لعل من نافلة القول التنويه بمكانة «الفكر السياسي» وموقعه المتميز ضمن الدائرة الحضارية الأسلامية، باعتبار ان هذا النمط من الأفكار لم يحتل ذلك الموقع الفريد الا بصفته معبراً عن رهان إنساني وديني وتاريخي كبير يتولى منح الوان الوصاية والمشروعية وتعيين من له حق امتلاك القرار وصناعته في المحتوم من حركة الأمم، ويكفي ان نطالع ما جمعه باحث إسلامي واحد من عناوين موضوع «الأمامة والسياسة» في سرد ببليوغرافي، لنرى أربعة آلاف عنوان انتجه التراث الأسلامي من مجمل رصيده المدوّن باللغة العربية فقط[2].
لا ريب أن التركة الفكرية الأسلامية في هذا المجال لم تكن دوماً بالطبع، صفحة مشرقة تدعو للاعتزاز، وانما انطوى العديد منها على عوامل التردي والأنحطاط الذي أصاب مجمل التجربة التاريخية للمسلمين، لتنعكس بالتالي على جوانب حياتهم الحديثة او المعاصرة، غير أن من التجني الحكم على الفكر السياسي الاسلامي بالعجز الكلي عن تقديم الافكار الممثلة لمضامين الدين النقية. وحاجات المجتمع المتراكمة طبقاً للظروف والمتغيرات.
في رواية (عبدوس بن مالك) نجد الامام احمد بن حنبل ينص على ان من «غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي امير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الاخر ان يبيت ولا يراه اماماً عليه، براً كان او فاجراً» ونلاحظ في رواية اخرى للمروزي دعوة ابن حنبل للأمة ان تترك السلطان وشأنه فيما له من خصوصيات وملكات خلقية «فإن كان اميراً يعرف بشرب المسكر والغلول، يغزو معه، انما ذاك له في نفسه»، وبرغم ما ينقل عن امام المحدّثين مما يعارض هذه النصوص كقوله عن المأمون العباسي «كان لا مأمون»، فان الذي يظهر ما يبديه من حرص شديد في الفتوى على وحدة المسلمين، لذا فهو يوصي اتباعه قائلاً: «عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين»[3].
بيد أننا نلمح في رؤية لابي حامد الغزالي، ما هو أبعد من قضية الحرص على وحدة المسلمين. مما ساهم في تكوين الفكر السياسي التبريري الخادم للجور السلطاني، حيث يقرأ الغزالي فتاوى ممالأة السلطان في اطار تردي مستوى الايمان والتقوى عند العلماء واهل الفقه، فبعد ان يستعرض طبيعة المعارضة العلمائية لسلاطين الظلم، يوجز حال ما عاصره من ظرف قائلاً: «واما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وان تكلموا لم تساعد اقوالَهم احوالُهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء “ وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر؟»[4].
هكذا نجد الأزمة السياسية تتواشج من ازمة فكرية تستند الى مأزق تقوائي واخلاقي، مما جعل دائرة بحث الاشكالية تتسع عند مفكر آخر من نمط امام الحرمين الجويني (ت 874هـ) “ ويردد الجويني في توصيف ذلك الظرف، الذي تحسست أجيال عديدة مرارته وقسوته، قائلاً: «قد عمّ من الولاة جورها واشتطاطها، وزلل تصوّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها، وانسل عن لجام التقوى رؤوس الملة واوساطها[5]»! ، وبعد أن يؤكد الجويني انسلال رؤوس الملة واوساطها عن التقوي، فإنه لا يرى جدوى في ذكر السلاطين كعنصر في الأزمة، بل ينعطف دهشة وأسفاً على النخبة العلمائية وممثلي المتشرعة والمتدينيين « “ ليت شعري، ما معتصم العباد اذا طما بحر الفساد “ وبُلي المسلمون بعالم لا يوثق به لفسقه، وزاهد لا يقتدى به لخرقه؟ ، “ أيموج الناس بعضهم في بعض مهملين سدي؟»[6].
ان هذا التردي والأنحطاط قاد الجويني الى الافتاء ـ بشجاعة ـ بأن السلطة السياسية مجرد آلية لاستيفاء المصلحة ودرء المفسدة، في ضوء فهمه لمقاصد الشريعة، وان يبني على جواز استقلال الناس في الأمور الدينية والقانونية والعسكرية، باعتبار انها مقاصد لا يجوز تعطيلها حتى لو شغر الزمان عن السلطة المشروعة[7]. كما لا ينبغي ايكال الأمر الى رؤوس واواسط الملة التي انسلت عن الورع.
ان نظائر هذه النصوص المبكرة والجريئة في تفحص الواقع ومعالجته، تجعلنا نتوقف عند نتائج بعض التعميمات التي تلجأ اليها دراسات يطبعها الحماس غير المنضبط[8]، اذ ان مطالعة التأريخ السياسي والعلمي لا تكاد تفيد وجود اثر كبير للخصوصية المدرسية او المذهبية في ممارسة التخادم مع السلطان الزمني. بل كان لكل بلاط ان يزخر بفقهائه ووعّاضه كما يتزين بفرسانه وادبائه وجواريه، ونجد استحقاقات هذا الحضور، من مظاهر التبرير وخدمة السلطان، في البلاط العثماني والصفوي ـ مثلاً ـ على السواء[9].
لقد تجاوز الفكر الاسلامي المعاصر شبهة شق عصا المسلمين. واستبعد الرغبة بالوحدة الزائفة تحت ظل السلطان الجائر، وراح اتجاه واسع يطرح التساؤل التاريخي العتيد “ على من لا يزال به حنين الى وحدة السلف تلك “ اياً كان وفي اي اطار وجد “ « “ عندما يعم الفسوق وينتشر الظلم ويسود الجور ويصبح الفساق هم الأئمة والحكام والولاة بل والمفتون في مجتمع الاسلام، فأية حقوق ومصالح ونظم للخلق تدعوهم الى ان يدفعوا ـ ثمناً للحفاظ عليها ـ الخضوع لدولة الفساق؟»[10].
نعم، لقد تجاوز الفكر الأسلامي تلك اللافتة الانهزامية، او هكذا يفترض، لكن هل استنفد هذا الفكر على الصعيد السياسي مهامّه العالقة والملحّة؟ وهل تمكن خطابه من تثقيف الأمة بمبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم العظيمة، بما يرتفع الى مستوى التحديات الراهنة وبقدر كاف من الواقعية والصراحة، بعيداً عن العمليات المألوفة من الاستجابة للتحدي واستحداث نماذج معدّلة من ذات الأزمات تظل منطوية على عناصر التأزم؟
حركاتنا وكياناتنا الاسلامية التي تعبئ الجماهير ضد الأنظمة المستبدة والجائرة، هل قدمت مضموناً نظرياً يطمح للتكامل ويطرح كبديل خالٍ عن المحتوى المريض للجور والاستبداد، ام ان العديد منها راح يضيف الينا فيما يضيف ازمات جديدة؟ ، ولا زلنا نشاهد اناساً يطمحون لتدشين تجارب سياسية لا تلزم فيها الشورى حاكماً، ويحرم ضمنها عمل المعارضة السياسية، ويعد الكلام في عرفها عن حقوق الانسان بدعة[11]! في تكريس لشتى مظاهر التدهور السياسي التاريخية التي عانينا منها الأمرّين.
لعل الخطاب السياسي الاسلامي مكلف اليوم، اكثر من اي وقت مضي، بإعادة اكتشاف تاريخنا كأمة، وتقديم اكبر قدر من الاستيعاب والوفاء ايضاً لشرعنا الحنيف، وتجسيد ذلك كسلوك وممارسة ولون في الخطاب ذاته «ومضامين في الأدبيات، وسعي دائب للتوفر على قراءة الاطروحات السياسية الاسلامية المعاصرة بهدف مراجعتها وبناء المشروع الكبير بتواصل واضطراد، وهو ما يحتاج بالطبع الى تهيئة افق ارحب، وحرية نظر، ونبذ لأشكال متنوعة من التعصب والانحياز وعبادة الأشخاص والعناوين “ ، لتفعيل آلية النقد الذاتي البنّاء “ والا فهل نستبعد ان قطاعات احتجاجية واسعة ستغير معادلة الصراع ـ كما صنع الجويني قديماً ـ وستفتح ـ مضطرة ـ جبهة جديدة داخلية، هذه المرة، حين تكتشف سريان الداء خارج دائرة الاستبداد الرسمي؟!
أفق معرفي بديل:
في اطلالته المبكرة على القراء. ضمن نزاله الفلسفي المتميز مع المادية الديالكتيكية، وعد الامام الشهيد محمد باقر الصدر بإعداد دراسة خاصة تحت عنوان (مجتمعنا) يتناول فيها مفاهيم الاسلام عن الدولة والمجتمع[12]، الا انه اجّل ذلك البحث ليبادر الى تقديم اطروحة (اقتصادنا) احساساً منه بأولويتها طبقاً لنمط الصراع الفكري الدائر آنذاك بين الاسلام والاتجاهات الاخري، او ايماناً منه ربما بضرورة استناد المفهوم السياسي للدولة الى قضايا ومفاهيم تؤسس في نظائر الحقلين الفلسفي والاقتصادي. ليتسلح بهما المشروع الكبير الذي يراد له ان يقدم بديلاً واقعياً متماسكاً يتوافر على محتوى اسلامي تأصيلي دون ان يتشرنق في حجاب من اللافتات الآيديولوجية المفرغة عن مضامينها.
يبدو أن الشهيد الصدر وهو يحارب على جبهات متعددة، اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، وجد نفسه مثقلاً بالمسؤوليات المختلفة فغاب في زحمة مزاولته لمهام التدريس واعداد الكوادر العلمية، ومسؤوليات الكفاح السياسي والاصلاح الاجتماعي، ليظهر بعد ذلك بأطروحة «الأسس المنطقية للأستقراء» اوائل السبعينيات مطوراً ما بدأ يتبلور لديه من رؤى تتعلق بنحو المعرفة البشرية وآلية تكوّنها، في ثنايا البحث الفلسفي او دروسه الأصولية ومجمل مراجعاته لمباحث الا بستمولوجيا الحديثة، ولكنه ما ان انتهى من ذلك حتى اثقلته هموم التصدي للمرجعية الدينية في العقد الأخير من عمره والتي اقترنت مع تصاعد المواجهة بين التيار الاسلامي في العراق ونظام البعث الحاكم، فيقوده ذلك الى الشهادة المروّعة في نيسان 0891، وهو لا يتجاوز السابعة والأربعين من العمر.
ومع ذلك فإنه بادر ـ كعادته ـ لتناول اشكاليات الواقع الملحة وقدم بعد تشكيل النظام الاسلامي في ايران عدة اطروحات موجزة تعبر عن تصوراته حول مفهوم الدولة والقيادة والأمة والمجتمع في سلسلة حلقات «الاسلام يقود الحياة» أعدها قبيل استشهاده، وشكلت هذه البحوث المقتضبة المصدر الأول للباحثين في فكره السياسي، اضافة الى نصوص قديمة هامة كتبها في ريعان شبابه، حينما ابتدأ المشروع السياسي منذ الخمسينيات وهو ما عرف بـ (الأسس الاسلامية). حيث استخدمت على نطاق واسع من قبل كوادر الحركة الاسلامية في العراق لتثقيف الشباب في حلقات التنظيم السياسي والإرشاد والتوعية الفكرية. فيما عبرت عن الحقبة الاولى من تصوراته السياسية.
وبقدر ما حرمتنا تلك المرحلة من نتاج صدري فذ في الفكر السياسي او الاجتماع السياسي العام، فإننا نلاحظ تفرد المفاهيم والقضايا التي طرحها بخصوصيات مهمة تفوقت على العديد من الافكار السائدة، وستعين الباحثين كثيراً ـ عبر أساسها النظري ـ في مراجعة الفكر السياسي الاسلامي وتقويمه كاستجابة الى اكثر التحديات الداخلية حساسية وخطورة.
(الأسس الاسلامية) ثورة على نظرية العزلة السياسية:
دخل العقل المسلم تحت ضغط من ازمات المجتمع وانتكاساته في تجربة قاسية من الاعتزال الحضاري او الاستقالة ربما كخيار لجأ اليه الأسلاف فجمعوا اسس حضارتهم وهربوا بها الى المساجد والخانقاهات وأقبية التأمل الممزوج بالأسي، ظناً بأن في ذلك عافية للدين والدنيا، بعد أن نستثني عدداً كبيراً من فقهاء البلاط الذين ظلوا يسجلون الحضور (الفاعل) عبر الدخول في تحالفات مع السلطة، ومع ملاحظة السياق التاريخي فإن فقهاء المذهب الامامي بدوا أكثر تعبيراً عن ذلك الانزواء، لمواجهتهم قدر العزلة السياسية في وقت مبكر بعد دخولهم في صراعات على السلطة حملت اضافة الى الخلاف السياسي الجاد بعداً عقدياً وكلامياً، مما فسح المجال الى توسيع نظرية (التقية) ـپپكسلوك مرحلي كان ذا أهمية بالغة في مواجهة القمع السلطوي ـ وتحويلها الى استراتيجية عامة لا تكاد تترك فرصة للحديث عن المفردات المباشرة في الفقه السياسي. وقد ولّدت هذه (الاستراتيجية) ـ كنموذج متطرف للتقية ـ الاجواء المواتية للانفتاح على نصوص شرعية وروائية معينة بشكل يعزلها عن ملابساتها الموضوعية، لتنتج تياراً شيعياً كاملاً يحرم الخوض في حديث الحكم الاسلامي ويفتي بمنع تشكيله، ويتخذ، نظير ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من ان كل راية ترفع قبل قيام المهدي فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله،[13] مرجعية نهائية ومطلقة تخول بالاستسلام الكامل لمجمل الظروف والمتغيرات.
ومع ان المحاكمة العلمية لهذه الروايات قد تسقطها من ميزان الاستدلال، غير أنها تبقى بإيحاءاتها المختلفة تشكل جواً ذا تأثير سلبي حيال فكرة الحكومة الاسلامية[14]، مما قلص الفكر السياسي الإمامي واختزله في دائرة «المسائل التي كانت تبتلي بها الشيعة في جميع العصور كالخراج والمقاسمة والتولي عن الحاكم الجائر وغيرها»[15] مما ليس بعنصر اساسي في هيكل البحث السياسي.
وفي ضوء من تأثيرات هذه الأعراف، نلحظ انه وفي اللحظات المصيرية التي تخللتها فرص نادرة للعمل كانت اصوات التيار التحريمي ترتفع بمعارضة كل جهد شعبي او علمائي يسعى الى الاصلاح السياسي، كما تجلى ذلك بشكل مثير في القرن الهجري الماضي حين دخلت بعض القيادات الدينية الشيعية في صراع دستوري مع ملوك القاجار الايرانيين ضمن ما عرف بحركة المشروطة، فبينما كان فقهاء من الطراز الاول قد بادروا الى تدشين مرحلة جديدة من التكيف الايجابي مع حركة المجتمع وتنادي بتقييد سلطات الملك، انبرى فريق علمائي بارز هو الآخر ليفتي، وفق قناعاته المتكونة في سياق تاريخي خاص وملابسات لا تزال غامضة، بأن تدوين الدستور بدعة وان الالتزام به بدعة اخري، ومعاقبة من خالفه بدعة ثالثة[16].
ان دخول هذه المعارضة الشديدة حيز الجدل الفقهي كان من المفترض ان يحفز على انهاء القطيعة مع قضايا الفكر السياسي، كما حصل في خضم الحركة الدستورية ـپپاطروحة النائيني مثالاً ـ غير ان ما انتهت اليه تلك الحركة وما اعقبها من تطورات عاد ليكرس ظاهرة الانقطاع والتجاوز لفكرة الحكم الاسلامي وأقصى هذا الموضوع عن هموم مدرسة النجف العلمية بل جعلها «تنظر الى هذا الأمر بقلق وتحفظ وهي تتذوق الطعم المر، وتعاني من خيبة الأمل “ لما آلت اليه تجربة المشروطة في (ايران) التي انتهت بحكم اسرة بهلوي»[17]، وهكذا تفعل الاخفاقات المريعة والانتكاسات بالمرء في لحظات الضعف الانساني، وليس بعيداً عن تلك الاجواء ما حلّ بالشيخ محمد عبده رفيق الأفغاني الثائر، حيث راح يردد بعده متبرّماً: «ما دخلت السياسة في شيء الا افسدته “ اعوذ بالله من السياسة، ومن كل ارض تذكر فيها السياسة، ومن ساس ووسوس وسائس ومسوس»[18]! ، مما لا يدعنا نستغرب حرق النائيني لبحوثه السياسية او القائه لها في نهر الفرات وتبرئه من كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الذي كان يعد (زبور الحركة الدستورية).
لم يمنع هذا التحفظ الشديد قيام بعض الأفذاذ بخرق قاعدة الانزواء الاجتماعي والسياسي، فتطالع مراجع تأريخ تلك الحقبة اسماء حركية متعددة برزت من الحوزات العلمية في النجف الأشرف نظير الشيخ محمد جواد الجزائري، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء،پ“ مما ولد بمجمله ارهاصات تشكيل وبناء الوعي الاسلامي المعاصر الذي انتجته النجف فيما بعد، وانما نقول ارهاصات، لأن تلك الجهود التي بذلت، وخضوعاً منها لقساوة المرحلة، اتسمت بطابع فردي لم يكتب له التواصل والتكامل كمشروع يتجه الى غاية محددة، باستثناء جهود الحلقة العلمائية التي يتقدمها المجدد الشيخ محمد رضا المظفر (ت 4691 م) حيث راح نشاطها منذ الثلاثينيات يكوّن تيار وعي متميز رفد الحركة الاسلامية بزخم فكري ورسالي هام[19]، واضافة الى اهمية هذه الجهود كان لبروز الجماعات والاحزاب غير الاسلامية دور رفع مستوى الاحساس بالمسؤولية تجاه مستقبل البلاد ووعي الأمة، مما ادى الى تفعيل فكرة تأسيس تجمعات تنظيمية مشابهة تعتمد الرؤية الاسلامية، وهو ما كان جمال الدين الافغاني قد دعا اليه قبل ذلك بكثير، وبادر بنفسه الى تأسيس عدة تجارب تنظيمية. كالحزب الوطني الحر الذي قاد الثورة العرابية، وجمعية العروة الوثقى السرية التي اصدر صحيفتها من باريس[20]، مما وجد له صدى واسعاً في اوساط المسلمين السنة فيما بعد ـ تجربة الاخوان المسلمين مثالاً ـ وتأخر الى حد كبير عند الشيعة لأسباب لسنا بصدد الخوض فيها[21].
كان الشهيد الصدر في طليعة النخبة التي حملت اعباء العمل الاسلامي نهاية الخمسينيات، فبعد ان تكونت لديه القناعة الكافية بالعمل المنظّم كتب رسالة برهن فيها على وجوب قيام الحكومة الاسلامية في زمن غيبة الامام المعصوم، وذلك على اساس نظام الشورى من خلال آيات الشورى في القرآن الكريم، كما يروي السيد محمد مهدي الحكيم[22]، وبذلك تكونت النواة الفكرية الاولى في تلك المرحلة، للاتجاه السياسي الاسلامي في العراق، تلك الرؤية التي مثلت ثورة علمية تغييرية في مواجهة تيار الاستقالة والانزواء، ليصبح ما كتبه الشهيد الصدر آنذاك (الأسس الاسلامية) النص التوجيهي المشكّل لمادة الحوار في حلقات التوعية السياسية التي نشطت بعد انقلاب 8591، ويتحدث السيد محمد مهدي الحكيم عن هذه الأسس قائلاً: «الواقع ان السيد الشهيد (الصدر) قدم اطروحة رائعة، وفي وقتها لم نكن نتصور انها بهذا الشكل، فهي تحتوي على تصورات لدولة فيها رقابة شعبية، وهناك مجلس شورى محلي الى جانب هذه الرقابة[23]».
عالج الشهيد الصدر في تلك الأسس[24] مفردات عدة تتعلق مباشرة بالفكر السياسي الاسلامي، فبين مفهوم الاسلام كعقيدة وشريعة ومبدأ كامل ينبثق عنه نظام اجتماعي وقاعدة فكرية، ومفهوم المسلم وتحديداته. والمرتد الذي تقبل الدولة الاسلامية توبته (حتى لو كان فطرياً) استناداً الى رأي فقهي تتبناه تلك الأسس، ثم تتطرق الى مفردة الوطن الاسلامي واستحقاق الدولة الاسلامية للأرض، وقسم الدولة الى ثلاثة انواع، ويعتقد الشهيد الصدر في هذه الأسس بأن شكل الحكم الاسلامي يجب ان يكون مستمداً من التحديدات الشرعية ويقدم في هذا المجال نظام الحكم القائم على الشورى «وامرهم شورى بينهم»، محذراً من تسليم زمام الأمر الى فاسق او فساق، لأن الاسلام لم يرتض اقوالهم في شهادة القضاء فضلاً عن حمل مسؤولية الحكم.
ويشير الشهيد الصدر هناك الى ان اختيار شكل الحكم وفق النمط المناسب كما يتوقف على وعي الأمة للاسلام فإنه يناط بوعيها للظروف الحياتية والدولية، وحينئذ يتساوى في ممارسه حق الحكم كل المكلفين بأحكام الاسلام، ومن الملاحظات المهمة التي تحدد علاقة دستور الدولة الاسلامية بالشريعة، التمييز الذي يطرحه بين احكام الشرع والتعاليم حيث إن الأولى هي المبينة بأحد الأدلة الاربعة المعروفة، اما التعاليم والقوانين فهي انظمة الدولة التفصيلية التي تقتضيها طبيعة الاحكام الدستورية لظرف من الظروف المتطورة، ولم ترد في الشريعة بنص محدد وانما تستنبط على ضوء الاحوال المتبدلة، كقوانين الأمن والتعليم، والاستيراد والتصدير، والعمل، وغير ذلك، كما يفرد الشهيد الصدر في هذه الأسس حيزاً مطولاً نسبياً لمناقشة شكل السلطة القضائية وكيفية ممارستها لمهامها وآليات تعيين القضاة، وتعدد البدائل الاجتهادية، وما يتصل بحرية الرأي في الدولة الاسلامية ونحو ذلك[25].
الملاحظ، ان هذه الأسس اشتملت على بذور الافكار الناضجة التي طرحها الشهيد الصدر بعد ذلك في ابحاثه الرئيسية، كحاكمية الأمة، وفكرة منطقة الفراغ التشريعي، ومبدأ الفصل بين السلطات، مما سنلحظه ونعرض اليه لاحقاً.
خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء:
اخرج الشيخ الصدوق توقيعاً مهماً عن الامام الثاني عشرپ عليه السلام ورد فيه قوله: «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»[26] وينقل عن الشهيد الصدر انه كان يواجه مشكلة سندية في الاعتماد على هذا النص. غير انه تغلب عليها وتوصل الى موثوقية النص المذكور من خلال بلورته لنظرية (التعويض السندي) الرجالية[27]، ويبدو أن توصله لهذه النظرية وبالتالي اعتماده حديث الصدوق ساهم في تطوير نظريته السياسية في الشورى (في الأسس التي كتبها نهاية الخمسينيات) الى ولاية الفقيه على اساس النصوص المعروفة التي تجابه عادة بمشكلات سندية ودلالية مختلفة، والذي يظهر من بعض نصوصه الافتائية[28] انه تبنى ولاية الفقيه على ضوء من فهم خاص للحديث المذكور يعمم سلطة الفقهاء لتستوعب كافة الحوادث الواقعة، فبينما يصر اتجاه واسع من الفقهاء على ان ما ورد في نص الحديث المنقول في التأكيد على حجية الفقهاء او رواة الحديث على العامة، انما هو حجية في الفتوى وبيان الاحكام، واما الولاية بمعنى التصرف فلا معنى للحجية فيها، اذ لا ملازمة بين الحجية ـ بذلك المعنى ـ والولاية بوجه[29]، يقدم الشهيد الصدر فهماً اوسع يعطي للفقيه مهمات اخرى خارج دائرة الافتاء التقليدي، ويبدو ان هذا التحول الذي طرأ على تصورات الشهيد الصدر اقترن مع بداية تكون اتجاه فقهي سرعان ما دعمته المواقف السياسية والانجازات الثورية، بعد ان بدأ في الستينيات مع الامام الخميني الذي كان يشدد على القول بولاية الفقيه.
بالرغم مما ينقله بعض تلاميذ الشهيد الصدر بشأن مرحلة التحول هذه[30] والتي يؤكد فيها ان من اسبابه الرئيسية طروء تغير اساسي على فهم الشهيد الصدر لأدلة الشورى في القرآن، نتيجة بعض الاعتراضات العلمية، مشيراً الى نصوص ينقلها عن الشهيد الصدر في مراسلات متبادلة بينهم[31]، الا ان الطرح الأساسي والأهم الذي قدمه الشهيد الصدر أواخر حياته كنص علمي مكتوب وواضح، ظل يحتفظ بجزء كبير من افكاره السياسية الاولى التي طرحها في (الأسس)، بل ان المقارنة العلمية تفيد ان ما قدمه الصدرمن تصورات مثلت المرحلة النهائية لأفكاره السياسية يشكل تعديلاً وتطويراً لمفردات النظام السياسي المتضمن في (الأسس الاسلامية).
ومن الضروري ان يشار هنا الى وجود اختلاف بين تلاميذ الشهيد الصدر وباحثين آخرين في تقسيم مراحل تصوراته السياسية، حيث ان السيد محمد باقر الحكيم يسعى في كتاباته الى دمج مرحلة تبني الصدر لولاية الفقيه مع اطروحة حاكمية الأمة واشراف الفقيه الاخيرة، بلا فرق بينهما، كما ان هذا يلاحظ في بعض الأعمال الأخري[32]، لكن السيد كاظم الحائري يميز بشدة بين المراحل الثلاث، ويترك مساحة مستقلة للشورى (المرحلة الأولي) وولاية الفقيه (الثانية) وحاكمية الأمة مع اشراف الفقيه (الثالثة والاخيرة)[33] ، ويبدو أن تصور السيد الحائري هو المستجيب لما تتضمنه اعمال الشهيد الصدر الموجودة كما يتضح.
وفي مطالعتنا الآتية للنص السياسي الذي قدمه الشهيد الصدر بعيد الثورة الاسلامية في ايران، سنلاحظ ان الشهيد استطاع التغلب على ما ينقل انه واجهه من مشاكل علمية إزاء تبنيه لفكرة الشورى وحاكمية الأمة، وساعده في تجاوز تلك المشاكل ما انجزه من تطوير منهجي لأساليب البحث، وآليات معالجة الدليل الشرعي، وتدعيم قراءة النص بمجموعة مفاهيم وتصورات اسلامية، تستند الى مرجعية قرآنية وفهم مستوعب لحركة التاريخ والمجتمع الانساني، مما أهله لطرح نظرية ترتكز على فلسفة اجتماعية واسلوب منهجي تمكن من الارتفاع بمستوى تصوراته عن مجمل المناقشات التقليدية التي تقدم عادة في هذا الإطار، حيث تفاعلت تصوراته السياسية مع ابداعه لمنهج التفسير الموضوعي او التوحيدي للقرآن الكريم، الممثل لمرحلة مطورة من نمط تعامله مع النص الشرعي في (اقتصادنا) وغيره، اذ قدم لنا في محاضرات القاها اواخر مزاولته للتدريس (سنة 9791) شكلاً موضوعياً للتعاطي مع النص القرآني يختلف عن الشكل التجزيئي السلبي الذي يبدأ بتناول الآيات، محاولاً تحديد المدلول على ضوء ما يسعفه اللفظ والظهور والقرينة “ (حركة من النص الى الواقع) ، بينما يؤكد الصدر ان النموذج الأوفى بحق العملية التفسيرية للنص هو التفسير الذي يبدأ من الواقع ليتحرك نحو النص، فيركز نظره ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ على موضوع من موضوعات الحياة، ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الانساني حول الموضوع وما طرحه التطبيق التاريخي، ثم يطرح بين يدي النص موضوعاً مشرباً بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية. ويبدأ مع القرآن عملية حوار واستجواب، ليلتحم المدلول القرآني مع الواقع وينفتح الوعي التفسيري لأفقه المرن، فلا يمارس مماحكات لفظية ولغوية منعزلة ومنفصلة عن الواقع وتراث التجربة البشرية[34].
ان الشهيد الصدر بدأ في (اقتصادنا) بطرح المنهج الشمولي الذي يقصي النمط الاحادي من الملاحظة، وأكد ضرورة تركيب الاحكام بمعنى ملاحظة كل منها بصفته جزءاً من كل وجانباً من صيغة عامة مترابطة لتنتهي الى اكتشاف القاعدة العامة التي يعكسها المركب[35]. لقد أصبح هذا اللون المتفوق من المعالجة القرآنية والمنهجية سمة بارزة نلحظها في عمله السياسي الأخير، ضمن «خلافة الانسان وشهادة الأنبياء» و «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية» وهما حلقتان من سلسلة الاسلام يقود الحياة المهمة.
في هذه الأطروحة الموجزة (خلافة الانسان وشهادة الانبياء) يقدم الشهيد الصدر تصوراته التي يفلسف من خلالها بنية المجتمع التوحيدي القائم على الأسس الالهية، وهو ما سينعكس مباشرة على شكل نظام الحكم الذي يتبناه، فيوضح وجود خطين (ربانيين) يتكون منهما المجتمع، الاول: خط الخلافة، والثاني: خط الشهادة، حيث يبين الصدر عبر آيات قرآنية متعددة موقع الانسان من الكون كخليفة لله سبحانه وتعالي، ينوب عنه في اعمار الارض وبناء الحضارة، حيث يستل هذا المفهوم من عدة نصوص قرآنية كقوله تعالي: <وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة “> البقرة: 03، <ثم جعلناكم خلائف في الأرض> يونس: 41 وغيرها، وهذه الخلافة عند الصدر تشريف وتكريم للانسان وتمييز له عن سائر عناصر الكون، استحق به ان تسجد له الملائكة وتدين له بالطاعة كل قوى العالم، بعد ان لم تكن تلك الخلافة استخلافاً لشخص آدم عليه السلام، وانما كانت للجنس البشري كله، لأن من يفسد في الارض ويسفك الدماء، وفقاً لمخاوف الملائكة التي عكسها نص الاستخلاف القرآني ـ ليس هو آدم بالذات، بل الآدمية والانسانية على امتدادها التاريخي، وهذا التعميم في الاستخلاف يتضح من الآيات الاخرى التي خاطبت المجتمع البشري في مراحل متعددة <إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح> الأعراف: 96، وكان ادم هو الممثل الأول لها بوصفه اول انسان اخذ هذا الموقع فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض[36].
ان هذه الخلافة التي اوتيها المؤمنون، كما يعبر ابو الأعلى المودودي، خلافة عمومية «popular vicegerency» لا يستبد بها فرد او اسرة، كما جاء فيپالحديث «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[37]، وهي ليست خلافة في حدود استصلاح بقاع الأرض وانمائها فقط، وانما تشمل امور الحكم، لأن الانسان اذا كان مسؤولاً ومكلفاً بالعناية حتى بالبهائم وتدبير شؤونها فإنه بالأحرى مسؤول بتدبير نفسه ومجتمعه اي الخلافة في الحاكمية[38]، لذا فإن التفكيك بين نحوي الخلافة الانسانية والفصل بين التشريعي والتكويني، بافتراض ان ادلة الاستخلاف يمكن صرفها الى معاني استنماء الارض وعمرانها[39]، غير ممكن مع ملاحظة التلازم الوثيق بين مسار التنمية العامة والمسار الاداري والسياسي. وكم هو دقيق تفسير الامام موسى بن جعفر عليه السلام لقوله عزّ من قائل «ويحفي الارض بعد موتها» الروم: 91، بأنه سبحانه انما يبعث رجالاً يحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل[40]. فأي تنمية يمكنها مواكبة رهانات التاريخ وتدافع الحضارات، في ظل نظام لا يوفر للأمم حقوقها؟ واي استبداد انساني واي غطرسة بشرية تفرغ جموح ساديتها وعقدها وشعورها الجارف بالنقص والانحطاط «يمكنها ان تمنح الامم» سوى تكريس مظاهر السقوط الاجتماعي المؤلم، الذي ينسجم لوحده مع ما تطمح اليه تلك الغطرسة واللا شرعية من استحواذ واستعلاء ووجاهة مزيفة «اياً كانت مضامينها ونسيجها القيمي المندرجة في اطاره»؟! .
ان لعملية الاستخلاف بهذا المفهوم الواسع عند الصدر ـ وبارتكازها على فهم تاريخي وقرآني محكم ـ معطيات مهمة على اكثر من مستوي، فهي تعني انتماء الجماعة البشرية الى محور استخلافي واحد هو الله سبحانه وتعالى كبديل عن سائر الانتماءات الاخري. مما يبرز المحور الثوري للدين الرافض لألوهية ووصاية ومالكية ما سوى الله سبحانه وتعالي[41]، كما ان الخلافة هذه تعني تقديم الأساس المتين للتساوي في عبودية الله وتجسيد روح الاخوة العامة التي نادى بها الدين الاسلامي[42]. ومن المعطيات المهمة ايضاً تعبير الاستخلاف عن الاستئمان الالهي لبني البشر ولذا فإن القرآن الكريم يعبر عنه بالأمانة «إنا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان» الأحزاب: 27، حيث تصبح الجماعة المستخلفة غير مخولة بأن تعمر الأرض بهواها او باجتهادها المنفصل عن التوجيه الالهي، كما تكشف من جانب آخر ان الانسان حر، اذ بدون الاختيار والحرية لا يبقى مجال للمسؤولية والتكليف.
في قراءته لمسار خط خلافة الانسان تاريخياً، يحدد الشهيد الصدر خصوصيات الخليفة او الانسان الاول الذي بدأ حياته بفارق جوهري عن بدايات الآخرين، حيث انه لم يمر بمرحلة الطفولة التي يجد فيها المرء نفسه في حضانة عائلته، فكان آدم عليه السلام بحاجة الى دار حضانة استثنائية تؤهله لممارسة دور الخليفة على الارض وهي ما عبر عنها القرآن بـ (الجنة) التي مر فيها آدم مع حواء بتجربة خاصة نما خلالها احساسهما الخلقي وشعورهما بالمسؤولية، وذلك بعد الهزة الروحية التي اعقبت (ارتكاب الخطيئة)[43].
ان هذه الرعاية التي تلقاها آدم عليه السلام هي التي ستتطور وتتبلور في مستوى اعلى بشكل عملية توجيه واشراف اوسع، لابد ان تتحدد بكيان يمارس دوره على الارض ويتولى توجيه مسار خط الخلافة الانسانية، وهو ما يسميه الشهيد الصدر بخط الشهادة الممثل للتدخل الرباني من اجل صيانة الانسان، حذراً من تحول وجوده الى مجرد عبث يكرس النزوات والشهوات، وفي اعتقاد الشهيد الصدر فإن القرآن قسم الحاملين لأعباء هذا الخط الى ثلاثة مستويات في قوله عز من قائل «إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء» المائدة: 44، فالأصناف الثلاثة (النبيون ـ الربانيون ـ الأحبار) هم (الشهداء) حيث يمثل الربانيون ـ عند الشهيد الصدر ـ درجة وسطى بين العلماء والأنبياء هي مرتبة (الامامة) بينما يفسر الاحبار بالعلماء واهل الاختصاص في الشريعة، وحيث ان المستوى الثالث من الشهداء (الاحبار العلماء) لا يتوفر فيهم عنصر (العصمة) عن الخطأ فإنه بدوره بحاجة الى شهيد ورقيب يعبر عن المقياس الموضوعي[44] الذي يحتكم اليه في تقييم ممارسة (الحبر) لمهامه وذلك ما سيتمثل بالرقابة الشعبية.
ان خطي الشهادة والخلافة منفصلان في الحالة الطبيعية، حيث يتمثل الخليفة بالأمة والجماعة الانسانية التي تتولى ادارة الارض، بينما يمارس الشهيد دور التوجيه والاشراف، وهكذا بدأت الجماعة الانسانية خلافتها على الارض فكان الانبياء عليهم السلام يمارسون مهمة الشرف الرباني على الأمة الحاكمة والمعمرة للأرض، ولكن وفي بعض مراحل المسيرة الانسانية يكون المجتمع غير مؤهل لتمثيل خط الخلافة الالهية حين يخالف عهد الله ويخون الاستئمان الرباني ويحكم بالاهواء ويظهر الفساد (صدق نبوءة الملائكة) فيجرد الظلمة من موقع الخليفة، واما المستضعفون فهم مغلوبون على أمرهم ولا يمكنهم ممارسة هذا الدور الكبير، فيندمج خط الخلافة مع خط الشهادة بمعنى ان الانبياء والربانيين والأحبار يتسلمون ـ مؤقتاً ـ منصب الخليفة اضافة الى منصب الشهيد، بحكم ضرورات مشروع التغيير الواعي الذي يهدف الى اعادة تأهيل الانسان لتحمل الامانة الالهية.
يشترط الشهيد الصدر في مورد الاندماج هذا توفر الدرجة العالية من العصمة عن الخطأ، لكي يكون الفرد هو (الشاهد) وهو المشهود عليه (الخليفة) غير ان نموذج الاحبار (العلماء) يستطيع ايضاً تولي هذا الدور مع عدم عصمته في حال تكون الأمة عنده محكومة للطاغوت، اذ ان خط الخلافة لن يتمثل عملياً الا في حدود ضيقة وفي نطاق تصرفات الأشخاص ودوائر (الحسبة) البسيطة، واما اذا حررت الامة نفسها فخط الخلافة سوف ينتقل اليها ويأخذ موقعه الطبيعي بعد تأهل الانسان لحمل اعبائه مرة اخري، وتستأنف الامة ممارسة دورها في حكم الأرض سياسياً واجتماعياً على اساس الاستخلاف الرباني[45].
وهكذا يبدأ الشهيد الصدر بترتيب مفردات الحكم الاسلامي بعد تحديد معالم الخطين اللذين يكوّنان محور حركة المجتمع في ضوء من انفتاحه الواعي على المفهوم القرآني وأنساق حركة التاريخ.
قام الشهيد الصدر باستخدام نتائج هذا المنهج في بناء شكل الدولة الاسلامية الذي يراد له الاستجابة لكل من خطوط الشريعة العامة ومقاصدها. ومتطلبات الواقع وطبيعة المؤسسات السياسية والادارية المعاصرة، وذلك كما نراه في «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية». يقرر الشهيد الصدر ان اقامة الدولة الاسلامية التي تأتي موضوعياً بعد ثورة الامة وتحريرها لمقدراتها، تعيد حق الخلافة اليها وتفصله عن خط الشهادة، فتمارس الامة دورها السياسي والقيادي في ادارة البلاد طبقاً لقاعدتين قرآنيتين:
أ ـ قوله تعالى «وامرهم شورى بينهم» الشوري: 83، حيث يعطي هذا النص الامة صلاحية توليها لحكم البلاد بطريق الشوري، ما لم يرد نص شرعي واضح يستثني مورداً ما.
ب ـ قوله تعالى «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» التوبة: 17، حيث يتحدث هذا النص عن (ولاية المؤمنين) وان كلاً منهم يتولى المؤمنين الآخرين، ويريد بالولاية تولي امر الآخر والمسؤولية عنه على ضوء من اقتران ذلك قرآنيا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واضح في سريان الولاية بين كل المؤمنين بصوره متساوية، وينتج عن ذلك لزوم الأخذ بمبدأ الشورى ورأي الاكثرية عند الاختلاف.
تقترب فكرة الشهيد الصدر عن الشورى ـ تاريخياً وسياسياً ومعرفياً ـ من الاتجاه الفقهي المنتمي مدرسياً الى المذهب السني، فضلاً عن التقائها مع اطروحات شيعية مميزة، حيث يتم الاعتماد على الزامية رأي الاكثرية، في ترتيب شكل الحكم الاسلامي، كما نلاحظ في قانون جماعة الاخوان المسلمين ـ كنص تنظيمي ـ وآراء وفتاوى غير واحد من المنظرين كالشيخ محمود شلتوت، والشيخ مصطفى السباعي، والشهيدين سيد قطب وعبد القادر عودة[46]، وذلك في مقابل اتجاه آخر طرح ـ مع التزامه بفكرة الشورى ـ اشكالية في اتخاذ الاكثرية معياراً لفرز الآراء وتعيين اللازم منها، حيث يعتقد ابو الأعلى المودودي في بعض كتبه ان الامور وان قضت بإلزامية الرأي الاكثر في عامة الاحوال، الا ان الاسلام لا يجعل العدد ميزاناً للحق والباطل «قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث» المائدة: 001، فإنه من الممكن في نظر الاسلام ان يكون الفرد أصوب رأياً من سائر اعضاء المجلس النيابي[47]. كما يصر العلامة الطباطبائي على ان النظرية الاسلامية تمتاز عن هذا النظام المعهود في الديمقراطيات الغربية، اذ ليس المقياس في وضع القوانين هو اكثرية الاصوات وانما هو اتّباع الحق[48]. وفي هذا السياق نجد محاولات اكاديمية لطرح مضمون جديد لمفهوم (الأغلبية والاكثرية) اذ تفسرها بأنها «اغلبية حجة وبرهان ومنطق وفكر لا اغلبية عددية»[49].
غير أن محاولة سلب الاصوات الاكثر سمة المعيار والمقياس في اطار العمل الشوري، فضلاً عن انها تفرغ الشورى عن مضمونها، فإنها لا تقدم البديل العملي المتيسر الذي يمكن على اساسه فرز الحق من الباطل. فأما ان تعود الى الاستبداد وايكال القرار النهائي عند الاختلاف الى (الأمير) كما صنع المودودي[50]، او تنتهي الى معيارية البرهان والحجة، وهو ما يدعيه كل واحد من الفرقاء حينئذ، او ان يعوّل بفذلكة غير منهجية على طبيعة المجتمع الاسلامي الذي تسوده التقوى والفضيلة، مما ينتج ان اكثرية الاصوات لن تتعدى بذلك حدود الصالح الاجتماعي[51]، فيما هو ـ بغض النظر عما يحفل به من مثالية ـ محاولة لاستئناف فهم (الاكثرية) كآلية توفر الحد الأدنى من ضمان الحق في دائرة معقدة ومتناشزة الدوافع والقناعات، بمعزل عما يحمله المجتمع من ناظم قيمي.
ان هذه الحقيقة كما يبدو هي التي دعت ابا الأعلى المودودي الى القول اخيراً بإلزامية الاكثرية والتراجع عن قصوره الأولي[52]، بعد أن لم يجد معياراً اخر غير العودة المرة الى (استبداد الأمير)، وهذه الحقيقة نفسها هي التي سوغت للعديد من منظرينا ان يقول: إنه لا يعرف طريقاً لحل الاختلاف في شؤون الحكم الا بأكثرية الاصوات كما ترمي اليه عبارة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية[53].
ان الأمة كخليفة تمارس مهامها السياسية ـ لدى الشهيد الصدر ـ عبر آليات متعددة، هي:
أولاً: يعود للأمة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية.
ثانياً: ينبثق عن الأمة بالانتخاب المباشر مجلس نيابي تتمثل صلاحياته فيما يلي:
أ ـ يقوم هذا المجلس بمنح او حجب الثقة عن اعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية.
ب ـ على المجلس ان يحدد احد البدائل الفقهية التي كثيراً ما تجتمع في الموضوعات المختلفة اثر تعدد الاجتهادات، وهنا لا يذكر الشهيد الصدر «الأعلمية الفقهية» كمرجح للبديل الفقهي كما اعتاد المنهج المألوف، بل يمنح نواب الامة مطلق الصلاحية باختيار الأوفق من الآراء والأكثر تأوية للصالح العام، موظفاً بذكاء ظاهرة تعدد الاجتهادات الفقهية في حل اشكاليات متعددة، منها مسألة مواكبة الشريعة للتطورات المستمرة[54]، قريباً من فكرة الشيخ محمد عبده في هذا المجال، التي يعبر عنها بالتوفيق والتلفيق بين آراء المذاهب والاتجاهات الفقهية والحقوقية المختلفة[55].
جـ ـ يتولى هذا المجلس ملء ما يعبر عنه بـ«منطقة الفراغ التشريعي» بوضع قوانين مناسبة تستلهم من روح الشريعة وتراعى فيها المصالح العامة.
يشير بعض الباحثين الى ان فكرة منطقة الفراغ موجودة عند متقدمي الفقهاء، حيث كانوا يطلقون عليها منطقة العفو الذي سكت فيه الشرع ولم يبد رأياً[56]، ونجد أن الشهيد الصدر قام ببلورة الفكرة وتنضيجها ثم زجها في حل اشكالية ثبات الشريعة ومرونتها، حيث يذهب الى ان الشارع ترك منطقة فراغ لم يملأها بالتشريعات (الإلزامية) وأناط بالدولة ملء تلك المنطقة في ضوء الظروف المتطورة. غير ان ذلك لا يدل على وجود نقص او اهمال في التشريع وانما يعبر عن استيعاب وقدرة الشريعة على مواكبة الحياة عبر تركها دائرة مباحات واسعة[57]. وبقدر ما تمثله فكرة دائرة الفراغ هذه من ابداع فأنها تعبر في سياقها المعرفي الحساس عن اعادة اكتشاف خصائص الشريعة، وتشكل المنهج للعلاقة بين الوحي والتاريخ[58]. في اطار محاولة انصار الوحي ان يستوعبوا من خلاله الحركة التاريخية بأقدارها الشائكة.
لقد أناط الشهيد الصدر في «اقتصادنا» ملء مساحات الفراغ التشريعي بولي الأمر، انسياقاً مع ايمانه في تلك المرحلة بولاية الفقيه، غير انه عاد كما لحظنا واعتبرها من صلاحيات ممثلي الأمة في طرحه السياسي الاخير، استجابة لمفهوم الاستخلاف، وكان من المفترض ان يعمم هذا في سائر اعماله الا انه وفي بعض حلقات (الاسلام يقود الحياة) ظل يردد مفردات «اقتصادنا» ذاتها فاعتبر ان ملء الجانب المتحرك والمتغير من الاقتصاد الاسلامي يدخل ضمن صلاحيات الحاكم الشرعي، مع ايجابه رجوع الحاكم الى اصحاب الاختصاص[59]، وهذا ما سبب حيرة بعض الباحثين الذي ظل متردداً في تعيين رأي الشهيد الصدر ازاء من يتولى ملء دائرة الفراغ[60].
لكن ملاحظة نصوص الشهيد في «خطوط تفصيلية عن اقتصاد» تفيد انه لم يكن هناك بصدد الحديث عن منح الفقيه سلطة ملء منطقة الفراغ، وكان يتحدث حسب عن معالجة الجانب المتحرك من الاقتصاد الاسلامي، بلا اشارة الى المساحات المتحركة الاخرى من الشريعة وهي اوسع بكثير طبعاً من شؤون الحقل الاقتصادي، ولذا فإنه وضمن الموطن الاصلي المخصص اساساً للحديث عن الدولة ينيط شأن منطقة الفراغ بالأمة ومجلسها، ويمكن اعتبار ما ورد في «صورة تفصيلية» اشارة الى قضية تدخل الدولة في نظام المجتمع الاقتصادي عن طريق ذكر الحاكم او ولي الأمر، او انه انسياق مع لغة (اقتصادنا) الخاضعة لمرحلتها الخاصة، وعلى اعلى التقادير فإنه بذل المزيد من الاهتمام بالجانب الاقتصادي واستثناء له من موارد منطقة الفراغ الواسعة التي يتحرك عمل المجلس النيابي خلالها. لما يحمل هذا الحقل من طابع تخصصي معقد مثلاً. وعلى أية حال فإن هذا الاختلاف لا يلقي بالغموض على نصوص الشهيد الصدر الواضحة في «لمحة تمهيدية» و «خلافة الانسان»، سيما مع استناد هيكل الدولة الذي طرحه الى تفسيره المعمق لحركة التاريخ وبنية المجتمع التوحيدي، في ضوء خطي الخلافة والشهادة اللذين يفرضان تمايزاً وظيفياً هاماً، ولو أوكل الشهيد الصدر ملء منطقة الفراغ للفقيه ايضاً فأنه لا يكاد يبقي أي مضمون لحاكمية الامة وخلافتها التي برهن عليها وفصل مقتضياتها وطبيعتها، وسيتحول الفقيه حينئذ الى (شاهد) و (خليفة) في غير مورد الاندماج الاستثنائي للاتجاهين التاريخيين كما فصله هناك واستعرضناه.
د ـ يكون من مهام هذا المجلس الرئيسية، الأشراف على سير تطبيق الدستور ومراقبة عمل السلطة التنفيذية. ومساءلة اعضاء الحكومة إن تطلب الأمر[61].
يتجلى في هذا الفهم لدور الأمة اعتراف الشهيد الصدر ذو المدى الواسع بقدر كبير من الحقوق السياسية للأمة والأفراد تلك الحقوق التي لا يقيدها بالعمل المؤسساتي التابع ادارياً الى الحكومة، وانما يوسعها لتشمل الحق في مزاولة مختلف الوان النشاط السياسي المستقل[62]. كما ان نقل منصب الخلافة مفهومياً وموضوعياً وسياسياً من الأشخاص (السلاطين) ـ كما تكرس تاريخياً ـ الى الأمة الجامعة لقطاعات الجمهور وشرائحه المتنوعة يمثل خطوة هامة في تهشيم المتراكمات التاريخية العسيرة التي كرست مفهوم (الرمز) الانساني المستبد الممثل لإله آخر يستمد الوهيته من مبررات لاهوتية خاصة، مضافاً الى ما ينطوي عليه مفهوم الخلافة ـ كما طرحه الشهيد الصدر ـ من اهمية اجتماعية وسياسية متزايدة، اذا ما لوحظ وجود تيار اخر في الفكر الاسلامي يستهلك الانسان ويحجم دوره ويقيله من موقع المسؤولية فيسلمه الى متاهات القدر تحت غطاء من عقد كلامية عسيرة تعمل على استلاب وجودية الانسان وقوانين الكون بالاقتصار على قدرة الفاعل الالهي الأعلى بحيث تنفي وسائط التأثير الالهي.
ففي اطار الصورة التي قدمها الشهيد الصدر لمكانة الانسان، (في دائرة الايمان بجدلية منصفة للانسان والغيب والطبيعة) كما يسميها بعض الباحثين، لا يبقى مجال للفهم الاستلابي للحاكمية السياسية الذي يحاول التأكيد على حاكمية الله بشكل يوظفها في الغاء ارادة الانسان وبنحو يسحق مكانته ويجرده من صلاحياته الطبيعية[63]، فيما يكون في الحقيقة تحكيماً لأطراف انسانية اخرى ستدعي نيابتها عن الإله في الاستبداد بالسلطة.
هذا فيما يرتبط بموقع (الخليفة الأمة)، اما خط (الشهيد المؤسسة المرجعية) فإن الشهيد الصدر يوليها اهمية كبيرة على ضوء من قناعته بضرورة وجود هذا الخط (الشهادة) متمثلاً بـ(الأحبار) كمشرف على مسير خط الخلافة وموجه له. وبينما فسر الشهيد الصدر ـ مبدئياً ـ الأحبار بالعلماء (في النص القرآني المعتمد من قبله) الا انه راح يعبر عن مصاديقها بالمرجعية الرشيدة[64] مشيراً بوضوح الى اطروحته المعروفة بـ (المرجعية الموضوعية) التي صنف فيها المرجعية الدينية الى (مرجعية الشخص الذاتية) ومرجعية المؤسسة (الموضوعية).
ففي العقد الأخير من حياته كان الصدر ينظم اجتماعاً اسبوعياً يضم عينة من تلاميذه البارزين ويتداول فيه شؤون الامة الاسلامية المختلفة، في سياق تفكيره الدائب لوضع استراتيجية عامة للعمل الاسلامي تتبناها زعامته الدينية والفكرية، وكان ضمن ما طرحه في تلك الاجتماعات ـ على ما يذكر تلاميذه ـ مشروع المرجعية الموضوعية. اي الشكل المعدّل والمنقح من النموذج المرجعي السائد والذي كان يسجل عليه ملاحظات عدة[65]. ويريد الصدر بالمرجعية الموضوعية الجهاز المؤسساتي الذي يرأسه المرجع الديني (الذات) ويمارس من خلاله مهامه المتعددة من خلال (موضوع) اي مجلس يضم علماء الأمة والقوى الممثلة له دينياً، بنحو يرتبط المرجع نفسه بهذا المجلس في ممارساته للعمل المرجعي وبذلك تكون هذه المرجعية اسلوباً موضوعياً مشتركاً يتميز عن المرجعية (الذاتية) المتمثلة بشخص الفقيه فقط كعامل واحد في الممارسة تنتهي مرجعيته بموته، ويؤكد الشهيد الصدر على هذا الهيكل المؤسساتي «لئلا ينتكس العمل المرجعي بانتقال المرجعية الى من لا يؤمن بأهدافها الواعية» على حد تعبيره[66].
وهكذا يريد الصدر ان ينتقل بالممارسة المرجعية من الشكل الفردي المعهود تاريخياً الى النموذج الموضوعي الذي يتم في اطار مجلس ولجان متعددة المهام تشترك في صنع القرارات وتنظيم شؤون المؤسسة الكبيرة، الأمر الذي سيؤهل الجهاز المرجعي لأن «يصون “ عمله “ من التأثر بانفعالات شخص المرجع» كما يصرح رحمه الله.
وسيكون هذا الجهاز المنظم ـ الذي ينيط به مهمة (الشهادة) ـ بديلاً عن «الحاشية (البطانة) التي تعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من اشخاص جمعتهم الصدف والظروف “ لتغطية الاهداف (الآنية) بذهنية (تجزيئية) وبدون اهداف محددة وواضحة» كما ينص.
وذلك لأن المرجعية الدينية (المألوفة) والتي اخفقت باعتقاده في الارتفاع الى مستوى الأمة، تمارس عملاً عشوائياً وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتزايدة دون ان تعمل برؤية استراتيجية عامة تكون بمستوى حاجات المجتمع.
ان اطروحة (المرجعية الموضوعية) هي مشروع لتأهيل (الأحبار) الى ممارسة دور (الشهادة) على حركة (الخليفة الأمة) عبر جعل عملية (الشهادة الاشراف) تطبيقاً مؤسساتياً حديثاً ومنظماً يخضع بدوره الى اطر استشارية (داخلية لجان وهيئات ومستشارين) تضمن قدر الامكان التقليل من اثار محدودية الشخص غير المعصوم وضعفه.
سرمد الطائي[1]
[1] باحث من الحوزة العلمية.
[2] لاحظ: الرفاعي، عبدالجبار. موسوعة مصادر النظام الاسلامي ج8، قم: مركز الدراسات والابحاث الاسلامية، 7141هـ.
[3] لاحظ النصوص الثلاثة في: الفراء، ابو يعلى محمد بن الحسين. الأحكام السلطانية، قم: مكتب الاعلام الاسلامي، 6041هـ، ص02 ـ 12.
[4] الغزالي. احياء علوم الدين. القاهرة: البابي الحلبي، ج2: ص153.
[5] الجويني، ابو المعالي. غياث الأمم في التياث الظلم. نهضة مصر، 1041هـ، ط11، الفقرة العاشرة.
[6] الجويني، ابو المعالي. غياث الأمم في التياث الظلم. نهضة مصر، 1041هـ، ط11، الفقرة العاشرة.
[7] انظر: الصغير، عبد المجيد. الفكر الأصولي واشكالية السلطة العلمية في الاسلام. دار المنتخب العربي، 4991، ص063.
[8] لاحظ مثلاً: يعقوب، المحامي احمد حسين. طبيعة الاحزاب السياسية العربية، بيروت، الدار الاسلامية، 7991، ص491، حيث يفترض الفقه السياسي عند المذاهب الأربعة الكبرى مقتصراً على تبرير وجود الغالب والجائر وتطويع النص الديني من اجل ذلك.
[9] لاحظ وصفاً جيداً لمدى اغراء السلطة الصفوية اهل العلم، وحجم استجابتهم لذلك الاغراء، وما كان يفعله بعض (شيوخ الاسلام، الصدر الأعظم، “ ) في تواطئهم ضد المساكين من المسلمين، في: الوثيقة النقدية القديمة (حديقة الشيعة) لعبد الحي الرضوي الكاشاني (المتوفى حدود القرن الثاني عشر)، تنظر في: جعفريان، رسول. دين وسياست در دوره صفوي. قم: انصاريان، 1991 ص833 فما بعد. وكذلك: الحائري، عبد الهادي. تشيع ومشروطيت. طهران: 5891.
[10] عمارة، د. محمد. تيارات الفكر الاسلامي. القاهرة: دار الشروق، ط2، 7991، ص051.
[11] الغزالي، محمد. مشكلات في طريق الحياة الاسلامية. نقلاً عن: النفيسي، د. عبد الله (تحرير وتقديم) الحركة الاسلامية “ اوراق في النقد الذاتي. الكويت: 9891، ط1، ص741.
[12] فلسفتنا. المجمع العلمي للشهيد الصدر. قم: 8041هـ، ص443.
[13] ينظر: الحر العاملي. وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، الباب 31 من ابواب جهاد العدد، الحديث السادس.
[14] آل حيدر، حيدر. ولاية الفقيه والشوري. قم: مجمع الفكر الاسلامي، 9041هـ، ص32.
[15] السبحاني، جعفر. معالم الحكومة الاسلامية. مكتبة امير المؤمنين. اصفهان: ص402.
[16] الغرباوي، ماجد. الشيخ محمد حسين النائيني. قم: 9991م،ص331ـ 531.
[17] شمس الدين، الشيخ محمد مهدي. نظام الحكم والادارة في الاسلام. قم: دار الثقافة، 2991، ط3، ص31.
[18] مجلة العالم. (اللندنية) العدد 78، 21/01/5891، ص06.
[19] يراجع بشأن ذلك: الآصفي، الشيخ محمد مهدي. الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الاصلاحية في النجف. قم: مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، 8991.
[20] عمارة، د. محمد. تيارات الفكر الاسلامي. مصدر سابق، ص292.
[21] كمقارنة اولية بين بدايات العمل السياسي الاسلامي واساليبه لدى السنة والشيعة، ينظر: المؤمن، علي. سنوات الجمر، لندن: دار المسيرة، 3991، ص92.
[22] لاحظ: مذكرات العلامه الشهيد محمد مهدي الحكيم “ ، قم: ص73.
[23] م. ن، ص24.
[24] نشرت هذه الأسس في اصدارات حزب الدعوة الاسلامية المختلفة، كما نشرت كملحق ضمن عدة اعمال منها: الحسيني، محمد. الامام الصدر “ دراسة في سيرته ومنهجه بيروت: 9891، وكذلك: الملاط، شبلي. تجديد الفقه الاسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم. ترجمة: غسان غصن. بيروت: دار النهار، 8991، وأيضاً: الشامي، السيد حسين بركة. المرجعية الدينية. لندن: دار الاسلام، 9991، وننقل هنا عن المصدر الأخير.
[25] لاحظ نص الأسس: الشامي، “ مصدر سابق (الملاحق)، وقد اورد الأسس التسعة المعروفة، لكنّ الاستاذ محمد عبد الجبار وآخرين، يؤكدون انها اكثر من ثلاثين اساساً كتبها الشهيد الصدر ولم يُحتفظ الا بتسعة “ وهو ما لم يتحقق من الوثائق بعد، انظر: شبلي الملاط، مصدر سابق، في الفترة التي خصصها للحديث عن (الأسس).
[26] يلاحظ في: وسائل الشيعة للحر العاملي، ابواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
[27] لاحظ: الحكيم. محمد باقر. النظرية السياسية عند الشهيد الصدر. مجلة الموسم، العدد 62 و72، 6141هـ، وللاطلاع على فكرة التعويض السندي وتوظيفها مع نتائج حساب الاحتمال ومنطق الاستقراء، يلاحظ: العميدي، ثامر هاشم. الجديد في علمي الدراية والرجال عند الشهيد الصدر. قضايا اسلامية، العدد الثالث 6991، ص901.
[28] كما في تعليقته على منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم. بيروت، 0141هـ، هامش المسألة الخامسة والعشرين، ورسالته العملية (الفتاوى الواضحة) بيروت ط7، 0141هـ، في المسألة الثالثة والعشرين.
[29] انظر: التوحيدي. الميرزا محمد علي. مصباح الفقاهة. من تقرير بحث الاستاذ ابو القاسم الخوئي، قم: انصاريان، ط4، 6991، ج5: ص54.
[30] لم يقتصر تصريح الصدر بولاية الفقيه على نصوصه الافتائية وانما ظهر قبل ذلك في كتاب اقتصادنا، لاحظ فصل «مبدأ تدخل الدولة» حيث ينيط ملء منطقة الفراغ بولي الأمر والحاكم الشرعي.
[31] الحكيم، مصدر سابق.
[32] المذهب السياسي في الاسلام، وزارة الارشاد (طهران) 5041.
[33] مباحث الاصول (تقرير الدروس العليا للشهيد الصدر في اصول الفقه). قم: مكتب الاعلام الاسلامي، 7041هـ، ج1 من ق2، ص301.
[34] الصدر، السيد محمد باقر. التفسير الموضوعي للقرآن. دار التعارف ـ بيروت: 1891، ص81 فيما بعد.
[35] اقتصادنا. مشهد: مكتب الاعلام الاسلامي، 7141هـ، ص 573.
[36] خلافة الانسان وشهادة الانبياء. بيروت. دار التعارف. 9791، ص8.
[37] المودودي. أبو الأعلي. نظرية الاسلام وهديه. دار الفكر، ص95.
[38] السبحاني، الشيخ جعفر. معالم الحكومة الاسلامية. مصدر سابق، ص112.
[39] لاحظ مثلاً: المنتظري، الشيخ حسين علي. دراسات في ولاية الفقيه. قم: المركز العالمي للدراسات الاسلامية، 8041هـ، ج1: ص105.
[40] ينظر: وسائل الشيعة. مصدر سابق، كتاب الحدود ـ الباب الاول، الحديث الثالث.
[41] لقد زخرت رؤية الشهيد الصدر للدين ولأصل التوحيد بمفاهيم تغييرية وثورية عالية، لاحظ عن ذلك دراسة عن دور الشهيد الصدر في تجديد علم الكلام في: منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الاسلامي، للشيخ عبد الجبار الرفاعي، قم: سلسلة رواد الاصلاح التي تصدرها مؤسسة التوحيد، ط2، 9991م، سيما ص811 فما بعد.
[42] لاحظ: خلافة الانسان، ص31.
[43] م. ن ص03.
[44] م. ن ص52.
[45] م. ن ص35.
[46] ينظر: سعد الدين، عدنان. من اصول العمل السياسي للحركة الاسلامية المعاصرة. منشور ضمن: الحركة الاسلامية “ اوراق في النقد الذاتي، مصدر سابق، ص672.
[47] لاحظ: المودودي. مصدر سابق. ص95.
[48] راجع: العلامة الطباطبائي، محمد حسين. نظرية السياسة والحكم في الاسلام. بيروت. الدار الاسلامية، 2891، ص 94، ولاحظ ايضا: المنتظري، مصدر سابق ـ ج1 ص765.
[49] جعفر، هشام عوض. الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية. فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 5991، ص231.
[50] المودودي، مصدر سابق.
[51] العلامة الطباطبائي، ذات المصدر السابق.
[52] سعد الدين، عدنان، مصدر سابق ص772.
[53] مغنية، الشيخ محمد جواد. الامام الخميني والدولة الاسلامية. بيروت: دارپپالعلم “ ، 9791، ص66 فما بعد.
[54] انظر بهذا الشأن: مهريزي، مهدي. الفقه والزمان، ضمن «مدخل الى فلسفة الفقه» سلسلة قضايا اسلامية معاصرة، قم: 8991. ص36، حيث عد خمس جهات ابرزها الشهيد الصدر في النظام القانوني الاسلامي تعبر عن العناصر المتحركة من الشريعة.
[55] م. ن، ص85.
[56] القرضاوي، يوسف. الخصائص العامة للاسلام. القاهرة: مكتبة وهبة، 9891 ص322، نقلاً عن: مهريزي، مصدر سابق.
[57] اقتصادنا، مصدر سابق، ص586 ضمن مبحث «مبدأ تدخل الدولة».
[58] اللاوي، د. محمد عبد. فلسفة الصدر. لندن: دار الاسلام، 9991، ص973.
[59] الاسلام يقود الحياة. طهران: وزارة الارشاد الاسلامي، ص44 و74 من حلقة (خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي).
[60] الحائري، السيد كاظم. ولاية الأمر في عصر الغيبة. قم: مجمع الفكر الاسلامي، 4141هـ، ص 821 فما بعد.
[61] لاحظ عن هذه المهام: لمحة تمهيدية “ بيروت: دار التعارف، 9791، ط2، ص 81 فما بعد.
[62] م. ن. ص91.
[63] انظر المعالجة القيمة لهذه الرؤية الاستلابية ونظائرها في، حاج حمد، محمد ابو القاسم. العالمية الاسلامية الثانية. (International studies & Resear Chbureau British west indies) الطبعة الثانية، 6991 ص93.
[64] انظر: لمحة تمهيدية “ مصدر سابق.
[65] انظر: الحائري، السيد كاظم الحسيني. مباحث الاصول. مصدر سابق، ص19 فما بعد.
[66] نحيل هنا الى ما كتبه الامام الشهيد بقلمه ونقله السيد الحائري في المصدر السابق.