من التعسّف أن نسمي المفكر الاسلامي الكبير الامام الشهيد محمد باقر الصدر وريثاً كفوءاً لدعاة الاصلاح ورواد النهضة… فهو لم يقف عند الاسس والمرتكزات التي انطلق منها اولئك الدعاة حيث صدموا الواقع الفاسد بسيل من شحنات الوعي الفكري الذي يكتنزه طبيعة خطابهم الثقافي وسلوكهم التربوي ردحاً من الزمن انتج ارجاع القاعدة الجماهيرية الى جذرها الحضاري الذي وصلها عبر تأريخ مليء بالتضحيات…
أمّا شهيدنا الصدر (رض) فقد كان بصدد تأسيس تيار للوعي يتجاوز الاطار الزمكاني ويمتد على نحو القضية الحقيقية التي ترتقي بالاسلام من طابعه التبليغي التقليدي الموروث الى بعده الحركي، وينبعث بقوة ودفق من نواة فكرية عقائدية تعالج أسس الاشكالية الثقافية المعاصرة، فكان موقف الاسلام من القضايا المعاصرة وكلمته في ساحة الصراع وعلمه المرفوع وسط عواصف التشكيل ورياح الفتن.
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل فتوحاته الفكرية ومشاريعه السلوكية التوعوية نودّ اضاءة جانب مهم من خارطة مشروعه الاصلاحي العظيم الذي أعاد انتاج الاسلام بعناصره الثابتة وثوب عصري يتلاءم ووعي المرحلة بكل خصوصياتها وتحديّاتها، وهذا الجانب هو المحور في حركته الكبيرة، وهي الركيزة الاساسية التي انطلق منها في التنظير والممارسة المتمثلة في معالجة الاشكالية الذاتية للفرد ومعوّقات ظهور الارادة الذاتية الفاعلة في ادارة الصراع.
كيف تمكن الشهيد الصدر من تشخيص الرؤية الحقة في خضم تصارع الرؤى واشتباك الخطوط والايديولوجيات والاتجاهات؟
كيف تمثّل الصدر (رض) من هذه الخطوط المتقاطعة نموذجاً أومأ للجماهير بكل صدق فاتبعته بوحي من فطرتها؟ ماهي الاسس التي اعتمدها في اعادة الثقة في نفوس الجماهير وجعلها تؤمن بقدرتها على الصنع والابداع والتصدي لأشرس حملة غزو ثقافي حديث؟
هذا ما سنتناوله في هذا البحث بايجاز، ايماناً منّا بضرورة استجلاء كنوز الشريعة الاسلامية وسبر اغوار هذه المنظومة الحضارية والتأريخية لاستخلاص الحلول الحقيقية للقضايا المعاصرة كما فعل اولئك الافذاذ الذين تجمعت روح مشاريعهم في مشروع تغييري واصلاحي واحد هو شهيدنا الغالي الذي عقدنا هذا البحث لاضاءة جانب من رؤيته الاصلاحية.
هذه التحديات التي يمر بها عالمنا اليوم تختلف في طبيعتها ومستجداتها عن تلك التحديات التي مرّبها زمن السيد الشهيد (رض)، بل لا نبالغ اذا قلنا ان التحول السيكولوجي لانسان عصرنا يختلف عن ذلك التحول الانبهاري الذي طرأ على التركيبة النفسية والذوقية لانسان ذلك العصر، غير ان طبيعة المواجهة وآلية التحدي هي ذاتها التي نزل اليها السيد الشهيد، بل الى عمقها المتمثل بذات الانسان الرسالي وارادته التغييرية، وحاورها بكل ما أوتي من قوّة. وهذا يستدعي اعادة الصياغة لتلك الخطة التغييرية التي رسمها شهيدنا (رض) بدمه الشريف المراق على محراب العقيدة وتطويرها بما يتلاءم وخصوصيات مرحلتنا الراهنة كما فعل هو (رض).
خلفية المشهد الثقافي
حينما بدأت جذوة الانتماء الاسلامي تخبو في نفوس المسلمين في العصور البائدة، وداهم الغزو الاستعماري بلاد المسلمين وابتزّ منهم قيمهم الاخرى وجاء بقيم وأفكار جديدة غزت العالم الاسلامي تعينه على ذلك آلته العسكرية والتسلح التكنولوجي الذي لم يكن يملكه انسان ذلك العصر والشرق آنذاك ، واسست محاور للانتماءات المرفوضة للعرف والدم والقبيلة والدولة والمصلحة السياسية والاقتصادية المشتركة.
وبعد انجلاء الاستعمار الاوربي، تركت الدول الغازية عملاء على صعيد الفكر والسياسة والحكم ليمارسوا دور الوصاية الفكرية بعدها وتستكمل مشاريع الاستلاب، ولتبقى الشعوب محتاجة الى الانسان الاوربي فكراً وصناعة… ولقد كان العراق ضمن هذا المخطط فمن حملة الغزو الاستعماري الغربي الى الانتداب فالملكيات فالجمهوريات والحكومات الصورية حتى دكتاتورية صدام وارهابية أجهزته القمعية.
لقد وقع الشعب العراقي تحت تأثير هذه الحملات التخريبية كما وقعت الدول والشعوب الاسلامية الاخرى تحت تأثيرها أيضاً مما انتج تغرّباً واضح الملامح، أبعده عن جذوره الام التي أسست انطلاقته الحضارية، فظهرت اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، ظناً منها أنها البديل الفكري لاشكاليات الواقع الراهن، فنشط الشيوعيون واصحاب الفهم التقليدي للاسلام والقوميون ودعاة العصرنة واصحاب الخرافات وغيرهم.
ولقد لعبت السلطات العميلة دوراً كبيراً في عملية التضبيب وراحت تثير وتغازل ثقافة ماقبل الاسلام وتغنت بالحضارات والتواريخ القديمة كالحضارة السومرية والبابلية، وصارت هي العنوان الذي ترفعه في عملية مقاومتها المزعومة والذي يعكس عزّة وانتماء الشعوب المسلمة، بل راحت عبر وعّاظها تلتمس الحجية التاريخية لهذه الحضارات، وكانت نتيجة ذلك ان تحول الصراع من محور ثقافتين وهويتين اصيلة ودخيلة الى محور قومي يقوم على اساس الانتماء المرفوض.
ولم تجد الحركات الاصلاحية البديلة بسبب اغفالها لاحد الجوانب المحورية في تحركها وهو المبدأ الصالح الذي تحدث عنه شهيدنا الغالي فيما بعد مما أربك معادلة الاصلاح الاجتماعي وافسد نتائجها.
تشخيص الواقع
وسط هذا الجو الملغوم بالسياسات والمصالح والمشهد الثقافي الموبوء تحرّك السيد الشهيد (رض) منطلقاً من عمق الذات وتحريكها لتفعيل ارادتها ونفض غبار التيه عن ملامحها، ابتداءً من معرفة الواقع بأدق تفاصيله وتحديد مساحة التخريب الذي احدثه الاستعمار الاوربي.
“فقد استعمل الغزاة الاثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الاسلام في ذهنية الامة وحجب اضوائه وانواره عنها بما نشروه هنا وهناك من مفاهيمهم وافكارهم وتشويهاتهم للاسلام المشرق العظيم، وهكذا اصبحت الامة بعد ان نفّذ اعداؤها فيها مخططهم الشرس وهي لا تعرف من الاسلام شيئاً واضحاً محدداً او تعرف مازوّره المستعمرون من افكاره وحقائقه…”[2].
هذا الوعي الاساس للمشهد الثقافي الناتج عن الغزو الاستعماري كان تحديده عنصراً اساسياً في عملية الاصلاح التي بدأها السيد الشهيد (رض) وهكذا تبنى مسألة التغيير على اسس فكرية وثقافية اصيلة مستقاة من المنظومة الحضارية للانسان، ومن دون هذه الاسس تكون البناءات الفوقية هشّة جامدة تتكسّر امام مستجدات العصر ومتطلبات الواقع.
وهذه الاسس الفكرية المعتمدة في متواليات الاصلاح، لابّد ان تكون نسخة أصلية نقيّة من التشويهات والبدائل التي تقذفها حركات الاستلاب والتعرية… هذا ما آمن به مصلحنا العظيم السيد الصدر، ولذا ربط بين الغزو الاستعماري ونتائجه وبين المشهد الثقافي المأساوي للعالم الاسلامي مركّزاً على مسألة الاساس الفكري للكون والحياة والانسان في الصيرورة الحضارية لكل امة حسب تركيبتها السيكولوجية وطبيعة انتمائها وتوجهها الثقافي، ولا يمكن ان نستبدل اسساً فكرية معينة ونجعل مكانها اسساً اخرى تحت غطاء التمدين والتجديد وهي لا تتلاءم مع منظومتها الحضارية التي اثبتت نفسها في مراحل الصراع المختلفة كحل شامل للوضع المأساوي الذي يعيشه الانسان، ومدّت جناح ملكها على العالم بأسره… لا يراه السيد الشهيد اصلاحاً بل هي عملية اعاقة مقصودة مرتبطة بمصالح وسياسات الدول الغازية في البلاد الاسلامية.
“غزا العالم الاسلامي منذ سقطت الدولة الاسلامية صريعة بايدي المستعمرين سيل جارف من الثقافات الغربية القائمة على اسسهم ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع، فكانت تمّد الاستعمار امداداً متواصلاً في معركته للاجهاز على كيان الامة وسر اصالتها المتمثلة في الاسلام…”[3].
وبعد ان يقوم الشهيد بهذا التشخيص الدقيق للتشويه الثقافي الذي لحق بالامة الاسلامية وكيانها الفكري ـ وهي خطوة يرتدي فيها الشهيد وعي الحكيم وزي الطبيب ـ لم يكتف بأن يزرق حقنة (المورفين) المعهودة آنذاك ! بل اطلق العنان لذهنيته ان تدخل مع المادة العلمية الاساسية للابداع ـ وهي الروايات والفتاوى والنتاجات العلمية للعلماء والتأريخ الاسلامي ـ في عمليات تحضيرية وتركيبية معقّدة ليخرج بنتيجة موضوعية وهي حتمية التحدي وتسجيل الموقف الذي يحافظ على جناحي الابداع، وهما المادة الاساسية وعصرية الطرح، قائلاً:
“وكان لابدّ للاسلام ان يقول كلمته في معترك الصراع المرير، وكان لابد ان تكون الكلمة قوية وعميقة، صريحة وواضحة، كاملة وشاملة للكون والحياة والانسان والمجتمع والدولة والنظام، ليتاح للامة ان تعلن كلمة الله في المعترك وتنادي بها وتدعو العالم اليها كما فعلت في فجر تأريخها العظيم”[4].
انطلاقة التحرك... الارادة الذاتية
من الواضح ان شهيدنا الصدر (رض) كان يرى ان العملية الاصلاحية من وجهة نظر اسلامية تختلف عن الرؤى التي تدور في خلد الآخرين وتنظيراتهم، وان على المسلمين ان يطرحوا حلاً ناجعاً لتلافي الانحسار الذي حدث للحركات الاصلاحية الاخرى التي ولدت بولادة (قيصرية) ناقصة، ولذا قال لابد ان تكون كلمة الاسلام (كاملة وشاملة) وهذه الشمولية في الرؤية سنتعرض لها لاحقاً، امّا ان تكون الكلمة (قوية وعميقة وصريحة وواضحة) فهذا ما كان يدور في خلد السيد الشهيد لانه كان يرى ان الامة تبتلى بمرضين:
الاول: ما أسماه بمرض الشك حيث تشك الامة بقائدها ومبادئها الحقة.
والثاني: ما أسماه بمرض فقدان الارادة حيث تصبح الامة ـ على رغم مالديها من وضوح في الرؤية لمبادئها الصحيحة وصلاحية قائدها ـ عاجزة عن اتخاذ القرار والتضحية في سبيل المبدأ والعقيدة.
ويرجع الى موروثه الفكري والتاريخي ليستنتج ان كلاً من الحسن والحسين (ع) مارسا دورهما الاصلاحي في جانبيه المذكورين، فابتليت الامة في زمن الامام الحسن (ع) بالمرض الاول بينما ابتليت في زمن الامام الحسين (ع) بالمرض الثاني، فكان العلاج هو التضحية بأروع صورها والفداء بأعلى قممه[5].
ولقد ابتلي شهيدنا (رض) بمعايشة عصر مصاب بالمرضين معاً، ولكنه كان يدرك ان ارادة الامة الذاتية وشخصيتها هي العنصر الفاعل في تحديد مسيرة الانسان واتجاهه الاجتماعي الصحيح، ومن دونها يستحيل الانسان الى خشبة عائمة على سطح المياه تتقاذفها الامواج حيث تشاء.
وتحرك على تنضيج الشخصية الاسلامية للفرد، لانها لا تقع تحت تأثير عوامل متعددة بل انها ترتبط بسلطان عامل واحد هو ارادة الله والتكليف الشرعي، وهذه النواة هي التي تجعله يرفض الواقع الفاسد، ويتمحور حول مصلحة الاسلام العليا، فلا يصدق على أية امة انها بناءة متميزة مالم تترشد شخصيات ابنائها وتنضج مواهبها ويتبلور وعيها (ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[6].
وهنا تجلّى السيد الشهيد اتجاهاً فكرياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً يصطدم بالواقع الفاسد بكل مفاصله الشوهاء ويعيد في الامة الاسلامية الثقة في محورية ارادتها الذاتية في التشكل والصيرورة ويشّدها بخيط من نور الى منبع الثقافة الام، وذلك من خلال المشاريع المتعددة الجوانب، تعرية النظام وفضح أساليبه اللامشروعة، اظهار كفاءة الاسلام عملياً في ادارة الحياة من خلال الكتب الكثيرة في الحقول المختلفة، الكتب والنشرات التي نشرت باسم جماعة العلماء في النجف الاشرف، الايعاز بتشكيل حزب اسلامي يتحرك وسط الجماهير، تربية النخبة وتأسيس مراكز مختلفة للتثقيف في عمق المجتمع، التصدي للمرجعية الرشيدة المنفتحة على الواقع، الى حد نداءاته الثلاثة الاخيرة التي تطالب برأس النظام باعتباره ليس شرعياً بل قائماً على اساس البطش والاستبداد.
وعالج المرض الثاني بتصميمه على الشهادة على الرغم من قداسة الشخصية علماً وفكراً ونسباً وخلقاً ليتسنّى للامة ان تمارس دورها الحضاري في عملية البناء والصنع والابداع بعيداً عن التهميش والسلبية ومشاريع التغييب.
بلورة شروط النهضة
حينما بدأت بوادر النهضة بالظهور على اثر منّبهات الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين، وتوالت الكتابات التي تتحدث عن النهضة وشروطها كان لمفكرنا الشهيد رأي في هذا الصدد تبعاً لتشخيصه للآثار والنتائج المترتبة على المشهد الثقافي المذكور آنفاً، هذا الرأي تتجلى فيه عبقرية الشهيد (رض) حيث استقاه من الاسس الفكرية المخبوءة في خزائن هذه المنظومة الدينية والتراثية للمسلمين، ففي الوقت الذي يتغنّى فيه الانسان المسلم بالشعر والفروسية وغيرها من تاريخ المسلمين وينقّب فيه عن مآس مماثلة لما يمرّ به علّها تواسيه في مشهده المأساوي المعاش، راح السيد الشهيد (رض) يسبر اغوار التاريخ والفكر ليستخلص ـ من اشكاله واشكالياته التي تمثّل سطحه المتغير ـ عناصره الانسانية بعد تحليله وتجريده من سطحه المتغير وخصوصياته ويخترق بذهنية ثاقبة هذا السطح نحو العمق حيث الفكرة الانسانية والسنّة التاريخية التي تعيد انتاج نفسها في المراحل والاشكال المختلفة فيقرر ثلاثة شروط لنهضة الامة من خلال بحثه المعنون بـ (الشرط الاساسي لنهضة الامة) والذي كان مفتتحاً به أول عدد من مجلة الاضواء النجفية والذي صدر في 9 حزيران 1960م:
1ـ المبدأ الصالح
2ـ الايمان بذلك المبدأ
3ـ فهمه
ثم يطبق هذه الشروط على واقع المسلمين آنذاك، ويرى ان الامة تمتلك المبدأ الصالح المتمثل باسلامها العزيز ورسالتها الخالدة وقيمها ومبادئها وقوانينها وهي تؤمن بذلك كله وتقدّسه غير ان الضعف الذي يعتري سبلها وكيانها ناشىء من عدم فهمها له وغموض الرؤية أمامها نتيجة لعمليات التغييب والتبعيد عن منهجه الصحيح.
“وأمّا فهم الامة للمبدأ ومفاهيمه وحقائقه، فقد كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية الفصل بين الامة والمبدأ… فالفهم العام للمبدأ الاسلامي اذاً هو ضرورة الامة بالفعل الذي تستكمل الامة به الشرط الاساسي لنهضتها”[7].
وهكذا… فهو يرى ان انشداد الانسان العاطفي وانتمائه للاسلام ومبادئه الصالحة وقيمه الخالدة لا يكفي لأداء دوره الرسالي المنشود والمؤثر في البناء والتغيير.. لابد من الانشداد العملي الذي يكون عن فهم ووعي وبصيرة. وهذا الاخير هو الذي يمنح الانسان منعةً وتماسكاً وانشداداً حقيقياً للمجتمع الاسلامي العظيم، ويمنح الانسان المسلم انسجاماً في الموقف حتى مع اختلاف طرق الاداء وآليات التعامل مع القضايا، ولذا ترى ان موقف الامامين الحسن والحسين (ع) واحد منسجم مع المبدأ على الرغم من اختلاف الادائين.
هذا هو الشرط الاساسي للنهضة كما يراه السيد الشهيد وهو كون الامة واعية لمبدأها. ومن هنا تنبعث كل الهدايات والمواقف البطولية المشرفة، ومتى توافر
هذا الشرط لدى الامة ينتفي تأثير الشبكة المعقدة لعلائق الحياة الدنيا عليه،
ويكون الانسان المؤمن مشدوداً بخيط واحد قوي الصلة بمحور واحد وهدف واحد هو رضا الله سبحانه وأداء مهمة الاستخلاف والاعمار في الارض مهما تمثلت هذه المهمة من ادوار واشكال وتطلبت من قرابين وتضحيات، وعلى هذا كان الخالدون من الصحابة مثل عمار بن ياسر واثقي الخطى في خضم عواصف التشكيك… قاتل عمار الى جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو في التسعينات من
عمره رابط الجأش ثابت الجنان يخوض لهوات الحرب، ولم يدخله شك أو ريب
للحظة واحدة مهما شك الناس في ان علياً على الحق ومعاوية على الباطل، وكان يقول : “اللهم انك تعلم اني لو اعلم ان رضاك في ان اقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت”[8].
ومن هنا أكد السيد الشهيد في فعالياته المختلفة كتابةً وسلوكاً وتربية على هذا الاساس تشخيص الرؤية وفهم المبدأ ـ لما يحتله من مركزية الدور وحيوية الفعل في رفض وصدّ التيارات الغازية واستكمال مسيرة الحضارة الاسلامية والعمل على تخليدها.تحويل مفهوم الثورة المتكلس في الاذهان عن مفهوم الثورة هو ذلك الانتصار والتغيير الظاهري للحكم أو الحاكم المستبد أو تغيير الاوضاع لصالح الجماعة الخيرة في حين كان لشهيدنا الصدر (رض) مفهوم خاص عن الثورة يشكله بعناية ومهارة ودقة وعمق وصدق من المادة العقائدية التي يؤمن بها الانسان الرسالي وهي الاصول الخمسة.
“ان اصول الدين الخمسة التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الاسلام والمحتوى الاساسي لرسالة السماء، هي في نفس الوقت تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد الثورة الاجتماعية التي قادها الانبياء الثورة المتكاملة”[9].
هذا هو الفهم الذي يلتقي فيه الجانب العقائدي والبعد الحركي لهذه العقائد فان الاصول الاعتقادية ليس ترفاً فكرياً أو متعة عقلية او حلبة للمناظرة والافتخار بقدر ماهي دلالات اجتماعية وثقافية وسياسية يراد لها ان تتحرك في الواقع وتفعل فيه فعلها الكبير ليتجاوز الانسان الرسالي حصار التخلف وعلائق الحياة الدنيوية، وينطلق بوعي جديد لاستثمار الارض واعمارها واداء مهمة الخلافة على الارض، وهذا هو المفهوم الواسع الذي أسسه شهيدنا الصدر عن الثورة، فهي ثورة وعي لاساس الهدفية التي خلق الانسان من اجلها والتي تؤهله للخلود في العالم الاخروي العظيم، فهو يرى ان هذه الاصول العقائدية الخمسة التي تشكل اسس الثورة (المتكاملة) هي نفسها كفيلة بأن “ترسم للمسيرة البشرية معالم خلافتها على الارض”[10].
وكما تكون هذه الثورة المفهومية نابعة من أسس عقائدية هي جوهر الاسلام كذلك تكون متخلّقة بأخلاق عالم الغيب، وهذا صمام أمان ثان يقيها التعثر
والسقوط ويؤمن لها مراجعة ذاتها وعرض انجازاتها بصورة دائمية على مصدر الاشراق ومرآة الحقيقة، وبذلك تتغلب الثورة على عقبات الطريق ويتحسس أبناؤها الحب والانشداد لهذا البذل والعطاء، هذا هو مفهوم الثورة الحقيقية عند الشهيد الصدر (رض).
“ان الثورة الحقيقية لا يمكن ان تنفصل بحال عن الوحي والنبوّة ومالها من امتدادات في حياة الانسان…”[11].
وكما كان سابقاً يؤكد ضرورة فهم المبدأ الصالح ودور ذلك الفهم في التشكل والصيرورة الحضارية لأية أمة، يقرر هنا الخصوصية التي تجعل المسلمين يعيشون هموم هذه النهضة، ويدرسون ضرورة اقامة حكم الله على الارض، وهذه الخصوصية هي ارتباط السعي والحركة بمصدر الغيب واخلاقه، وفي ذلك مائز للحركة الاسلامية عن الحركات الاخرى، فهي لاتريد ان تعالج الجرح بشكل موضعي او آني او جزئي او غير ذلك مما يعرّض الحركات المدعية للاصلاح الى انتهاء قدرتها الحركية وانقلابها على نفسها، بل هي تنطلق من الشمولية في الرؤية والانسانية في الطرح والسعة في المفهوم، تركز على الاشكالية الكبرى وهي الصراع الذاتي لدى الانسان والمنبعث من شبكة معقدة من العوامل الداخلية والخارجية، وتدرس الآلية المثمرة لرفع هذه الاشكالية والتي يرتفع بارتفاعها مسار الصراع ويتحول الى صراع بين ثقافتين وهويتين لا صراع الهوية الواحدة المشبوب في داخل الانسان، فهي ثورة على المفاهيم المقلوبة التي حملها الانسان وركزتها حملات التخريب والاستعمار مما اقعده عن السعي نحو الكمال المطلق وشلّ قدرته على النهوض والانعتاق، وهذا ـ عند السيد الشهيد ـ هو حقيقة الصراع المرير الذي كان يخوضه الانبياء (ع). “ان صراع الانبياء مع الظلم والاستغلال لم يتخّذ طابعاً طبقياً كما وقع لكثير من الثورات الاجتماعية، لانه ثورة انسانية ولتحرير الانسان من داخل قبل كل شيء، ولم يكن جانبه الثوري الاجتماعي الا بناءً علوياً لتلك الثورة…”[12].
وهكذا فمصلحنا الشهيد ينطلق في مقولة الوعي كعنصر اساس في النهضة من منطلق الترابط القائم بين عالم الغيب والشهادة، تلك العلاقة التبادلية الجدلية المنتجة للواقع بين الرؤية الاسلامية بكل ما تختزنه من اخلاق وقيم ومبادئ واعتقاد وبين ضرورة تحريك هذه الرؤية لانتاج فرد صالح وبالتالي مجتمع صالح يقوم على اساس العدل والخير، وهذه الرؤية الاصلاحية التوسعية لمفهوم الثورة يرافقه كشاف في جميع حقول المعرفة وشتى جوانب الابداع حتى التخصصيات التي اعتاد الفقهاء ان يتحدثوا فيها بلغة المصطلحات والعبارات العلمية، يحاول هو ان يربطها برؤيته الاصلاحية ويكتشف فيها أنها قناة يمكن استثمارها لخدمة الهدف الاسلامي الاسمى، ولذا جاء في مقدمة كتاب الفتاوى الواضحة أنها “تحاول ان تعرض الاحكام من خلال صور حية وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة وتتجه الى بيان الحكم الشرعي لما يستجدّ من وقائع الحياة، ولهذه الفتاوى الواضحة تحقيق لذلك بالقدر الذي اتسّع له المجال وأتاحت الفرصة…”[13].
وهذه منه (رض) غاية في تشخيص الرؤية الحقة وبيان ابعادها وآثارها، وهي عملية استجلاء وشحذ للذهنية حتى يتسنى لها فهم المبدأ ووعيه بصورته الحقيقية وبحجمه الطبيعي وابعاده المختلفة، وهذا كله عند السيد الشهيد (رض) مقدمة للانسجام والانشداد والالتحام المرجو تحققه بين الفرد ومبدئه، وهذا الانشداد هو الذي يجعله يتفانى في سبيل نصرته ويقوم بأعباء النهضة من اجل اعلائه.
آليات التطبيق
ولم يكتف السيد الشهيد بالتنظير والخطاب، بل كان يتحسس الموضع الذي يصدر منه الداء ومكمن الالم بالتدريج والدراسة المتأنية الحكيمة، ويضع اسساً تطبيقية ذات اساليب وآليات مختلفة، ولعل اعظمها هي ابداعه من خلال التفكير والتصنيف والآلية المتفردة التي تتمثل باستنطاق المادة العلمية والتأريخية بلغة العصر مع اضافة لمسات الوعي التحليلي لنفس المادة التراثية واستخراج عناصرها المحركة التي تعيد نفسها و تتكرر على شكل واقع يلامس قضية الانسان وصراعه الداخلي وخصوصياته السيكولوجية… ألقى السيد الشهيد (رض) بكل ثقله الفكري في ساحة الصراع متجاوزاً حدود الكاتب المبدع ومرتقياً منصة المفكر الفيلسوف مع محافظته على مادته الابداعية الاساس والطريقة العلمية والبحث الموضوعي باعتباره مجتهداً من مجتهدي الحوزة العلمية، لكنه لم يتقيّد بمنهجية التفكير التقليدي ولا المواضيع المتعارفة في الحوزة العلمية، فكتب في مجال الفلسفة والاقتصاد كتابي فلسفتنا واقتصادنا اللذيّن وازنا القوى الفكرية المتصارعة في هذين المجالين، وفي الدور الريادي لأئمة اهل البيت (ع): الائمة تنوع الادوار ووحدة الهدف، وبحث حول الولاية، وفدك في التاريخ… وكلها تنصبّ في مجال تشخيص الرؤية والصورة الطبيعية للدين بعيداً عن منتجات الغزو ووعاظ السلاطين، وهذه الصورة هي الكفيلة بخلق الوعي الحركي والسلوكي لدى الانسان المسلم ودفعه الى تمثيل الدين والفكر والعقيدة بشكل واقع حي معطاء يشكل حلاً للوضع المزري لانسان ذلك العصر، وسداً يحول دون تنفيذ مخططات الاعداء والمستعمرين. واللطيف قوله في مقدمة كتاب فلسفتنا : “وليس هذا الكتاب الا جزءاً من تلك الكلمة…”[14] ، أي كلمة الاسلام في المعترك وهو يوحي بأنه ليس بصدد معالجة الوضع الراهن فحسب ولا مشكلة هذا الجيل العراقي بالذات، بل هو بصدد تأسيس منهج جديد لفهم الاسلام، يكون قاعدة للاجيال والحركات الاصلاحية القادمة من رحم التاريخ لئلا تعاد مشكلة تحويل امامة الانسان المسلم الفكرية الى اسس غيره، كما عبر عنها:
“اخذ العالم الاسلامي ينفتح على حياة الانسان الاوربي، ويذعن لامامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً من ايمانه برسالته الاصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية”[15].
ثم تسلسل بعد ذلك (رض) في تحديد الاشكال التي عبّر بها العالم الاسلامي عن تبعيته لتجربة الانسان الاوربي في السياسة والاقتصاد والمنهج… وهذا يدل على سعيه الحثيث لازاحة الضبابية التي شوّهت الرؤية الاسلامية الحقة، واعاقت تحرك المسلمين وتبلور اسلوبية العمل والتعامل مع القضايا المعاصرة كل ذلك ليعي المسلمون مسألة النهضة والانعتاق واللحوق بركب الحضارة.
استنطاق خصائص الرسالة
ومن ضمن الآليات التي اعتمدها السيد الشهيد في نهضته المباركة هي استنطاق خصائص الرسالة الاسلامية وتحليلها، بغية الاستفادة منها في البناء التحتي لشخصية الانسان المسلم والتي تشكل عنصراً اساسياً في رسم ملامح الحركة الاسلامية وتشكيل خارطة المستقبل.
ولقد حدد هذه الخصائص المقومة في مقالته الافتتاحية التي كتبها في العدد الثاني من مجلة الاضواء النجفية الصادرة في الاول من محرم عام 1380 هـ بعنوان (رسالتنا والدعاة) بمايلي:
1ـ الطابع القدسي للرسالة الاسلامية، وهو الامر الذي تفتقده الرسالات والدعوات الارضية كافة باعتبارها اجتهاداً بشرياً قاصراً، واما الرسالة الاسلامية فتتسم بالقدسية لانها نابعة من العقل الالهي اللامحدود، وهذا يوفر لأبناء الامة الاسلامية عناصر القوة والتحدي والتضحية.
2ـ الامل بالنجاح والفوز، وهو الامر الذي تشيعه الرسالة الاسلامية في نفوس ابنائها، والذي تفتقد الرسالة بفقده وجودها ومعناها الحقيقي، حيث كانت الطليعة الاسلامية تهتّز أملاً بل يقيناً بتحطيم عروش الظلم في الوقت الذي تألب فيه اعداء الاسلام على خنقها وهي وليد ضعيف في مكة.
3ـ الدافع الذاتي حيث “تسخير الدوافع الانانية والمثالية معاً لصالحها، فان طبيعة الرسالة الاسلامية اقناع المسلم بأن الاخلاص لهذه الرسالة والدعوة اليها والتضحية في سبيلها مكسب شخصي قبل ان يكون مكسباً مثالياً أو اجتماعياً، ونعيم لا حدود له قبل ان يكون عاطفة مثالية او اندفاعاً تحمسياً”[16].
وهكذا، وبهذا التشخيص الدقيق لخصائص الآيديولوجيا الاسلامية وابعادها وفرزها عن الانظمة والتيارات والآيديولوجيات الاخرى التي لا تستند الى رؤية ثابتة… كان يزيل الغبش والتكلّس عن الرؤية الاسلامية ويشخص خط السير الخالي من التعاريج والموصل الى السعادة الابدية ويرسم اطروحة الخلاص بقلمه ودمه الشريف، وكان هو الفهم والوعي بأقصى درجاته وأعمق صوره للاسلام ومادته الثقافية والحضارية وتأريخه المجيد، على عكس أولئك الذين يذهبون الى ان الآيديولوجيا قمعية بطبيعتها!
خاتمة
وهكذا تجلّى الاسلام عبر المشروع الصدري العظيم معلناً كلمته وهو يضمّد جراحات الانسانية المعذّبة والمبتلية بالقوى والحكومات المتسلطة على رقابها والاقلام المأجورة والابواق المغرضة.
ألقى بنفسه فكراً وسلوكاً وقلماً وجسداً ليصمم على الشهادة ـ المشروع وينحني له التاريخ اجلالاً واكباراً، وتتمثله الاجيال نموذجاً للوعي ونكران الذات من اجل المبدأ.
فما هو واجبنا في الوفاء له؟ وما هو دورنا في هذا الصراع القادم من مدن الغرب بأحكامه المختلفة؟ وماهي اطروحاتنا نحن في الخلاص من مشاكلنا المعاصرة وتحقيق خصوصياتنا الثقافية؟ وما مدى عملنا لحد الآن بوصاياه ونداءاته التي أطلقتها حنجرته اللاهبة؟
هذا ما علينا ان نجيب عنه بعمق ووضوح وقوة وصراحة كما فعل هو (رض).
محمد سعيد الامجد[1]
[1] كاتب اسلامي من العراق
[2] مجلة الاضواء العدد: 1، السنة الاولى، حزيران 1960م، النجف الاشرف، ص 2
[3] مقدمة كتاب: فلسفتنا للسيد محمدباقر الصدر، مجمع الشهيد آية الله الصدر العلمي، ص 6
[4] المصدر نفسه
[5] مجلة الاضواء، ع 3، س 5، رجب1404، هـ. وجوانب من حياة الشهيد الصدر للسيد كاظم الحائري
[6] سورة الرعد، الآية 11.
[7] سليم، عز الدين، الامام الشهيد محمد باقر الصدر، رائد حركة التغيير في العراق، طهران، المجلس الاعلى، ص 28 ـ 30.
[8] وقعة صفين لنصر بن مزاحم، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار احياء الكتب العربية، ص 326.
[9] نقلها غالب حسن في كتابه الشهيد الصدر رائد الثورة الاسلامية في العراق، طهران، وزارة الارشاد، 1401 هـ.، ص 95
[10] المصدر نفسه
[11] المصدر نفسه
[12] المصدر نفسه، ص 96
[13] الصدر، السيد محمد باقر، الفتاوي الواضحة، بيروت، دار التعارف، ص 14.
[14] فلسفتنا، مصدر سابق ص 6.
[15] مقدمة كتاب اقتصادنا، ط 2، ص 8.
[16] الامام الشهيد محمد باقر الصدر رائد حركة التغيير في العراق، مصدر سابق. ص 33