الشهيد الصدر – الامام الحكيم و حزب الدعوة الإسلامية

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

كتابة التاريخ وأمانة التوثيق من أخطر الظواهر التي عرفها التاريخ البعيد والقريب والمعاصر، ولعل الكثير مما تعانيه البشرية من ارتباك واضطرابات وحروب تشترك في أسبابها المباشرة وغير المباشرة ظاهرة عدم الأمانة في النقل وتسجيل أحداث التاريخ التي هي ترجمة لجهود الآخرين وعطاءاتهم، وأن تاريخنا الإسلامي أبرز مصداق حيث جسدت كتابته ظواهر منحرفة عبرت عن النوايا السيئة والمصالح الذاتية والقبلية حتى أصابت المقتل من تاريخنا المشرق، عن النبي وآله وعبثت بالمقدسات حينما وضعت الروايات المحرفة عن النبي وآله (ص) تارة وعن الصحابة وأعلام التاريخ الإسلامي أخرى وصيغت أحداث ضخمة ولكنها كاذبة نسبت إلى نكرات عبر التاريخ ودخلت في سجل صحائفهم بعدما أخرجوها من سجلات صحائف الصالحين والأبرار والأئمة.

ولا شك أن أصابع التحريف حينما تنسب فضيلة لغير صاحب فضل لن تنفعه في يوم حشره ونشره وحينما تنسب له سيئة لا تضره عند علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض إذن من المستفيد من تحريف التاريخ وكتابته بلا أمانة وموضوعية، ومن المتضرر من هذه العملية الهدامة التي ما زال عصرنا الحاضر رغم كل تطوره وموضوعيته يعاني منها؟ ولماذا يحاول الرواد والمفكرون وضع حدٍّ لهذه الظاهرة بعقد الندوات والمؤتمرات التي تجمع المفكرين والمنظرين وتصرف الأموال الضخمة والجهود الجبارة؟ وسرعان ما يكتشف المنصفون أن الكثير من دعاة الواقعية والصدقية والأمانة في كتابة التاريخ أو الدعوة إلى كتابته بموضوعية هم يرومون الإساءة إلى الآخر أو تسجيل مكرمات للذات والجهة والعنوان على حساب الخصم الذي يكون وهمياً في الغالب.

المستفيدون من تحريف التاريخ وتزوير حقائقه هم الذين يريدون أن يسدلوا ستاراً على عقدة أو سلبية تلاحقهم وتحول دون وصوليتهم إلى ما يطمحون أو ليطهروا تأريخاً من دنس أصابه نتيجة ممارسات أملتها المصلحة الشخصية أو القبلية أو المذهبية أو الحزبية، أو ليسيؤوا إلى خصم خاصموه في مقطع زمني فينسبوا له ما ليس فيه ويسلبوه ما هو له وفي كل هذه العملية التي لا تنبئ عن واقعية أو شجاعة في مواجهة الواقع والعمل على تصحيحه، وبقدر ما تتسع دائرة المتضررين من صرامة التاريخ وواقعيته نجد الارتباك يضرب أطنابه في تاريخنا الذي أصبحت دراسته وفرز وقائعه فن من أصعب الفنون وأشقاها ولا يعرف الباحث عن الحقيقة أية دسائس وتحريفات يلاحقها وفي أية حقبة زمنية يجد منبتها فهل هي أموية أم عباسية أو عثمانية، وكان حرياً بمن عانى من صخب التاريخ وتلاطم أحداثه وظلمه أن يكون أحرص الناس وأصدقهم فيما يكتب عن التاريخ سيما القريب المنظور منه.

المتضرر من تحريف التاريخ تارة هو الفرد وأخرى الجماعة التي ينسب لها ما ليس فيها أو يحذف من تاريخها ما كان ثمرة جهودها وجهادها، ولكن هذا أبسط الضرر ما دام منصباً على الشخص أو الجماعة ولا يتعداها ما داموا قد غادروا الدنيا وآلت أمورهم إلى الله ـ أما المتضرر الأكبر والأخطر من تزوير التاريخ هو المجتمع والإنسانية التي يكمل بعضها بعضها ويؤسس كل جيل منها على ما بناه الجيل السابق، فإذا كان ما وصل اللاحق من الأجيال صحيحاً سليماً أشادوا عليه لبنة جديدة في المكان السليم وإذا كان التاريخ الذي يضعه المحرفون أمامهم سقيماً محرفاً فسيكون البناء اللاحق الذي هو خلاصة جهد الجيل الجديد في الاتجاه الخاطئ، ويظل يتحرك المجتمع من خطأ إلى خطأ ومن بناء محرف إلى محرف، ومن هنا تبرز خطورة الوثائق التاريخية لأنها ستنتهي بالضرورة إلى حرمان الأمة وأجيالها من عطاءات أسلافها، ومن هنا نعلم أن الواقعية والأمانة بقدر ما نطلبها في تثبيت إيجابيات تاريخنا لينطلق بها جيلنا اللاحق ننشدها كذلك في استعراض سلبياتنا لنعرف كيف تحركنا في إطار المسؤولية وأين كبونا وكيف أفقنا وكم رفعنا البناء أو أزحنا بعض لبناته التي شيدها السابقون.

من منطلق هذه الرؤية ومن حرصنا علي اطلاع الأمة وجيل الحاضر والمستقبل على حقيقة ما أنجزه الجيل السابق في العراق الذي كان عنوان وعيه ونهوضه المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض) في ما قدم من نظريات فكرية وممارسات عملية، وجدنا أن الخصومة والبحث عن المواقع أو محاولة الإطاحة بالخصوم والمنافسين هي التي تسربت إلى إرث هذا المرجع العظيم لتحرف حادثة هنا وفكرة هناك لتنتهي باللوحة الفنية الجميلة التي رسمها قلم الشهيد الصدر(رض) إلى التشويه الذي أفقدها جمالية الفكر والآلية والأهداف.

وأن أبرز ما في حياة الشهيد الصدر فكره الذي هام به المؤمنون وخطه الحركي الذي كان الوسيلة التي حققت الكثير من طموحات الشهيد(رض)، ولما وجدنا أن ما كتبه السيد محمد باقر الحكيم حول النظرية السياسية عند الشهيد الصدر، قد شوه معالم هذه النظرية واستخدم هذا التشويه وسيلة للإساءة لحزب الدعوة الإسلامية الذي يعلم الجميع أنه وصية الشهيد فينا حينما قالها صريحة «أوصيكم بالدعوة خيرا فإنها أمل الأمة». من هنا قررت كتابة هذا الرد لينشر في مجلة المنهاج ضمن مبدأ حقوق النشر والرد وحينما امتنعت المجلة عن نشر الرد بصيغته هذه لم نجد بديلاً إلا إخراجه بهذا الكراس وبقدر ما يقتضيه الأمر من توضيحات خدمة لحركة الفكر ووفاء للشهيد الصدر(رض).

ملاحظة: أن كل ما ذكر باسم (الإمام الحكيم) نقصد فيه سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس سره).

وأن كل ما ورد تحت اسم (السيد الحكيم) أو (العلامة الحكيم) نقصد فيه سماحة السيد محمد باقر الحكيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

إن دراسة النظرية السياسية عند الشهيد السعيد محمد باقر الصدر(رض) بقدر ما هي صعبة وشاقة فهي سهلة ويسيرة لاكتمال جوانبها رغم عدم وجودها في إرثه الفكري ومخلفات مشاريعه النظرية بشكل محدد المعالم وفي صياغة نظرية لأركان المشروع السياسي في جوانبه النظرية والفكرية والأسس التي ترتكز عليه النظرية السياسية ومفردات المشاريع التي تشكل الجانب الميداني المترجم للجانب التنظيري عنده.

فالنظرية السياسية عنده لم تكن كالنظرية الاقتصادية التي طرحها الشهيد الصدر كمحاولة لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام فهناك قد تابع كل متعلقات النظرية الاقتصادية في الكتاب والسنة وألبسها حلّة عصرية نظرية كانت بحق تحدياً للنظريات الرأسمالية والإشتراكية.

ومما يمنح الدارس الساعي لتقديم النظرية السياسية عند الشهيد الصدر أنه(رض) ترك أمامنا صياغات فكرية سياسية وممارسات عملية ميدانية جاءت متناسقة مع التنظير، كما ترك لنا مراحل تطور النظرية وعلاقاتها مع المشروع التغييري الشامل الذي كرس له كل جهده منذ نعومة أظفاره والذي سار إلى جانب جهوده العملية بنفس القوة والتبني فتكاملت أسسه ورؤيته نضجاً وتحديداً كلما تقدم الشهيد في عمقه الفكري والفقهي وكلما اطلع على التجارب المعاصرة وقارنها مع التجارب الغنية في تاريخنا الإسلامي وفي النتيجة فقد ألبسها الثوب العصري ولم يفقدها الأصالة والعمق والامتداد.

ورغم ذلك تظل إمكانية وقوع الخطأ والتحريف والإستنتاج المتناقض مع قناعات الشهيد في طرحه قائمة، ما دامت الحدود الدقيقة للنظرية السياسية لم يحددها في كتاب واضح المعالم يقطع الطريق على القناعات المسبقة التي تبحث عن تأييد لها في ثنايا الموروث السياسي الصدري، أو الأهواء المدفوعة برغبة إثارة أشكال ضد هذا الطرف أو ذاك في ساحة مواجهة ربما تفتقد الموضوعية وتحري الدقة، ولنا في التاريخ شواهد على دارسات واستخلاصات لا شك أنها تتناقض كاملاً مع الأصول والأهداف التي كرس لها الرجال العظام والعلماء الكبار جهدهم من أجلها، وأمامنا أيضاً تجربة الشيوعيين الذين اعتبروا عهد الإمام علي(ع) إلى مالك الأشتر(رض) عندما ولاه على مصر عهداً شيوعياً يؤمن بالطبقية ويعتمد البرولتاريا العمالية ومبدأ توزيع الثروة على الأسس الإشتراكية فأصبح عندهم الإمام علي عليه السلام أول من دعا إلى الشيوعية الإشتراكية وبهذا أخرجوه من واقع ليدخلوه بآخر.

وأبو ذر الصحابي الجليل(رض) الذي رفع شعار الدفاع عن المحرومين ودعى إلى إنصافهم من بيت المال في عملية توزيع عادلة للثروة وفق الأسس الإسلامية تبعاً لإمامه علي(ع) فلاقى الويلات والآلام لمواقفه الصلبة من الخلفاء والولاة ولم تثنه الصعاب عن شعار المطالبة بالعدالة الإجتماعية، أصبح هذا الثائر الإسلامي المجاهد شيوعياً عند الشوعيين في عملية ليٍّ عنيف وتحريف قاس وعدم انصاف للفوارق في الدوافع والأهداف التي انطلق منها أبو ذر(رض).

وتظل هاتان التجربتان مثالاً لمحاولات كثيرة في إملاء قناعات على مخلفات وارث العظماء من الرجال ومنهم الشهيد الصدر(رض)، ولا نريد أن نتحدث عن تجربة السيد محمد باقر الحكيم في قراءته للنظرية السياسية عند الشهيد الصدر(رض)، المنشورة في مجلة المنهاج الموقرة العدد(17) بما يثير الإساءة للسيد الحكيم ولكننا لا يمكننا ونحن نقرأ الكثير من الأحداث والتفسيرات التي أقحمها في دراسته إلا أن نصنفها في دائرة تصفية حسابات سياسية مع خصم ما زال السيد الحكيم يصعد معه الخصومة إلى حدّ العداء، مما افقد الدراسة الموضوعية والنزاهة من جانب والإساءة للشيهد الصدر عندما حمله مواقف وأفكاراً لا يرتضيها لنفسه(رض) من جانب آخر.

ولعل الذي أوقع السيد الحكيم مع حسن الظن بالهدف من الدراسة أنه لم تتضح له بدقة مراحل حركة المشروع الصدري التغيري الشامل بسبب انقطاعه المبكر عن مواكبة حركته (رض) حينما قال:(خيرت نفسي بين استاذي الثوري ووالدي المعتدل فاخترت الثاني)[1] وعندما غابت عنه أبعاد حركة المشروع تمحّل في تفسير مفردات الحركة فأخرجها عن نسقها العام، وطبيعي أن دراسة كل مفردة في تاريخ حركة الشهيد الصدر معزولة عن باقي مفردات المشروع وترابطها مع بعضها يعطي نتائج سلبية كما وقع ذلك عند السيد محمد باقر الحكيم حينما جاءت دراسته كلوحة عمد شخص إلى تغيير ألوانها إلى حدّ التناقض واللعب في تناسق حجوم مشاهدها إلى حدّ التشويه فأصبحت اللوحة بعد جمالها وتناسقها شوهاء فاقدة للقيمة الفنيّة.

الأسس الموضوعية في الكتابة عن نتاجات المفكرين والعلماء تتوقف عليها عملية اكتشاف النظرية والخط الذي يتمسك به العالم والمفكر لا سيما حينما يكون قد ترك بنهجه وعطائه الفكري أثراً استراتيجياً في حركة الفكر والواقع الميداني، وبقدر التمسك بهذه الأسس أو مخالفتها تأتي النتائج سليمة ومنسجمة أو سقيمة ومخالفة، وما دمنا في الحديث عن النظرية السياسية عند الشهيد الصدر(رض) ومحاولة تصحيح الإستنتاجات التي توصل إليها سماحة السيد محمد باقر الحكيم في كتابته عن هذا المحور في مجلة المنهاج الموقرة العدد (17)، فإن الأسس هي:

الأول: أن يدرس فكر الشهيد الصدر(رض) دراسة شمولية تستهدف اكتشاف المشروع الحضاري الذي خطط ونظر وعمل من أجله الشهيد(رض) وأن لا ندع المبضع يجزأ مشروعه ويتناول كل جانب منه على حدة وبمعزل عن الجوانب المترابطة معه كما فعل السيد الحكيم، ولعل هذا هو السبب وراء الإستنتاجات والتقييمات المغايرة لخط ومنهج الشهيد الصدر حينما تناول نظريته السياسية مجزوءة عن مشروعه الشامل، وهنا نتذكر مقولة للشهيد الصدر(رض) في حديثه عن الاقتصاد الإسلامي حينما يشترط لرؤية كماله وجماله أن لا ينظر إلى جزء منه منعزلاً عن باقي الأجزاء لأنه كالعمارة التي لا يظهر رونقها إلا حينما ننظر لكل جانب منها في إطار الهيكل العام للبناية.

الثاني: أن محاولة كتابة التاريخ أو إعادة كتابته لا تعطي نتائج إيجابية حينما تفتقد الدقة والموضوعية والحيادية لا سيما أن الأحداث التي أقحمها السيد الحكيم ما زالت ذاكرة الجيل الذي عايشها لم تتسرب إليها ظاهرة النسيان بعد.

الثالث: إن عملية اكتشاف النظرية السياسية عند الشهيد الصدر في ظل غياب الكتابة التفصيلية عنها على خلاف ما كتب بشكل تفصيلي عن النظرية الاقتصادية تجعل المهمة صعبة وشاقة وتحتاج إلى عملية استقراء ومتابعة لأفكاره التي خلفها  ولممارساته العملية، وأن تقديم دراسة مضغوطة عن هذه المفردة الحساسة من تاريخ العمل الإسلامي وتشعبات خلفياته وعلاقاته مع باقي مفردات الحالة الإسلامية لا شك كان وراءها الضعف والتخبط الذي رافق فقرات الدارسة حتى نهايتها.

وبما أن النظرية السياسية عند الشهيد لا يمكن اكتشافها بمعزل عن الحديث عن المشروع التغييري الحضاري عنده. نجد ضرورة استقراء مفردات هذا المشروع بالقدر الذي تسمح له الدراسة:

المشروع الصدري

إن المشروع الحضاري الإسلامي عند الشهيد الصدر(رض) يتكون من استراتيجية أثبتت الأيام والأحداث والنتائج أن مفرداتها كانت حاضرة واضحة بقوة في ذهن الشهيد الصدر ولم تأت دون قصد أو بعفوية تفرضها حركة الأحداث إنما جاءت بفعل إرادة وقصد صدري واعٍ يظهر تارة بشكل مباشر واضح كما في مشاريعه الخاصة كتأسيس حزب الدعوة الإسلامية، أو دوره في جماعة العلماء المجاهدين في العراق، أو عبر دور غير مباشر في توجيه مرجعية السيد الحكيم ومعالجة بعض حالات التردد والضعف التي يعتريها أحياناً وله اسهام أساسي فيما أنجز في عهد الإمام الحكيم من تقدم للحالة الإسلامية عامة والمرجعية خاصة ويعلم المطلعون حجم معاناته(رض) مع بعض رجال الحوزة وحاشية الإمام الحكيم الذين كانوا يلاحقونه بتهمة الوهابية تارة والحزبية أخرى ويعملون جهدهم لأيجاد فاصلة بينه وبين الإمام الحكيم كما يذكر الفضل أيضاً للإمام الحكيم ذاته لأنه كان محباً للإسلام، يجد نفسه ملزماً بالتعاطف مع العاملين كما حصل فعلاً مع الشهيد الصدر وحزب الدعوة الإسلامية وغيرهما.

مفردات المشروع:

1ـ التنظير الفكري:

لمواجهة التنظير الغربي والشرقي بنظريات مقابلة تعمل على تسليح الأمة وطلائعها الشابة بالفكر المبوب والمنسّق ليواجه النظريات الأخرى، ولينقذ الفكر الإسلامي في اختصاصاته المختلفة من التمزق في ثنايا البحوث الفقهية فقد عمد إلى طرح نظريات محدودة في مجالات الاقتصاد(اقتصادنا) والفلسفة (فلسفتنا) وبحوث البنك اللاربوي والأسس المنطقية للاستقراء ومجتمعنا الذي لم يكتب له النور.

وفعلاً أخرج النظريات الاقتصادية من ثنايا البحوث الفقهية التقليدية البعيد عن روح العصر والمرحلة ووضعها في تحدٍ علني للمذاهب الاشتراكية والرأسمالية، ولأول مرة أصبح الشباب المؤمن يناقش الأفكار بالأفكار ويدحض الحجة بالحجة الراجحة القويّة.

2ـ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية:

ولما كانت التجربة الإنسانية قد استحدث آلية حزبية عصرية لحمل نظرياته ونشرها في أصقاع العالم ليغزو بها العقول، فأصبح لديهم نظريات مبلورة جاهزة يحملها رجال يؤمنون بها ويستوعبونها وينشرونها في العالم ببرامج ومخططات حركية فاعلة مقابل الحالة التقليدية المتأخرة التي كان يتحرك بها الفكر الإسلامي في ظل مؤسساتنا الدينية التي لم تكن عصرية ولا متفاعلة مع حاجات المجتمع وتطورات الحياة، من هنا عمد الشهيد إلى إعداد وتربية الطليعة المنظمة الحركية الواعية لحمل هذه النظريات ونشرها في الأمة لتواجه النظريات الغربية الوافدة.

وجاءت مبادرته لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية عام 1957 في عنفوان المد الشيوعي الأحمر معلناً بداية حركة المشروع الشمولي الواسع الذي أراد لحزب الدعوة الإسلامية أن يكون رأس النفيضة في هذه المواجهة الساخنة اللامحدودة حتى يستلم الحق دوره السياسي في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.

3ـ تصحيح مناهج الحوزة العلمية:

ظلت المناهج الدراسية الحوزوية مقصورة على الدراسات الفقهية والأصولية سيما في حوزة النجف الأشرف التي لم تشهد توجهاً نحو المجالات القرآنية أو الفكر السياسي والاقتصادي وغيره فطالب العلم يبدأ حياته بهذه الدارسة ويختمها بها دون أن ينظر إلى ما حوله من تحديات فكرية و إشكالات عصرية تحطم قناعة المسلم بعقيدته.

وتاريخنا يشهد مرجعيات كبيرة ممتدة لكنها لم تترك لنا إرثاً فكرياً يمكننا من خلاله دراسة رؤيتهم للواقع ناهيك عن نظرتهم السياسية أو الإجتماعية، وأن اختلاف رؤية الإمام الحكيم للامور عن رؤية الشهيد الصدر حسب قول السيد الحكيم تجعلنا نبحث عن هذه الرؤية التي لم نعثر على أساس لها في إرثه الفكري والعملي ولم يكن الإمام الحكيم وحده من خريجي حوزة النجف الأشرف لم تعرف له دراسات ونظريات إلا بحدود المتوارث البعيد عن أصل فكرة إقامة الدولة وتقنين الاسس والقواعد التي تستند إليها لأن الدراسة الحوزوية كانت تدور مدار الحاجة الفردية للمسلم بعيداً عن حاجة الدولة والمجتمع.

ولسد الخلل أدخل الشهيد الصدر دراسات فكرية وقرآنية وأقتصادية وصحح الكثير من المناهج الأصولية والفقهية في الدراسة الحوزوية ليبعث الحياة والإبداع في الفكر الإسلامي الذي ظل قلقاً من جهة ومحصوراً على دراسات الفقه والأصول التقليدية من جهة أخرى. ولولا جريمة بعث العراق لأستكمل الصدر مشروعه في تصحيح كامل المناهج الدراسية لتكون أساساً لاعداد جيل من العلماء والمفكرين والمجاهدين في ساحات الفكر والعمل الإسلامي. وبذلك أصبحت الحوزة مدرسة متكاملة تنفتح على الإسلام بكل تفاصيله ومناهجه.

ويذكر الشهيد الصدر قدس سره أهمية إنماء الوجدان والضمير بالنسبة إلى طالب العلم في الحوزة وإن هذه الكتب الدراسية لا تلبي ذلك كما يوضح ذلك في محاضرة(المحنة) المشهورة:

(الأصول تملأ العقل لا الوجدان، ثم يقول: بعد أن يدخل الطالب إلى إطار هذه الحوزة فينخرط في مناهجها ويسلك مسالكها ويعيش دروبها… تتضاءل بالتدريج جذوة شعوره بالاتصال بالله سبحانه وتعالى بينما كان من المفروض أن هذه الجذوة تنمو بالتدريج بدلاً من أن تخمد أو أن تتضاءل… إنما يعيش على أفضل تقدير دروساً معينة ومناهج معينة هي في حدود كونها مفاهيم وأفكار لا تغذي هذا الشعور فيبقى هناك فراغ نفسي كبير في قلبه في وجدانه في ضميره وهذا الفراغ النفسي الكبير لا يمكن أن يملأ بمطالب من الفقه والأصول لأن مطالب الفقه والاصول تملأ عقل الإنسان ولكنها لا تملأ ضميره  ووجدانه…)[2] اضافة إلى ذلك يجد أن كتب الفقه والأصول هي أيضاً غير كافية لأشباع حتى الجانب العلمي ولم تراع الشرائط الفنية للطالب لذا يقول: ( وقد كنا منذ زمن نجد أكثر من سبب يدعو إلى التفكير في استبدال هذه الكتب بكتب أخرى في مجال التدريس لها مناهج الكتب الدراسية بحق وأساليبها في التعبير وشرائطها، ومبررات التفكير في هذا الاستبدال وإن كانت عديدة ولكن يكمن اختصارها في مبررات أساسية محددة كما يلي: المبرر الأول ـ وهنا يذكر السيد أربعة مبررات ـ)[3]

4ـ تربية الوكلاء:

لقد كان الشهيد الصدر يعاني من صورة وكلاء المرجعية في الواقع فهي حتى في زمن الإمام الحكيم لم تكن الوكالة أكثر من تمثيل للمرجع وجمع للأموال وفي أحسنها الإجابة على أسئلة المكلفين، أما الدور التبليغي القيادي الذي يتحمل مسؤولية الدعوة إلى الإسلام فقد كان غائباً، من هنا أدخله الشهيد الصدر ضمن إطار برنامجه العملي الشامل ودخل في عمق مرجعية الإمام الحكيم مستعيناً بالدرجة الأولى بالشهيد السيد مهدي الحكيم(رض) ليتمكن من السيطرة على دورة الإمام الحكيم وليجعل منها حوزة علمية فكرية قيادية وقد وجه أنظار الدعاة وألزم الكثير منهم للدخول فيها لغرضين الأول تحصيل العلوم اللازمة لمهمة الوكالة وثانياً الاستفادة من غطاء مرجعية السيد الحكيم التي أصبح غالبية وكلائها الشباب من الدعاة وقد تعهدهم الشهيد الصدر بالرعاية والمتابعة وأصبح توزيعهم على المناطق بيده مستفيدا من ثقة الإمام الحكيم به. ومن هنا يكون ما سجل لمرجعية الإمام الحكيم هو بفعل الدور الإداري الواعي الذي تعهده الشهيد الصدر حينما أشرف علي تربية الوكلاء وتوزيعهم، وبذلك تمكن من تغيير صورة الوكالة التقليدية الباهتة إلى صورة الوكالة الواعية الحية المتصدية لمشاكل المجتمع والمترفعة عن طلب المساعدات المالية والولائم والوجاهة.

5ـ المرجعية في نظر الشهيد الصدر:

واشتمل  مخطط الشهيد الصدر في قمة نضوجه وعطائه في التركيز على المرجعية الصالحة وهنا نؤكد أن الشهيد الصدر الذي عرف بزهده وتواضعه وترفعه عن العناوين التي قد ترفع شخصه ولكنها تحط من أهدافه، فقد وضع في برنامجه أن يكون يوما ما مرجعاً أعلى لمهمة أساسية هي تفعيل الخطوط الأربعة التي تقدم ذكرها وتوجيهها من الموقع المرجعي الأعلى لتتحرك كل مفردات المشروع التي أشرنا إليها نحو الهدف  المنشود بتناسق وتكامل أدوار، فالنظرية والحزب والحوزة الواعية والوكلاء القياديون كلها مفردات تتحرك على جوانب مختلفة في الحياة اليومية ويؤدي مجموع حركتها إلى استيعاب الحياة العامة للأمة.

وعلى ضوء هذه الحقيقة  كانت تجري مشاركات الشهيد الصدر، هنا وانسحابه هناك، ولم تتغير درجة الأهمية عنده بالحزب أو الوكلاء أو التنظير الفكري حينما تصدى للمرجعية التي لم تكن هدفه الشخصي، وعلى ضوء هذه الحقيقة أيضاً نفهم أن الانفصال العضوي المباشر عن حلقات التنظيم عام 1962 م وليس عام 1960 م كما قال السيد الحكيم هو التوجه نحو الخطوة الأخرى في مشروعه وهو المرجعية وهذا تعبير عملي آخر عن تقدم مشروعه(رض) خطوات على طريق النضج والكمال الذي تحقق في توليه إدارة المرجعية الصالحة على أنقاض المرجعيات التقليدية.

وبهذه المناسبة فإن السيد الشهيد صرح يوماً وقال أريد أن أدخل مليوني شخص في حزب الدعوة الإسلامية بفتوى واحدة، وهذه المقولة الصدرية كاشفة بوضوح أن خروجه من قيادة الدعوة لم يكن واقعياً إنما هو تفرغ لمشروع آخر، وان المشروع المرجعي عنده لم يغفل رغبته في تقوية الحزب حينما يريد لفتوى واحدة أن تضيف للدعوة مليوني شخص، وربما كانت الضغوط التي مورست إزاءه لاجباره على الانسحاب لم تكن هي السبب الوحيد ولم تخرجه عن مخططه الذي سار عليه في كل مفردات تحركه(رض)، ويؤكد مقولتنا أن السيد محمد باقر الحكيم كما سيمر معنا أثبت ولو دون قصد بقاء الشهيد الصدر على صلة واهتمام بحزب الدعوة الإسلامية في كل المحطات التي توقفت عنده مرجعيته وآخرها وصيته الشريفة(أوصيكم بالدعوة خيراً فإنها أمل الأمة).

وعلى ضوء معرفة المشروع الشمولي عند الشهيد الصدر نفهم دوافعه للعمل مع مرجعية الإمام الحكيم التي أراد أن يستخلص منها مواقف وعطاءات داعمة لمشروعه وليس من منطلق أنها كانت تعمل(بنظرية بانت صحتها) عند الشهيد الصدر مقابل(نظريته) التي يقول عنها السيد محمد باقر الحكيم التي يقول عنها السيد محمد باقر الحكيم أنه تبين له ضرورة التحول عنها لصالح نظرية الإمام الحكيم التي لا نعرفها، فالسيد محمد باقر الحكيم يقول في ص247 (وقد كان هذا النجاح للمرجعية ـ مرجعية الحكيم ـ في تطوير العمل السياسي وإدارته يمثل نقطة البداية في تحول النظرية للشهيد الصدر نحو فكرة المرجعية الوضوعية). وعلى ضوء هذه الاستراتيجية الصدرية نفهم دافع ما هو أخطر حينما يتعامل الشهيد الصدر مع مخالفيه في الساحة وحتى السلطة بمرونة تعقبها شدّة أو بشدة تعقبها مرونة، حتى إذا لم يعد في البين متسع حينما انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية وتحفز نظام الطاغية في بغداد وبدعم من القوى الإستكبارية لمواجهتها، أعلن الشهيد حقيقة موقفه حينما أطلقها صريحة واضحة برفض كل طلبات مفاوض السلطة والشروط هي:( الشرط الأول: أن يتخلى عن تأييد ودعم الثورة الإسلامية في إيران وعن تأييده للسيد الخميني. والشرط الثاني: إصدار بيان تأييد للسلطة… الشرط الثالث: أن تصدر فتوى بتحريم الإنتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية. والشرط الرابع: أن تنسخ تحريمك الانتماء إلى حزب البعث… الشرط الخامس: أن يجيئك مراسل صحيفة أجنبية أو عراقية يسألك مسائل فقهية أنت تضعها وأجب عليها بما أحببت)[4] وهنا يؤسفنا أن نستعيد في الذاكرة حصول النجاح الجزئي في مسعى حسين الصافي عند الإمام الحكيم الذي انتهى إلى طلبه من الشهيدين الصدر ومهدي الحكيم الخروج من التنظيم حتى لا تضرر مرجعيته، وظلت هذه علامة مؤسفة أن ينجح مثل حسين الصافي في استدراج مرجع كالإمام الحكيم إلى موقف أكدت الأحداث أنه خلاف قناعاته الشرعية والعملية.

6ـ الأساس الفقهي للنظرية السياسية:

اعتمد الشهيد الصدر في تفعيل النظرية السياسية على ما أوجبه الشارع المقدس من ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضرورة إقامة الحكومة الإسلامية التي يعني تعطيلها تجميداً لأحكام الدين ومخالفة لدور الإسلام في صياغة حياة الفرد والمجتمع، ومن هذه الضرورة ولعدم وجود تحديد فقهي لآلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت أمام الشهيد الصدر فرصة اختيار الأسلوب الأنجح والأمثل في تحريك هذه الفريضة على طريق تحقيق الحكم الإسلامي وعدم حصرها في دائرة الأحكام الفردية دون النظر إلى مهمة إقامة الحكومة الإسلامية، وبهذا فقد خرج الشهيد برؤيته هذه على المألوف في حركة المراجع الذين سبقوه أو عاصرهم كمرجعيتي الإمام الحكيم والسيد الخوئي اللتين كانتا تتحركان في أفضل صورهما في إطار الحسبة وولاية من لا ولي له والحكم في أمور الهلال والأيتام وإصلاحات عامة في المجتمع، وهنا يسجل بوضوح أن مرجعية الإمام الحكيم التي مثلت تحولاً في حرصها على  العمل الإسلامي وانفتاحها عليه شكل خطاً فاصلاً بين مرحلتين ودورين للمرجعية الدينية، لكنها تظل تتحرك بلا نظرية سياسية أو برنامج تغييري شامل تقتضيه عملية التغيير وإقامة الحكم الإسلامي وحينما يطلب منه العمل على إقامة هذا الواجب فإن جوابه (إن عليكم أن تعملوا على نشر التدين وندعو الله سبحانه أن يظهر الحجة(عج) كما جاء في كتاب عن الأستاذ صالح الأديب(الصادق العهد)ص56).

وبعد أن أطلق الشهيد الصدر نظريته السياسية بتأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي يسعى إلى مهمتين أساسيتين ممارسة دوره المنظم في أحداث عملية التغيير الفكري والإيماني، وتحريك المجتمع وإنضاج وعيه السياسي للتصدي لمهمة العمل السياسي الذي يفترض أن ينتهي إلى إقامة الدولة الإسلامية، هنا كانت الحاجة ملحّة لتحديد الأساس الفقهي الذي تكون عليه الدولة والجميع يعلم أنه اختار الشورى ودلالتها على القاعدة التي يستند إليها الحكم الإسلامي، وتؤكد تواريخ الأحداث اللاحقة أن اختيار الشورى من الناحية الزمنية متأخر عن تأسيس الحزب وإطلاق مسيرته، مما يدل على أن ضرورة إقامة الحزب الإسلامي عنده لم تكن شرعيته بحاجة إلى دليل الشورى أو غيره لأنه لا يعدو أن يكون آلية مباحة لتنظيم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استشرى في العراق ولم يسجل الواقع مواجهة حقيقة له إلا بتصدي الشهيد الصدر فكرياً وعملياً ونستغرب ما قام به السيد محمد باقر الحكيم من ترتيب كل مفردات النظرية السياسية عند الشهيد الصدر على دلالة آية الشورى وتبدل وجهة نظر الشهيد بها ويقرّ السيد الحكيم في الصفحة 229ـ230 في مجلة المنهاج أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإسلام والدين أهم الواجبات الإسلامية، ولما لم تكن هناك طريقة محددة وإطار سياسيي عام مشخص لهذه الدعوة، كان ممكناً انتهاج كل أسلوب مؤثر في هذا المجال يعطي للمسلمين القوة والقدرة على تحقيق هذا الهدف أو القيام بهذا الواجب الإسلامي. ويضيف السيد الحكيم.

وحييئذ يمكن طرح أسلوب(التنظيم الحزبي) بوصفه أفضل طريقة تجريبية توصل إليها الإنسان في التحرك السياسي، حيث أنها الطريقة المتبعة والمعروفة الآن في المجتمعات الإنسانية(الحضارة الغربية والشرقية) والتي أثبتت جدواها وتأثيرها من خلال التجربة، كما أن هذه الطريقة هي التي يمكن أن تواجه هذا الأسلوب الجذاب في المجتمع الإنساني الذي اعتمدته الأيديولوجيات والنظريات الحديثة والوضعية.

وكلام السيد الحكيم مأخوذ مما كتبه الشهيد الصدر(رض) في النشرة الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية تحت عنوان(حول الإسم والشكل التنظيمي) جاء فيها:

أن الرسول(ص) لو كان في عصرنا لاستعمل بمقتضى حكمته الأساليب الإعلامية والتبليغية المعاصرة والملائمة والحق أن أسلوبه(ص) في الدعوة ما كان عن التنظيم الحلقي ببعيد.

ولا ندري كيف سوغ السيد الحكيم لنفسه بعد كلامه المار ذكره وكلام الشهيد الصدر عن شرعية التنظيم أن يحاول الطعن في شرعية العمل الحزبي، ثم كيف يعود حديثاً ويعمل على تأسيس أكثر من حزب في الساحة العراقية وتحت عناوين لم تعد الساحة بحاجة إليها بعد أن فشلت بعض واجهاته الحزبية مثل حركة المجاهدين العراقيين ولا زالت محاولاته مستمرة في استحداث واجهات حزبية تابعة له لكن خطواته لم يكتب له أن ترى النور في هذا المجال وهذا الحديث له مكانه الآخر ولا يمكن التوسع فيه الآن.

وفي تطور لاحق وبعد عملية بحث أثارها شعور الشهيد بعدم كفاية دليل الشورى على أساس الحكومة الإسلامية ولا علاقة لهذا الموضوع بالعمل الحزبي أو شرعيته لذا اعتمد على نظرية ولاية الفقيه كأساس للدولة، وقد ذكر السيد محمد باقر الحكيم في إيران إن الشهيد الصدر لم يكن يؤمن بالدولة الإسلامية وتبعاً لذلك بحزب الدعوة الإسلامية الذي أسسه لهذه المهمة، وحينما سمع ذلك آية الله السيد كاظم الحائري عجل للقاء السيد الحكيم معترضاً على فهمه واستنتاجاته وقد سمعته منه شخصياً قال: بأن الشهيد الصدر عندما انتفى عنده دليل الشورى أصبح شكل وأساس الدولة الإسلامية لا تستند على قاعدة فقهية وبذلك فهي ـ أي الدولة الإسلاميةـ بحاجة إلى قاعدة بالدليل الكافي والشرعية اللازمة لإدارة هذا الكيان الضرورة، وبقي فترة بحث وتمحيص اهتدى به إلى دلالة ولاية الفقيه، وبهذا لم تتأثر فكرة ضرورة إقامة الدولة أو وجود الحزب عنده إنما هو بحث في الأسس والقواعد الذي لم يدم طويلاً. ومما يؤكد هذا أن الشهيد الصدر عاد ثانية للتحقق من كفاية دليل ولاية الفقيه فلم يجد فيه الإجابة الكاملة عن الإشكالات التي قد تعترض بعض دلالاتها أو سندها فكتب في أواخر حياته الشريفة في معرض إجابته على الأسئلة التي قدمها مجموعة من طلابه في لبنان أثناء الثورة الإسلامية الإيرانية أو بعد انتصارها مباشرة فكأن رأيه مستقراً في عملية الجمع بين ولاية الأمة التي تتحرك ضمن إطار مبدأ الشورى وحق الأكثرية في تحديد حاجة الأمة إلى المؤسسات والإدارة العامة، وبين ولاية الفقيه الذي يتحمل مسؤولية الإشراف على خط السير ومطابقته مع الأحكام الشرعية وقد وضع الشهيد رأيه هذا تحت عنوان(خلافته الإنسان وشهادة الأنبياء) في كراساته التي يجمعها كتاب الإسلام يقود الحياة، وفي هذه الفترة الني رافقت هذا النضج الأخير في رأي الشهيد الصدر لم يسمع أحد عنه شكاً في ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية سيما أنه عبر عن ذلك صراحة بمواقفه المتميزة على جميع الحوزة العلمية في النجف الأشرف كما كان متميزاً في موقفه من الإمام الخميني يوم كان في العراق يواجه ضغط وقطيعة مرجعية الإمام الحكيم وحاشيته كما أوضح ذلك السيد حميد روحاني في كتابه نهضة الامام الخميني في الجزء الثاني ص151.

7ـ قيادة الأمة وقيادة الحزب:

يفترض السيد محمد باقر الحكيم أن جدلاً تناقضياً وصراعاً حاداً بين الدور القيادي الذي يسعى له حزب الدعوة الإسلامية والدور المرجعي القيادي الذي يسعى له الشهيد الصدر عندما أطلق مشروع المرجعية الرشيدة، وقد أشرنا في بداية البحث أن المرجعية في المشروع الشمولي عند الشهيد تمثل قمة التحريك والتوجه لمفردات المشروع الذي يشكل حزب الدعوة الإسلامية واحدة من أهمها عند الشهيد الصدر، والحقيقة أن لا تناقض أساساً بين القيادتين فحزب الدعوة الإسلامية ومن خلال أدبياته التي أصبحت معروضة لمن أراد الإطلاع تؤكد على ان القيادة الحقيقية للأمة هي المرجعية الدينية المتصدية لأنها تمثل خط الاتصال والامتداد الطبيعي لولاية الأئمة عليهم السلام وثم لولاية النبي(ص) ولم تكن ثمة مشكلة بين كيان الحزب والمرجعية لأنه لا يسعى إلا إلى العمل في ظلها وفي امتدادها كقيادة ميدانية تنظم شؤون عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحول بموجبها الحزب إلى ذراع فاعل منظم وواعٍ يدعم كيان المرجعية لا سيما أن جميع الدعاة مقلدون ويرجعون لمقلديهم.

ويؤكد هذه الحقيقة ذاته في حالة وعي موضوعي ما أورده السيد محمد باقر الحكيم في وعي موضوعي عندما تحدث عن مهام الحزب عند الشهيد الصدر في بحثه ص239 بما يلي:ـ

1ـ مجال الأمة والجماهير، حيث يمكن أن يكون للحزب دور خاص في الأوساط المثقفة من الطلبة الجامعيين وأساتذتهم والأوساط التعليمية وموظفي الدولة… باعتبار أن هذه الأوساط كانت تعيش في عزلة نسبية عن نشاط المرجعية والحوزة العلمية للحواجز المصطنعةـ التي رسّخها الاستعمار الثقافي والسياسي ـ بين الحوزات العلمية وهذا الاوساط، بحيث أصبح من العسير بناء الجسور والعلاقات المباشرة بين الحوزة وهذه الأوساط، بالإضافة إلى أن فكرة التنظيم السياسي(الحزب) كانت فكرة رائجة لها تأثير نفسي، حيث كانت تستهوي هذه الأوساط بسبب تماسها المستمر مع التنظيمات السياسية الأخرى الموجودة في الساحة السياسية، وتعد الوسيلة الطبيعية للوصول إلى الحكم في تصوّر الحضارة الأوروبية ذات التأثير الكبير في أوساطنا السياسية.

2ـ مجال أجهزة المرجعية الدينية(الجهاز الخاص للمرجعية الحاشية) أو الجهاز العام للمرجعية المتمثل بالوكلاء والمبلغين والمؤسسات الأخرى للمرجعية، وحتى إقناع المرجعية الدينية نفسها بضرورة الحزب ودوره وأهميته واعتماده وتبنيه، أو تبني أعماله ونشاطاته،أو السماح له بالتواجد ضمن هذه النشاطات على الأقل. ومن خلال هذه النظرة سعى الشهيد الصدر بشكل مباشر أو غير مباشر إلى وضع الحزب في هذه الاتجاهات المذكورة، من خلال التحرك في الأوساط المثقفة في بداية الأمر، وكذلك التحرك من خلال عناصر مختارة ومتميزة في الحوزة والاهتمام بقبول الطلبة في الحوزة، أو الحث على انتمائهم إليها وكسبهم إلى جانب التنظيم الخاص وربطهم به وتبني شخصياً ـ في بعض الأدوار الأولى ـ إدارة بعض الحلقات الخاصة أو توجيهها وحتى مخاطبة بعض الأشخاص للانتماء إلى التنظيم) (المنهاج العدد 17 ص240).

الأمر الذي يستحق تسجيلاً منّا في هذا المجال أن  ما يشاع من اتهام ضد حزب الدعوة الإسلامية وموقفه من المرجعية صادر من مرجعيات أو حواش لمرجعيات لا تملك أهلية القيادة ومواصفاتها التي حددها الشهيد الصدر بالتدبير والعلم والاخلاص والتصدي، وقد تمسك حزب الدعوة الإسلامية بهذه الخصائص الجادة معتبراً إياها الأساس الذي يميز بين المرجعيات، فالمرجعية التي تفقد أهلية الخبرة الحياتية والقدرة على التصدي تظل محترمة عند الحزب ولكنها ليست قيادة للأمة إنما هي مؤسسة علمية محدودة الاهتمام في إطار المباحث الأصولية والفقهية والكلاسيكية، أما المرجعية التي تتصدى لدور القيادة من موضع الكفاءة والإخلاص فلا إشكال في أحقيتها في القيادة والتصدي ولا منازع لها، ويؤكد هذه الرؤية أن حزب الدعوة الإسلامية قد بايع وتفاعل واستجاب بقوة إلى مرجعيتي الشهيدين الصدر الأول والثاني(رض) والامام الخميني(رض) ومن قبل ذلك وبدرجة تصديها مع مرجعية الإمام الحكيم التي لم تكن قيادة فعلية بسبب ترددها في اتخاذ قرار يتحمل مسؤولية النهوض بمهمة قيادة الحالة الإسلامية وضعفها وعدم ثقتها بقدرات الأمة على تحمل مسؤولية ومواكبة العمل والتغيير إلا أنها كانت بقدر آخر تحتضن العمل الإسلامي وترعى العاملين وتبحث عن إصلاحات اجتماعية سنتطرق لها بشكل أكثر تفصيلا.

8ـ مرجعية السيد الحكيم:

لا شك أنها مرجعية امتدت على مساحة واسعة من الامة تقليداً وأنها دامت فترة زمنية طويلة حولتها إلى مرجعية تاريخية قد دعمتها ظروف التحول والوعي الحاصل في المجتمع من جهة والصراع الحاد بين الشاه ومرجعية قم من جهة أخرى، فأراد الشاه المقبور إبعاد المرجعية عن قم تخلصاً من دورها الفاعل في محاصرة سياسته وعلاقاته الخارجية وتفريطه بحق الشعب ومعاداته للإسلام، ولتحقيق غرضه وبعد وفاة السيد البروجردي بادر بإرسال برقية التأييد للامام الحكيم ترشيحاً لمرجعية النجف وإضعافاً لدور مرجعية قم وقد احتفظت العلاقة بحرارة انعكست بعض معالمها في العلاقة الباردة بين الإمام الحكيم والامام الخميني عندما أبعد من إيران.

ويدل عليه الحوار الذي دار بينهما وإن أخذ بعداً أوسع مثل مخاوف الامام الحكيم من مغبة تأييد حركة الإمام الخميني حينما اعتبر بديل حكومة الشاه سيكون الشيوعيون إضافة إلى الدماء التي تسفك مع عدم ثقته بولاء الأمة للحركة وإن مهمة المرجعية لم تكن عنده التصدي لإسقاط نظام الشاه أو غيره بقدر ما هي نشر التدين.

وانتهى الحديث حسبما نشره حميد روحاني إلى المقولة المعروفة التي أطلقها الإمام الحكيم بقوله(أنت حسيني وأنا حسني) ولأن نص الحوار مطولاً فأننا نحيل القارئ إلى كتاب حميد روحاني ليطلع على تفاصيله أو إلى الكتب التي نقلت عنه وهي كثيرة ومنها كتاب(العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية. لعادل رؤوف) ومعروف أنه يعني رغبته في الصلح وعدم الثورة مقابل رغبة الإمام الخميني في الثورة وعدم مهادنة الأنظمة، وقد أدّت هذه المحادثة إلى قطيعة بين الاثنين بدت آثارها عندما هاجر السيد محمد باقر الحكيم إلى سوريا واتصلت به قيادة حزب الدعوة الإسلامية عارضة عليه السفر إلى إيران لغرض التصدي فكان جوابه أخشى أن أتعرض إلى مضايقة الإيرانيين على خلفية العلاقات السيئة بين مرجعية الإمام الحكيم والإمام الخميني وكان جواب وفد الدعوة الإسلامية أن الإمام الخميني أكبر من هذا ويجب أن لا تخاف وفعلاً أثبت الواقع من خلال الدعم والحفاوة التي استقبل بها صحة نظر الدعوة في هذا الإطار رغم أن بعض عناصر الثورة قد استخدمت هذه الخلفية لفك وتخريب العلاقة والتنسيق المتفق عليه بين السيد محمد باقر الحكيم وحزب الدعوة الإسلامية بإطلاق تهديد ينطوي على ألفاظ سيئة فيما لو استمرت هذه العلاقة، ومع الأسف استجاب السيد الحكيم لتهديدات مهدي الهاشمي وأدار ظهره للدعوة ولم يقف عند حد إدارة الظهر إنما تحرك بقوة لتنفيذ رغبة الهاشمي بأكثر مما يرغب هو نفسه. وكأنه أراد بعمله التكفير عن موقفه الشخصي من الإمام الخميني وحاشيته عندما زاروا السيد الحكيم(رض) حينما رفض التقاط صورة لوالده والإمام الخمينى بدعوى أن هذا يسيء بسمعة والده. ومع الأسف لم يشخص السيد الحكيم نوايا مهدي الهاشمي مع الثورة والإمام الخميني كما شخصها مبكراً حزب الدعوة الإسلامية وحذر منها وكان قد وقع المحذور وبانت عمالة مهدي الهاشمي وبعدما اشتد خطره على الثورة الإسلامية تدخل الإمام الخميني قدس سره بأمر اعتقاله وحوكم علناً وتمّ إعدامه.

9ـ مرجعية الإصلاحات ومرجعية التغيير:

تميزت المرجعيات الدينية باختلاف الإستراتيجية النهائية لتحركاتها ومطالبها،وإذا كنا نصرف النظر عن المرجعيات التقليدية التي لم تطرح في برنامجها مسألة السلطة والعمل السياسي فإن المرجعيات الأخرى التي أولت اهتماماً لهذا الجانب الحيوي من حياة الأمة انقسمت إلى:

(أ) مرجعية مطالب وإصلاحات لا تنهض إلى مهمة إسقاط الأنظمة أو إقامة الحكومة الإسلامية أو المشاركة بحكومة ائتلافية، وحصرت اهتمامها في معالجة شؤون المجتمع وشجونه بالتقدم بطلبات إلى السلطات الحاكمة لتعديل قانون الأحوال الشخصية أو تخفيف الضغوط عن الحوزة العلمية أو الاحتجاج على ممارسة حكومية ضد هذه المرجعية أو تلك ويمثل هذا النمط مرجعية الإمام الحكيم في العراق والسيد شريعتمداري في إيران. ومعلوم أثناء إرهاصات الثورة الإسلامية كيف كان موقف السيد شريعتمداري مرتكزاً على مطالب وإصلاحات لا تمس وجود السلطة الشاهنشاهية الحاكمة، أما الإمام الحكيم الذي عرف بغيرته على الإسلام وحبه للعاملين فإنه لم يخرج في سياسته أو نظريته السياسية التي يتحدث عنها نجله السيد محمد باقر الحكيم عن حدود المطالب الإصلاحية وردود أفعال على سلوكية السلطة تجاه المرجعية أو الشيعة، ويذكر هاني الفكيكي في كتابه(أفكار الهزيمة) تأكيداً لهذه الحقيقة التي يعرفها المتابع لشأن مرجعية الإمام الحكيم أن حكومة البعث عام 1963م كانت تهاب المرجعية الشيعية وتخشى الاصطدام بها وتود التقرب إليها فبعثت وفداً إلى النجف التقى الإمام الحكيم وعرضوا عليه أن يقدم مطالبه وكانوا يتوقعونها صعبة التحقيق قاسية ربما تطال تكوينة الدولة وإذا بها مطالب تمثل جالية صغيرة ضعيفة في المجتمع العراقي يقول هاني الفكيكي في هذا الجانب في كتابه(أوكار الهزيمة) ص274 ما يلي:(إلا أن اللافت في لقائنا مع مندوبي السيد الحكيم مجتهد الأكثرية الشيعية العربية في العراق تلك الطلبات القليلة والمتواضعة الشبيهة بطلبات الأقليات الصغيرة غير العربية، كمناهج الدراسة والموظفين الإداريين والسماح بتدريس الفقه الجعفري ومساعدة المؤسسات الثقافية ورعاية الأوقاف والعتبات المقدسة، لا شيء مما ذكر يمت إلى سياسة الدولة وتوجهاتها) وإذا لم نكن نهدف التعمق بدراسة خلفيات موقف ونظرية السيد شريعتمداري فإن خلفيات نظرية الإمام الحكيم(رض) تؤكدها المصادر والأحداث الكثيرة التي تبدأ من سلبية التفكير بموضوع الحكم والسلطة وتنتهي بالخشية من الاصطدام بها معتمدة على حالة الشك المتراكم بالأمة من حيث صدقها في المواقف أو تاريخها مع المرجعية، وكان يردد هذا المقولة(أن الشعب يخوننا) كلما تحدثوا معه حول تحرك سياسي معين. وينقل الاستاذ السيد حسن شبر عن سماحة السيد العسكري أنه قال:ـ

(بعد تأسيس الحركة الإسلامية(الدعوة) ذهبت إلى مسجد الكوفة أنا والشهيد الصدر ولا أذكر من كان معنا، وكان هناك(السيد…) معتكفاً وتحدثت مع الشهيد الصدر في مفاتحته بالحكومة الإسلامية، فقال لي الشهيد الصدر: لا يمكن أن يفاتح هذا الإنسان بالحكومة الإسلامية.

قلت: أنا أفاتحه.

قال: لا تستطيع.

ذهبت إليه وقرأت له هذه الآية ]ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض…[ قال: هذه تفسيرها هو قيام الحجة.

فأخذت أناقشه وأنه ألا يمكن أن يكون هذا الشيء يقام بجماعة من المسلمين يعملون في سبيل الله ويرثون الأرض؟

قال: نعم يمكن.

قلت له : إذن يمكن أن نقيم حكماً إسلامياً بمفاد الآية.

قال: نعم.

فالأمر كان إلى هذا الحد، لا نستطيع ان نفاتح الناس بهذا الشيء، هذا ما أدركته بنفسي، رأيت الوضع هكذا، أكثر ما كان المتدينون يطلبون من الحكومة أن تعمر العتبة المقدسة كربلاء، المنارة مثلاً أو الإضاءة، وأما العامة فإذا سمح لهم بأن يخرجوا مواكب القامات فالمتصرف[5] متصرف جيد.

وتأسست الحركة(حزب الدعوة) إذا شاء الله أمراً هيأ أسبابه؛ هذه ليس من الحركة ولكن بتوفيق من الله سبحانه.

لقد كان الجو ملائماً للحركة(الدعوة) كان العدد قليلاً، اولئك الذين يقررون شيئاً واحداً، فينطلق العراق كله بهذا الصدد.[6]

وما يؤسف له ان سماحة السيد الحكيم في بحثه حول النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (رض) تناول كل المفردات التي دلت على نهج التردد والخشية من الاصطدام مع السلطة في مرجعية الامام الحكيم فبترها تارة أو غير مضمونها واتجاهها تارة اخرى في محاولة لاستحداث قناعة بأن مرجعية الامام الحكيم عندها نظرية سياسية اثبتت نجاحها مما اضطر الشهيد الصدر إلى التراجع عن نظريته لصالح هذه النظرية، هذا من جهة ومن ناحية اخرى وفي اكثر من مناسبة يوحي بان سماحة الامام الحكيم اراد تغيير النظام ولكن حزب الدعوة الاسلامية لم يوافق على التحرك ونورد الملاحظات التالية:

ان اصل روية الامام الحكيم وبالادلة القاطعة ومن خلال اكثر من لقاء معه رفض طرح حزب الدعوة الاسلامية للتحرك ومواجهة حكومة البكر لكنه رفض وطلب ابقاء حزب الدعوة مكتوما.

اذا كان الامام الحكيم يريد هذا وهو المرجع الأعلى فماذا يحول دون رغبته، ألم يكن من لوازم هذه الرغبة ان يتحرك لتجميع طاقات الامة ورص صفوفها لاعلان المواجهة واسقاط، النظام واقامة الحكومة الاسلامية في ظل اعلى سلطة اسلامية هي المرجعية. إن محدودية انتشار الدعوة وضعفها كما يدعي ذلك سماحة السيد الحكيم لا يبقى موجباً تحميل الحزب مسؤولية عدم التحرك ما دام لا يملك قاعدة واسعة وإذا كان العكس وهو الصحيح فلماذا يتنكر لهذه القاعدة الواسعة ويوجه لها الطعون والاتهامات ولماذا لم ينهج الإمام الحكيم قدس سره نهج الإمام الخميني والشهيد الصدر لضم جميع العاملين وتحريكهم، أليس من الواجب أن ينهض المرجع وتنهض معه الأمة؟

(ب) أما النمط الثاني من المرجعيات فهي الثورية المتصدية والجميع يعلم والواقع يؤكد أن منهج الشهيد الصدر كان ثورياً يستهدف من خلال تغيير سلوك المجتمع إقامة الحكومة الإسلامية، ولم يكن نهجاً إصلاحياً إنما كان نهجاً توأما لمنهج الإمام الخميني(رض) فالإمام الخميني عندما تحاوره السلطة يقول لا مطلب إلا بإزالت عائلة بهلوي ولم يتزحزح عن مطلبه الاستراتيجي هذا رغم التنازلات والتغييرات التي أجرتها أميركا على السلطة الشاهنشاهية من خروج الشاه إلى رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على الحكم بعده، وهكذا كان الشهيد الصدر هدفه المعلن الواضح في كتبه ورسائله وبياناته أنه يسعى إلى إسقاط النظام الحاكم وإقامة حكومة العدل الإلهي بديله، وقد ورد نص هذه الدعوة في ندائه( على كل عراقي خارج العراق وعلى كل عراقي داخل العراق أن يعمل جهده لإسقاط هذا النظام).

فالشهيد الصدر والإمام الخميني من مدرسة ثورية واحدة والإمام الحكيم والسيد شريعتمداري من مدرسة إصلاحية أخرى، وأن نصّ الحوار والذي يذكره السيد حميد روحانى في كتابه نهضة الإمام الخميني في المجلد الثاني ص151 الذي جرى بين الإمام الحكيم والإمام الخميني يحمل دلالة تغني عن التحليل والتركيب والمتابعة.

ومن معالم التمييز الظاهر بين نظرية التغيير الشامل التي تبناها الشهيد الصدر مند شبابه ونظرية المطالب الإصلاحية التي ظلت ترافق سياسة مرجعية الإمام الحكيم حتى وفاته(رض)، أن الأولى اعتمدت الجماهير مادة للتغيير وأداة للثورة وتحقيق الحاكمية بعدما يجري عليها عملية التغيير والتأهيل والوعي، والثانية اعتمدت سياسة التقرب من الحاكمين ليس ولاءً وممالأة لهم بقدر ما هي رؤيته التي مرّ معنا أكثر من مرّة قوله(رض) لمن فاتحه بالثورة والتحرك والتغيير مثل قيادة حزب الدعوة الإسلامية أو زعماء العشائر أو مبعوثي السلطات أنه يرى وظيفته الدعوة إلى التدين والعمل من أجل إشاعة أجوائه أولاً ثم ارشاد القائمين بالأمر من الحكام وأن إقامة الدولة الإسلامية من مهمات الإمام المهدي(عج)، ولعل ما يدور في ذهن الإمام الحكيم أن ثقل مرجعيته وهيبتها ربما تحدث قناعة أو ضعفاً على بعض الحاكمين لمراعاة الأمور الدينية، وأن كان البعض يميل إلى إعطاء هذه العلاقة بعداً يسيء لموقع المرجعية من جهة التأكيد على ظاهرة التردد عندها من جهة أخرى كما لاحظنا في بعض المواقف التي جمعت بين الإقدام والإحجام في آن واحد.

ومهما كانت دوافع هذه العلاقة فإننا نحسن الظن برغبة الإمام الحكيم في خدمة الإسلام ولكن نعتقد أن مثل هذه العلاقة وغيرها لم تغير شيئاً من عدائهم للإسلام وارتمائهم في أحضان القوى الاستكبارية مما شكلت علاقة المرجعية معهم غطاءً لهذا السلوك المعادي للإسلام والمسلمين فلا احد يجرئ على ادانة الحاكم الظالم اذا كانت مرجعية الأمة تضللهم بغطاء الشرعية، ولولا وجود المراجع الثائرين بوجه هؤلاء الطغاة وفي طليعتهم الإمام الخميني (رض) والشهيد الصدر (رض) وغيرهم لطمست معالم الدين واختلطت الأوراق وتعذر على جماهير الامة الفرز بين الصحيح والخطأ وبين ما هو شرعي ورسمي وحكومي حيثما اختلط الأول في الثاني، ومن هنا كانت (كلمة حق عند سلطان جائر) بضع صاحبها تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى لأن الحاكمين بحاجة إلى كلمة الق التي تصرخ في اذهانهم لتردعهم عن الطغيان والاستعباد.

10- الشهيد الصدر والمواجهة:

اخذت مواجهة الشهيد الصدر ادواراً ومراحل منذ تصديه لمهام ومفردات مشروعه التغيري السياسي وكلما تطور مشروع حزب الدعوة الاسلامية الذي كان ثمرة وعي وجهود الشهيد الصدر (رض) تصاعدت حدة المواجهة وتركزت الاضواء الاستكبارية حول الشهيد وتحركاته ومشاريعه وأخيراً مرجعيته، وقد تعرض عند مجيء حكومة البعث برئاسة البكر- صدام الى مضايقات كثيرة كان الشهيد بحكمته يتجاوز المواجهة مع السلطة ويؤجلها الى وقت تكون فيه الأرض التي يقف عليها اكثر صلابة وقوة بعدما يأخذ العمل الاسلامي المنظم دوره وعمقه وامتداده وبعدما تصبح مرجعيته تتسع للحالة الشعبية ولم يكن الشهيد يجد بديلاً عنه يتحمل هذه المسؤولية، وحينما انتصرت الثورة الاسلامية في ايران فرح بها الشهيد الصدر معتبراً هذا الانتصار تحقيقاً لحلمه الكبير وعبر عن  موقفه بصلابة أذهلت العارفين بالحقد العفلقي على الإسلام كله وعلى الشهيد الصدر وحزب الدعوة خاصة، ونعتقد بأن ما جرى من اتصالات تليفونية مع الشهيد الصدر وهو في النجف وأخيراً البرقية التي بعث بها الإمام الخميني له طالباً صرف النظر عن السفر خارج العراق ليظل يقود الثورة الإسلامية، ممارسات ربما كان خلفها من يدبّر مكيدة بحق الشهيد الصدر للقضاء عليه لأنه يشكل حجر عثرة في طريقهم إلى دفة الحكم والسلطة أو المرجعية في العراق، ولا ندري من هم الذين استطاعوا إقناع الإمام الخميني بإرسال البرقية وهو عارف بعدوانية هذا النظام وضرورة حماية روح الشهيد الصدر والأيام ستكون كفيلة بكشف الملابسات والواقفين خلفها.

هنا وجد الشهيد الصدر أن الاصطدام مع السلطة لم يعد بالإمكان دفعه لأن تسارع الأحداث وحالة الهلع من انتصار الثورة الإسلامية وخوف الاستكبار من اتساع تأثيرها قد أكد بما لا يقبل الشك أن عدم مواجهة السلطة وتسجيل موقف شجاع للأجيال فإن السلطة سوف لن تؤجل هجومها بعد أن شهدت حالات من التحدي وتصاعد الوعي، يقول السيد الحكيم معترفاً( أن الشهيد الصدر قام في الوقت نفسه بالتنسيق مع بعض قيادات العمل المنظم الخاص في التحرك للمواجهة الجهادية من خلال وجهة نظره لموقع المرجعية والعمل المنظم الخاص، حيث تمت الموافقة على أن يسلم العمل المنظم الخاص على مستوى العراق على الأقل بقيادة المرجعية ويرتبط بقرارها السياسي)[7].

وهذا النص نجد فيه أن السيد الحكيم مكره على الاختلاف بالعلاقة والتنسيق للتحرك الجهادي بين الشهيد وحزب الدعوة الإسلامية لأن هذا الأمر لم تتسع له كل قدرة السيد الحكيم لإنكاره، وواضح أيضاً كيف تعامل مع هذه الحقيقة، فمن جهة لم يطق ذكر اسم حزب الدعوة الإسلامية مكتفياً(بالعمل المنظم الخاص) ومن جهة أخرى يصرف النظر عن الإفاضة في حيثيات ونتائج هذا التنسيق والتحرك على العمل الإسلامي في العراق ليضرب على وتر قد تملك عليه كل أحاسيسه وهو أن يسلم العمل المنظم بقيادة المرجعية ومن جهة ثالثة لا يطيق التصريح بالتنسيق بين الشهيد والدعوة فيقول مع(بعض قيادات العمل المنظم) والواقع أن السيد طلب الدعوة للقاء والحزب بعث من يمثله ولم يتطرق الحديث عن التسليم بقيادة المرجعية المتصدية لأنه من نافلة القول بعدما شهدت عقود من الزمن عمق العلاقة الإيجابية والإشراف المباشر للشهيد الصدر على مسير حركة الحزب ورعايته ودفع المخاطر عنه تارة بالفتوى وأخرى بتشجيع وكلائه لدعوة طلاب جامعة البصرة للالتحاق بالحزب وثالثة برفض إصدار فتوى بتحريم الإنتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية عندما فاوضته السلطة على هذا.

وهنا يقول الأستاذ السيد حسن شبر الذي كان قد التقى الشهيد ليلة 21ـ22/5/1979 قبل احتجازه(رض) بثلاثة أسابيع(نعم نسق الشهيد الصدر معناـ حزب الدعوة الإسلاميةـ في التحرك للمواجهة الجهادية، أما موضوع تسليم العمل للمرجعية فلم يجر حديث به لأن الأمر واضح فإن كان المقصود بالمرجعية هو نفسه بالذات فالقضية منتهية، لأنه معنا بالحزب يتشاور ونتشاور معه ونتفاهم حول العمل دائماً وأما إذا كان المقصود غيره، فلم يكن بالعراق حينذاك من يتصدى للعمل الجهادي من المراجع)[8] وقد أعلنت الدعوة الإسلامية استجابتها المطلقة للشهيد الصدر وكانت البداية طلب الشهيد إرسال وفود البيعة لتكون إعلاناً عن استعداد الأمة لخوض غمار هذه المواجهة.

وتحركت الوفود من مختلف مناطق العراق معبرة عن بيعتها وحبها وولائها للمرجع الشهيد الصدر، وارتفعت الأصوات المدوية في سماء النجف وعلى باب الشهيد الصدر وهو يتهلهل فرحاً بهذه الاستعدادات الجهادية التضحوية في وقت ركن الكثير ممن تحركوا في الخارج إلى الراحة والعزلة والخوف من التصدي.

والحقيقة المؤكدة أن حزب الدعوة الإسلامية من قياداته إلى  قواعده كان خلف وفود البيعة بشكل رسمي وليس كما أراد السيد الحكيم تشويش هذه المفردة الإيجابية في تاريخ حزب الدعوة الإسلامية حينما قال( أن الحزب قد شارك بهذه الوفود) ونقولها بصراحة واطلاع وثيق أن الحزب قاد الوفود بالاتفاق مع الشهيد الصدر(رض) وتحمل المسؤولية الكاملة عنها( وتم تكليف الحاج مهدي عبد مهدي بإجراء لقاء مصارحة مع الإمام السيد الصدر حول الموضوع وخلال الإجتماع الذي عقد بين الجانبين طرح الإمام السيد الصدر على ممثل لجنة العراق مسألتين أساسيتين هما:

1ـ هل أن الدعوة على استعداد للدخول في المرحلة السياسية؟

2ـ القيادة لمن؟ للمرجعية أم للدعوة؟

فكان رد الحاج مهدي عبد مهدي صريحاً وقاطعاً: لسنا بدلاء عنكم و القرار للمرجعية… وفي ختام اللقاء جرى الاتفاق على قيام تنسيق كامل بين الامام ولجنة العراق وعلى عقد لقاءات اسبوعية دورية وفي حال حدوث ما يستوجب عقد لقاءات مستعجلة يتصل الامام السيد الصدر بالشيخ عبد الحليم الزهيري احد كوادر الدعوة في تنظيم الحوزة…).

ان هذا النص يؤكد حقيقة التنسيق بين قيادة الدعوة و الشهيد الصدر هذا ومن ناحية وان السيد محمد باقر الحكيم كان على اطلاع بهذا التنسيق ومع ذلك يحاول التقليل من دور الحزب في حركة الشهيد الصدر.

و حينما بلغت الرسالة إلى سلطات الأمن و الدولة طلب الشهيد ايقاف الوفود والاستعداد للمرحلة الثانية من المواجهة. وتحرك جهاز الدعوة الاسلامية بسرعة تتسابق مع سرعة التصعيد ليجمع المال والسلاح ويشكل الخلايا العسكرية ومباشرة الهجوم على السلطة ويشهد العراقيون تلك المواقف الصلبة والاحداث الدامية التي كان الدعاة في الدرجة الأولى مادتها، وقد بعث الشهيد الصدر من حجزه بما بقي لديه من المال وهو (1025) ديناراً إلى سماحة الشيخ عبد الحليم الزهيري مع جواب على سؤال حول صحة ما اشيع من إن الشهيد الصدر أمر بايقاف العمل الجهادي، فكان جوابه قاطعاً لحزب الدعوة الاسلامية بأنه يجيز العمل المسلح مبرهناً على ذلك بارسال آخر ما بقي عنده من مال و كذّب الاشاعة التي كان خلفها المرجفون الانهزاميون.

ولما اشتدت المواجهة وأصبح الجميع في ضيق وحرج وكان المؤمنون لا يؤون إلى بيوتهم بسبب الملاحقة التي أدت إلى توتر شديد كان السيد الحكيم يومها جالساً على كرسي عند باب بيته الجديد بعيداً عن معاناة المواجهة ومثله الكثير من المتفرجين مما جعل هذه المواقف المهادنة مبرراً كافياً ومشجعاً للسلطة المجرمة في اقدامها على اعدام السيد الشهيد الصدر لأنها أمنت من ردة الفعل.

في ظل هذه الفصول الدامية والنتائج التي باتت واضحة من تخاذل في الداخل وعدم تقديم الاسناد اللازم من الخارج بدأ الشهيد الصدر يفكر بعمل يحفظ به استمرار نهجه السياسي الثوري في قيادة الحالة الاسلامية فكتب بياناته الثلاثة التي شكلت نهجاً سياسياً واضح المعالم وقد وصلتنا النداءات من طرق ليس لها علاقة السيد الحكيم الذي ادعى أنها اودعت عنده ثم بادر (رض) بعمل استراتيجي كبير وهو تشكيل القيادة النائبة لعدم وجود الشخص المؤهل لوحده في خلافة الشهيد في التحرك الاسلامي.

كان السيد الحكيم قد اشترى بيتاً جديداً في أحد أحياء النجف حيث دخل هذا البيت في قصة رفض قبول القيادة النائبة كما أوضح موضوع القيادة سماحة الشيخ النعماني تاركاً بعض التفاصيل لمجال آخر في كتابه سنوات المحنة وأيام الحصار ص310.

11- القيادة النائبة:

كانت الفكرة تعبيراً عن همّ دائم يحمله الشهيد الصدر بلغ ذروته في حالات الاستعداد للمواجهة المسلحة بنفسه وجهده وطاقاته العلمية الأخرى، وبدا للشهيد أن فصول المواجهة التي لم تكن متكافئة بدأت تميل لغير صالح الحركة الاسلامية وأنه أصبح مقتولاً شهيداً ولا رجعة عنده عن المواقف والمبادىء الثابتة التي اتخذها في حواره مع الوفود السلطوية المتكررة والوساطات التي كان يقوم بها بعض رجال الدين المحسوبين على السلطة مثل عيسى الخاقاني وغيره، وتأكد له ان جو الحوزة العلمية والمرجعيات القائمة قد خذلته، ويكفي دلالة على حالة الهزيمة انه ظل وعائلته رهين الاحتجاز والحصار القاسي الذي وصل حدّ قطع الماء والكهرباء وعدم فسح المجال لأحد بأن يوصل اليهم الماء والغذاء اللازم، ولم تبادر مرجعية لكسر الحصار عن مرجع رباني يصطدم مع سلطة ظالمة تستخدم أبشع الجرائم وتنتهك الحرمات والمقدسات، ويستثنى من جو النجف والمرجعية ما كان يقوم به ابن عمه آية الله السيد محمد صادق الصدر من زيارات متكررة خلال الحجز والمرجع السيد السبزواري (رض) بزيارة الشهيد رغم انف قوى الامن المحيطة به حاملين معهم الخبز والغذاء لعائلته التي تتضور جوعاً وألماً.

كما أدرك الشهيد بوضوح ان ليس في الساحة الا اولئك الدعاة والشباب المستضعفون الذي تعلقوا به املاً واعداً ومستقبلاً مشرقاً، فأصبح امام واقع مؤلم لكنه لم يثنه عن التفكير والابداع في تحضير مستلزمات استمرار العمل الاسلامي وديمومة المواجهة التي بدأت فصولها الدامية، فانطلق لعلاج هذه المعظلة على محورين اكد فيهما ايمانه واستمرار ملامح نظريته السياسية وكانت البداية كالختام:-

فكرة القيادة النائبة من علماء يتولون املاء الفراغ القيادي الذي سيحصل عند استشهاده وارادهم اربعة وفي رواية اخرى خمسه طلب منهم ان يرشحوا آخرين ضمن قائمة آخرى طرحهم امام القيادة الرباعية أو الخماسية لاختيار بعضهم  والحاقهم بالقيادة النائبة، وطبيعي ان الشهيد الصدر حينما جعلها جماعية لعدم وجود الفرد الذي يملاً الفراغ الذي سيظل بحاجة إلى مجموعة تتكاتف مع بعضها في هذه المهمة الشاقة.

وقد عرض الفكرة على السيد الحكيم كما ينقلها بطريقة عجيبة سماحة الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه (سنوات المحنة وايام الحصار) فكان أول سؤال منه ما هو موقعي منها؟ فقال له الشهيد:

أحدهم. فرد عليه السيد الحكيم: أنا رئيسهم فرفض الشهيد طرحه وصعق من مطلبه في مثل هذه الظروف التي تستدعي أن ينسى الانسان شأنه ومواقعه لصالح الموقف والمصلحة الاسلامية ويقول الشيخ النعماني (وفشل مشروع القيادة النائبة واصابت الشهيد رحمه الله خيبة امل قاتلة وهم دائم فقد تدهورت صحته واصيب بانهيار صحّي وضعف بدني حتى كان لا يقوى على صعود السلم الا بالاستعانة بي وظهرت حالات لا اعرف كيف اعبر عنها) (سنوات المحنة وأيام الحصار ص310) وتذكر تفاصيل ارخى مفادها ان السيد الحكيم اعتذر عن التكليف بأنه بنى بيتاً جديداً كلفه كثيراً ولا يمكنه ان يفرط به فقال له الشهيد الصدر أنا ادفع لك ثمنه على أن توافق على الخروج والمشاركة.

استمراراً لقناعة الشهيد الصدر بعمل حزب الدعوة الاسلامية حينما كان يعبر عن ضرورته بقوله الذي نقله أحد طلابه في الأحتفال السنوي بذكرى استشهاد السيد الصدر (أن الأمة لا تطير إلا بجناحين المرجعية والعمل الحزبي الذي يعني به الدعوة الاسلامية) ومن هذه الخلفية ولاستكمال الدور والمهمة المستقبلية التي لا تنهض بها الأمة الا بقيادة علمائية وعمل حركي منظم فقد صدرت وصيته الشهيرة التي اكدها سماحة السيد الحكيم مراراً (أوصيكم بالدعوة خيرا فانها أمل الأمة) وقد بعثت مرّة شخصين إلى مكتب السيد الحكيم في طهران وسألاه عن حقيقة الوصية فأكدها لهم بالنص ولكن مع الاسف الشديد نرى في البحث الذي كتبه السيد الحكيم في مجلة المنهاج تحريفاً لوصية الشهيد مؤكداً أنه أكد على (قضية الاهتمام بالشباب المؤمن المخلص المجاهد الذي كان ينتمي إلى التنظيمات الاسلامية كحزب الدعوة الاسلامية أو غيرهم من أبناء الأمة) ثم يمضي في كلامه (حيث أوصى بهم خيراً لأنهم يمثلون القاعة الاسلامية التي يمكن ان تستند اليها الثورة وقد كان يدرك بوضوح الفرق بين موقفهم واستعدادهم للتضحية وموقف بعض العناصر القيادية المترددة) راجع ص 274 في مجلة المنهاج العدد17. يقول السيد حسن شبر في كتابه الرد الكريم على السيد الحكيم ص 89 (ان الحكيم يفرق بين الدعاة والدعوة وهو كلام ما زال يكرره في أن الشهيد الصدر اوصى بالدعاة وليس بالدعوة حينما قال (أوصيكم بالدعوة خيراً فانها أمل الأمة). ان التفريق بين الدعاة والدعوة كلام يدعو للسخرية حقا فالدعاة انما اصبحوا دعاة لأنهم آمنوا بالدعوة فهل يمكن ان يكون الدعاة رجالاً صالحين ولكن دعوتهم باطلة).

وواضح مدى الخلط والتمويه الذي تنفيه الارقام الصريحة الصادرة عنه ذاته وأكدها الشهيد في حواراته ومفاوضاته مع وفود السلطة وكان تحركه الميداني بالتشاور مع الدعوة وواضح أيضاً ان الوصية شكلت احراجاً وحجة عليه ومفادها انه وقع في مخالفة الشهيد الصدر في اطار الوصية بعنوانها الاسلامي الشرعي او بخصوص التناقض الصارخ مع الخط العام لنظرية الشهيد الصدر السياسية التي بناها على قيادة علمائية وحركة اسلامية منظمة هو حزب الدعوة الاسلامية ولم يتمكن بعد نقله وتبليغه الوصية الا ان يجري عليها هذا الترشيق ويفك خصوصيتها ليطلقها عنواناً عاماً يقع ضمن مفرداته الدعاة وليس حزب الدعوة الاسلامية ولنا أن نسأل إذا كان الشهيد(حسب قول السيد الحكيم) قد اوصى بالدعاة فكيف استنتج من الوصية أنها لا تخص القيادات مع ان القيادي هو داعية وأصغر  داعية يحمل نفس الاسم وينطبق عليهم مضمون الوصية ما دامت لا تحمل في نصها تخصيصاً فالحكيم يقول في ص 274 ما نصه (قضية الاهتمام بالشباب المؤمن المخلص المجاهد الذي كان ينتمي إلى التنظيمات الاسلامية كحزب الدعوة الاسلامية أو غيرهم من ابناء الاسلام والذين اثبتوا فناءهم في الاسلام وتعاليهم على جميع الانتماءات الاخرى غير الاسلام وقدموا التضحيات في سبيل القضية الاسلامية حيث أوصى بهم خيراً لأنهم يمثلون القاعدة الاسلامية التي يمكن ان تستند اليها الثورة وقد كان يدرك بوضوح الفرق بين موقفهم واستعدادهم للتضحية وموقف بعض العناصر القيادية المترددة).

وأبسط ما يمكن أن يقال ازاء هذا النص ان الحكيم يحاول من خلاله ان يدق اسفيناً نفسياً خلافياً بين القيادة والقاعدة في الدعوة لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يواجه تيار الدعوة العريض في الأمة. في وقت كانت امامه فرصة الانسجام مع الحزب حتى لا يتحمل المسؤولية المباشرة عن تبعثر الساحة وتمزقها على خلفية حساسيات شخصية وحسابات ذاتية اضافة إلى وضوح ان الدعوة هي التي اتخذت الموقف كما اشرنا إلى ذلك مع مصدره فيما سبق ونؤكد بالنص التالي: (ولمواكبة تحرك الامام السيد الصدر ولاستيعاب التطورات الحاصلة في الموقف اعادت لجنة العراق التأكيد على تعليمات من 60 نقطة سبق وان اصدرتها إلى الجهاز الحربي ومن بين ما جاء فيها 1- جمع وشراء الاسلحة 2- التحريض على التظاهر والاضراب 3- توزيع المنشورات)[9].

وقد قامت الدعوة بتلك التعليمات بعد الاتفاق مع الشهيد الصدر كما هو موضح في محله رغم قلة الامكانات وصعوبة الظروف فيما كان الآخرون منشغلين بهمومهم الشخصية والدنيوية.

ونجد ان لجنة العراق الطارئة المشكلة من سهيل طاهر العلي والشيخ حسين معن وصباح عباس والنقيب المهندس غالب ابراهيم الزيدي قد استشهد كل اعضائها نتيجة اشتراكهم في التحرك فضلاً عن القياديين الآخرين الذين بين سجين وشهيد وشريد.

السرية والمرحلية والشعائر الحسينية

-السريّة:

ان أحد الاشكالات التي وردت في مقال السيد الحكيم يرتبط بالسريّة فهو يقول في المنهاج (ص233_234) مايلي: (حيث كان الامام الحكيم يرى أن القيادة لا يصح أن تكون سريّة في اطار الجماعة التي ترتبط بها وأن ذلك يؤدي إلى احتمال وقوع القيادة في خطر الانحراف أو التأثير عليها من الخارج من خلال ارتباطات مشبوهة أو فاسدة وقد لخّص ذلك في جواب أحد الاستفتاءات بقوله (إذا كانت القيادة سريّة فلا يمكن الانقياد لها لأنها إذا كانت ذكية يخاف منها واذا لم تكن ذكية فيخاف عليها) وهذا التصور ينطلق من نقطة فطرية مبدئية ترتبط بالرواية المشهورة المتواترة: (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) حيث يفهم من هذا الحديث أن (معرفة) المأمومين للامام قضية أساسية في النظرية الاسلامية وذلك انطلاقاً من نقطة سياسية أدركها الامام الحكيم من خلال تجربته ومعاناته السياسية ومراقبته للأحداث التي اجتاحت العالم الاسلامي منذ حركة المشروطة في ايران وحركة الجهاد ضد الانجليز في العراق).

ويرى السيد الحكيم (أن المرجعية اكثر انفتاحا على الأمة ولا تحتاج إلى السرية في تحركها لأنها تملك الرصيد الكافي من الاحترام والقداسة) وهذا صحيح لا خلاف في الأصل انما الكلام في البرنامج العملي الذي تعتمده المرجعية فان كان على النمط التقليدي المبتعد عن السياسة الرافض لأساليبها وآلياتها واهدافها من منطلق القداسة التي تتناقض مع الشائع عنها والذي هو من مخلفات الخدعة الاستكبارية التي استطاعت ان تبعد المسلمين ومراجعنا في بعض المراحل خصوصاً عن التصدي للعمل السياسي الذي هو في ادنى مهامه (رعاية شؤون الأمة)، فلا شك ان هذه المرجعية لا تحتاج إلى سرية او انتهاج المرحلية في تحركها ما دامت لا تشكل خطراً على مصالح الانظمة والاستكبار والفكر العالمي، بل وصل الامر إلى حدّ دعم مثل هذا النمط المرجعي ليكون النموذج الذي يحافظ على الهدوء على حساب حاجة الأمة وكرامتها وسيادة ارادتها وان هذا الهدوء لا شك يوفر افضل الفرص للطامعين والناهبين الذي يخدمهم جو الخمول واللاوعي لأن الوعي السياسي يفضح أساليبهم ويقطع أيديهم.

ونذكر هنا شاهداً على طبيعة العلاقة الهادئة بين الانظمة والخط غير المتصدي، ان القنصل البريطاني في كربلاء كان في جولة مع مترجمه الخاص وسمع الاذان من منائر الامام الحسين (ع) فانتبه بوعي سائلاً المترجم ماذا يقول؟ ولمعرفة المترجم بأبعاد السؤال وخلفياته التي تحذرها الادارة البريانية اجالبه على الفور انه لا يمس سياسة بريطانيا فقال له القنصل اذن دعه يقول ما يقول ما دامت مصالحنا لا تتعرض لخطر.

أما إذا كانت المرجعية تتحمل مسؤوليتها الكاملة باعتبارها القيادة الطبيعية الممتدة والمتصلة بقيادة الائمة عليهم السلام فلا شك انها ستكون متصدية للواقع بمختلف جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية وتشعر بأنها المسؤولة عن أي مظهر من مظاهر الخلل أو الضرر بمصالح المسلمين وعقائدهم وأفكارهم وتدرك بلا شك ان التصدي للأمور السياسية هو المقدمة اللازمة لتحقيق الحماية المطلوبة لكل مفردات المجتمع الاسلامي وحينها ستصطدم هذه المرجعية المتصدية بخطط ومناهج الانظمة الحاكمة من جهة، والمخططات الاستكبارية من جهة أخرى وهنا ستكون امام عدة مطالب ضرورية للحركة ومقدمات تترتب عليها النتائج الكبرى التي تنشدها المرجعية المباركة ونعود إلى اشكال سرية القيادة الذي نشك بصحة صدوره عن الامام الحكيم الذي كان يدرك ضرورة مثل هذه السرية بل أوصى بها قيادة الدعوة حينما التقته وطلبت منه التحرك وهنا نقول:

-إذا كان الوضع السياسي والامني القائم يرصد حالة الوعي والحركة الاسلامية ليجهز عليها وهي في المهد فلابد من اعتماد منهج السرية وتضليل الانظمة لحماية رموز التحرك وخططه ومشاريعه حتى يتجاوز مرحلة البناء والتأسيس وتكوين القاعدة التي ينطلق منها العاملون لاستكمال مشوارهم في بناء الكيان السياسي الاسلامي المنشود على أنقاض الانظمة الحاكمة المعادية وهنا تبرز حكمة الحديث الشريف الذي يؤكد السرية على المستويين الشخصى والاجتماعي (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) فالفرد يعتمد الكتمان في الامور التي يضر بها الاعلان، والمجتمع عليه ان يستعمل السرية ويستعين بها لاتقاء مخاطر الانكشاف الامني او الحذر من وضع البرامج المضادة من الجهات المعادية.

ويزيد القرآن الكريم من ضرورة السرية في اطار نظرية الامن الاسلامي الذي تضمنته اكثر من آية قرآنية أبرزها وأكثرها وضوحاً للمطلب قوله تعالى (واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول والذين آمنوا لعلمه….) وهنا تشديد اكبر على السرية حينما منع القرآن من اشاعة حتى الامن دون العودة به إلى الرسول وأولي الامر الذين يضعون في حسابهم آثار اشاعة الامن في المعسكر الاسلامي حينما لا يكون في محله، او عندما يكون معسكر الكفر يتعبأ لهجمة علىالمسلمين، فالاسلام يمنع نشر الامن قبل دراسة خلفياته وماذا يخفي وراءه وما هي آثاره على تماسك الموقف وجاهزية المواجهه حتى لا ترتخي الاستعدادات المتوثبة للمواجهة لمجرد سماعه امر الامن.

فكيف بأمر الخوف الذي يشكل التحدي الاكبر لتماسك الصف والمعسكر الاسلامي فان اشاعته واعلانه قبل العودة إلى ولي الامر لا شك يعد امراً منافياً لأمن المجتمع واستعداداته النفسية العالية التي تستهدفها اشاعة الخوف الهادفة إلى تحطيم القوة النفسية حتى تحصل الهزيمة المؤكدة في معسكر المسلمين.

فالسرية من منظور التدابير العصرية ليست بعيدة عن التصور القرآني وما تسالمت عليه المجتمعات لأنه أصل في الفطرة والطبيعة الانسانية فكيف إذا كان امر السرية يتعلق بالمشروع الاسلامي الذي ترصده قوى الكفر وتتوثب للاجهاز عليه من خلال مفردات المعلومات المتسربة.

اما اذ كان الوضع السياسي والامني بطبيعته يتيح الفرصة للعمل الاسلامي ولا يحول بين المرجعية ودورها فان استخدام السرية في غير موردها سيكون حتما مضر بالعمل الاسلامي ومقيد له وبالتالي فانه عمل لا يعبر عن حكمة.

ولنعود إلى أنظمة الحكم في العراق البوليسية الارهابية التي تخضع لتخطيط يعادي الوعي الاسلامي ويتجهز دائماً وبدفع ودعم خارجي لقتله في مهده لنرى مدى عقم الاشكال الذي يردده سماحة العلامة الحكيم في اكثر من مناسبة ونسأله وهو عارف بشؤون هذا النظام وتحدياته للعمل الاسلامي هل من الحكمة ان تكون المرجعية او حزب الدعوة الاسلامية حينما يريد التصدي لمهمة انتزاع السلطة واقامة حكومة العدل ان يعملا خلاف السرية ويعلنان الاهداف والبرامج والخطط؟ ولا اعتقد جوابه ولا غيره الا بضرورة الاعتماد على سرية الحركة، واذا كان لابد من الاصرار على شيء فهو سعة وضيق هذه السرية وهنا تكون المسألة خاضعة للتقدير والدراسة بعيدا عن الاشكالات التي يرددها السيد الحكيم عن ان السرية لم تكن مبدأً اسلاميأً، والواقع انها من صميم المبدأية الاسلامية الحكيمة فقد مارسها النبي (ص) وشدد على اصحابه في ضبط السرية وعدم الاستجابه لاستفزازات قريش، وقد مارستها كل القوى والاحزاب والحركات والامم والشعوب والافراد ويمارسها السيد الحكيم نفسه في شأنه الخاص والعام ودعت اليها روايات التقية التي تفوق الحصر.

ونحن نشك في صحة نسبة الرواية المنسوبة للامام الحكيم القائلة (بأن القيادة السرية ان كانت ذكية فيخشى منها وان كانت غبية فيخشى عليها) التي جاءت في دراسته لأن القيادة الذكية عندما تكون اسلامية فلا تضر بها السرية وان كانت غير اسلامية فلا علاقة لها بالموضوع، وهل ذنب القيادة السرية الاسلامية ذكاؤها وما هي الخشية التي يمكن ان تسجل عليها ونعتقد ان المقولة تصح إذا قلبناها وقلنا (ان القيادة الغبية السرية يخاف عليها والقيادة السرية الذكية لا يخشى عليها) ومع ذلك ولتنافي المقولة مع المنطق العملي السليم والحقائق التاريخية والطبيعة البشرية نشك في صحة نسبتها إلى الامام الحكيم والا فانها والعياذ بالله تسيء إلى سمعته ودوره وتعطي تصوراً لا يناسب موقعه رحمه الله، اما قول المعصوم عليه السلام (التقيّه ديني ودين آبائي) حينما يخرج من قيد الفردية إلى فضاء الممارسة السياسية الاجتماعية العامة فانه يكون في حقيقته عملاً بالسرية وحماية للمصلحة وان السرية هنا تكون دينه (ع) ودين آبائه رغم انها اخفاء للحقيقة والتكتم عليها وحمايتها بالسرية عن مخاطر العلنية. يقول الاستاذ السيد حسن شبر في كتابه ص 15:-

وقد تبنّى الشهيد الصدر نفسه الطبيعة السرية لحزب الدعوة الاسلامية وضرورة التكتم على العمل الاسلامي واخفاء عناصره وعدم الكشف عن أسماء وقيادات لئلا يكونوا عرضة للأحكام الجائرة والمطاردة المستمرة من قبل السلطات فلنستمع إلى الشهيد الصدر (الطريقة العامة في عمل الدعوة في هذه المرحلة هي السرية، لأن الدعوة يجب أن لا تبرز الا في الوقت الذي تصبح فيه من الناحية الكمية والكيفية بدرجة من الأتساع والصلابة تجعل من العسير على اعدائها خنق انفاسها والقضاء عليها، والسرية التي نعنيها في هذه المرحلة هي سرية تنظيم الدعوة وسرية الاعضاء والخطط والاجتماعات والتحركات التنظيمية فلا يجوز للداعية ان يكشف للناس وجود الدعوة أو أسماء من يعرف من الدعاة حتى لو تعرّض للأذى والضرر لأنه لا يجوز في الاسلام ايقاع الضرر بالغير حتى لدفعه عن النفس مضافاً إلى ان كشف الدعاة يوقع الضرر بمصلحة الدعوة.أما الافكار والاهداف التي تتبناها الدعوة فليست سرية ولا داعي للتكتم بها[10] وهذا الكلام الهادف لا يتبناه الا من كان كالشهيد الصدر يحمل مشروعاً كاملاً ونظرية سياسية محددة واهدافاً كبيرة تحول دونها انعدام السرية وانكشاف أمر الحزب للأعداء وبهذا تكون السرية المتعلقة بالاسماء والعناوين ضمانة للاستمرارية فيما تكون عملية اعلان الاهداف والافكار عناصر ضرورية لتهيأة المجتمع للتغيير وهكذا كانت المرحلة الأولى من عمل الدعوة سرية الاسماء وعلنية الافكار لكن الاسماء لم تكن سرية على المرجعية المتصدية في الأمة).

أما المقارنة التي اجراها السيد الحكيم بين قيادة الدعوة والمرجعية وان خط المرجعية والعلماء هو الاعلان بينما نجد سرية القيادة تتنافى حسب قوله مع الحديث الشريف (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية،) ان هذه المقارنة لا تخلو من مغالطة اذ ان القياس قياس مع الفارق لأن طريقة حركة المرجعية في العمل لا تتقوم الا بالاعلان لكي يتيسر رجوع الناس اليها لأخذ احكامهم العامة والاسلامية عدا ما يقوم به المرجع من خطط وبرامج إذا كان واعياً فانه ايضا يحتاج إلى السرية في كثير من الاحيان اما القيادة الحركية او الحزبية وخصوصاً في الظروف الصعبة فانها نشأت على أساس مقاومة الظالمين وتصحيح اعوجاج الأمة وتغيير المجتمع ولذلك لابد من اتخاذ التدابير السرية ابتداء من سرية القيادة بشكل مطلق حيث ان القيادة معروفة ايضاً للدوائر المعنية وحسب الضرورة من جهة ومن جهة ثانية:-

ان القيادة الحركية ليست قيادة مباشرة للأمة بمعنى الزعامة حتى يشملها الحديث الشريف (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) لأنها مجموعة مؤمنة تحاول تركيز الاسلام بأساليب متطورة لا يسمح بها الواقع العملي لخشية الانظمة منها ادراكأً منها لخطورة العمل الحزبي ولأن المقصود بالحديث هو رجوع الناس إلى العلماء وهذا لا ينفي رجوع البعض إلى قيادات سرية محلية في طول تلك المرجعية العلنية ونجد ذلك تاريخنا الاسلامي حيث يعين الأئمة بعض المخلصين في مناطق مختلفة وكانوا غير معروفين الا للخاصة من الناس بل نجد ذماً من الائمة لبعضهم حفاظاً عليهم وكتماناً لدورهم من أعين الظالمين (وما اختيار الامام المهدي (عج) للحسين بن روح مع سفيراً له مع وجود من هو أعلم منه الا لعلة قال عنها احد المعصومين (ع) ان الحسين بن روح لو قرض بالمقاريض لما ادل على مكان الامام (عج) وهذا يؤكد وجود ما يقتضي السريّة كما يؤكد ان حماية السر مقدم على غيره من الكفاءات).

هذا كله طبعاً إذا كان الحديث ناظراً إلى قيادة العلماء فان التفسير المشهور لهذا الحديث هو رجوع الناس إلى الأئمة عليهم السلام والى خصوص الامام الحجة عليه عجل الله فرجه الشريف.

-المرحلية:

وبصدد المرحلية يقول السيد الحكيم في دراسته في مجلة المنهاج ص252_253 مايلي: (الأمر الذي انتهى إلى قيام الامام الحكيم بزيارته إلى بغداد للمواجهة، وقد تردد الحزب في القيام بعمل سياسي في هذا المجال، واكتفى بمراقبة الاوضاع، وبعد ضغط الصدر والعلامة السيد مرتضى العسكري وغيرهما من العناصر المؤثرة على الحزب أستجاب جزئياً في أول طريق، ثم عدل عن المواجهة بدعوى الالتزام بمنهج المرحلية).

والمرحلية هي الاشكالية الثانية التي صب عليها سماحة السيد الحكيم جام غضبه وتمرد عليها، ولكنها في الحقيقة مرتبطة وجوداً وعدماً بالسرية في بعض جوانبها، وان النهج المرحلي الذي رفضه السيد الحكيم وحمّله والعاملين به مسؤولية التخلف في تحقيق الاهداف التي ادعى في مكان آخر ان الامام الحكيم (رض) كان يسعى لتحقيقها لولا رفض حزب الدعوة الاسلامية ومرّة أخرى إلى مرجعيته هذه التي تعجز عن الحركة حينما يرفض حزب طالما ادعى السيد الحكيم انه ضعيف جماهيرياً مقابل قوة المرجعية عاد وسلم السيد الحكيم بنهج التدرج والعارف بدلالات الالفاظ لا يجد فرقا في دلالة كلّ من المرحلية والتدرج ما دام الانسان يحتاج إلى الانتقال من مرحلة إلى اخرى إلى عمل تدرجي او مراحل يقسم عليها العمل علماً بأن حزب الدعوة الاسلامية عبّر عنها فعلاً بالمرحلية والتدرج وحينها لا تبقى قيمة للاشكال. ولكن السيد الحكيم قال في مكان آخر ص276 عن المرحلية أنه: (تجاوز فكرة المرحلية في العمل الثقافي والسياسي والجهادي والايمان بفكرة التدرج في العمل).

وتوضيحاً لقيمة المرحلية نقول:-

1- أنها طبيعة الاشياء التي يمارسها الانسان في حياته اليومية حينما يرحّل ويؤجّل بعض شؤونه لارتباطها بمقدمات يجب تحقيقها ليضمن النتيجة وهذه سياسة في السوق والمعمل والبيت والمدرسة والعمل السياسي.

2- في العمل السياسي الذي يتعارض مع الانظمة والحكومات الطاغوتية تعني المرحلية ذات مفهوم اعداد القوة بقولة تعالى:-

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) واذا كانت المعركة العسكرية تحتاج إلى السلاح والمال والرجال فان عملية الصراع وتحقيق النجاح في المهام السياسية يلزمه أساساً تهيئة المادة التغييرية لتحضير الانسان المتغير بها ومن ثم الشريحة الاجتماعية الواسعة القادرة على مواجهة ردة الفعل وتحمل مشاق العمل السياسي وان قوله تعالى (ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عدّة) تمثل المنطق الطبيعي لنهج المرحلية في كلّ عملية انتقال او تحول من حالة إلى اخرى ليس على مستوى الفرد بل حتى على مستوى الجماعة فالخارج في سفر له عدته والمتصدي للظالم له عدته والذي ينزل إلى السوق له عدته فكيف لا يحتاج السياسي إلى عدّة المواجهة السياسية.

3- عندما يكون العمل يتعرض حال كشفه في ادواره الأولى إلى خطر الاجهاض والمحاصرة سواء الامنية منها او المخطط السياسي المعادي لها، فان المرحلية والسرية في مثل هذه الحالات التي تحكم غالبية النشاط السياسي الاسلامي تعتبر ضرورة واجبة وليس رغبة طارئة لا ضرورة لها سيما إذا توقفت المصلحة الاسلامية عليها فانه يجعل مخالفتها عرضة للاشكال الشرعي.

واذا عدنا إلى المرحلية في حزب الدعوة الاسلامية نجدها قد التزمت الجوانب الثلاثة فهي تسير على النهج الطبيعي للأشياء في الحياة وهي ضرورة تمليها السرية والاستعداد والتهيأة لمادة المواجهة قبل الدخول في أتّونها، ونضيف اليها انها تمسك بسيرة المصطفى (ص) عندما التزم نهج التربية والاعداد لاصحابه في صدر الدعوة الاسلامية كمقدمة ضرورية تلزم تكوين الكتلة المتغيرة بقيم ومفاهيم الرسالة الجديدة ليخوضوا غمار مواجهة عنيفة من اجل انتصار الرسالة التي يؤمنون بها.

ولا ندري كيف يتحدث سماحة السيد الحكيم عن النظرية السياسية عند الشهيد الصدر ويوجه سهام نقده وغضبه على مفردة المرحلية التي صاغها الشهيد الصدر كمفردة أساسية في مشروعه الشمولي وهو الذي وضعها كقاعدة اساسية في سيرورة حزب الدعوة الاسلامية وضمن الرؤية التي حتمت اختيار هذا السبيل على ضوء معطيات الواقع السياسي السلطوي من جهة والنضج الاجتماعي المفقود في الأمة حينذاك من جهة اخرى.

وختاماً: نقول ان الحكم على مفردة المرحلية بعد اربعين عاما دون التمييز بين واقع الامس واليوم لا شك يقع في الخطأ وذلك لانعدام تشابه العوامل والظروف المحيطة بتحرك الدعوة حينذاك والتحرك الاسلامي اليوم.

وقد وجدت مناسباً نقل الخطاب الذي تقدم به الاستاذ السيد حسن شبر على شبهة المرحلية التي اوردها السيد الحكيم حيث يقول: ان الشهيد الصدر هو الذي تبنّى المرحلية في عمل الحزب وهو الذي كتب موضوع (المرحلة الأولى من عمل الدعوة) في النشرة المركزية لحزب الدعوة الاسلامية فنحن وأنت نعرف ان هذا الموضوع كتبه الشهيد الصدر رحمه الله وكان يتبناه. أما إذا ادعيت ان الشهيد الصدر قد غيّر رأيه في ذلك فلم يثبت لدينا. هذا أولاً، ثم نقول لأخينا الحكيم ان معلوماتك غير دقيقة في معنى المرحلية، فانت تتصور ان هناك فصلاً كاملاً بين طبيعة مرحلة ومرحلة اخرى… ليس الامر هكذا، فالمرحلة الأولى (التغييرية) تبقى مع جميع المراحل الاخرى، حتى لو تم استلام الحكم، فالانسان لابد أن يتغير من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم ومن القعود إلى الجهاد وهكذا…

وهذا التغيير لا تختص به مرحلة دون اخرى، وما لم يتغير الناس لا يستطيعون ان يحكموا مجتمعاً اسلامياً (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

ثم أن المرحلية في جهادنا شرط موضوعي تفرضه ضخامة هدف الدعوة وتواضع امكانياتها، فالعمل التغييري الهادف لا يمكن تحقيقه في الناس دون التمرس بعمل الدعوة في خطوات يتلو بعضها بعضا.

والسبب في ذلك:-

– ضرورة استكمال الفئة المغيرة للحد الادنى من مقومات البناء الذاتي اللازم كماً ونوعاً.

– صعوبة تقبل المجتمع للتغيير دفعه واحدة.

– العقبات التي يحدثها اعداء التغيير والتي تستدعي زيادة طاقة الفاعلية والاستمرار لدى القوة المغيرة.

وتختلف المرحلية في التحول والتغيير الاجتماعي باختلاف القدرات التي تملكها الفئة المغيرة، وطبيعة الاهداف التي تعمل لها وحجم القوة المعارضة التي تقف في طريقها والحقبة الزمنية التي تمر على المجتمع والفئة العاملة لتغييره.

ان ادنى نظرة إلى جهاد الانبياء عليهم السلام ترينا كيف كانوا يتدرجون في عملهم لتحويل الناس وتغييرهم برسالة الله تعالى وكيف كانوا يتقيدون بالتدرج والمرحلية.

وقد التزم الرسول (ص) بهذه الحقيقة وطبقها جيداً حيث صدع بدعوته المباركة على ثلاث مراحل:-

الأولى:- بناء النواة الطليعية من المتغيرين بالاسلام والذين يتحملون أعباء المسيرة، وكان طابعها سرياً في أكثر أشخاص الدعوة، ودامت ثلاث سنوات.

الثانية:- مرحلة التبليغ العام والتفاعل مع المجتمع في صراع فكري وسياسي مرير، وكان طابعها علنياً في أكثر أشخاص الدعوة ودامت عشر سنوات.

الثالثة: مرحلة تأسيس الدولة الاسلامية والمجتمع الاسلامي في المدينة وخوض الصراع الكامل مع اعداء الدعوة وتحرير أوسع بقعة ممكنة من المناطق المحيطة بالدولة وضمها اليها.

اتصور ان هذا كاف للتعرف على طبيعة المرحلية التي يتبناها حزب الدعوة الاسلامية.[11]

هذا في اصل المرحلية اما في صغراها فان المتابع لعمل الدعوة يجد انها حتى في المرحلة الأولى كانت تسبق مرجعية الإمام الحكيم قدس سره لأن السيد كما أسلفنا كان لا يؤمن بضرورة التحرك حتى بالقيام بالاحتفالات او التصدي لبعض المفاهيم الزائفة الا بعد الاقناع فان المرحلة كانت غير منسجمة مع جو مرجعية السيد فكيف يدعي السيد محمد باقر الحكيم بأن مرحلية الدعوة كانت عاملاً من عوامل تعويق عمل وتحرك الإمام الحكيم والكل يعلم بأن نشاطات السيد الحكيم الراحل قدس سره خارج نطاق المرجعية كان كله بفعل الدعاة وما انشاء المكتبات الدينية للامام الحكيم المنتشرة في مناطق العمل العراقي الا شاهد على تحرك الدعاة الواعي.

-الدعوة والشعائر الحسينية:

ويحاول السيد الحكيم ان يسيء إلى سمعة الدعوة من خلال عنوان الشعائر الحسينية ويقول في ص283 ما يلي: (كانت بعض أوساط العمل الحزبي تعمل في مجال النشاطات باعتبار ذلك فرصة للكسب الحزبي، وأحياناً وسيلة لنشر الوعي الثقافي في الأمة، ولا تؤمن بأن هذه النشاطات أساسية ومركزية وخصوصاً ذات الطابع السياسي منها كما أنه كانت توجد بعض المبادرات العامة للعمل الحزبي مثل مواكب الطلبة ولكن الهدف منها لم يكن التعبئة السياسية بقدر ما كانت تستهدف ايجاد البديل الثقافي في مجال الشعائر الحسينية، وهو مضمون ثقافي).

لا شك ان المشروع التغييري الشامل الذي وضعه الحزب نصب عينيه وفي قمة اهدافه يحتاج إلى ملاحقة للكثير من الممارسات والافكار الدخيلة على الاسلام والتي أصبحت جزاءاً من العقيدة العامة للمجتمع، واذا كنّا لا نريد المبالغة بالقول ان يداً خفية كانت وراء اتساع وتعمق هذه الممارسات فان الجهل وغياب الوعي وعدم تصدي ذوي الامر لافراز القيم والممارسات والظواهر السليمة من المتخلفة هو المسؤول عن كل الأضرار التي لحقت بتماسك المجتمع الإسلامي وأعاقة نهوضه. ومن أبرز هذه الظواهر هي الشعائر الحسينية التي ارادها أهل البيت (ع) ان تكون حاضناً للوعي وقيم الثورة على الظلم وليس تخديراً للوعي ورضا بممارسات متخلفة لم تكن قطعاً من اهداف الإمام الحسين عليه السلام.

وحزب الدعوة الاسلامية الذي نهض بقوة الفكر الواعي للشهيد الصدر قد تصدى لهذه الممارسات بالتوجيه الهادىء والنقد الذي يتناسب مع الحال والمستمع ثم بالممارسة التي ارادها ان تكون نموذجا ومثالاً لعملية احياء مناسبات أهل البيت كما اهتم بالمنبر الحسيني وكان الدعاة الخطباء ابرز من يرقى المنبر ليوجه هذه الوسيلة الهامة والآلية المقدسة أفضل توجية لتحقق كامل الغرض الذي ورد في حديث الامام الصادق (ع) (احيوا امرنا رحم الله من أحيا امرنا) وكان ذروة اهتمام الدعوة الاسلامية بالمواكب والمسيرات الحسينية حينما تبنت بالكامل ودون مساهمة من احد مواكب الجامعة التي اشركت الشريحة الطلابية الواعية وطلائع المجتمع بمسيرات حسينية منظمة وبشعارات هادفة شكلت تحولاً نوعياً في هذا المجال، ولا شك والعارفون بأوضاع الساحة يدركون ماذا تعني هذه المواكب عند السلطة التي جاءت لمواجهة النهوض والحركة الاسلامية فعبأت وهيأت لمواجهة المسيرات ومنعت انطلاقها في وقت لم يكن مع الدعوة الاسلامية احد لديه الاستعداد الكافي للوقوف والمشاركة في الدفاع.

والى جانب مواكب الجامعة فقد أسست الدعوة الاسلامية مواكب الطلبة في المحافظات والاقضية والتي ظلت مستمرة على وتيرة مواكب الجامعة حتى بعد ان توقفت الاخيرة.

ولكن لا ندري وما هو دليل السيد الحكيم بادعائه من خلال أحد نصوصه ان الحزب اوقف مواكب الجامعة لأنه لا يهتم بالشعائر الحسينية، واذا كان كذلك فلماذا بذل كلّ هذه الجهود وواجه كلّ التحديات وماذا اراد الحزب ان يقول عن هذه المواكب وما هي المهمة التي حققتها وانتفت الحاجة منها؟ هذه الاسئلة تحتاج إلى اجابة من الإمام الحكيم، لأن الحزب الذي اطلقها ارادها لتحقيق امرين: -الأول هو مهمة احياء امر الحسين عليه السلام الذي هو احياء لامر المسلمين وتفعيل لمسؤوليتهم الشرعية على هدي مسؤولية الإمام الحسين (ع) التي دفعته للتضحية بنفسه واصحابه واهل بيته ليلقى الله بما عمله به بنو امية به.

والثاني هو اعتمادها وسيلة تغييرية وتعبوية وسياسية في آن واحد لتكون البوابة التي تحشد فيها الأمة بوعي لتحمل مسؤولياتها في الدعوة إلى ممارسة الشعائر الدينية وفق ما اراده أهل البيت ولمواجهة الطغاة الذين يريدون بابعاد المسلمين عن شعائرهم هذه ابعادهم عن أي دور في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية.

فتوقف مواكب الجامعة لا ينكر احد دور السلطة فيه والمتابعون يعرفون أن السلطة بعثت قبل المناسبة من انزل اللافتات التي رفعها الحزب تحضيرا ليوم المسيرة كما يعلمون دور حزب السلطة في اشاعة اجواء الرعب في اوساط الجامعات واثارة النعرات الطائفية، كما هددت من يذهب إلى كربلاء بالعواقب الوخيمة وهكذا كانت النتيجة بتوقف المواكب اضطراراً وليس رغبة كما يقول سماحة السيد الحكيم الذي كان واحداً من الذين شعروا بالخوف من المشاركة في هذه المواكب بسبب بعدها السياسي وتحديها للسلطة.

الامام الحكيم والشهيد الصدر وحزب الدعوة الاسلامية

الإمام الحكيم وحزب الدعوة الإسلامية:-

قلنا في الحديث عن الشأن السياسي للفترة المشتركة بين مرجعيتي الامام الحكيم والشهيد الصدر ان الامام الحكيم لن ينقصه حمل هم الاسلام وحب العمل والعاملين في سبيله ولم يدخر جهداً في دعمهم وتأييدهم وكان (رض) رغم كبر سنه وموقعه يستبشر خيراً ويتهلل فرحا للقاء الشباب الجامعي ومناقشة شؤونه والاجابة على تساؤلاته، وحقا ان مرجعيته (رض) بقدر ما عشتها كانت نقلة نوعية في مسيرة حركة المرجعية في العراق. فقد ازدهرت الحركة الاسلامية في ظل مرجعيته وكانت فتاواه صريحة بجواز الانتماء إلى حزب الدعوة الاسلامية حينما يسئل حتى بعد فراغه من صلاة الجماعة في الصحن الحيدري الشريف او عندما يستفتى رسمياً وما زال الدعاة الذين دخلوا حزب الدعوة الاسلامية بجواز من الامام الحكيم موجودين أحياء[12] ولم يكن حرصه على دعم الدعوة الاسلامية لأنها على مذهب اهل البيت فقط انما فتح ذراعه للاحزاب الاسلامية الاخرى فقد استقبل قادة الحزب الاسلامي في العراق الذي أسسه مجموعة من شباب ابناء (العامة) رغم ان حكومة عبد الكريم قاسم قد امتنعت عن اجازته وهذا يكفي ان يكون شاهداً على رعاية اكبر واشمل لحزب قادته من العلماء وبعضهم من حاشيته واولاده ووكلائه الذين يعتمدهم أساساً في حركته المرجعية كآية الله السيد العسكري والشهيد الشيخ عارف البصري والشهيد الصدر والاستاذ عبد الصاحب دخيل وقائمة طويلة تشكل عماد مرجعية الامام الحكيم (رض) ولا ينسى ان هؤلاء العلماء من الدعوة الاسلامية كان لهم الفضل الكبير كما له (رض) في كلّ خطوات عملية او انفتاح على الواقع وكانوا يطلبون منه المزيد ولكن ظلت حالة التردد تقلص فرص الحركة فجولة الامام الحكيم على المحافظات العراقية وسفره الى بغداد ومجيء وفود الزائرين في عمل استعراضي امام السلطة والمكتبات والكلمات التي تلقى باسمه في الاحتفال المركزي بمناسبة استشهاد الامام علي وغيرها كانت من تخطيط هذه الثلة وموافقته رحمه الله، فالكلمات كان يكتبها الشهيد الصدر بقلمه الشريف مثل الخطاب الذي القي في الصحن الحيدري يوم 27 صفر عام 1389هـ والذي حدد الامام الحكيم فيه موقفه العام من الاوضاع السياسية، وكذلك نص المذكرة التي اريد تقديمها إلى حكومة الانقلاب 17 تموز في الايام الأولى، وجولة الامام الحكيم إلى سامراء، واستقبال ضريح العباس (ع) والسفر التاريخي لحج الامام الحكيم.

كلّ هذه الانجازات كانت من صناعة الشهيد الصدر (رض) والدعاة معه مما يعطينا ايجابية العلاقة وعمقها حتى أن أحداً لا يشك يوماً بصدور أي موقف من الامام الحكيم يضر بالدعوة الاسلامية التي كان على دراية بها ومعرفة تفصيلية بقيادتها وافكارها.

يقول المرحوم الحاج صالح الاديب احد مؤسسي الحزب ان الامام الحكيم رفض في احدى السنين ان يشترك بكلمة في حفل كربلاء بمناسبة استشهاد الامام علي (ع) فذهبت اليه اسعى لاقناعه وتغيير رأيه، وكان إشكاله رحمه الله (ما الفائدة من هذه الاعمال وما هي نتائجها؟) فكنت اجيبه بأن ثمار هذه الاعمال هم هؤلاء الشباب الذين يترددون على بيتكم ويصلون خلفكم ويتحركون لخدمة الاسلام في المساجد والجامعات، وقلت له ما هو البديل لخدمة الاسلام إذا اوقفنا مثل هذه المناسبات والاحتفالات، فاقتنع بسرعة وامر احد اولاده بالمشاركة باسمه والقاء الكلمة السنوية نيابة عنه.

ويقول آية الله العسكري ذهبت إلى الامام الحكيم اناقشه حول ضرورة اقامة الحكومة الاسلامية وكلما جئته بدليل من القرآن والسنة جاءني بدليل ضده واستمر الحوار طويلا حتى عاد الامام الحكيم ثانية يقدم لي ادلة اضافية على ما قدمته من ادلة له وكلها من القرآن والسنة.

وحينما ذهب وفد من حزب الدعوة الاسلامية يوم 9/6/1969 إلى الامام الحكيم الذي يتألف من العلامة السيد الشوشتري والسيد حسن شبر والحاج الشهيد عبد الصاحب دخيل والسيد داود العطار والشهيد ابو حسين السبيتي…. يعرضون عليه فكرة التحرك ويطالبونه بالتصدي ويعلنون عن استعداد حزب الدعوة الاسلامية للتحرك ومواجهة حزب عفلق قبل ان يستفحل امره لأنه جيء به لمواجهة الحالة الاسلامية، ولا شك ان استقرار الاوضاع سيمكنهم من المبادرة إلى تحركات ضد مرجعية الامام الحكيم وحركة الوعي الاسلامي قال كلمته المشهورة التي قد لا نرتاح لها كموقف فى تلك الفترة الا انها تنهض شاهداً على اكثر من حاجة قد تلاعب بها قلم التشويه والتحريف (لا، لا، لا اريد ذلك، ينبغي ان يكون حزبكم مكتوماً أي مخفياً)[13] ولا شك ان ارادته هذه تعبر عن حرصه على سلامة الحزب من جهة وعدم اشكاله على ان يكون الحزب سريا في هيكليته وقيادته مما يقدم الدليل الداحض للادعاء الذي نشك بصدقه وهو خشيته من القيادة السرية التي ادعى صدورها عنه سماحة السيد محمد باقر الحكيم، ويعبر كلامه رحمه الله ايضا على رغبته في استمرار الحركة التغييرية ويخشى من الدخول بهذه الثلة في مواجهة مسلحة والذي كنا نأمله ان يستجيب الامام لطلب التحرك ويوظف عناصر القوة في مرجعيته والدعوة الاسلامية ويقطع الطريق على هذه العصابة وينقذ العراق وشعبه من هذا النفق المظلم الطويل.

وتمر السنون ويدعي سماحة العلامة محمد باقر الحكيم ان الحزب رفض التحرك مع المرجعية والواقع، وحينما وقع ما كان الحزب يخشاه وبدأت عملية التحرش بالامام الحكيم نفسه من قبل شذاذ السلطة، التقى الشهيد السيد مهدى الحكيم بالشهيد الحاج عبد الصاحب دخيل وقال له هذا وقت الحركة ولمن تريدون الحزب فكان رد الشهيد الدخيل (قل لوالدك لماذا يرفض ان يصدر فتوى او يتحرك فالأمة لا تعرفني انما تعرفه وتعمل برأيه ونحن على اتم الاستعداد) ومن العدل ان نذكر ان الحزب حينها لم يكن بتلك القوة الكافية التي تستغني عن غطاء المرجعية لتحركه ولكن وكما اشرنا سابقاً ان هكذا صراع لم يكن في برنامج ونظرية الامام الحكيم لأنه يعتبر اقامة الدولة ليست مسؤوليته إنما مسؤولية نشر التدين وارشاد المعنيين بالأمر وقد وردت نصوص تؤكد هذه الرؤية عنده اضافة إلى ما سجلته مرجعيته من تردد وضعف وتحاشي المواجهة وما انعكس على مطالبه من السلطات الحاكمة التي كانت تدور مدار الاصلاحات الجزئية لجوانب من قوانين الدولة.

يقول حسن العلوي: قبيل انقلاب 17 تموز طلب الدكتور احمد عبد الستار الجواري من حميد الحمداني الذي كان عضوا في نقابة المعلمين ومني أن نصطحبه لزيارة المرجع الكبير الامام محسن الحكيم في الكوفة، دار الحديث مع المرجع الكبير حول فكرة تغيير النظام بشكل عام وسبر موقف المرجعية وكان جواب السيد الحكيم عاماً ولكنه قال:- انه لا يريد سفك الدماء وليس له سوى ارشاد المعنيين بالامر إلى الصلاح وليس له ان يعطي رأيا بحديث لم يعرف خيره من شره) ويضيف العلوي:- (ان حديث الجواري يدور مع الامام الحكيم حول تدين البكر والتزامه بحدود الله ورغبته بان لا يفعل شيئا لا ترضاه المرجعية.[14] وكلام الجواري كذب للتزلف وتمرير الوقت.

.هذا بالاضافة إلى نص الفكيكي الذي مرّ ذكره.

وان كان النصان قد وردا عن رجلين كانت لهما علاقة بحزب البعث لكن الاعتماد عليهما يأتي من باب تكميل الصورة التي كان يعرضها الامام الحكيم مع حزب الدعوة الاسلامية او التي طبعت مرجعيته (رض).

ويأتي شك الإمام الحكيم بقدرة الأمة من شواهد تاريخية اكدت على حالة التراجع في المهام الكبيرة كثورة العشرين ويأتي الرد من الشواهد التاريخية التي انجزتها الامة وما زالت معطاءة كما في الثورة الاسلامية الايرانية حينما احسن الامام الخميني (رض) مخاطبتها أو كانتفاضات رجب وصفر وأخيراً شعبان التي فجرها الشعب العراقي في مناسبات مختلفة وذلك نتيجة حتمية للجهود التي بذلها الشهيد الصدر وحزب الدعوة الاسلامية.

الشهيد الصدر وشبهة الانسحاب:

وقد يكون من نوافل القول الإسهاب في الحديث عن دور الشهيد الصدر في تأسيس حزب الدعوة، واسهامه في كتابة الأسس الفكرية له، ورعاية جلسات قيادته، فهذا دور لم يخف على أحد بعد مرور هذه الفترة الطويلة وازاحة الستار عن هذه المعلومات التي أُميط عنها اللثام بعد فترة عصيبة.

ولا أظن أن اثارة هذه المسألة مما يزعج حزب الدعوة وقواعده التنظيمية خاصة في ظل تأكد بقاء دعم الشهيد الصدر للحزب من خارج التنظيم حتى آخر فرصة في حياته الشريفة ترك وصيته المعبرة عن امله وأمل الامة بحزب الدعوة الاسلامية، وفي ظل تأكد تراجع الشهيد الصدر عن فتواه التي سيأتي الحديث عنها، بل وفي ظل وصاياه في دعم الحزب مما نقله عنه تلميذه المقرب منه السيد محمود الهاشمي وفيما نقله على لسان الشهيد الصدر : (أوصيكم بالدعوة خيرا فانها امل الأمة) كما يؤكد الحكيم نفسه.

وعلى اية حال، فقد اتخذ الشهيد الصدر في العام 1962 قراره بالانسحاب من قيادة الحزب، وقد فسر ذلك بتفسيرات ثلاثة:

الأول: وهو يرجع انسحاب السيد الشهيد من الحزب الى الضغوط التي مورست عليه عبر الوسائط وعبر الاشاعات، وقد بلغ اشدها في لقاء حسين الصافي مع المرجع الديني السيد محسن الحكيم، وعلى اثره طلب السيد الحكيم من ولده الشهيد مهدي الحكيم والسيد الشهيد الصدر الانسحاب من الحزب والتعامل معه من خارج التنظيم. كما اكد ذلك محمد الحسيني في دراسة له نشرت في كتاب (الامام الشهيد الصدر –دراسة مسيرته ونهجه)ص235.

الثاني: وهو وان كان لا ينكر هذه الضغوط ودورها الا انه يرجع سبب الانسحاب الى شك الشهيد الصدر في دلالة آية الشورى التي بنى عليها مشروعية الحزب، اذ يرى الشهيد الصدر – على لسان احد المقربين- ان لا مبرر له للدعوة لقيام الحكومة الاسلامية، ومع الشك في دلالة الآية فلا مبرر للحزب اصلا ولذلك خرج الشهيد الصدر من الحزب واستحصل لهم على إجازة من الشيخ مرتضى آل ياسين ( وهنا يجب الالتفات الدقيق لمستوى الحرص والحماية التي أبداها الشهيد الصدر فهو حتى حينما يواجه مواقف الضغط الصادرة من الامام الحكيم واجواء الحوزة يوكل مهمة رعاية مباشرة لخاله المرجع الشيخ مرتضى آل ياسين (رض) فأنّي هو الموقف السلب والقطيعة التي يدعيها السيد الحكيم).

الثالث: ويرجع ذلك إلى إيمان الحزب بضرورة تفرغ الشهيد

الصدر إلى الحوزة للتحضير للمرجعية الواعية، خاصة مع تخوف القواعد الواعية من الفراغ الذي قد يحصل بعد الامام الحكيم الذي تميز بوعي سياسي واجتماعي ورعايته للعمل الاسلامي خصوصاً، والنشاط الاسلامي عموماً رغم عدم وضوح نظرية سياسية محددة.

وهذه التفسيرات بمجموعها تنتمي إلى القائمين على هذه التجربة والشهداء عليها، فهم اللبنة الاساسية في الحزب وفي العمل الاسلامي عموماً ولذلك لا يمكن التقليل من شأن تفسير أحد هذه التفاسير أو نفيه، انما البحث في صديقة بعضها على نحو ينفرد عن التفاسير الاخرى، وفي ضوء المعطيات التاريخية المتوفرة لدينا.

وقد يصلح الأول والثالث لتفسير الانسحاب وهو أمر معقول ولكن مع وجود التفسير الثاني لا يمكن الغض عنه، الا انه يبقى عاجزاً عن الوفاء ببعض الاشكاليات والاجابة عليها لأننا نعرف أن تأسيس الحزب من وجهة نظر الشهيد الصدر كما هي المعطيات الموجودة لدينا تستند أساساً إلى مشروعية الدعوة إلى الاسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إلى عدم الدليل على حرمة مثل هذا العمل على حد تعبير الشهيد الصدر نفسه ولا تستند إلى دلالة آية الشورى. نعم استفاد الشهيد الصدر من صيغة الحكم وشكله في هذه الآية، واستفاد الشكل الشوروي في اتخاذ القرارات والقيادة الجماعية للحزب ومع الشك في مثل هذه الدلالة يحصل بالتأكيد شك في صديقة هذه الأسس التي نظّر لها الشهيد الصدر، وهذا هو ما ذكره الشهيد الصدر في رسائله إلى السيد الحكيم كما هو منقول في بعض الفقرات عند السيد الحكيم في بحثه المذكور، ولا يتسرب هذا الشك إلى ضرورة العمل للاسلام أو في طبيعة أو آلية هذا العمل لأنه لم يبن أساساً على هذه الآية.

وهذا ما يفسر بقاء مشروعية الحزب عند السيد الشهيد الصدر ودعمه من خارج التنظيم، اذ مع الشك في مشروعيته فما هو المبرر للتعاون معه ودعمه؟

وهذا التنظير الذي نذكره لم تستبعده الأدبيات السياسية، اذ ورد في صحيفة (لواء الصدر) الناطقة بأسم السيد محمد باقر الحكيم أن الشهيد الصدر وبما أنه اسس التنظيم وارتبط به بسبب مشروعية قيام الحكومة الاسلامية، فانه مع الشك في دلالة هذه الآية يشك في أصل جواز بقائه داخل التنظيم، لا على أساس أن التنظيم حرام، بل على أساس أن مبرر وجوده كفقه في التنظيم قد انتفى.[15]

وفضلاً عن ذلك فان شك الشهيد في دلالة الآية سبق زمنياً الحملة المسعورة عليه والتي دفعته شكلياً إلى الانسحاب من القيادة، كما هي تواريخ الرسائل إلى السيد الحكيم كما ذكر الشهيد السيد مهدي الحكيم في مذكراته ص20_41 وما أفاده بعض مؤسسي الحزب، فلماذا تأخر خروجه حتى الحملة عليه؟!

هذا ويشير السيد محمد باقر الحكيم إلى أن الامام الحكيم كان قد طلب من الشهيد الصدر والسيد مهدي الحكيم الخروج من الحزب معللاً ذلك بارتباطهما بالمرجعية، فكيف تزامن الشك بمشروعية الحزب وطلب الامام الحكيم من الشهيد الخروج من التنظيم؟! مع أن السيد محمد باقر الحكيم يذكر أنه انما خرج من التنظيم بداعي الاشكال الشرعي والشك في دلالة الآية المشار اليها شأنه شأن الشهيد الصدر، مع أن السيد مهدى الحكيم يذكر أن السيد الحكيم كان قد طلب منه ومن السيد محمد باقر الحكيم الخروج من الحزب بالعنوان الثانوي، والتعاون معه من الخارج، كما جاء في حديث خاص مع الحاج مهدي عبد مهدي في 20/7/1994.

هذا بالاضافة إلى أن خروج الشهيد من الحزب وكفه وامتناعه عن كتابة افتتاحية (الأضواء) كان في فترة واحدة، وعلى خلفية الضغوط التي مورست من بعض الأوساط في الحوزة، وكأن تنسيقاً موحداً بينها وبين حملة حسين الصافي كما يشير اليها الشهيد الصدر نفسه.

كما أن بقاء دعمه للحزب من الخارج! إلى درجة معها لا يعرف احد الوجوه البارزة في الحزب آنذاك وهو (الشيخ علي الكوراني) بخروجه من قيادة الحزب، ودعمه للأضواء واشرافه على كتابة الافتتاحية نفسها عبر اعطاء فكرتها للشيخ محمد مهدي شمس الدين ليكتبها بدوره، يوحيان بأن خروجه وامتناعه عن الكتابة كان بسب الضغوط الشديدة التي مورست ضده وخاصة من الحوزة، ومن أسماهم الشهيد الصدر بالمقدسين؟!! ومن جهة وجد الشهيد الصدر (رض) ان الاستجابة ظاهرياً للضغوط لدفع الاحراجات لم يؤثر بعد على مسيرة الحزب بعدما اخذ شكله وبعده العملي في الساحة.

ولعل أخطر فصول حياته السياسية هو فتواه بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية إلى الاحزاب الاسلامية ومنها حزب الدعوة الاسلامية في وقت حرج كان يواجه فيه بعض قيادي الحزب الاعدام.

ولسنا الآن بصدد دراسة مبرراتها فلها محل آخر، خاصة مع ضيق هذه السطور لاستيعابها، انما المهم الاشارة إلى تجاوز الشهيد الصدر لهذه الفتوى بعد انتصار الثورة الاسلامية وتكثيفه اللقاءات مع قيادة الحزب وتمنيه عليهم تنظيم أمورهم، خاصة في العمل خارج العراق، على نحو يستبعد معه بعض العناصر التي لم تكن محل رضا الشهيد الصدر، وتحديداً الشيخ علي الكوراني والذي تمّ استبداله بالمهندس محمد هادي السبيتي الذي مثل حزب الدعوة في الخارج وقد أعلم الشهيد الدعوة أنه افضل للدعوة.

وفضلاً عن ذلك تراجعه الكلي عن فتواه وفقاً لما نقله عنه السيد محمود الهاشمي بعد لجوئه إلى ايران، بل والتعبير عن انزعاجه فيما بعد من الخلاف بين الدعوة وبين بعض تلامذته في ايران واستغرابه من ذلك كما نقله عنه السيد عبد العزيز الحكيم الذي كان على اتصال بالسيد الشهيد، وقد أبلغ ذلك إلى الشيخ عبد الحليم الزهيري وهو يزمع الرحيل إلى ايران والخروج من العراق.

وعن هذا الامر يقول آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه (مباحث الاصول ص100_102):

(كتب حينئذ رسالة إلى استاذنا الشهيد، استفسره فيها عما هو المقصود الواقعي عن هذه الكلمة، فذكرت له: ان المحتملات عندي أربعة:-

1- ان يكون المقصود بهذه الكلمة لحاظ مصلحة في أصل ذكرها ونشرها كتقية (وعلى حد تعبير علماء الاصول تكون المصلحة في الجعل).

2- ان يكون المقصود بهذه الكلمة اولئك العلماء والطلاب المرتبطون بمرجعيتكم وان اقتضت المصلحة ابرازها على شكل العموم.

3- ان يكون المقصود بهذه الكلمة فصل طلاب الحوزة العلمية في العراق عن العمل الحزبي درأً للخطر البعثي الخبيث عنهم، الذي يؤدي إلى ابادتهم.

4- ان يكون المقصود بها فصل جميع الحوزات العلمية في كل زمان ومكان عن العمل الحزبي الاسلامي (وعلى حد تعبير الاصوليين تكون القضية قضية حقيقية وليست خارجية) وعلى الاحتمال الاخير يكون تعليقي على هذه الكلمة:- ان هذا الأجراء سيؤدي في طوال الخط إلى انحراف الحركة الاسلامية الحزبية عن مسار الاسلام الصحيح نتيجة لابتعادهم في اجوائهم الحزبية عن العلماء الاوائل.

فكتب لي (رضوان الله عليه) في الجواب:- اني قصدت المعنى الأول والثاني والثالث دون الرابع.وكان هذا كله قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران.

اما بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، فقد عزم الاستاذ الشهيد _ رحمه الله _ على تصعيد معارضتة لحكومة البعث في العراق ونزوله إلى الميدان بشكل سافر نسبياً، وبهذا لم يبق مورد لمسألة الاهتمام لدرء الخطر البعثي الذي كان احد ملاكات تلك الكلمة (أعني فصل الحوزة العلمية عن العمل الحزبي) فان الحوزة العلمية الواعية ستقع لا محالة وجهاً لوجه امام السلطة الجائرة، والخطر محدق على أي حال. وفي هذا التاريخ جاء السيد الهاشمي حفظه الله إلى ايران، واخبرني بأن السيد الاستاذ بعث على احد الوجوه البارزة آنئذ لحزب الدعوة الاسلامية وقال له فيما قال:- ان كلمتي التي اصدرتها حول انفصال الحوزة عن العمل الحزبي قد انتهى أمدها).

وها هنا تتكثف الاحداث مما لا يسعنا الخوض فيها كلها، الا اننا نشير إلى أنها كانت الذروة في مشروع الشهيد الصدر، وتصعيده العمل ضد النظام الحاكم ومطالبته بالحقوق المدنية والسياسية للشعب وتحكيم القانون، وبما انتهى اليه موقف النظام الغاشم من اعتقاله ووضعه في الاقامة الجبرية ثم اعدامه، في عملية مدروسة.

مقارنة بين مرجعية الامام الحكيم والشهيد الصدر:

لقد أجرى سماحة السيد الحكيم مقارنة بينهما كانت نتيجتها قطعاً لصالح مرجعية والده الامام الحكيم على حساب مرجعية ودور الشهيد الصدر، واذا كنا لا نشك بدور مرجعية الامام الحكيم وخدمتها للعمل الاسلامي.

مهما حاولت الاقلام والاهواء ان تنال من الحقائق فانها تظل اكبر من الشبهات واعمق من ان تنالها اصابع التشكيك، واذا كانت هذه القناعة ضرورية بحكم الواقع فان بعض خصائص مرجعية السيد الحكيم (رض) تظل حائلاً دون بلوغ المستوى الذي تفرضها المصلحة العليا وتؤكدها تطورات الاحداث وتسارعها. في العراق فخصائص مرجعية الامام الحكيم التي تختلف تماماً عن مثيلاتها في مرجعية الشهيد الصدر (رض) هي:-

1- ان الامام الحكيم يحب العاملين للاسلام وينفتح على الشباب منهم ويفرح بهم حينما يراجعونه في امور تخص حياتهم ودارستهم وتكليفهم الشرعي، لكنه يختلف عن الشهيد الصدر (رض) كان يحمل للشباب مشروعاً تغييرياً بدأ مرحلياً واختزن الثورة على الواقع الفاسد، وكان له منهج تفصيلي لاعدادهم تتكامل في اطاره فقرات التحرك وفق نظرية سياسية واجتماعية محدّدة، فيما تظل مرجعية الامام الحكيم رغم انفتاحها على العاملين انها تفتقد النظرية والمنهج والرؤية المستقبلية الواضحة لاعداد الشباب.

2- ان الأمة قد احبت الامام الحكيم واعلنت انقيادها له فكانت امة تبحث عن قائد لكنها لم تعثر عليه بسبب اختزان الامام الحكيم عدم الثقة بتحركات الجماهير مستشهداً بنماذج يعتبرها سلبية من ممارسات العشائر التي شاركت في ثورة العشرين وظل يستعيدها كلما طلب منه التحرك، واذا اقتنع مرّة بالتحرك فسرعان ما يتراجع متذرعاً بعدم صدقية الجماهير وعلى خلاف ذلك فان مرجعية الشهيد الصدر كانت قائدة قائمة بدورها وتبحث عن الجمهور الذي يبادلها الثقة والطاعة ولأنه لم يبلغ من العمر والشهرة المرجعية ما بلغه الامام الحكيم لم يتحقق له ما اراد من جمهور يتحرك معه ولكن الأمة ظلت تختزن في وجدانها قائداً صادقاً حتى اصبح رمز الحالة الاسلامية دون غيره.

3- ان مرجعية الامام الحكيم ولعلها بسبب وجود الحاشية غير الواعية كانت تستجيب للضغوط وتستدرج من قبل الماكرين كحسين الصافي الذي دبّر مع حزبه العفلقي الذي ينتمي اليه مكيدة اخاف فيها الامام الحكيم على مرجعيته من جهة وحذره من مغبة النتائج التي تترتب على بقاء السيد الشهيد الصدر والشهيد السيد مهدي في حزب الدعوة الاسلامية، ورغم ان الامام الحكيم قد نهره بقوة وقال له انت لست احرص على الاسلام والمرجعية من السيد الصدر، الا انه في النتيجة استجاب لرغبتهم وحقق ما ارادوا، أما الشهيد الصدر (رض) فقد كان ممسكاً بزمام موقفه وقراره ولا يشاور الا الدعوة الاسلامية لثقته بها لذلك كان مستعصياً على الاستدراج وعصياً على الضغط وأذا استجاب بقدر يسير فلم يكن إلا تدبيراً لتجاوز ازمة او لتمرير عاصفة تقتضي المصلحة الاسلامية مثل هذا الموقف وختم حياته بما نقل عن صلابة موقفه ولاءاته التي اطلقها بوجه محاور السلطة (لا احرم الانتماء إلى حزب الدعوة ولا اجيز الانتماء لحزب البعث ولا امتدح السلطة ولا اصدر بيانا ضد الثورة الاسلامية).

4- مرجعية الامام الحكيم التي كانت لا تتسع الا لمطالب اصلاحية عامة لم يكن بوسعها آلياً ان تستوعب المشروع الصدري الذي يتحرك وفق منهجية التغيير والاعداد لتحقيق السلطة الاسلامية، ولذلك يبقى ادعاء السيد محمد باقر الحكيم، الذي يقول (ان انتصارات مرجعية والده ودورها السياسي الواعي هو الذي شكل بداية للتحول في نظرية السيد الصدر نحو فكرة المرجعية الموضوعية) والواقع ان المرجعية الموضوعية قبل ان يعلنها الشهيد الصدر مطلباً له هي مفردة في خطته ومشروعه الشامل، لأنه يحسب أنها الوعاء الحقيقي الذي يمكن ان تتحقق به الاهداف التي وضعها نصب عينيه.

ومن هنا فان وعاء مرجعية الامام الحكيم لم يتسع لآفاق تفكير وتخطيط الشهيد الصدر، وعندها لا يبقى جدوى لادعاء الالتحاق بمرجعية الامام الحكيم كهدف نهائي وآلية مفضلة لمشروع وطموحات الشهيد الصدر، ولعل السبب الاكثر وضوحاً هو تناقض الرؤيتين والآليتين اللتين تتحرك بهما هذه المرجعية وتلك، والسبب الآخر ان خطوات المنهج والمشروع كانت تصاعدية لا تثنيها صعاب المواجهة وقرار الشهيد الصدر حازم حاسم في ضرورة انهاض الأمة حتى لو احتاجت عملية اعادة ارادتها وثقتها بنفسها إلى حزمة من الدماء الزكية لتحدث الفعل الذي أحدثه دم الامام الحسين (ع) وكان دمه (رض) رخيصاً جداً في هذا الطريق.

وان وضوح الهدف والرؤية والتحديات جعلت مشروع الشهيد الصدر تتصاعد وتيرته دون تراجع لعدم وجود الحاجة إلى اعادة النظر او الشك في صحة الخط والمسير.

5- ومما يسجل على مرجعية الامام الحكيم انه (رض) كان يهم بالاقدام على المواجهة وكان يؤلمه وجود السلطات التي تحول دون ارادة الأمة وتطبيق الشريعة، ولكنه سرعان ما يتراجع ويعود إلى حالة اليأس واستذكار الاحداث التاريخية لتكون مبرراً للتراجع او الابتعاد عن المواجهة لحقن الدماء تارة وعدم اقحام المرجعية في امور (لا يعرف شرها من خيرها) تارة اخرى. ومثال على الاقدام ثم التراجع ما نقله الاستاذ السيد حسن شبر في قضية المنشور الذي تقرر اصداره لشجب ممارسات السلطة تجاه الأمة والمرجعية وتصعيد المواجهة معها:

(وهنا اضطرنا الحكيم إلى جولة اخرى معه اذ ينعى على حزب الدعوة الاسلامية انه لم يصدر منشوراً يشجب موقف السلطة من مرجعية السيد الحكيم عندما اتهموا نجله المرحوم السيد مهدى بالجاسوسية.

اذ يقول السيد الحكيم نصاً: (ففي مثل هذا الظروف لم تكن القيادة في التنظيم الخاص (ويقصد حزب الدعوة الاسلامية) على استعداد لاصدار منشور يشجب هذا الموقف من السلطة تجاه الأمة والمرجعية، بل ولا لتوزيع منشور أبسط من ذلك).

ثم يذكر اموراً بهذا الصدد في الهوامش المتعلقة بهذا الموضوع.

وفي كل ذلك تجني عظيم ونسيان للجميل، ولست استبعد ان اخانا لو رجع إلى ذاكرة التاريخ التي يقول فيها في الصفحة 228 من المنهاج نفسه (وقد كتبت هذه الاوراق _ على الاكثر _ اعتماداً على الذاكرة والمشاهدات).

نعم لو رجع الحكيم إلى ذاكرته وأنصفنا في مشاهداته لكان له كلام آخر.

والآن فاني اذكر هذه القصة فأنا الشخص _ السيد شبر _ الذي ذهبت من قبل حزب الدعوة الىٍ بيت الامام الحكيم رحمه الله، عندما كان في الكوفة بعد الحادثة الاليمة ولقد كانت داره محاطة بعيون الأمن، ولكنني ذهبت إلى الدار من الجهة الخلفية من الأزقة، ودخلت الدار وخرجت منها دون ان يشعر احد بذلك.

وعرضت على نجله السيد محمد باقر فكرة المنشور والتي كانت بمبادرة من الحزب، وذهب السيد إلى غرفة اخرى (لعله شاور اباه المرحوم في ذلك) ثم اعطاني مائة دينار فقط لطبع وتوزيع المنشور في ارجاء العراق.

والمنشور طبع (بآلة الرونيو) وكان منشوراً شديد اللهجة، يشرح للأمة طبيعة الهجمة الشرسة التي تعرضت لها المرجعية المتمثلة آنذاك بالسيد محسن الحكيم.

وبدأنا بتوزيعه، وكان اول ما وصل المنشور إلى البصرة ثم جاءنا الامر من الجهة التي استلمنا منها المائة دينار ان لا ننشر الا الدعاء المستل من دعاء الافتتاح (اللهم انا نرغب اليك في دولة كريمة..) وليس دعاء الفرج كما يقولون.

ويؤيد ذلك ما يقوله المرحوم السيد مهدي في مذكراته المسجلة وليست المطبوعة (فالمطبوعة تختلف كثيراً عن المسجلة) اذ جاء فيها (وهذا الدعاء ليس دعاء الفرج سيدنا، وأنا أذكر ان السيد قال خلّي ينشرون (اللهم انا نرغب اليك…) هذا الذي قاله السيد).

ولكن الحزب لم يوزع مثل هذا المنشور لاعتقاده بأنه لم يكن في مستوى الحدث والهجمة التي تعرض لها الامام الحكيم.

وأن المنشور الذي يتضمن دعاءً فقط يعتبر موقفاً ضعيفاً تكون نتائجه سلبية اكثر مما كانوا يتوقعون.

اما المئة دينار فلم نرجعها لأننا كنا قد صرفنا قسماً منها في الطبع يضاف إلى ان ارجاعها يوقعنا في خطر.

ولعل ذلك هو الذي أغاض اخانا الحكيم.

هل صحيح كانت هذه القصة يا أخي؟

ثم ألست أنت الشاهد فيها؟)[16]

دور الحاشية في تحجيم دور الإمام الحكيم:

رغم ان السيد الحكيم (رض) قد اعتمد على اولاده في ادارة الكثير من شؤون المرجعية الا ان بعض النافذين في حاشيته قد حازوا الدرجة الأكبر من الرضى والقبول فالسيد ابراهيم الطباطبائي اليزدي كان نفوذه في حاشية السيد الحكيم (رض) يثير العجب والحيرة، يضعنا أمام سؤال كيف ولماذا وبماذا حاز هذا الموقع وأثر هذا التأثير البالغ ليصبح رأيه نافذا في كل مفردة من برنامح الإمام الحكيم (رض). وقد اشرنا سابقا ونؤكد ثانية أن الإمام الحكيم تدفعه الغيرة على الإسلام وحب العاملين ورغبة في الانفتاح على الشباب الا اننا سرعان ما نجد ظاهرة التردد والتراجع سيدة الموقف وملازمة لمرجعيته (رض) ولعل السبب المباشر هي هذه الحاشية التي كانت اخطبوطا تجاوز حدود النجف ومهام المرجعية فيها ومما يذكره السيد عبد الحمزة الموسوي والشيخ الشكري شاهدا على تأثير هؤلاء على قرار الإمام الحكيم وفتواه ان اثنين من الشباب المؤمن ارادا مفاتحتهما بالانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية فارادا رأي السيد الحكيم بهذا الشأن وذهبا لسؤاله بعد فراغه من الصلاة عن جواز الانتماء إلى مثل هذا الحزب ف اجابهم رضوان الله عليه بجواز الانتماء وبدون تردد ولكن احد المرافقين المراقبين على سماحة الإمام الحكيم استشاط غيضا ولحق الشابين بعد ما انصرفا وقال لهم تعالا غدا واعيدا السؤال لأن السيد لم يفهم قصد كما ولم يكن ملتفتا ويقول السيد الموسوي كنت شاهدا على الموقف ولم اشهد أي حديث دار بين سماحة الإمام الحكيم وبين هذا الشيخ الرقيب انما اندفع وكأنه ينطلق من مهمة موكولة له وفعلا جاء الشابان في اليوم الثاني فوجدا العكس في جواب السيد الحكيم وعند التدقيق اتضح ان ضغط الحاشية وتخويفها للسيد من ان يكون هذان الشابان من الأمن العراقي وأن هذه مسؤولية تؤثر على مرجعيتك كان هو الذي غير ظاهرا قناعة السيد تحت عنوان التقية والرص على المرجعية.

وشاهد آخر على وعي الإمام الحكيم وتطلعاته الواسعة أنه بعث السيد طالب الرفاعي ممثلا له  في مصر وعندما عاد السيد الرفاعي إلى النجف انفرد به الإمام الحكيم ليسمع منه تقريرا عن مهمته في مصر وبينما هما مجتمعان والإمام الحكيم مصغيا دخل عليهما السيد اليزدي وقاطع الحديث موجها سؤاله للسيد الرفاعي: هل نجحت في جعل المصريين يسبون الخلفاء؟ فرد عليه السيد الرفاعي ان مهمته لم تكن هذه انما التعريف بمذهب اهل البيت (ع) في تلك الأوساط التي تجهله وتتهمه.

وقبل أن ينهي السيد الرفاعي كلامه توجه السيد الطباطبائي اليزدي إلى الإمام الحكيم وقال له قم هذا الكلام لا ينفع وفعلا قام معه تاركا جليسه دون توديع أو اعتذار.

وهذه الحادثة تضعنا أمام تطلع عند الإمام الحكيم نحو مرجعية تغطي أوسع المساحات وتتابع كل التفصيلات لكنها محاطة بحاشية تحوم حولها علامات الاستفهام ولم تنتج لمرجعية الإمام الحكيم (رض) الا التردد وعدم الحزم وغياب الرؤية الواضحة وظلت هكذا لأنها لم تضع حدا لتدخلات هؤلاء كما فعلت مرجعيات ذات استراتيجية واضحة وضعت حدا لتدخل الحاشية ولم يؤثر عليها أحد من حاشية أو سلطة ولم يتمكن أحد أن يدس انفه كحاشية في مرجعية حركية ثورية واعية مثل مرجعية الإمام الخميني والشهيد الصدر (رض).

خلاصة وثمرة:

ان المؤكد في مسيرة الشهيد الصدر (رض) أنه اعتمد في تحركه لتحقيق اهداف نظريته السياسية على آلية مزدوجة هي المرجعية الدينية والتنظيم الحزبي سيما حزب الدعوة الإسلامية الذي يمثل عنده املا راوده منذ التأسيس. وبهذه الآلية المزدوجة جمع الشهيد الصدر بين الآلية العصرية التي أكد الصدر أنه يعيش عطاءات العصر ويحسن اختيار الصالح منها وهي الحزب بصيغته العصرية وبين المرجعية الدينية التي تمثل الاصالة والعمق والامتداد.

واستطاع الشهيد تحريك هاتين الآلتين في الواقع في حركة تكاملية متوازنة وفي عملية ترابط في خط طولي لا يتقاطعان ولا يتعارضان فيه، وابقى للمرجعية بعدها القيادي الاشمل والاوسع فيما أراد الحزب ذراعاً وجناحاً تطير به المرجعية والأمة وهي تسعى في طريق النجاح والتصدي والمواجهة.

الشهيد الصدر (رض) لم يقدم على جعل المرجعية حزباً أو يعلن عن تاسيسها للحزب واعتمادها عليه مراعاة للجو الراكد الذي كانت تغرق فيه النجف وغيرها من الحوزات العلمية، ولكن دوره (رض) قد تشابه إلى حدّ كبير مع دور الإمام الخميني (رض) في الموقف من العمل الحزبي، فالشهيد الصدر يؤسس حزب الدعوة الإسلامية ويرعاه ويوصي به، والإمام الخميني يتأسس الحزب الجمهوري تحت خيمته ويعتمد على اجازته في صرف الحقوق ويتصدى لقيادته خيرة حواريي الإمام (رض) وانصاره مثل آية الله بهشتي وآية الله السيد القائد الخامنئي.

هاتان المرجعيتان الحركيتان بذاتهما والمتصديتان لتاسيس العمل الحزبي أو حمايته من جهة أخرى يشكلان تطوراً كبيراً في عملية هدم الحواجز المانعة للاستفادة من آليات العصر في حركة العمل الإسلامي عموماً والمرجعية خصوصاً، وبهذا العمل اعادا خط التواصل الحركي الواعي مع الجو الذي عاشته المرجعية في ايران والعراق في رعايتها للعمل الحركي قبل واثناء ثورة العشرين والتنباك.

وصحيح أن الشهيد الصدر بخروجه عن الجو الراكد والالفة القاتلة لانماط العمل التقليدي المغلق بالف قفل يحول دون معايشة العصر وتطوراته، قد دفع الثمن كبيراً من أولئك الذين ثآروا بوجهه حسداً أو جهلاً أو خوفاً على الإسلام والمرجعية حسب تقديرهم وكانت التهمة والاساءة والعمل على عزلته قد شكلت ضواغط هائلة عانى منها الشهيد الصدر لكنه فككها بحكمته تارة وبتلاحم محبيه ووكلائه معه أخرى وبعمليته المتميزة التي اجبرت حتى خصومه على الاعتراف به تارة ثالثة.

ولكن الصحيح ايضاً أن هذه المعاناة قد انطلق من رحمها الانفتاح على التجارب الحركية حينما توالت حالات التعاطف في اجواء المرجعيات والحوزات العلمية ولم يعد الحزب الإسلامي غريباً منبوذاً كما كان حتى لا نعرف مرجعاً قد اصدر حكماً بتحريم العمل الحزبي لأنه يقع ضمن قاعدة (العمل للإسلام واجب والطريقة مباحة) وهذه طريقة اثبتت التجارب حتى باعتراف سماحة السيد محمد باقر الحكيم نجاحها في تربية واستقطاب الشباب واعدادهم في المهحر.

وجاءت الجمهورية الإسلامية الايرانية ومنذ انطلاقتها الأولى على يد مؤسسها الإمام الراحل (رض) فاحتضنت العمل الحزبي الإسلامي واقرت جوازه في دستور الجمهورية الإسلامية وكان هذا الحدث الكبير قد دفع بالعمل الحزبي خطوات كبيرة على طريق الثبات في ساحة العمل كآلية طبيعية مقبولة بل وضرورية، وقد تطورت ظاهرة الانفتاح على التنظيمات الإسلامية فوردت اشادات بها على لسان الإمام الخميني (رض) ثم على لسان خليفته سماحة الإمام الخامنئي حفظه الله عندما اشاد بدور حزب الدعوة الإسلامية واعلن كامل ثقته به قائلاً: اني لم اعرف حزباً أقيم على اساس الإسلام وخط أهل البيت أفضل من حزب الدعوة الإسلامية.

من هنا فإن هذا التطور والتصعيد في مقبولية العمل الحزبي تعطينا حق استشراف المستقبل الذي لا نستبعد ان نرى مزيداً من احتضان المرجعية الدينية للعمل الحزبي ثم اقراره برنامجاً عملياً لتحقيق افضل نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لاقامة حكم الله.

وهنا ،نؤكد أن الجهود الجبارة التي بذلت على العمل المرجعي لو أعطي العمل الحزبي جزءاً يسيراً منها لتغيرت الكثير من معالم حياة المسلمين الآن وهذه القناعة لم تعد امنية فرد بقدر ما أصبحت حاجة أمة ولا نجد كثير مبالغه إذا قلنا بأن المستقبل قد يرينا مرجعيات تتبنى حزباً إسلامياً تحت ظل المرجع نفسه أو بقيادته بعدما تنتهي دواعي السلبية والقطعية مع العمل الحزبي التي تفتقد إلى الحكمة والدليل المبرر لمثل هذه القطعية أم لم يكن العكس هو الأساس.

خاتمة

هذا الكراس اضاءات واجابات على شبهات اثارها مقال السيد محمد باقر الحكيم في مجلة المنهاج، ولم يكن الهدف هو التصدي لكتابة معمقة للتاريخ لما يحتاجه هذا من جهد ومؤسسات تملك القدرة والاحاطة التي تؤهلها لكتابة ناخبة لتاريخنا تجمع بين التوثيق الأمين للأحداث والتوجيه السليم لحركة هذه الاحداث بما يخدم مسيرتنا الإسلامية التي تظل بحاجة إلى استلهام دائم ودقيق لتجاربنا ومواقفنا في نجاحاتها وانتكاساتها.

ولعل كتابة تاريخ الحركة الإسلامية القريب بكل مفرداته يختزن الكثير مما يثير حفيظة الآخرين وبسبب ارباكا عند البعض فيما يحسبه آخرون محاولة اساءة لهم. ولأننا نشعر بحساسية المرحلية السياسية التي نمر بها واجماع قوى الاستكبار على اسقاط العمل الإسلامي بكل اشكاله وألياته وتحريف مساره لتحول دون تحقيق الأهداف التي تخشى قوى الضلال تحقيقها لأنها ستكون قطعا على حسبا مصالح هذه القوى والدول المستكبرة، لهذه المخاطر وغيرها ابتعدنا ما وسعنا عن تعميق حالة القطعية والسلبية بالحديث عن الكثير مما يعتبر الآخرون اساءة أو نعتبره نحن مخلا مجالة التضامن والعلاقات الإيجابية التي سنظل نبحث عنها بشكل دائم وكنا على الدوام قد بذلنا جهدا جبارا وتحملنا ضغطا هائلا من الآخرين اخوة واصدقاء قابلناه بالصبر والتحمل من منطلق شعورنا باننا أم الولد ونحن الحركة الإسلامية التي وعت مسؤوليتها بدقة وارادها الشهيد الصدر واحدة من آليات العودة الإسلامية إلى واقع الحياة، وقد قدمنا النصائح تلو النصائح وسنظل نقدمها إلى اخواننا الإسلاميين وجميع قوى المعارضة وحركات التحرر حتى لا تنشغل في معارك هامشية هدفها استنزاف طاقاتنا وتحريف مسار قضيتنا عن خطها الصحيح، ومع الأسف الشديد لم نجد اذنا صاغية وقلوبا واعية لمسؤوليتها كي ترتفع إلى مستواها وتصوروا ان المرحلة هي تصفية حساب الآخرين من الشركاء حتى يخلوا لهم المستقبل السياسي في العراق.

ونقدم النصيحة لهم وبالذات إلى اخواننا الذي نعتز بهم ونشترك معهم في خندق المواجهة ان يتركوا نهج الاثارة والاساءة والبحث عن نقاط الاختلاف والتباين ويستبدلوا هذا النهج بمنهج البحث عن نقاط الالتقاء وما يدعم حركة الوحدة في اطارها الإسلامي الواسع، ونعتقد ان هذه الممارسة السيئة واثارة الشبهات الكاذبة لم تنفع اصحابها بقدر ما عادت عليهم بالخيبة وردة فعل الجماهير العراقية التي آلمها اشغال الساحة بالمهاترات على حساب العمل الجهادي الجاد لمواجهة طاغوت بغداد.

وان الواقعية السياسية ودفع حج التحدي وابعاد الصراع وقراءة التجربة بدقة تجعل الجميع امام حقيقة مفادها ان لا أحد يستطيع أن يدعي لنفسه القدرة على الاستغناء عن جهد الآخرين بل أن جمع الجهود وتصعيدها لم يعد كافيا لاسقاط النظام وانقاذ الشعب العراقي بعدما بلغت تعقيدات القضية العراقية حدا جعلها تتداخل مع قضايا اقليمية ودولية، وعليه فليس من الحكمة والرجاحة العقلية والسياسية مع وجود هذا النقص ان ينفق البعض جهده وعقله في اثارة هنا وشبهة هناك لا تنتج الا الارباك والضرر الذي لا يسلم منه جنى مثيرة.

وليعلم هؤلاء الأخوة ان هذا المنهج قد نبذته جماهير العراقيين ووعته بدقة ولم يعد يجدي نفعاً ونصيحتنا لهم بترك هذا المنهج الخاطئ من جهة ولأن الاصرار عليه سيجعلنا مضطرين ومعذورين امام جماهيرنا العراقية حينما نتصدى له ونوقف دعاته عند حد العقل والمنطق.

ولا يفوتنا ان نذكر مثيري الاشكالات والاتهامات ونذكر ابناء شعبنا بان عشرين عاماً من الدعم والاسناد والادعاءات العريضة لم تنتج كياناً وتجربة افضل من تجربة حزب الدعوة الإسلامية بكل القياسات والعطاءات والقدرة على المقاومة والاستمرارية. ويجب على هؤلاء الأخوة أن يتعقلوا حقائق العمل وينفتحوا على تجارب الماضي والحاضر.

وان اعظم مهمة يجب أن تضطلع بها جماهيرنا المعذبة هي نبذ الفتنة وتمزيق الصفوف وادانة دعاة الفرقة واشعارهم بحتمية خسارتهم حينما يستمرون في حركة تتعاكس مع مطالب وحدة الكلمة وتجميع القوة واعداد العدّة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وأن يشعر دعاة الفرقة بان رهاناتهم على اية قوة خارجية في حسم خيار المستقبل رهانات بائسة لأن الكلمة الفصل في زمن الجماهير هي لمن يصنع الواقع بدمه وعرقه ويسترد الحقوق بقوة المنطق والعقل والميدان وليس الركض وراء سراب القوى الدولية التي اثبتت عدوانيتها لكل ما هو اسلامي وتلك فلسطين والقدس الشريف كيف اصطفت اميركا بصلافة مع العدو الصهيوني في سفك دماء المسلمين الفلسطينيين ولم تحترم شعاراتها في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي ذاتها التي لن تحترم الآخرين في قضاياهم، وندعو الجميع إلى العودة إلى الأمة والدخول من بوابة الوحدة واحترام الرأي الآخر والتسابق في طريق الخير بعيداً عن الشر والكيد.

(ان الله مع الذين اتقوا والذين هم مؤمنون)

نوري كامل

[1] المصدر لم يرغب ذكر اسمه.

[2] هكذا قال الصدر في المحاضرة الأولى تحت عنوان( المحنة). ص46.

[3] دروس في علم الأصول ـ مقدمة الحلقة الأولى ص114 طبع مؤسسة اسماعيليان.

[4] مباحث الأصول للسيد الحائري. الجزء الأول: ص162.

[5] المتصرف: يعني المحافظ.

[6] حديث خاص للسيد حسن شبر مع سماحة العلامة السيد العسكري حفظه الله وقد وردت في الرد الكريم على السيد محمد باقر الحكيم ص17.

[7] مجلة  المنهاج ص270.

[8] كتاب الرد الكريم على السيد محمد باقر الحكيم للسيد حسن شبر.ص83.

[9] صلاح الخرسان حزب الدعوة الإسلامية حقائق ووثائق ص 269

[10] – نشرة داخلية لحزب الدعوة الاسلامية كتبها الشهيد الصدر بخط يده الشريفة حول المرحلة الأولى من عمل الدعوة.

[11] – الرد الكريم على السيد محمد باقر الحكيم:- للسيد حسن شبر. ص80.

[12] – كما نقل مباشرة أحد الدعاة.

[13] – نقله بشكل مباشر السيد حسن شبر الذي كان احد اعضاء الوفد.

[14] – الكتاب بقية الصوت: عدنان عبد الامير.

[15] – صلاح الخرسان:- حزب الدعوة الإسلامية، حقائق ووثائق. ص116.

[16] – الرد الكريم على السيد محمد باقر الحكيم:- للسيد حسن الشبر، ص 56.