مالذي يدعونا الى الاحتفال بباقر الصدر سنوياً؟!، اعتقد انه سؤال بات ضروريا الان، واعتقد ان الكثير من الاسباب التي كانت موجودة سابقا قد تبخرت وولت، فيما تبقى خمس عناصر لازالت تدعونا الى تجديد هذا الاحتفاء، وهي:
1- كونه مثل جيل من المثقفين تم اضطهاده من قبل حكومة حزب البعث، وعليه فالاحتفال بالصدر هي ادانة لقمعية ذلك النظام، وشاهد حي على ماتعرض اليه الشعب العراقي في تلك المرحله.
2- كونه مثقف جاد حاول ان يطرح فكراً آخر يعد احد ثمرات فتح باب الاجتهاد.
3- كون الصدر انفتح على ثقافة الاخر فلم يتحجر في ردة فعل رافضه، ولا هو من الذين وقفوا مبهورين لكل ماتقوله الحضارة الغربية (وهو امر نادر بين المثقفين العرب والشرقيين وخصوصا في العراق)، فانت لو حذفت مثلا مااستفاده الصدر من المدرسة الروسية في علم النفس، وما استفاده من البريطانيين والفرنسيين والامريكيين في منطق الاستقراء وفلسفة العلوم، لم يبقى للصدر شيء يقف عليه. لكن مع ذلك لم يكتفي الصدر بهذا الوقوف وانما حاول دائما اضافة اجتهاد خاص به.
4- نحتفل بالصدر ايضا كونه مثقف يطبق كلامه وليس كما اعتدناه من المثقفين العراقيين والعرب والشرقيين، حيث تجد نصاً في غاية الروعة، لكن بجواره جثة نتنه تتحرك.
5- كونه ترك لنا ادانة وصرخة بوجه المؤسسة الدينية، لأنها تركته وحيدا عمليا، وكونها ((فشلت في عقر دارها))، نظرياً.
6- نحتفل بالصدر من باب الاعتراف بالجميل لا لحبره ودمه فقط، وانما ايضا لحبه العميق لشعبه فهو الذي كان يصرخ لوحده في مرحلة الصمت والازمنة الموجعه: ((يا شعبي العراقي العزيز، ايها الشعب العظيم، اني اخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك واكرادك، بسنتك وشيعتك…)). فعلى الرغم من كون العراق مركزا علميا، احتضن العلماء طويلا، فانه لايوجد عالم وجه خطابا اليه واعتمد عليه، وكأنه توجد ازمة ثقة مستمرة بين الشعب ونخبته ورموزه.
اذاً الاحتفاء بالصدر مازال يحتفظ بمبررات عديدة، لكن المسألة الى هذا الحد ليست مشكله، المشكلة هي ان تكون هذه الاسباب دعوى كون الصدر لازال يمثل مشروع ثقافي حي باكمله. وفي اقع الامر ليس مشكلة ان يقول احد ذلك ويبرهن عليه، فهذا سجال علمي يثري الثقافة والنص التنظيري مهما اختلفنا او اتفقنا حوله، وانما المشكلة هي ان الصدر قد تحول في سنينا الاخيرة الى مصدر اساسي للانشاء، وخندق لتفجير لوك الكلام بان الصدر: شهيد.. مظلوم.. عبقري.. الى آخر الامور التي باتت معروفة وواضحه،لاينقش فيها احد (عمليا يتم الاحتفال بالصدر وكأنه النبي او الامام المعصوم فيبدأ الحفل بذكر حياة الصدر وينتهي بكراماته والبكاء عليه). اي وبكل وضوح ان الصدر الان تحول من شخص قام بواجبه على خير اداء، لتفعيل العقل، الى مادة تستنزف العقل وتكبله. لاسيما وان هنالك عدة تحولت نواجها مع تراث الصدر الان مثل:
1- بات واضحاً ان النقد الفلسفي الذي قدمه في ((فلسفتنا)) فيه الكثير من القصور، يكفي ان الصدر الاول وتبعه الصدر الثاني (الذي ليس له من الاهمية كما للصدر ومايجري من حديث عنه هو مجرد مبالغه)، اعتمدا على فهم مصطلحات المدرسة الماركسية على مدرسة ملا صدرا، وهو خطأ فاحش كما ذكرنا في بحثنا ((بين هجيل والصدر)) المطبوع ضمن ندوة مرجع الفكر والميدان (هذا الخطأ وقع فيه محمد حسين الطباطبائي ومطهري وجميع من تعرض لنقد العقل الغربي من لدن اساتذة الحوزة والمؤسسه الدينيه). هذا اضافة الى ماحققه الصدر من تطور سواء على صعيد تعريضه بعد ذلك بمدرسة ملاصدرا في الجزء الثاني من ((بحوث في علم الاصول)) او في نقلته المنهجية في ((الاسس المنطقية للاستقراء)).
2- انه قد بات من البديهيات لدى طلبة فلسلفة العلوم الحديثة اليوم ان طرح باقر الصدر في الاسس المنطقية، هو من الاراء التراثية فقط، حيث تطور الموضوع الى ابعاد اخرى، كان من المؤكد ان الصدر نفسه سوف يغير الكثير من افكاره بسببها فيما لو تركه الطغيان البعثي ان يعيش وتستفيد من الامه.
3- ان مسلكه في التفسير بالاضافة الى انه ثبت الان بعد محاولات عدة من الباحثين عجزه عن امكانية تطبيق كامله على النص القراني، فانه بالجمع بين بحث المدرسة القرانية والجزء الرابع من البحث الخارج ((بحوث في علم الاصول)) يفضي بنا الى تسائل لماذا كل هذا الحرص على النص ما دامة الاولوية للواقع؟! (للتفصيل راجع بحثنا الذي نشرته مجلة التوحيد: التفسير كشف النص ام كشف الواقع).
4- من الواضح اليوم انه لايمكن اعتماد علم الاصول وحده لاستنباط الحكم الشرعي، فمهما كانت نوعية الاضافة من الصدر على هذا العلم (والتي هي اضافة مهما كانت دقتها، فأنهالاتمثل عملية قطع وانما مجرد حلقة وصل جديده)، فان المجتهد اليوم يحتاج الى جملة مساندة علوم اختصاصية اخرى لقراءة النص نفسيا وتاريخويا و..الخ.
5- من الواضح اليوم ان الحوزة والمرجعية سواء جعلناه رشيدة ام لا حسب رؤية واصطلاح باقر الصدر يوم ذاك، فانه لم يعد اليوم من المقبول ان يكون لها حاكمية على المجتمع بتلك المساحة التي كان يتكلم على ضوئها الصدر.
6- تنظير الصدر في علم الاقتصاد بالاضافة الى كون المختصين بهذا العلم يرونه كتابا مدرسيا ابتدائيا، فانه ثبت عجز الاستفادة منه، وايران خير شاهد على ذلك، اذ لو كان الامر كذلك فلم تورط ايران بنوكها ومشاريعها الاقتصادية الى تبني اراء نقيضة، وهي التي تحتاج الى غطاء اعلامي اكثر من اي دولة اخرى، خصوصا وان ايران رحبت بافكار الصدر في البداية مثل كتابة ورقة دستورها الاول، وظلت تحتفل بالصدر حتى آخر السنوات الماضيه؟!
7- قد بات واضحا اليوم ان قرار الشعب هو في الابتعاد عن جميع الانظمة الشمولية بما فيها الدولة الدينية، والتي هي زبدة مخاض ما كان يهدف الصدر اليه.
8- ان المجتمع العراقي (والعربي والشرقي) يبحث الان عن الحكمة الانسانية التي تجمع كافة الاطياف والاطراف في المجتمع، في حين ان جميع كتابات الصدر (مهما كانت درجة انفتاحها وتسامحها) هي كتابات اسلامية، وتحمل هماً تعبويا لذلك، بسبب طبيعة مرحلة الصدر القائمة على التصادم مع الفكر الشيوعي من جهة والفكر الرأسمالي من جهة ثانية، مع التطلع الى بناء دولة دينية شيعية ومحاربة نظام حزب البعث،من جهة ثالثة.
لكن هل يعني ان الصدر استُنفد تماما الان ولاتوجد ثمة فراغات لم تردم بعد في سد عملية القراءة حوله؟!
الجواب: لا.. فلازالت توجد عدة بحوث تمثل اوراق عمل للمثقف الجاد اذكر اربعة منها لمن يريد الاهتمام بها، وترك ثرد الانشاء، وهذه البحوث هي كالاتي:
1- ورقة العمل الاولى تتمثل بالبحث عن مصادر التفكير لدى باقر الصدر ومقارنتها، ومسائلة الى اي حد ينسجم بعضها مع البعض الاخر؟!
2- ورقة العمل الثانيه تقوم حتى على فرض ان تكون جميع افكار الصدر صحيحه ومتجانسه، فكم من هذا الصحيح كله، نافع لمرحلتنا؟!، فبكل تأكيد ان باقر الصدر نفسه لو كان حياً لطور افكاره وغيرها كما هي عادته، فالرجل لم يتحجر بمرحلة معينه (عدا الهم الديني) فلماذا نحوله الى صنم حجري.. خصوصا وان ليس كل صحيح قيل في الامس هو صالح ونافع اليوم؟!
3- بغض النظر عن ذلك كله او معه تبقى ورقة عمل تتمثل في مشروع مقارنة افكار الصدر بما توصلت اليه المدارس الحديثة اليوم لمعرفة:
– كم كان الصدر مستوعباً فعلا من تلك العلوم والافكار التي انتقدها؟!
– لمعرفة كم سارت هذه العلوم وتطورت بعد الصدر، وهل يرد عليها مانتقدها به الصدر في الامس؟!
4- بلا شك ان هنالك جيل تربى وسمن على افكار الصدر وتعرض بعضه للتعذيب، وبعضه فتح مشاريع سياسيه وماليه شخصية او عامة باسم الصدر.. -فكيف تربى هذا الجيل على افكار الصدر؟!
– وهل كان هناك عمل فعلي بهذه الافكار؟!
– هل استوعب الشارع فعلا كلام الصدر فتحرك بذلك الشكل ام انه وجد الصدر مجرد ذريعة لفعل ذلك فقط؟!
– كيف تعامل جمهور الصدر مع محيطه العراقي والعربي والشرقي المختلف معه في الفكر والمنهج.. وكيف تعاملت هذه الاوساط مع جمهور الصدر هذا؟!
وهذه كما ترى بحوث شائكة طرية لم تلمس عذريتها بعدها، تحتاج الى جهد فكري ونفسي حيادي مرهق، كي يستطيع الباحث الخروج منها باجوبة ونتائج معقولة ومهمة تكون سنداً نظريا لثقافتنا المستقبليه… نعم انها عودة الى ذات ماكتبناه في مبحث سابق: ماذا تبقى من الصدر؟!
من الواضح انه منذ انجز العراقيون مشروعهم السياسي الاخير في دعم عملية اسقاط حزب البعث، انفتح الباب عنوة امام المثقف العربي والشرقي من المحيط الى الخليج، حول مفهوم الاصلاح.بات هذا المصطلح هو هم ثقافي فكري وليس ديني او علماني شمولي، كما كان الطرح في السابق. ومنها اضطر المثقف العربي والشرقي ان يقف مجبرا امام اعادة تفكيك وسبك مفهوم ((المجتمع المدني))، بعدما كان الحديث ينصب في السابق على المجتمع الاسلامي والديني.. او المجتمع العربي القومي.. او المجتمع الشيوعي.. او المجتمع…الخ.. ومن هنا لانستطيع ان نحتفل باي مثقف ومفكر (مهما اتفقنا على اهميته او عدمها)، الا بمراجعة كم كان يحمل هذا المفكر من رؤية لهذه القضية الشائكة اليوم؟!، ولكوننا سوف نعقد حلقة خاصة عن اشكالية السياسية والدين، لذا اكتفي هنا بمقاربة الموضوع من هذه الزاوية فقط. وهي زاوية الوقوف على اول نقيض من نقائض المجتمع المدني، اعني ((البداوه)) فنحن اذا اردنا تلخيص رؤية البدوي للحياة ومبدأ منهاجه الفكري في التعاطي معها فان البدوي يستطيع ان يلخص لنا ذلك بالقول:
((الحياة داعره، فتعلم ان تكون شريفاً)).. فالبدوي ينظر الى الحياة نظرة ريب دائما، وهو الامر الذي سوف يؤثر على الرؤية الدينية لذا فهي تنظر الى الحياة والحضارة على انها: سفور.. دعارة.. عيب.. شهوات.. الخ.. وهي جميعا مفاهيم مؤسسة على خلفية المخيال البدوي نفسه اذ لايختلف التقشف الديني عن التقشف البدوي الا اللهم في نوعية الهدف الابعد المدعى لكل منهما، عليه كان البدوي يحرص على مقولة ((الشرف)) كمطلب اساسي وقيمي. والشرف لدى البدوي ليس كما يتقوله المقلدين في البحث الاجتماعي وهواة القراءة، الذين صوروا ان الشرف لدى البدوي هو طوطم جسدي يتمثل بالمرأة والذي يتمزق حجابه عند التحرش بتلك الفتحة المجاورة لميزاب البول عندها.. اذ لو كان الامر كذلك فلماذا يتشاجر البدوي حد الموت عند التحرش بعبائته وعقاله؟!.. قراءة كهذا هي من قبل شخص ينبطح وينظر من الاسفل فيشاهد العورات فقط ويتخيل ان السماء ارض مقلوبه… ((الشرف)) لدى البدوي يتمحور حول ((اصل)) كان يفترض بمن يدعي البحث السيوسيولوجي والاجتماعنثربلوجي، ان لايغيب او يغفل عنه، الا وهو ((القبيله)). فجميع المفاهيم البدوية تتكوثر حول هذا الاصل، منه تخرج واليه تعود.
ابداً لم يكن الجسد هو الطوطم والمحور الذي تتمحور حوله مقولة ((الشرف))، فالقيمة الاولى والاخيرة لدى البدوي هي القبيلة ودرجة الانتماء لها (عقيدة وموقفاً و دماً)، اما ان يكون الشرف طوطم جسدي، فهو لدى الحضر وسكان المدينه. فأذ يقتل البدوي نفسه على ان يكذب ويستخف بعنصر المال مقابل خصال نفسية معينه (الشجاعة.. الهيبه لذاته.. الفحوله.. الفصاحه..الخ)، فان هذه الامور لاقيمة كبيرة لها في المدينه، فلولا الكذب والتحايل لبارت البضائع والسلع، لذا فعنوان ان المرأة هي المحور الاول للشرف هو عقيدة المدينه وليس الصحراء. وحقيقة انه لا وجود للادلة لما في مخيالنا عن عبودية المرأة لدى البدو.. فالبدوية لاتلتزم بخمارها.. وتعمل وترعى الاغنام وتقطع مسافات لوحدها.. بدون ان يكون هذا مدعاة للغمز فيها.. بل انك لو ذهبت الى البدو وصادف انه لايوجد احد من الرجال يستظيفك، فانه يجب على المرأة ان تؤدي لك واجبات الظيافه البدويه والتي هي تبلغ حد النوم في الخيمة ثلاثة ايام، وان لم تفعل البدوية ذلك فانها سوف يلحقها العقاب وتعد مثلبة في القبيلة بكاملها.. ومنها فما هو موجود الان من حكر على المرأة هي خصال لم تكن موجودة ابدا في تاريخ هذه المنطقة وانما بدأت بالظهور بعد الاستعمار العثماني وبعد تلاحق احداث الحرب العالمية الاولى والثانيه، فغدت المرأة في المدينه العربية والشرقية تعاني من اظطهاد لم تعرفه ولم تمر به اي أمرأة بدوية في التاريخ.. لا.. ولا حتى في مجتمعات القبائل البدائية المتخلفه جداً. فبعد الاستعمار العثماني ومن ثم الغربي للمنطقة العربية والشرقية، ظهرت عادات يستحيل ان تنسجم مع حياة البدو الذين تعمل نسائهم في جلب الماء ودباغة الجلود والرعي والمشاركه في افراح ومآتم القبيله. اكثر من ذلك اذ رجعت الى حياة العربان والعرب الاولى حيث المثقف هو الشاعر ويسهل على اي طالب مبتدء مراجعة التاريخ ويحصي كم شاعرة كانت في القبيله، والشعر يستلزم امرين لا اقل: شهرة لاسم الشاعرة وصفاتها (الجسدية والنفسيه)، مخالطة الشاعره للرجال في النوادي الثقافية كسوق عكاظ مثلا.
وهذا يوصلنا الى ان المدينة في الشرق انجبت مفاهيم لم تنجب الصحراء مثلها غلظة وانغلاقا، وان التقهقر في التحرك صوب بناء المجتمع المدني مكبل بعدة رؤى مفاهيمية عائدة لنسق العقل البدوي، وهو امر يتطلب شغل معرفي يفكك فيه المثقف العربي والشرقي هذا الالتباس العملي والذهني بين البداوة والمدينه واين تقع حدود كل منهما، اذ بدون ذلك اما ينتج مشروع التحديث توقف كامل كما حصل في عموم البلدان العربية، او انه يتم التحديث في البنيان والجدران فقط ويبقى المجتمع مجتمع بدوي رعوي كما هي حال دول الخليج الى يومنا هذا.
وحقيقة انه لايوجد لدينا مفكر ومثقف استطاع استيعاب المفاهيم البدوية والحضارية مثل ابن خلدون، فحتى لو اتينا الى آخر المفكرين لدينا، من الذين اشتغلوا على مواضيع المجتمع والدولة، والذي هو محمد باقر الصدر، فاننا سنجد ان ابن خلدون متقدم على باقر الصدر كثيراً وبما لايقاس، فالصدر لايستطيع تقرير اي شيء،بدءا من الفلسفة وحتى منطق الاستقراء، بدون ان يكون الدين هو لباب الامر وجوهره وثمرته، لذا فالمجتمع الحضاري لدى الصدر هو المجتمع الاسلامي الديني والاصل الفكري والعلمي هو مايكون مشتركا في الاستدلال على الدين، وهذا يعني ان اي نوع من المنهج التفكير لايوصل الى المبداء الدينية كوصوله الى المبداء المعرفية الاخرى، هو منهج غير علمي.. وان كل مجتمع آخر غير مجتمع فلسفتنا واقتصادنا والمبدء المشترك للاسس الاستقراء هو مجتمع ((جاهلي))، وعليه _ لازماً _ ان يكون الامر وفق النسق الفكري للصدر هو:ان ماهو مدني هو ديني والذي غير ديني هو غير حضاري بدوي، في حين اننا نجد مثلا ابن خلدون الذي هو متأخر بقرون مديده عن الصدر كان متحررا من هذا الانغلاق الاديولوجي، لذا قدم ابن خلدون شرحا للمفاهيم البدوية والحضارية، لم يقله اي مفكر لاقبله ولا بعده من المثقفين العرب والشرقيين. اذ لو انطلق ابن خلدون من الايديولجيا الدينيه، لكان ابن خلدون فسر البداوة بالتعرب او بالتصحر مثلا، في حين ان ابن خلدون يطلق صفة البدوية حتى على الارياف، وبذلك قدم ابن خلدون فهما عميقا للحضارة والمجتمع المدني لم يستوعبه حتى كتابنا الان الذين هم احوج مايحتاجون اليه الى شرح مفهوم ((المدنيه))، والذي بات مفهوماً ضروريا على ضوء المتغيرات السياسيه في العراق وفي منطقة الشرق عموماً (للتفصيل راجع ماكتبناه في العدد الثالث من مجلة الوعي المعاصر، والبحث الاخر في مجلة قضايا اسلاميه معاصره، العدد الحادي عشر)، ولعله من باب النكاية بالمثقف الحديث والمعاصر، اننا نحن الذي نندد بالتراث والماضي اليوم، لانستفيد الان من اي نص مقدم سوى العودة الى نص ابن خلدون والذي يستحق من اهل العراق خصوصا ( والعرب والشرقيين عموماً) عرض فكره باكثر من ندوة ثقافية وسياسية متخصصه، فاذا كان ((نيتشه)) هو مفكر المجتمع الغربي الخالد المتجدد، فان ابن خلدون هو مفكر الشرق الخالد الذي نستطيع بواسطة ماقدمه من نقد من الانتقال الى ضفة اخرى من حركة التاريخ والحضاره، لكن لا كلوك كلام وكتابة نص على النص وانما يمكن اعادة الافادة الخلدونية من خلال:
1- فرز مانحتاجه من مفاهيم في النص الخلدوني.
2- تسليط مشارطة المدارس النقدية المقارنة على هذا النص.
3- ان تكون النتيجة هي ارساء ثقافة شعبية جماهيرية، اذ يستحيل بناء حضارة ودولة واهلها يقومون بتفخيخها وتفجيرها.
4- ان تكون نتيجة هذه الابحاث هي ورقة عمل لموظفي الدولة يتم تنبيها على انها عمل مشترك بين اهل الحقل الفكري واهل النشاط السياسي والوظيفي، اذ ان مشكلتنا في الشرق انه مهما انجز المثقف من نقد فانه يبقى حبر على ورق لايدخل في تغيير رؤية ونشاط الدولة.
طبعاً لا احد يدعي لنفسه انه الصح لذا يحتاج الى ملف الصدر الى عمل جماعي وليس فردي، لذ اعتقد ان ملف الصدر الان هو احد الملفات التي تتصادم فيها مرحلة ثقافية سابقة ومرحلة ثقافية على وشك الولاده، فهذا الملف كبقية ملفات مشابهه يتلقاها الكثير على انها نوع من الطرد لهم لكونهم لايملكون سوى التسويق للصدر، وهو امر يجعل مثل هذا الملف يختلط فيه ماهو ثقافي بأمور اخرى لاصلة لها بالعلم الا بكونه قناع فتخليد معنى معين لا يتأتى الا بنوع معين من الحروب (راجع بحث: حروب المعنى ومعنى الحرب). لكن بالتأكيد يبقى ماهو شرط بديهي في الاشتغال المعرفي: ان الوفاء للعقل اولى من الوفاء لاي مفكر كان.. وبالتاكيد من الوفاء للصدر الان هو بتقديم بحث جاد يمثل خطوة للامام فعلا (اما الحديث عن صادق الصدر فهو أولى بكل هذا الانتقاد ذلك لكون الرجل مجرد مهمش على كتب الصدر الاول ليس الا، مهما بلغت او قلت هذه الهوامش)، فالعقبة الحقيقة لنا الان هي ذهنية العقل البدوي (وليس الفرد البدوي) بدءا من طبيعة عادات السير والسلوك في الشارع والحياة اليومية التي يعاني منها الرجل والمراة على السواء، حتى طريقة العمل السياسي بين الاحزاب السياسيه.. وسلوكية رجالات الدين ومشايخ المجتمع…. ليس مهما الخطأ والصواب الان بقدر اهمية اننا نحاول ان نخطو خطوة جديدة صوب المستقبل، فالذي لايخطأ لن يصل.. اقول هذا والله العالم.
كتابات – عبد اللطيف الحرز