لا يزال الاعتقاد على أشده داخل اوساط النخبة الاسلامية، بان الشهيد محمد باقر الصدر يمثل واحداً من ابرز رواد الابداع والتجديد الفكري في العالم الاسلامي، وأحد صنَّاع المشهد الفكري، رغم مضي عشرين عاماً على رحيله المفجع.
ورغم شدة حضوره وكثافة تأثيره في صياغة الخطاب الاسلامي المعاصر ـ في جوانب مهمة منه على الاقل ـ لكن هناك قناعة سائدة ايضاً تشددّ على ان مفكراً بقيمة الشهيد الصدر لم يقرأ قراءة واعية مستوعبة، وان انجازاً معرفياً مهماً لم يُضف خلال هذه الفترة، رغم ضراوة الاشكاليات المطروحة وضخامة التحديات المنهجية والمعرفية التي أتخمت ميادين العمل الفكري والثقافي بشكل عام، الأمر الذي يُشيع بين الحين والآخر حالة من الأسى وشعور بالخسارة الكبيرة التي تمثلت بقتل مفكر مبدع عملاق وهو في ذروة عطائه الفكري وتألقه المعرفي، في ظرف تزداد الحاجة فيه الى منهجية كمنهجية الشهيد الصدر في صياغة المشكلات، واعادة طرح القضايا الاشكالية، عبر إقامة علاقة مفتوحة مع الواقع، وايجاد المفاهيم المعبرة عنه نظرياً، بما يفتح آفاقاً من العمل الفكري الرحيب، الذي يجسر العلاقة مع المستقبل، ويتجاوز حالة الجمود والهامشية.
من هنا نعتقد ان هذه المنهجية لم تتحول الى مدرسة في واقع الحياة الفكرية المعاصرة، رغم المؤشرات الايجابية التي تتمظهر بين الحين والآخر، ما السبب في ذلك؟ ولماذا هذا العجز والتقصير؟
ربما يعتذر الكثيرون بمعاذير شتي، منها الحالة السلطوية سياسياً، والطائفية مذهبياً، والسكونية والجمود في الوسط الديني في بعض الأحيان، الا ان كل ذلك لا يقلل من استفحال ظاهرة العجز عن الاستفادة من الزمن المبدع في اشواط حياتنا واستثماره استثماراً ملموساً، يساعد على تدارك الخلل التأريخي المستمر، في عدم القدرة على توظيف انتاج المبدعين وأصحاب المشاريع الفكرية، في احياء العمل العلمي والثقافي والسياسي، الذي يتسم في احيان كثيرة بالشلل والجمود والواحدية.
ربما يكون سبب هذا العجز هو الطريقة الاحتفالية في التعامل مع الفكر والمفكر، واستهلاك المشاريع الفكرية بالمديح والاشادة والتعظيم، الذي يحنَّط الافكار ويختزل المفكرين والعظماء الى مجرد تماثيل في متحف الشمع، حتى لتعثر على نماذج المصفقين والهاتفين الذين يمجدون البطل حياً وميتاً، وهم لا يعرفون عن فكره وعطائه الاسم والرسم فقط، أو اذا عرفوه يكتفون بالدوران حوله والوقوف على أطلاله وتخومه بدون قراءة حية منتجة.
حينما نقول ان الابداع والتجديد بلغ على يد الشهيد الصدر القمة، فان المهم ليس في الوقوف على هذه القمة، بل الأهم هو مواصلة خط الابداع واستمرار منهج العمل، وبغير ذلك فان الاخفاق سيسيطر على اجواء العمل الفكري والثقافي العام، في ظل متغيرات عاصفة لا ترحم، وجدلية صراعية لا تتوقف، بين السكون والجمود، وبين حركة الفكر المتجهة الى أمام والمتطلعة الى المستقبل بكل ادواتها التفكيكية، وحفرياتها الواسعة، وشكوكها المتعاظمة.
قد يقال: بأن مواصلة مسيرة التجديد والبناء يحتاج الى عقول جبارة، كعقل مفكرنا الراحل وهذا الأمر لا يمكن حصوله عبر التمني وبالتالي فان ولادة مبدع جديد متروك لعامل الزمن ولصيرورة تاريخية لا يمكن ضبط مراحلها، لكن الصحيح أيضاً ان ولادة حالة الابداع واستمرار النمو يتوقف على ثلاثة شروط أساسية هي:
اولاً: القراءه والاستيعاب، بمعنى ان الفكر المنتج تتم قراءته وفهمه واستيعابه، بعد الانتهاء من مرحلة التعريف والتبشير به، والانتهاء من حالة الصدمة والمفاجأة التي تسبق التعامل معه، حينما يحمل طابع الجدة ويتوفر على قدر غير قليل من نقد الواقع، ونقض الوهم السائد، وهز مظاهر اليقين والصواب الزائف في مرحلة تاريخية معينة، ونحن نتحدث هنا عن الفكر الأصيل عقائدياً وشرعياً، ويحمل مواصفات الهوية الذاتية والانتماء الحضاري.
ثانياً: التمثل، ذلك انه ما من مفكر يولد على أرض الواقع، ويتسم بالأمانة والاخلاص، ويدعو الى التغيير، ويستبطن فكرة التقدم وتصحيح الواقع، الا وهو يمثل ضرورة حياتية ومصيرية، فلا يمكن إهماله والتعامل معه على اساس كمي أو كيفي، بحيث ينظر اليه على انه مجرد إضافة لما سبق، لدواعي مزاجية ـ نفسية، او بسبب غلبة حالات النكوص وضعف الهمة والارادة، فالفكر الصحيح يحتاج الى تمثل حازم، ليتحول الى طاقة محركة، تعيد صياغة الراهن، وترسم خطوات النهوض، وتحدد ملامح المستقبل، والعجز عن استثمار اللحظة التاريخية هو تضييع خطير لفرص الانطلاق الحضاري، وضياع في متاهة التعقيد والتأخير والتباطؤ الذي يزيد من حجم التحديات ويلجم قابليات الاقلاع.
ثالثاً: التجاوز والنقد: الفكر بطبيعته، مهما بلغت درجة متانته، وقداسته، وصوابيته، متشابك مع عالم الزمن تشابكاً مصيرياً، يجعله في حركة دائبة وطولية، فالثابت منه هو القوام والجوهر والمضمون، اما المتحرك منه والمتغير فانه يرسب في قاع الزمن، وينتظم في مسار التاريخ، ليفتح مجالاً يفي بحاجات عالم جديد واسئلة جديدة، ولهذا يحتاج الفكر الى نقد دائم وقراءة مستمرة، تستثمر الجزء الحي منه، وتودع الجزء الميت، ليصبح تراثاً يشير الى تجربة تثري الوعي، وعبرة تحرك الوجدان، وتحفظ لاصحابه أحتراماً وهيبة، لانهم أبدعوا واغنوا زمانهم بنتاج عقولهم، فصاغوا حلولاً وافكاراً ومشاريع ورؤي، عالجت قضايا واشكاليات مضى زمانها، وجاء زمان يحتاج الى عقول جديدة ورؤى جديدة، توفر للأمة حزاماً يقيها، من الانهيار، والتقليد، والجمود، أو الانكماش على الذات ورفض الآخر، والتخلف عن حركة الزمان.
ومن حيث المبدأ، فان واقعنا لا يشي باننا في واقع الاستجابة لهذه الشروط عملياً وليس نظرياً، والملاحظ مثلاً انه بعد مضي عشرين عاماً على الرحيل المبكر لهذا المفكر، فاننا لازلنا في مرحلة التعريف بفكره، ولم ننته بعد من مرحلة التوصيف، لندلف نحو السؤال المهم: كيف نقرأ الشهيد محمد باقر الصدر؟ كيف نجعل فكره وتراثه العلمي محركاً وفاعلاً في حياتنا الفكرية، يجدد فيها روح الابداع والتكوين، ويبعث في أوصال عقلنا العلمي روح التحدي والاستجابة، لمنطق الحياة وحيوية العصر؟ ثمة منهج يراد له ان يولد كيما تكون قراءتنا للشخصيات العلمية والريادية قراءة مثمرة، مكتنزة لا تكتفي بالشرح والسرد، وتعداد المناقبيات وتصوير المآثر، فهذا المنهج على وجاهته لم يعد قادراً على العطاء، بل ان نتائجه محدودة وأثرها ضئيل، بالمقارنة مع منهج القراءة النقدية، فالنقد ليس الغاءً، أو نفياً، أو تضييعاً، أو تعدياً على ساحة المقدسين ـ بل هو معاينة الفكر وتقليبه ـ وأعادة فهمه وتحريره، فالنقد الفعال ـ كما يقول علي حرب ـ أكان تفكيكياً أم حفرياً ام تحت أي اسم آخر، يُسفر عن امكانيات جديدة، تتيح على الاقل تحريك الفكر الراكد، باعادة طرح الاسئلة، او بزحزحة المشكلات العالقة، أو بالفكاك من الثنائيات الخانقة، التي تحكمت في العقول طوال عقود، والتي لم يعد لها من الان حصيلة سوى اعادة انتاج الهامشية الفكرية والهشاشة المفهومية، هذه هي ثمرة الفاعلية النقدية، اعادة الفهم باقتحام مناطق جديدة للتفكير أو بفتح الفكر على ما كان يستبعده بالذات .
ويمكن القول وبرغم استثناءات ظاهرة: إن مساعي التعريف بفكر الشهيد الصدر وتوصيفه، كانت تنطوي على قدر غير قليل من الاكتفاء بتحويل الشهيد الصدر الى حالة رمزية تعبوية، تخدم متطلبات صراع دامي، من دون الانتباه الى خطر التقليل من قيمة العمل الفكري الملازم للحالة التعبوية، فتَكشف لدينا عجزاً مذهلاً عن مواصلة الصراع بكفاءة، بل إن نتائج هذا العجز ارتدت على شكل انفعالات داخلية، تتمظهر في جدل مستمر على من له حق وراثة الارث الفكري، وحمل الصفة الرمزية التي يمثلها السيد الشهيد، الأمر الذي انعكس تقزيماً لهذا الفكر، واحتكاراً لخطابه ومشروعه الفكري، علماً بان الذي لا جدال فيه هو أن الشهيد الصدر كان مفكراً نهضوياً، ومن سمات المفكر النهضوي انه يتأبى على التأطير، ويتجاوز الحدود المحلية الى أُفق العالمية، ولا يمكن لأحد احتكار تراثه وخطابه؛ لان في ذلك تجميداً للفكر، وتعطيلاً للابداع، وحصاراً لمشروع التغيير.
مالذي نريده الآن؟
لقد مضى الشهيد محمد باقر الصدر شأنه شأن عظماء التاريخ، مدافعاً عن أصالة الفكر، وحرية الرأي، وحق الأمة في تجديد ذاتها، والدفاع عن كيانها، والامساك بمصيرها، في مواجهة الاستبداد، والاستتباع، والتخلف، والسطحية، وما بقي لدينا هو تراثه الفكري، ومنهجه الابداعي، وتجربته الشخصية، إذن كيف نستفيد من ذلك التراث، في ترميم انكسارات الواقع المعاش، وتدعيم متطلبات مشروع المستقبل؟
اعتقد اننا بحاجة الي:
اولاً: فهم مكونات حالة الابداع، ومصادر التوليد في عقله المبدع، الذي انتج هذا التراث الضخم، في شوط زمني قصير، كيما نستفيد من ادواته المنهجية، في استكمال الشوط المعرفي الذي انتهى برحيله.
ثانياً: نحتاج الى ترسيم حدود الحقبة التاريخية التي انتظمت فيها جهوده، وهو يرفد المشروع النهضوي بعطائه، لتلمس مقدار الاضاءات والاضافات النوعية التي قدمها، مقارنة بمساهمات وجهود مفكرين ومصلحين عديدين، كانت لهم جميعاً عطاءاتهم بدرجات متفاوتة، حتى تتبين طبيعة التحديات التي تعامل معها، والاجوبة التي قدمها، والحلول التي اجترحها، وهو يعايش احتياجات الجيل الثالث من اجيال المشروع النهضوي.
ثالثاً: تأسيساً على ما تقدم في الفقرتين السابقتين، نحتاج الى استكمال خطوات هذا المشروع؛ بحصر واستشراف حاجاتنا الفكرية والثقافية والفقهية، الحالية والقادمة، على ضوء تجارب واقعنا المعاش، بانجازاته واحقاقاته، بازماته وطموحاته، لتأتي عملية الافادة من فكر الشهيد الصدر متسقة مع الشروط الثلاثة التي ذكرناها مسبقاً (الاستيعاب، التمثل، التجاوز) لتكون هي أرضية الابداع المنتظر، وليحصل لدينا تراكم كمي ونوعي، يمدنا في مواصلة اشواط العمل القادمة. وبذلك نكون قد أفدنا الفكر الاسلامي، ووفرنا له زخماً قوياً فعالاً، وفي نفس الوقت نكون قد افدنا منه فكر هذا الفقيه المفكر الفذ، ووقفنا على مساهماته الخالدة، واثرها البليغ في دفع اشواط الفكر الاسلامي مراحل متقدمة.
بنيةُ الابداع
تبدو متابعة بنية الابداع ومكوناتها لدى أي مفكر شغلاً شاغلاً للمعاصرين والمتأخرين عنه، في محاولة تستهدف قراءة تفاعل المفكر مع عصره، والمؤثرات والمحفزات والدوافع التي قادته لكي يدخل تغييرات، ويأتي بجديد، ويُسائل القديم، مستنطقاً اياه، من اجل الاجابة عن شواغل عصره الفكرية، وحلحلة أزماته الفكرية، وتحريك بنيته السياسية والفكرية الراكدة.
ثمة علاقة بين العقل المبدع وبين شروط ومتطلبات وادوات ثورة التغيير والاصلاح والتجديد، التي يدعو اليها، والتي تشكل أساساً أرضية ابداعه وتوتره وقلقه، التي تقوده الى العطاء المثمر المتميز.
ولا يمكن فصل الجانب الموضوعي عن الذاتي في عملية الابداع، فالذات هنا تعبير عن الملكة والموهبة والعبقرية، والموضوع الذي يتحرك بداخله العقل المبدع هو الصفحة الثانية من مكونات هذا الابداع، لانها تكون العلاقات، والاشكال والتحديات والبنى والمفاهيم والأسس والرموز، التي يتناولها العقل بالدراسة والتأمل، ليخرج منها بصياغات وحلول واقتراحات، هي نتاج تفاعل خلاق بين العقل والنص والواقع. ان الذكاء وحده لا يكفي للابداع، ما لم تتوافر شروط التفاعل بين الموضوع وآلة العقل المستوعبة له استيعاباً عميقاً، في ضوء تحديات الزمان الحاضر، ومسارات حركة الموضوع في التاريخ. من هنا كان الابداع في مجالات العلوم الانسانية مختلفاً الى حد ما عن مجالات العلوم الطبيعية، لان الابداع في الاخيرة ربما يأتي في لحظة توتر ذهني وتوارد خواطر وافتراضات، تترجم نفسها على شكل تجارب ومعادلات، تنتهي بنتائج تثبت تطابق المطلوب والمفروض، أو بنتائج عرضية أخرى تفتح بدورها مجالات علمية جديدة.
لكن الابداع في حقول المعرفة الانسانية قد يكون له نمطه الخاص، يشكل الوعي العميق بالموضوع قيد الدراسة والبحث شرطه الاول، والتأمل العميق في قراءة الواقع والتاريخ شرطه الثاني، انها عملية نسج علاقات متشابكة ومعقدة بين الموضوع والواقع، لاستنباط حقائق جديدة ورؤى مغايرة، تلاحق مشكلة الحاضر، وتستبق حلول المستقبل.
وعندما ندرس ابداع الامام الصدر ابتداءً من باكورة انتاجه وحتى المحاضرات الاخيرة في التفسير الموضوعي، ستجد انه ابدع في الصياغات، وبناء المفاهيم والنظريات، وتجديد الموضوعات، ومعاينة الاشكاليات، فهو مبدع ومضيف ومكتشف ومؤسس، فما من موضوع أو قضية عالجها ألا وتجد لمساته العميقة والتفاتاته البارعة، وبالطبع انه لم ينطلق من فراغ، بل انه يستعين أحياناً بفكر المتقدمين عليه، لكنه يضيف ويوسع البحث، أو يجدد بنيته وصياغته، فتأتي مساهماته اما غير مسبوق بها، أو ان يكون قد دفع بها مراحل متقدمة، مجيباً عن كل احتمالات التساؤل والقلق والاستفهام، واصلاً فكر الأمس واليوم برباط وثيق، متطلعاً الى المستقبل، فكأن الماضي والحاضر يتعاونان على بناء صيغة المستقبل. ورغم حسه النقدي العميق، الا ان نقده يأتي بهدوء، دون ان يجد نفسه حبيس الثنائيات المتناقضة، ليقع في مشكلة الانحياز، فرغم انه كان مهموماً بمشاكل الحاضر، وتؤرقه قضايا العجز والتخلف والتجزئة، وهيمنة خطاب (ليس بالامكان أحسن مما كان)، ورغم سيادة رموز وقداسة مؤسسات، وكثافة عادات وتقاليد، ورغم شموخ الغرب وسطوة نموذجه الحضاري، الا انه لم يقع في منح الثنائيات المتعارضة، ولم يجد نفسه يقدم خطاباً ايديولوجياً، كسلاح في معارك الادلجة، التي ازدحم بها الشارع العربي والاسلامي، فلم يضطر لنفي الحداثة لحساب الأصالة ـ ولا لنفي التنوع والتعدد لحساب التوحد، ولا لتجاوز العلم لصالح الدين، أو الوقوف الى صف العقل ضد النقل، أو الغاء الآخر لتدعيم الانا شكلياً، كما لم يسقط أسير الأوهام والطموحات والتهويمات غير المحسوبة، آملاً في بناء خطاب نهضوي بصيغ واساليب تختزل الصعوبات والمشاكل، وتقفز في تعقيدات الواقع بشعارات سحرية “ رغم ذلك كله، فانه قدم صياغات، محاولاً استنفاد قدرة النص الديني على العطاء، بذهنية اجتهادية متوقدة، مستخدماً معارف الحاضر في استنطاق هذا النص وتحريكه، ليؤسس نظريات ومعارف في حقول المعرفة الاسلامية المختلفة.
وعندما نلح على معرفة بنية الابداع فإننا نقصد تلك التوليفة من الاحساس المرهف، والفهم العميق، والرؤية المستقبلية، التي جعلته يسلك طريقاً آخر في العطاء الفكري، يختلف عن معاصريه وسابقيه اختلافاً بيناً، ولو لم يمتلك هذه المنهجية المبدعة لسلك منهج اسلافه ومعاصريه، كفقيه يعطي دروساً تخصصية في الفقه والأصول أو الفلسفة والكلام، واذا شعر أن عنده آراءً مجددة وأفكاراً مختلفة فانه يستطيع طرحها كما يفعل الآخرون؛ لتأتي على نسق الاضافات العلمية التي تندرج في إطار حركة تطور العلوم الدينية.
لقد كان مهموماً بشيء آخر اكبر من الحوزة العلمية واهتماماتها، والمرجعية وتطلعاتها، كان همه اعادة صياغة الاسلام كمنظومة معرفية وفكرية وثقافية، لتكون في متناول اجيال المسلمين، ولتكون هي مشروع نهوضهم بدلاً من الانغلاق والاندثار، أو التقليد والضياع، لقد ابتدأ الشهيد الصدر حياته ـ كمفكر مكتشفاً وانتهى مبتكراً ومؤسساً، فلم تعد مشكلته نهضة الانسان المسلم فحسب، بل مشكلة الانسان المعاصر والمجتمع البشري. وهو في الاسس المنطقية للاستقراء وسنن التاريخ وعناصر المجتمع، عالمي النزعة يعالج اشكاليات الحضارة المعاصرة، برؤية تريد للانسان ان يحقق ذاته، ويبلغ أعلى مراتب الابداع، دون ان يفقد تطلعه نحو السماء، ودون ان يشعر ان ثمن هذا التطلع هو خسارته لحريته، شريطة ان لا تتحول هذه الحرية الى غاية نهائية تقود الانسان الى الهاوية.
المنهج المقارن
ان أفضل قراءة لفكر الشهيد الصدر، يمكن ان تتم عبر منهج البحث المقارن، ومن خلال تصنيف مساهماته الفكرية ومقارنتها بغيره من المفكرين والمجددين ممن سبقوه وعاصروه، لتأتي الحصيلة وقوفاً على آخر المنجزات، وفتحاً معرفياً خلاقاً يوفر أرضاً خصبة، ومجالات ارتياد، عبر الاستلهام والاستيحاء، والتأسيس والابتكار.
ان البحث المقارن، يحفظ للمبدعين حضورهم الفكري المتميز، ويرصد طبيعة النمو، وينتبه للثغرات، ويلهم بأطراف البحث ويوسعه، ويحاول ان يخرج باعلى درجات الدقة والصواب، فضلاً عن أنه يكشف عن تاريخية الفكر والضواغط والمؤثرات الزمانية والمكانية التي ساهمت في بلورته واخراجه.
ان تحقيب مراحل الفكر ومتابعة صياغاته يكشف عن احتياجات أجياله، وكيف جاءت جهود المفكرين، لتملأ تلك الفراغات، وتجيب عن الاستفهامات في معانقة صارمة مع تحديات الظرف التاريخي.
واذا توفرت شروط هذه الدراسات، فان الفكر الاسلامي المعاصر، سيتوفر على ارض خصبة، وغناء ثر، وسيتم الدفع بالدراسات نحو تراكم معرفي واسع، يوفر على الباحثين زمناً مهماً، ولو احتاجوا بعده الى مباشرة البحث والتفكير من نقطة البداية أو المنتصف، ولعل ذلك هو أحد أبرز ثغرات المشهد الفكري الاسلامي بسبب غياب الفكر النقدي والبحث المقارن.
عليه تبدو الحاجة الى هذا اللون من الفكر والمنهج اكثر من ملحة، لانتشال ابداعات المفكرين من مطاوي الاهمال والنسيان، طالما ظل الفكر المبتكر أقل شيوعاً من الفكر المألوف والتكراري لدى الاغلبية الساحقة، كما ان النخبة نفسها تحتاج أحياناً الى من يذّكرها، وينسج بينها علاقات التواصل والتعارف الفكري. ذلك لانك قد تندهش من الفردية وغياب التعارف وربما التجاهل احياناً.
في اللحظة التاريخية الراهنة، من الممكن ان يتم فرز الكثير من القضايا التي عالجها الامام الشهيد الصدر في عناوينها البارزة، ومقارنتها على ضوء ما يواجهه الجيل الاسلامي الحالي من قضايا واشكاليات، وعلى النحو التالي:
1ـ الفكر العقائدي:
لقد صاغ الشهيد الصدر أصول الدين وقضايا العقيدة، محرراً إياها من قوالبها القديمة، ومعيداً التركيز على الوظيفة الاجتماعية للتوحيد، ومن المعلوم ان رواد التجديد والاصلاح الاسلامي منذ السيد جمال الدين الافغاني أدركوا خطورة افراغ العقيدة الاسلامية من مضمونها الاجتماعي العملي وعملوا على احياء ذلك في نفوس المسلمين، كشرط اساسي للشعور بالهوية، وللانطلاق في مشروع النهوض ومقاومة اشكال السلبية والجمود، والاستتباع والركون الى الظلم، والذوبان في مشاريع الآخر.
وفي هذا المجال فان مقارنة فكر الامام الشهيد الصدر العقائدي مع ما جاء به الافغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وسيد قطب، والسيد محمد حسين الطباطبائي، سيمد الفكر العقائدي الاسلامي بامكانيات جديدة، لتحريك وجدان الأمة وضميرها، على مستوى البرهان، وتدعيم شعلة الايمان والتوجه نحو العمل الصالح، والمقاومة والثورة، والتمسك بالحرية كأثمن معطى يجسد العبودية لله وحده ورفض ما سواه من ارباب وطواغيت باي مظهر تمظهرت.
لقد بلغ الاستدلال وفق منهج الدليل الاستقرائي أرقى درجاته في علم الكلام الاسلامي، الذي دشن مرحلة جديدة وبداية جديدة على يد الشهيد الصدر، واعاد ـرحمه الله ـ ربط قضايا الثورة والتحرير، والعدالة الاجتماعية، والحرية والتنمية، وحركة التاريخ، وقيام وسقوط الحضارات، وخلافة الانسان على الارض، بالعقيدة والمثل الاعلى الذي يتحرك نحوه الانسان ، وبالتأكيد فان المعطيات الجديدة لعلم الكلام الاسلامي ستشكل اضافات تستجيب لتطلعات الانسان المسلم، في ان يجد فكراً عقائدياً يرد الشبهات المستجدة، ويبني إيمان الفرد والجماعة في مواجهة طغيان المادية المحدثة. وما كان ذلك ليحدث لو لم يبتدئ رواد الاصلاح طرح قضايا العقيدة، وفق منهج يلامس مشاكل الزمن الثقافي الذي عاشوا فيه والادوات المعرفية التي امتلكوها، ولا نشك ان هذا المنهج ارتفع على يد الشهيد الصدر الى مستوى القمة، ومهمة البحث المقارن هو تأسيس الارضية لقمم جديدة وفق اشكاليات جديدة.
2ـ الفكر الفلسفي:
منذ ان اطلق هيغل مقولته الاتهامية واصفاً الشرق بانه لم يعرف الفلسفة لانه لم يعرف المفهوم، وموجة تجاهل الفلسفة الشرقية الاسلامية بدت اكثر طغياناً وحضوراً، لا سيما بعد ان أصبح الغرب مصدر الالهام الفلسفي لدارسي الفلسفة المسلمين عرباً وغير عرب.
وربما كان افتراق المدرستين، الغربية، والمشرقية الاسلامية، في القضايا التي عالجتها، هو أحد مسببات مشروع الالغاء، باعتبار ان ادوات ولغة الخطاب الفلسفي الاسلامي توحي بالقدم، والقضايا التي تمحور عليها البحث بدت تقليدية، فيما انهمك الفكر الفلسفي الغربي في بحث قضايا ظلت تتسع وتتجدد وتتسع تياراتها محركة المناخ الفكري والثقافي، ودافعة الرؤى المعرفية الى تخوم جديدة.
وان يبرز فلاسفة مسلمون يستوعبون قضايا مدرستهم الفلسفية فذاك أمر ليس بالعسير، رغم ظروف حصار قاس وحرب ضروس ضد الدرس الفلسفي الذي لم تنتج منه سوى زوايا ظلت ممتنعة على الالغاء، لكن ان تتردد أصداء الفلسفة الغربية في ثنايا تلك الزوايا، فتدرس وتستوعب وتقام معها علاقات حوار ونقد وجدل، وتعاد صياغة قضايا مهمة على ضوء ذلك، فذاك تَفرد وامتياز نادر، هذا ما حصل للشهيد الصدر في النجف الاشرف، وللسيد محمد حسين الطباطبائي وتلميذه الشهيد مرتضى المطهري في قم ، حيث أمكن القول بان الفلسفة الاسلامية لازالت حية تسمع وتجيب وتجدد وتؤسس، كما فعل الشهيد الصدر الذي انتهى الدرس الفلسفي على يديه الى صياغة المذهب الذاتي للمعرفة ونظرية جديدة في الاحتمال، فسّر على ضوئها الدليل الاستقرائي، فساعده في تفسير اليقين الاستقرائي والمعرفة البشرية، وباشر تطبيقها في حقول معرفية مختلفة، سواء في أصول الفقه، كمباحث العلم الاجمالي، والتواتر، والاجماع، والسيرة، أو في مجالات العقيدة، في اثبات الصانع المدبر (المرسل، والرسول، والرسالة) أو في اثبات الأمامة ، والامامة المبكرة وعلومها وشروط عصمتها، الى البرهنة على وجود الامام الثاني عشر في غيبته (بحث حول المهدي)، وهكذا أصبح للفلسفة فاعليتها من جديد، بل خرجت تطبيقاتها الى خارج نطاق مجتمع النخبة القادر على التعاطي مع مصطلحاتها ومناهجها وخطابها؛ لان الشهيد الصدر أحياها عمليا في قضايا تمس جوهر التفكير عند العامة من الناس، فأضحت الفلسفة تساهم في انعاش الحياة الفكرية ولها حضورها اليومي.
تُرى هل يمكن تجاوز الصدر عربياً وحصر التفلسف بـ(شخصانية) المرحوم محمد عزيز الحبابي و(جوانية) عثمان امين، و(وضعية) زكي نجيب محمود، و(وجودية) عبد الرحمن بدوي، وأصداء الفلسفات الغربية لدى الباحثين الجدد ابناء المدرسة المغاربية خاصة والاخرين خارجها؟
ان بحثاً مقارناً وفكراً ناقداً يمكن له ان يضع الأمور في نصابها، فيعيد تسليط الاضواء على النشاط الفلسفي الاسلامي، ويرد له اعتباره، ويُحيي النقاش حول مجمل قضاياه، ولئلا يكون لعظمة الرواد، أثر مانع يحول دون فتح افاق جديدة، فهل نمت الفلسفة في الغرب دون قراءة ونقد للكبار وأصحاب النظريات المدوية؟ نحسب ان الفلسفة عندنا ستكسب المزيد لو قورن بين الصدر والطباطبائي ومطهري ومحمد اقبال، ولو قُرئت فلسفات المحدثين، وكم هو مقدار مساهماتها المعرفية بعد ان اتجه الجهد نحو تفكيك النصوص وقراءتها، والخطاب وما سكت عنه، وانعكس الهدف، فَبدلاً من ان يكون من الشك الى اليقين، صار الاتجاه من اليقين الى اللايقين مع موجة التفكيك العارمة حاليا.
3ـ قضايا الاجتهاد المعاصر:
تعيش اجواؤنا الفكرية حمى طاغية من البحث والتدقيق حول قضايا الاجتهاد الفقهي ومستوياته ومشاكله، وامكانات تحريره من قضاياه التقليدية، ليلج عناوين جديدة ومستحدثة لاتعالج تكاليف الفرد وحده، بل تمتد الى شؤون المجتمع وقضاياه ومشاكله، والدولة ومؤسساتها وقوانينها، والأمة ورؤيتها لذاتها ولعلاقاتها بالآخر.
واذا كان ذلك كله دليل حاجة وحيوية، فانه يدل ايضاً على تنامي وعي لم يعد ممكنا تجاهله، أو الاحتماء من ضغوطه، يدعو الى تفعيل حركة الاجتهاد، وتعميق دوره وحضوره في مناحي الحياة.
ومنذ ان تحدث الشهيد الصدر عن منطقة الفراغ التشريعي في (اقتصادنا) وميَّز بين الاحكام التشريعية الثابتة والاحكام الولايتية (الحكومية) التي أمر بها النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم لا بوصفه مبلغاً للشريعة بل بوصفه حاكما وولياً للأمر ، أصبح الوعي العام يستبطن ثورة تجديدية في حركة الاجتهاد واتجاهاتها المستقبلية، عندما وضع ـ رحمه الله ـ يده على أهم المفاصل التي تعوق عملية توسيع مظلة الاجتهاد، لاكتشاف النظريات الاسلامية في مجالات الحياة المختلفة .
في خط مواز كان هناك فقيه مستنير من فقهاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف هو الشيخ محمد جواد مغنية يقرأ النصوص التشريعية قراءة لا تقتصر على البعد الفردي، بل تتعداه الى البعد الاجتماعي، لان الاسلام جاء لأمة وليس لافراد، فيجد الشهيد الصدر مناسبة لتدعيم هذا الاتجاه ، ونقد الاتجاه الذي يشرع للفرد وينسى الجماعة، ثم وجدنا فقيها آخر، بل فقهاء كالسيد محمد حسين الطباطبائي والشهيد المطهري يتحدثان عن الثابت والمتغير، ويفرد الأخير مقالات وابحاث عن الاجتهاد والاسلام ومتطلبات العصر، وجاء الامام الخميني ليطرح أثر قضايا الزمان والمكان في الاجتهاد، ثم بدأ الاتجاه يأخذ منحى تصاعدياً، وانت اذا قارنت بين أفكار هؤلاء ستجد قاسماً مشتركاً وهماً موحداً، بل ان هذا الهم صار يجمع مجتهدين وفقهاء ومفتين من مختلف المذاهب الاسلامية، محوره هو اعادة بناء منهج الاجتهاد، عبر بناء العلوم التي يعتمد عليها خصوصاً علم أصول الفقه، أو على الاقل توسيع افق المنهج الاجتهادي، ليتجاوز فقه الافراد الى فقه المجتمع وفقه الأمة، بتعبير آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو ماكان قد دعا اليه الامام الشهيد الصدر، وأصبح اليوم من بديهيات الحديث في هذا المجال.
ثمة خصوبة واعدة في هذا الميدان، خصوصاً وان مجال الامتداد الافقي للفقه بتعبير الشهيد الصدر بات أمراً ضرورياً، ومن هنا فان امكانيات التوفر على فكر اجتهادي واسع الارجاء، وعميق الأثر والبنية، بدأت بالتبلور، وسيكون الانفتاح على فكر الرواد والمجددين في هذا المجال هو الارض التي تنطلق منها المرحلة الاجتهادية الجديدة، وهو مكسب عظيم القيمة للفكر الاسلامي المعاصر.
ابراهيم العبادي