هناك سؤال كثيراً ما يطرح نفسه خاصة في الاوساط الجماهيرية، ماهي الحصيلة الاكثر فائدة للامة في حياة المرجع الكبير الشهيد محمد باقر الصدر (رض) هل هي الحصيلة التي يمكن استثمارها عبر موقفه الاستشهادي وتحفيز طاقات الجماهير عن طريق استخلاص المعاني النهضوية من ذلك الموقف؟ ام ان الحصيلة المفيدة تتمثل بايجاد الموقف البديل والكفيل بتهيئة الظروف المناسبة لاستمرار تلك الحياة الحافلة والغنية خاصة وان الشهيد الصدر كان قد استشهد بطريقة مفاجئة ومبكرة في الوقت الذي ينتظر منه الشعب العراقي والامة الاسلامية والانسانية المزيد من العطاء والافادة وذلك في ضوء تراثه العلمي والفكري وما ينبئه ذلك التراث من انجازات فكرية لا تقل اهمية عن مؤلفات قيمة كأقتصادنا وفلسفتنا والاسس المنطقية للاستقراء وغيرها من المؤلفات التي يجمع المتخصصون بقضايا الفكر انها تمثل اضافة حقيقية للفكر الاسلامي بشكل خاص والابداع الانساني بشكل عام.
وعلى الرغم من مثل هذا السؤال لا يجيد الاجابة عنه سوى الشهداء انفسهم وذلك في ضوء الادوار التي قاموا بها ولا يفهمها او يجيدها غيرهم.. على الرغم من ذلك الاّ ان الاجابة عليه تمثل مهمة ضرورية خاصة وان السؤال المذكور رائج فعلاً بطريقة عاطفية في اوساط الجماهير وانه يحتل مساحة واسعة من اهتمامها لأسباب عديدة في مقدمتها المكانة الفكرية والعلمية لهذا الشهيد الكبير والتي تمثل تفرداً حقيقياً من الصعب تكراره واستعادته الامر الذي يجعل من فقدانه خسارة لايمكن تعويضها او تجاوزها بسهولة.
وللوصول الى اجابة حقيقية لابد من اجراء قراءة حقيقية للجوانب الآتية من اجل تكوين الصورة الواقعية وبالتالي طبيعة الموقف المطلوب اعتماده من قبل الشهيد الصدر (رض) ازاء التحديات القائمة في تلك الفترة.
1ـ الواقع الاسلامي
2ـ الواقع الجماهيري
3ـ واقع المواجهة بين المرجع الشهيد والنظام الحاكم في بغداد
لقد كان الواقع الاسلامي في نهاية العقد السابع من القرن الماضي يمثل مرحلة خصبة غنية بعوامل الصحوة الاسلامية وقد تجسدت هذه الصحوة على وجه الخصوص في ايران والعراق لأسباب جوهرية من اهمها وجود قائدين كفئين في هذين البلدين الامام الخميني والامام الصدر (رض) ولابد هنا من التأكيد على عمق العلاقة بين الحركتين في هذين البلدين نظراً للعلاقة الحميمة بين القائدين فقد امضيا سنوات طويلة على مقربة مع بعضهما في مدينة النجف الاشرف قبل ان يغادرها الامام الخميني الى باريس حيث كان الشهيد الصدر (رض) دائم الاتصال والتشارو معه حول الامور ذات العلاقة بالثورة الاسلامية وبعد ان اضطر الامام الخميني (رض) الى مغادرة العراق تحت وطأة الضغوط الارهابية من قبل النظام الحاكم في بغداد بادر الشهيد الصدر بارسال رسالة له اعلن فيها عن ثبات موقفه المؤازر والمتضامن معه ومعرباً عن استعداد المجاهدين في العراق لبذل الغالي والرخيص من اجل نصرة الثورة الاسلامية وقد جاء في تلك الرسالة ايضاً انه يضع جميع امكانياته في خدمة قيادة الامام ومن اجل تحقيق اهدافه السامية وقد دأب المرجع الشهيد (رض) على مدى الشهور والاسابيع التي سبقت الثورة على تكريس نشاطاته من اجل تهيئة القاعدة الجماهيرية لاستقبال خبر انتصار الثورة الاسلامية في ايران سواء عن طريق اصدار البيانات او ارسال الرسائل الامر الذي ابقى على قنوات الاتصال مع الامام الخميني (رض) على الرغم من اضطراره مغادرة العراق الى منفاه في فرنسا، وفي ليلة 11 شباط 1979 اي في ليلة انتصار الثورة الاسلامية في ايران القى الشهيد (رض) في مسجد الجواهري في مدينة النجف الاشرف خطبة تناول فيها حدث الثورة وانتصارها شاكراً الله على ما تحقق في ايران الاسلام اما في اليوم التالي فقد دعا (رض) الجماهير لاقامة التظاهرات تأييداً للثورة وبالفعل فقد خرجت مظاهرات كبيرة تلبية لدعوته سواء في مدينة النجف الاشرف او في بقية مدن العراق وقد اقدمت سلطات النظام على اعتقال عدد من المشاركين في تلك التظاهرات وكان ذلك يمثل ايذاناً واضحاً بتصعيد المواجهة بين الشهيد وبين السلطات المذكورة التي باتت تتوجس خيفة حقيقية من تسارع الاحداث وبروز حالة التفاعل بين الجماهير بقيادة المرجع الشهيد وبين الثورة الاسلامية الفتية بقيادة الامام الخميني (رض).
وبعد انتصار الثورة الاسلامية واستتباب الامر لقادتها ورجالها بادر آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر (رض) باسنادها كما كان يفعل قبل انتصارها فألف كتابه القيم «الاسلام يقود الحياة» وهو مؤلف يشتمل على ستة اقسام تتناول توجيه امور الدولة والمجتمع من وجهة نظر اسلامية وقد ارسل ذلك الكتاب الى الامام الخميني كمصدر نوعي تحتاجه الثورة خاصة وانها تختط بداية عهدها كدولة تضطلع بمهام جسيمة.
وفي ضوء هذه التطورات شرع النظام الحاكم في بغداد باعتماد العديد من المحاولات لابتزاز الشهيد وتصفيته جسدياً او فكرياً او سياسياً ومن ابرز هذه المحاولات ارساله وفداً يضم ممثلاً عن الطاغية ومدير امن النجف الاشرف اضافة الى احد المتزيين بزي علماء الدين ويدعى «عيسى الخاقاني» وكان واضحاً ان مهمة ذلك الوفد هي تصفية الشهيد سياسياً كما يبدو ذلك من المقترحات التي تشتمل عليها حقيقية وهي:
1ـ الامتناع عن الاعراب عن التعاطف مع الثورة الاسلامية في ايران وتأييدها بأي شكل من الاشكال سواء عن طريق الرسائل او البيانات والاقرار بأن مثل هذه الامور تخص السلطات الحاكمة فقط.
2ـ الاعلان عن التنديد الواضح بانتفاضة رجب عام 1399 هـ واعتبار المشاركين فيها مخالفين للقانون والنظام.
3ـ الاعلان عن تأييد الانتماء الى حزب البعث الحاكم وذلك عن طريق اصدار فتوى تقوم بنقض فتواه السابقة حول تحريم الانتماء الى ذلك الحزب.
ان قراءة سريعة لهذه المطاليب تؤكد ان الغاية منها لا تهدف كما هو ظاهر الى الابقاء على حياة المرجع الشهيد (رض) بقدر ما تعني دفعه الى مواجهة خيار هو اسوأ بكثير من خيار الموت والاعلام وقد اختار كجده الحسين (ع) اشرف الخيارين ولسان حاله يقول:
الموت اولى من ركوب العار
والعار اولى من دخول النار
هاتف الظاهر