الاستنباط القائم على أساس الدليل
4
التعارض بين دليلين لفظيّين.
التعارض بين الدليل اللفظي ودليل آخر.
الكلام، وتوافق على اعتبار الظهور حجّةً وقاعدةً لتفسير ألفاظ الكتاب والسنّة، وإلّا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
والاستدلال بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن، كما رأينا سابقاً في سيرة المتشرّعة أيضاً؛ لأنّنا إذا حلَّلنا السيرة العقلائية الى مفرداتها وجدنا انّ الميل العامّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيَّنٍ- كالأخذ بالظهور مثلًا- يعبّر عن ميولٍ متشابهةٍ عند عددٍ كثيرٍ من الأفراد تشكِّل بمجموعها ميلًا عاماً، وحين نأخذ فرداً من اولئك الأفراد الذين يميلون الى الأخذ بالظهور- مثلًا- ونلاحظ سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق ميله يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذا قرينةً ناقصةً على حجّية الظهور عند المولى؛ لأنّ من المحتمل أن يكون هذا السكوت نتيجةً لرضا المولى وموافقته، وهذا يعني الحجّية.
ومن المحتمل في نفس الوقت أيضاً أن لا يكون السكوت ناتجاً عن رضا المولى بالأخذ بالظهور، وإنّما سكت عن ذلك الفرد- بالرغم من أ نّه لا يقرّ العمل بالظهور في الأدلّة الشرعية- لسببٍ خاصٍّ، نظير أن يكون المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على وفق ميله ولو ردعه، فتركه وشأنه، أو أنّ المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد سوف لن يجري على وفق ميله، ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون سؤالٍ من الشارع، أو أنّ هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي ليحاول الأخذ به وفقاً لميله …، الى غير ذلك من الامور التي يمكن أن تفسِّر سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه قرينةً ناقصةً لا كاملة على رضا المولى.
ولكن إذا اضيف الى ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه المولى فيقوى احتمال الرضا؛ لاجتماع قرينتين، وهكذا يكبر هذا الاحتمال حتى يؤدّي الى العلم حين يوجد ميل عامّ ويسكت عنه المولى.
عنه، وأمّا السيرة العقلائية فمردّها- كما عرفنا- الى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة؛ لأنّ الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وعلى هذا الأساس يتّضح أنّ طريقة الاستدلال التي كنّا نستخدمها في سيرة المتشرِّعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية، فقد كنّا في سيرة المتشرِّعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدّى الى قيامها بوصفها نتيجةً للبيان الشرعي وناشئةً عنه، إذ لم يكن من المحتمل أن يتّفق المتشرّعة جميعاً على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة- مثلًا- دون أن يكون هناك بيان شرعي يدلّ على ذلك.
وأمّا الميل العامّ الذي تمثّله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئاً عن البيان الشرعي، ولا ناتجاً عن دوافع دينيةٍ ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيانٍ شرعيٍّ أدّى الى تكوّنه وقيامه.
ولأجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجاً آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرِّعة.
ويمكننا تلخيص هذا المنهج في ما يلي:
إنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي.
ومثال ذلك: سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم وعدم ردعها عنه، فإنّ ذلك يدلّ على أ نّها تقرّ هذه الطريقة في فهم
مستقلّةٍ نجد أنّ سلوك الفرد المتديّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة عن صدور بيانٍ شرعيٍّ يقرِّر ذلك السلوك؛ لأنّنا نحتمل استناد هذا السلوك الى البيان الشرعي، وإنّ كنّا نحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر- مثلًا- في يوم الجمعة ازدادت قوة الإثبات.
وهكذا تكبر قوة الإثبات؛ حتّى تصل الى درجةٍ كبيرةٍ عندما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عاماً يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع، إذ يبدو من المؤكّد حينئذٍ أنّ سلوك هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطاً أو غفلةٍ أو تسامح؛ لأنّ الخطأ والغفلة والتسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند الى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة، وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولأجل هذا نعتبر سيرة المتشرِّعة دليلًا استقرائياً كالإجماع والشهرة، وهي في الغالب تؤدّي الى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت كذلك فهي حجّة، وأمّا إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها.
وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاصول اسم «السيرة العقلائية». والسيرة العقلائية: عبارة عن ميلٍ عامٍّ عند العقلاء- المتديّنين وغيرهم- نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل. ومثال ذلك: الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم.
وفي هذا الضوء نعرف أنّ السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرّعة، فإنّ سيرة المتشرّعة التي درسناها آنفاً كانت وليدة البيان الشرعي، ولهذا تعتبر كاشفة
إذ ينقلون نصوصاً سمعوها من المعصوم عليه السلام بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
ويعتبر الخبر قرينة إثباتٍ ناقصة؛ لأنّنا إذا سمعنا شخصاً ينقل شيئاً عن المعصوم عليه السلام احتملنا صدقة واحتملنا كذبه، فيكون قرينة إثباتٍ ناقصة، وتزداد قوة الإثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشيء عن المعصوم عليه السلام أيضاً نتيجةً لاجتماع قرينتين. وهكذا يكبر احتمال الصدق كلّما كثر المخبرون حتّى يحصل الجزم، فيسمّى الخبر «متواتراً».
وكما يكبر احتمال الصدق بسبب زيادة عدد المخبِرين كذلك يكبر بسبب نوعية المخبِر، فالمخبِر الواحد يزداد احتمال صدقه كلّما ازداد اطّلاعنا على دينه وورعه وانتباهه.
وحكم الخبر: أ نّه إذا ازداد احتمال صدقه الى درجةٍ شارفت على القطع كان حجّة، سواء نشأت زيادة احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبِرين، أو من خصائص الورع والنزاهة في المخبِر الواحد، وأمّا إذا لم يؤدِّ الخبر الى القطع فيجب أن يلاحظ الراوي، فإن كان ثقةً أخذنا بروايته ولو لم نقطع بصحتها؛ لأنّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة، ولكنّ هذه الحجّية ثابتة ضمن شروطٍ لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقةً فلا يؤخذ بروايته ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط.
سيرة المتشرِّعة هي السلوك العامّ للمتديّنين في عصر التشريع، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلًا عن صلاة الجمعة، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.
وهذا السلوك العامّ إذا حلَّلناه الى مفرداته ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورة
إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أ نّها تشكِّل قرينة إثباتٍ ناقصةً على وجود دليلٍ لفظيٍّ مسبقٍ يدلّ على هذا الوجوب؛ لأنّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها:
أحدهما: أن يكون قد استند في فتواه الى دليلٍ لفظيٍّ- مثلًا- بصورةٍ صحيحة.
والآخر: أن يكون مخطِئاً في فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثباتٍ ناقصة.
فإذا أضفنا إليها فتوى فقيهٍ آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضاً كبر احتمال وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ على الحكم نتيجةً لاجتماع قرينتين ناقصتين، وحين ينضمّ الى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلًا الى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي. وهكذا نزداد ميلًا الى الاعتقاد بذلك كلّما ازداد عدد الفقهاء المفتِين بوجوب الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتّفقوا جميعاً على هذه الفتوى سمِّي ذلك «إجماعاً»، وإذا كانوا يشكّلون الأكثرية فقط سمّي ذلك «شهرة».
فالإجماع والشهرة على ضوء مفهومنا الخاصّ عن الدليل الاستقرائي دليلان استقرائيان على وجود دليلٍ مسبقٍ على الحكم قام على أساسه الإجماع أو الشهرة.
وحكم الإجماع والشهرة من ناحيةٍ اصوليةٍ أ نّه متى حصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عملية الاستنباط، وأصبح الإجماع والشهرة حجّة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما.
الخبر هو نقل شيءٍ عن المعصوم عليه السلام استناداً الى الحسِّ، كما يصنع الرواة،
كان الدليل الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على استقراء عددٍ من الأحكام الخاصّة واستنتاج حكمٍ عامٍّ منها، فالحكم العامّ يكتشف بالاستقراء مباشرة، ولهذا نطلق عليه اسم «الدليل الاستقرائي المباشر».
ويوجد قسم آخر من الدليل الاستقرائي، وهو الدليل الاستقرائي غير المباشر، ونريد به: أن نستدلّ بالاستقراء لا على الحكم مباشرة، بل على وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ بدوره على الحكم الشرعي، ففي هذا الاستقراء نكتشف بصورةٍ مباشرةٍ الدليل اللفظي، وبعد اكتشاف الدليل اللفظي عن طريق الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي.
ومثال ذلك: «التواتر»، فقد عرفنا سابقاً[1] أنّ التواتر دليل استقرائي يقوم على أساس تجميع القرائن، فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنصٍّ عن المعصوم عليه السلام أصبح النصّ متواتراً، وحينئذٍ نستدلّ بالتواتر بوصفه دليلًا استقرائياً على صدور ذلك الكلام من المعصوم عليه السلام، أي على الدليل اللفظي، ثمّ نستدلّ بالدليل اللفظي- أي بذلك الكلام الثابت صدوره من المعصوم عليه السلام بالتواتر- على الحكم الشرعي الذي يدلّ عليه.
وللدليل الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة، منها: «الإجماع» و «الشهرة» و «الخبر» و «السيرة».
[1] تحت عنوان: الدليل الاستقرائي
القياس الحنفي إلّابملاحظة حالةٍ واحدةٍ واتّخاذها دليلًا على إثبات حكمٍ من نفس النوع لسائر الحالات الاخرى.
وما دام الاستقراء ليس حجّةً ما لم يحصل منه القطع بالحكم الشرعي فمن الطبيعي أن لا يكون القياس حجّة؛ لأنّه خطوة من الاستقراء فُصِلت عن سائر الخطوات.
نشانی : قم، خیابان هنرستان، خیابان شهید تراب نجفزاده، خیابان شهید حسن صادقخانی، پلاک ١٩
کدپستی: ٣٧١۵٩٨۴١۴۶
تلفن: ۰۲۵۳۷۸۴۶۰۸۰
ایمیل: info@mbsadr.ir