحرك الغرب وأميركا بشكل شبه يومي على المستوى الاعلامي لان حياة احد الكتاب اصبحت في خطر في حين يصمت ازاء اعدام مفكر وفيلسوف كبير؟

لقد اصبح صدام حسين بعد اعدام الشهيد الصدر واعلان الحرب ضد ايران في الاوساط السياسية والاعلامية الغربية وكذلك في بعض الاوساط الاقليمية «بطلاً» مثل الرئيس الاميركي السابق جورج بوش. فكما ان الموقف الدولي كان إلى جانب جورج بوش في حرب الخليج الثانية، فكذلك الحال بالنسبة إلى موقف الدول الغربية والولايات المتحدة في حرب الخليج الاولى، حيث كان الجميع منحازين إلى صدام حسين. لقد حارب بوش وصدام مرتين، لكل في كل مرة كانت للحرب قواعد ومنطلقات متفاوتة.

ان الحماية السياسية والاعلامية والامنية وفي مرحلة لاحقة، ضرورية لأي مشروع تقوم به أية دولة، ولا فرق بين ان تكون هذه الدولة صغيرة وتقع في منطقة العالم الثالث مثل العراق أو ان تكون دولة عظمى وتقع في العالم الحر مثل الولايات المتحدة الاميركية. لذلك لاحظنا ان الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى عدة شهور بعد اجتياح القوات العراقية الاراضي الكويتية لتهيئة الاجواء قبل ان تبدأ حرب عاصفة الصحراء في شهر كانون الثاني عام 1991، بالضبط مثل الحكومة العراقية التي قامت بخطوات تمهيدية عديدة قبل ان تعلن الحرب ضد ايران عام 1980، وكان من بين اهم هذه الخطوات اعدام الشهيد الصدر الذي جاء قبل اعلان الحرب بأقل من خمسة شهور.

وبدون اي شك، فحينما يكون الموقف الدولي وبالخصوص الاميركي إلى جانب صدام حسين كما هو معروف في اعلان الحرب ضد ايران، فان الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالخطوات التمهيدية الرئيسية أو ما يمكن ان توصف بالخطوات المتوازية. ذلك ان الحكومة العراقية بادرت إلى تنفيذ اجراءات عديدة قبل اعلان الحرب بعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي واخرى بالجانب السياسي وكذلك الامني والاعلامي وذلك على المستويات الداخلية والاقليمية والدولية.

ان ما حدث في عدد من الدول العربية سواء في عقد الثمانينات أو في عقد التسعينات لم يكن في واقع الحال إلاّ تكرار للتجربة العراقية التي حصلت في عام 1980، اي ان هناك ما يشبه التعميم للعملية الامنية التي حصلت في العراق لمواجهة الحالة الإسلامية  ولذلك يمكن القول ان هناك تشابهاً كبيراً بين ما حصل في العراق عام 1980 وما جرى في الجزائر بعد اثني عشر عاماً بعد استقالة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد أو في تونس بعد سبعة اعوام أو ما يجري الآن في مصر وكذلك في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومما يؤكد ان التجربة الامنية العراقية في مواجهة الحالة الإسلامية قد انتشرت إلى باقي دول المنطقة، قضيتان رئيسيتان:

الأولى: تعرض حكومات المنطقة إلى هزات اسلامية تفاوتت قوتها حسب طبيعة حجم وقوّة التيار الاسلامي في تلك الدول، إلاّ ان القاسم المشترك لجميع هذه الهزات حصولها في فترات متقاربة نوعاً ما. ففي عام 1979، حدثت قضية المسجد الحرام حين احتمى جهيمان العتيبي وجماعته بعد فشل محاولتهم في اعتقال رموز العائلة السعودية الحاكمة. وبعد قضية المسجد الحرام، حصل تحرك شعبي في المنطقة الشرقية في عام 1980 حيث اغلبية المواطنين من الشيعة وهم الفئة المضطهدة في السعودية. وفي عام 1981 قيل عن محاولة للاطاحة بالعائلة الحاكمة في البحرين، كما قتل انور السادات في نفس العام على يد جماعة حركة الجهاد الاسلامي. وقد شهدت الاراضي الفلسطينية المحتلة في عامي 1982 و1983 البدايات الاولى لانطلاقة ثورة الحجارة التي اندلت مرة اخرى عام 1987 وما زالت مستمرة لحد الآن، كما ان منطقة المغرب العربي التي كانت توصف بالمغرب الهادىء تعكّرت الاجواء السياسية والامنية فيها وبالخصوص في تونس والجزائر. وما جرى لقوات المارينز الاميركية والمظليين الفرنسيين في بيروت في عام 1983 كان بمثابة احد اقوى مظاهر صعود التيار الاسلامي في المنطقة.

لقد كان التحرك السياسي للامام الشهيد الصدر والحركة الإسلامية العراقية سابقاً لمعظم التحركات السياسية للحركات الإسلامية في المنطقة لجهة تزامنها وتفاعلها بالثورة الإسلامية في ايران، ولذلك فان الضربة التي تلاقاها الاسلاميون في العراق كانت عنيفة واعتبرت البداية في مخطط استنزاف ومن ثم تصفية الوجودات الإسلامية الاخرى في باقي دول المنطقة.

الثانية: ان عملية التغيير السياسي التي حصلت في العراق وفي أعلى المستويات تكررت في دول اخرى بسبب نفس الظروف الموضوعية. ففي شهر تموز عام 1979، قدم الرئيس العراقي السابق احمد حسن البكر استقالته من جميع مناصبه الرسمية والحزبية لصالح نائبه صدام حسين الذي اصبح يمسك بكل مقاليد الحكم في البلاد.

وكان من بين الاسباب المباشرة وراء هذا التحول الدراماتيكي في الوضع السياسي العراقي الحاجة إلى رجل بامكانه مواجهة المستجدات التي حدثت في المنطقة وداخل العراق بعد انتصار الثورة في ايران. ومع ان عملية التغيير قد تبدو طبيعية للوهلة الاولى، اي ليس هناك اية اشارة في ان يحل النائب محل الرئيس، لكن الاستعجال الواضح في التغيير والمتزامن مع الحدث الايراني وما يتوقع ان يحصل من تطورات مفاجئة في العراق، اعطى لعملية التغيير ابعاداً اخرى.

وربما ليست مصادفة ان تصحب عملية استبدال احمد حسن البكر بصدام حسين تنفيذ اكبر حملة اعدامات بين قيادات حزب البعث الحاكم، حيث اعدم صدام حسين خمسة من اعضاء مجلس قيادة الثورة وعشرات الكوادر القيادية في حزب البعث بتهمة التخطيط للقيام بمحاولة انقلابية. لقد اشاعت تلك الاعدامات جواً ارهابياً بين صفوف الشعب العراقي الذي بدأ يشعر بأن الايام القادمة ستكون قاسية جداً. فمن يعدم رفاق الامس، لا يتهاون مع معارضيه وبالخصوص اولئك الذين يتبنون نمطاً فكرياً وسياسياً يتناقض تماماً مع المدرسة السياسية العراقية منذ عهد الاستقلال.

لقد كان اعدام عدنان الحمداني وجماعته خطوة اولى من اجل اعادة ترتيب البيت البعثي بما ينسجم بالكامل مع عقلية ومزاجية صدام حسين الذي يستعد لدخول مواجهات اخرى داخلية واقليمية. ثم جاءت عملية اعدام الشهيد الصدر كخطوة مهمة لترتيب البيت العراقي بشكل عام بما يتلاءم مع الدور الجديد الذي يفترض ان يقوم به العراق. وبعبارة اخرى فانه يمكن القول ان اعدام الشهيد الصدر كان بمثابة الحلقة الاهم في العملية الامنية ـ السياسية التي اصبح العراق محطة التنفيذ الاولى لها وربما كانت مبررات ذلك كثيرة منها:

لقد حدثت في الساحة السياسية العراقية بعد انتصار الثورة في ايران ثلاث تطورات دراماتيكية ساهمت إلى حد كبير في صياغة التوجهات العامة لنظام الحكم في العراق بقيادة صدام حسين. وهذه التطورات الثلاث هي:

اولاً: استقالة احمد حسن البكر.

ثانياً: اعدام جماعة عدنان الحمداني.

ثالثا: اعدام الشهيد الصدر وقانون اعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية وبأثر رجعي.

لقد انتقلت التجربة السياسية ـ الامنية التي حققت نجاحاً معيناً في العراق إلى باقي دول المنطقة وبالخصوص تلك التي بدأت تعاني من حالة شبيهة بالوضع العراقي في عام 1979. وقد تكون التحولات التي شهدتها الساحة السياسية التونسية في عام 1987 وكذلك الجزائرية في عام 1992 من بين اهم المظاهر على ان التجربة العراقية قد نفذت في منطقة المغرب العربي.

كان صعود الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في سلّم الحياة السياسية مثيراً ليس على الصعيد التونسي فقط بل على مستوى المنطقة، ذلك ان بن علي قفز بسرعة استثنائية من مدير الامن العام إلى قصر قرطاج بعد ان اصبح وزيراً للداخلية ومن ثم رئيساً للوزراء. لقد قاد بن علي انقلاباً ابيض ضد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة بعد ان تخطى على طريقة صدام حسين كل الوجوه التقليدية في الحزب الحاكم والدولة. فالى قبل حوالي سنة ونصف من ازاحة بورقيبة في شهر تشرين الثاني عام 1987، لم يكن زين العابدين من بين الوجوه السياسية المحتملة لخلافة بورقيبة.

وربما توهم الكثيرون بأن تجربة بن علي في الوصول إلى السلطة هي الاولى في المنطقة العربية حيث يصبح رجل الأمن رئيساً للبلاد. إلاّ ان تجربة صدام حسين كانت الاولى حيث انّه وقبل ان يشغل منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، كان صدام يشرف على جهاز الان الخاص بعد سيطرة حزب البعث على السلطة في عام 1968. ومن خلال موقعه في الجهاز الامني الخاص، تسلق صدام حسين المواقع القيادية في الحزب والدولة، حتى انّه قام بتحويل جميع مؤسسات الدولة إلى مكاتب امنية.

لقد واجهت تونس في اواخر عهد الحبيب بورقيبة ضغطاً متزايداً من التيار الاسلامي، وكانت احداث عام 1984 التي اطلق عليها ثورة الخبز قد هزت مصداقية زعامة بورقيبة داخلياً واقليمياً، ثم جاءت احداث عام 1987 التي استمرت ثمانية اشهر، وكانت اعنف المصادمات بين السلطات الحكومية والمتظاهرين بقيادة حركة الاتجاه الاسلامي تلك التي حدثت في السادس عشر من شهر تموز عام 1987. وفيما ظهر ان الاسلاميين اصبحوا قريبين من قصر قرطاج. اطاح بن علي بالحبيب بطريقة مهينة. ولم يكن انقلاب زين العابدين يهدف إلى تخليص البلاد من ازمتها الاقتصادية الخانقة انما لقطع الطريق امام الاسلاميين. لقد استنفد بورقيبة مثل احمد حسن البكر اغراضه ولابد من رجل قوي مثل زين العابدين بامكانه مواجهة التحديات والتعامل بقسوة مع التيار الاسلامي على طريقة صدام حسين. وهو ما حدث بالفعل، حيث زج بن علي آلاف الاسلاميين في السجون وسط تصفيق دولي واقليمي بالضبط كما حدث في العراق خلال عامي 1979 و1980. وكما ان صدام حسين اجرى اول انتخابات برلمانية في عام 1980 لاعطاء صورة ديمقراطية لنظام الحكم، فأن زين العابدين اجرى في عام 1989 انتخابات فاز فيها الاسلاميون، إلاّ ان عملية التزوير كانت اكبر من الممارسة الديمقراطية الشكلية.

وتكررت التجربة السياسية ـ الامنية العراقية في الجزائر حين اصبحت البلاد امام مفترق طريق وكاد الاسلاميون بعد انتخابات عام 1991 الوصول إلى السلطة، إلاّ ان الجيش تحرك باللحظة المناسبة واجبر الرئيس السابق الشاذلي بن جديد على تقديم استقالته بطريقة مذلّة كما حصل أيضاً مع كل من احمد حسن البكر والحبيب بورقيبة.

النقطة المهمة جداً والتي يمكن اعتبارها القاسم المشترك بين الحدث العراقي والتونسي والجزائري، هو موقف الدول الغربية والولايات المتحدة الاميركية، حيث كانت الدوائر السياسية والاعلامية الغربية والاميركية قد كثفت الحديث وبشكل علني حول احتمال حصول انقلاب جوهري في السياسة العراقية والتونسية والجزائرية إذا ما استطاع الاسلاميون السيطرة على الحكم في هذه الدول الثلاث.

لقد جاء اعدام الامام الشهيد الصدر في العراق في ظل التركيز الاعلامي والسياسي حول الخطر الاسلامي الذي سيداهم المنطقة والعالم إذا ما انهار الوضع السياسي في العراق وسيطر الدعاة الاسلاميون على الحكم، وفي تلك الفترة صيغت سيناريوهات عديدة حول الامبراطورية الإسلامية التي تضم ايران والعراق لو سقط حزب البعث كما انهار عرش الطاووس في ايران. لقد ضاعت جريمة اعدام الامام الشهيد الصدر في ظل تحليل نظرية المؤامرة.

وفيما يرتبط بالاوضاع في تونس والجزائر قبل انقلاب بن علي على بورقيبة وانقلاب الجيش ضد الشاذلي، فان الصخب السياسي والاعلامي الغربي والاميركي وصل إلى درجة توقع فيها البعض ان عقارب الساعة ستعود إلى الوراء قروناً ويقوم المسلمون في المغرب العربي بفتح اوروبا ثانية. لقد ضاعت قضية شيوخ جبهة الانقاد الإسلامية وقيادات حركة النهضة حين زج بهم في السجون بنفس الطريقة التي شوهت بها قضية  اعدام الشهيد الصدر. لقد اصبح الجميع متأمرين وليس هناك اي فرق بين الامام الصدر في النجف في العراق ومدني وبلحاج والغنوشي في المغرب العربي.

لقد شهدت المنطقة الإسلامية بعد انتصار الثورة في ايران هجوماً اميركياً ـ غربياً كان العراق بمثابة قاعدته الاولى وذلك لاعتبارات عديدة منها:

اولاً: الموقع الاستراتيجي للعراق وضمانة الثروات الاقتصادية التي يمتلكها بالاضافة إلى قوته العسكرية.

ثانياً: اتساع نشاط الحركة الإسلامية في العراق.

ثالثاً: تأثر العراق المباشر لسقوط نظام الشاه في ايران.

ومن هذه الاعتبارات الثلاث، بادرت الولايات المتحدة الاميركية التي اصيبت بهزيمة كبيرة بسقوط نظام الشاه، إلى استغلال الوضع العراقي بكل ابعاده. فبسبب موقعه الاستراتيجي وقوته العسكرية والاقتصادية زج في حرب مدمرة ضد ايران اوقفت بطريقة أو بأخرى عملية التأثر العراقي بالحدث الايراني. كما ان اعدام الشهيد الصدر جاء بمثابة عملية استنزاف للحركة الإسلامية في العراق التي واجهت تصفيات شديدة استمرت طيلة سنوات الحرب العراقية الايرانية.

وبنفس الطريقة التي استنزفت بها الحركة الإسلامية في العراق، فان التيار الاسلامي في باقي دول المنطقة تعرض إلى نفس العملية مع فارق ملحوظ وهو ان عملية القمع التي مورست ضد الاسلاميين العراقيين كانت اعنف بكثير من تلك التي حدثت في الدول الاخرى. ففي العراق، كان الاعدام هو الاسلوب الاكثر اتباعاً بالاضافة إلى الاعتقالات العشوائية والجماعية بينما الاعتقال كان السمة البارزة في تعامل الحكومات الاخرى مع الجماعات الإسلامية. ففي تونس والجزائر ومصر لم يعدم لحد الآن شخصية قيادية في حين كانت البداية في العراق مع القائد الشهيد محمد باقر الصدر، وما زالت مستمرة بنفس الدرجة.

لقد كان اعدام الشهيد الصدر يفوق من حيث الخطورة اعدام الشهيد سيد قطب وكذلك اغتيال الشهيد حسن البنا، ذلك ان الظرف الذي اعدم فيه السيد الصدر كان بالغ الحساسية دولياً واقليمياً، فللمرة الاولى في التاريخ السياسي الحديث للمنطقة يسقط نظام يرتبط مباشرة بالغرب ويقام نظام اسلامي على انقاضه، ثم بعد ذلك تبدأ ارهاصات الصحوة الإسلامية في عموم العالم الاسلامي بالتزامن مع الانهيارات المتعاقبة للنظريات السياسية والفكرية التي كانت تحكم المنطقة، ولذلك، فان ردة الفعل كانت عنيفة للغاية على سقوط نظام الشاه في ايران سواء كانت على المستوى الدولي أو الاقليمي.

ان سقوط عرش الطاووس ربما يعادل من الناحية الاستراتيجية والافرازات التي اعقبت هذا السقوط، تفكك الاتحاد السوفيتي إلى خمس عشرة جمهورية. فقد ادى سقوط حكومة الشاه إلى حدوث ما يشبه التفكك في النظام السياسي والامني في المنطقة. ومما زاد من خطورة سقوط نظام الشاه، التنامي السريع والكبير في الصحوة الإسلامية في المنطقة.

ولذلك، فكما ان الموقف الاميركي والغربي كان شديداً ضد قيام الجمهورية الإسلامية وقد اخذ اشكالاً متعددة، فان الموقف من التيار الاسلامي في العراق كان بنفس القوة. ولا شك ان اعدام الشهيد الصدر جاء منسجماً تماماً مع الرغبة الاميركية والغربية حتى ان بعض المصادر اشارت في فترة الثمانينات إلى ان اعدام الشهيد الصدر كان تكفيراً عن الخطأ الذي ارتكب مع الإمام الخميني حين لم تنفذ عملية اغتياله سواء في بغداد أو باريس أو بعد عودته إلى طهران.

لقد تحدث الكثيرون، اميركيون وغربيون، عن حالة التردد التي اتسمت بها سياسة الشاه ازاء الإمام الخميني وكذلك تجاه المظاهرات المليونية التي كانت تجتاح المدن الايرانية يومياً، وبالاضافة إلى تردد حكومة الشاه، فان وجهات النظر الاميركية حسب المصادر الرسمية كانت أيضاً مرتبكة. وقد ادى تردد الشاه وارتباك ادارة الرئيس الاميركي جيمي كارتر في نهاية الامر إلى سقوط نظام الشاه.

وكان صدام حسين ينظر إلى التردد الايراني الرسمي والارتباك الاميركي ازاء احداث الثورة بعين الارتياح خاصة وهو يعتقد بأنه قادر على مواجهة الازمات الداخلية بحزم يفوق تصور الكثيرين، ولذلك جاءت مبادرته في اعدام الشهيد الصدر لتقديم الدليل العملي إلى من يهمه الامر اقليمياً ودولياً بأنه قادر على حسم الموقف بسرعة دون ان ينتظر حتى تتفاقم الاوضاع، وفي تلك الحالة يكون قد فات الأوان.

بعد سقوط نظام الشاه، اصبحت المنطقة مفتوحة بالكامل امام الولايات المتحدة كما يحدث الآن بعد حرب الكويت، فكل ما تريد ان تفعله واشنطن ازاء طهران يجد قبولاً سريعاً لدى الحلفاء والدول الاقليمية، فحينما قررت ادارة الرئيس جيمي كارتر القيام بعملية عسكرية لتحرير الرهائن وافقت عدة دول عربية بينها العراق في تسهيل مهمة الطائرات الاميركية التي سقطت في شهر نيسان عام 1980 في صحراء طبس، حيث كان من المقرر ان تحط الطائرات العائدة من ايران بعد تحرير الرهائن في كردستان العراق كمرحلة اولى، وربما ليست مصادفة ان تتزامن عملية طبس الاميركية مع اعدام الشهيد الصدر، فقد نفذت العمليات في وقت متقارب جداً.

ان اعدام الشهيد الصدر هو بمثابة احد ابرز المواقف الدولية التي اتخذت للرد على انتصار الثورة في ايران ليس لجهة وجود الرابطة الدينية والفكرية أو الجغرافية بين ايران والعراق، بل ان اعدامه جاء رداً غربياً على التحدي الحضاري الذي برز في ايران. اي ان اعدام الشهيد الصدر يعادل استراتيجياً قرار الحرب التي اعلنت ضد ايران والتي لم تكن بأي حال من الأحوال قراراً اتخذته الحكومة العراقية.

ومما يعطي لقرار اعدام السيد الصدر وكذلك اعلان الحرب بعداً دولياً، هو ان موقف الدول الكبرى كان متناسقاً تماما بحيث يمكن القول ان الحرب الباردة بين الشرق والغرب انتهت على الأقل في منطقة الشرق الاوسط في بداية عقد الثمانينات، وليس في عقد التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولاشك ان التطورات الكبيرة التي شهدتها المنطقة في عقد الثمانينات تؤكد بشكل واضح نهاية الحرب الباردة ودخول حالة الوفاق بين الشرق والغرب في مرحلة متطورة جداً.

لقد انتهى الصراع بين واشنطن وموسكو في المنطقة ولم يظهر سوى بعض التنافس هنا وهناك، فالتوافق شبه التام كان هو الحالة السائدة بين العاصمتين طوال عقد الثمانينات، ولا شك ان العامل الاسلامي الذي دخل معادلة الصراع هو الذي دفع الشرق والغرب لتوحيد المواقف التي كانت في مجملها العام ضد المسلمين عموماً والحالة الإسلامية بصورة خاصة والتي يمثل فيها الإمام الصدر معلماً بارزاً من معالم الوعي والتحدي وفي مختلف خطوط الصراع والمواجهة.
ياسين مجيد