قليلون هم الأشخاص الذين يمثل مرورهم بالحياة نقلة جديدة في مجتمعهم أو أمتهم من خلال ما يقدمونه من عطاء على مستوى الفكر والتربية والمعاناة، أو ما يرسمونه من خطوط عملية في طريق الهدف، وهؤلاء يستمرون في الحياة – بعد موتهم – من خلال استمرار حركة العطاء وحركة الخط من بعدهم.
لعل من أبرز هؤلاء في مرحلتنا هذه، شهيد الإسلام، آية الله المفكر الإسلامي الكبير، السيد محمد باقر الصدر الذي نتمثل ذكراه السنوية الأولى في ذكرى استشهاده.
ونحن هنا في محاولة لتقييم الدور الذي قام به في حياته القصيرة من خلال الخطوات العملية التي سارت حياته معها، وذلك من عدة نقاط.
مواجهته للفكر الماركسي من موقع الفكر الإسلامي العميق الممتد، بعد أن كانت الأساليب السياسية التقليدية في وسائل الأعلام تتخذ الوجه السطحي الذي يعتمد على التشهير، مما يوحي للفئات الأخرى بالاحترام للماركسية بمقدار ما تمثل أساليب نقدها من سطحية وابتذال، وبذلك استطاع الشهيد أن يحقق في هذا الاتجاه عدة نتائج.
الإيحاء بأن الإسلام أمين على فكر خصومه الفكريين، فيعمل على أن ينقل وجهة نظرهم كاملة غير منقوصة من موقع أمانة الفكر، والشعور بالقوة أمام الفكر المضاد.
الإيحاء بأن الإسلام يملك الفكر الفلسفي والاقتصادي الذي يستطيع من خلاله أن يواجه أفكار الآخرين من موقع الحوار الفكري، لا من موقع الشعارات العاطفية البراقة.
جـ- التأكيد على الموقع الإسلامي المتميز المستقل في مواجهته لمشاكل الحياة بحلول واقعية عملية أصيلة ولذلك كان نقد الماركسية لا يمثل تأييداً للرأسمالية، بل كان يثير نقاط الضعف هنا بنفس القوة التي يثير بها نقاط الضعف هناك من أجل إيضاح الحل الإسلامي الأفضل، وبذلك ابتعد عن الوقوع في حبائل الأساليب التي تعتمدها المخابرات المركزية الأميركية من توظيف نقد الماركسية، إلى دعم للرأسمالية باعتبارها تمثل نظام العالم الحر.
د- توجيه الأبحاث الإسلامية للسيد في هذا الاتجاه، بعيداً عن الأساليب الانفعالية الساذجة، لهذا رأينا كيف انطلقت الدراسات اللاحقة، لتجعل من كتبه في الفلسفة والاقتصاد مصادر أساسية لأفكارها وطروحاتها الفكرية.
وقد حادثنا بعض الثقات عن الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي إعجابه بكتاب ((فلسفتنا)) عندما أطلعه عليه أحد أصدقائه نظراً لما يتميز به من عمق وأصالة ولا يزال المثقفون في سائر أقطار العالم الإسلامي يقدمون على دراسة ((فلسفتنا)) و((اقتصادنا)) و((الأسس المنطقية للاستقراء))، كمصادر أصيلة للفكر الإسلامي الجديد التي لا بديل عنها في ما ألفه المؤلفون في مواضيعه.
مواجهته للواقع اللا إسلامي الكافر والمنحرف بالخطة العملية الشاملة للتغيير، فلم يكن مجرد إنسان مفكر يعيش في نطاق التنظير للآخرين، بعيداً عن حركة الحياة التغييرية، بل كان يفكر منذ بدايات انطلاقته الفكرية في التخطيط لعمل إسلامي منظم ينفتح على الحياة من موقع حالة الحياة إلى الطلائع الواعية التي تحمل الفكر والعمل بيد وتحمل الجهاد الإسلامي من أجل تحويل الفكر إلى واقع عملي يحكم الحياة بيد أخرى، ولذلك فقد فكر في إنشاء حركة إسلامية تنطلق من الأسس الفكرية الإسلامية الصحيحة من خلال الاجتهاد العميق فانطلق في ثلة من إخوانه يعمل في هذا الاتجاه وكتب آنذاك الأسس الإسلامية للحركة من أجل أن تبدأ من موقع الحكم الشرعي الصحيح، وقد عانى في سبيل ذلك الكثير الكثير من مجتمعه الذي كان ينظر نظرة سلبية إلى أي عمل إسلامي منظم، انطلاقاً من أفكار خاطئة ناتجة عن ضيق الأفق من جهة، وعن خلفيات قلقة من جهة أخرى، وقد استخدم الكثيرون هذا الاتجاه في فكره وفي خطواته الإسلامية العملية سلاحاً يحاربونه به في صعوده الملحوظ نحو مركز المرجعية الإسلامية في النجف الأشرف، على أساس أن ذلك يمثل تحركاً سياسياً لا يتناسب مع قداسة المرجعية في ما تمثله من عزلة عن الاصطدام بالحكم والحاكمين، وقد اختلفت الضغوط عليه في ذلك بمختلف الأساليب، ولكنه كان يمتاز بمرونة فكرية وعملية في التخلص من نتائج هذه الضغوط، فكان يستسلم لبعضها في ما لا يضر الخط الإسلامي الأصيل، كما حدث له في مجلة ((الأضواء)) التي كان يصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف، لتكون الرد الفكري الثقافي على المد الإلحادي الشيوعي بعد ثورة 14 تموز سنة 1958 في العراق، وكانت هذه المجلة بإشرافه وبإشراف جماعة من إخوانه، وكان يكتب افتتاحيتها تحت عنوان ((رسالتنا)) في الأعداد 1و2-3-4-5، ولعل قراءة هذه الافتتاحيات تعطي الفكرة الكاملة عن اتجاهه الفكري في طريق التحرك الإسلامي كما تشير إلى علاقته بالخط الإسلامي الحركي آنذاك وقد امتنع تحت تأثير كثير من الضغوط عن كتابة الافتتاحية بعد ظهور علاقة الحركة الإسلامية بالمجلة ولكنه كان يعطي الفكرة لبعض الكتاب الإسلاميين في أكثر مجالاتها بعد ذلك، وقد بقيت علاقته بالحركة الإسلامية قوية، بالنظر إلى أن الطليعة الواعية الإسلامية من جماهير الحركة كانت تتغذى من فكره وكانت ترجع إليه في كثير من أفرادها بالتقليد، ولكنه لم يكن في السنوات الأخيرة مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً تنظيمياً، وربما كان يختلف مع بعض قادتها في أساليب العمل، وربما كانت الخلافات تصل إلى الأصيل العام للأسلوب الإسلامي الحركي في العمل، لأن القضية لديه كانت قضية فكر يؤمن به، وخط يسير عليه ويريد للآخرين أن يسيروا عليه، وليس مجرد حالة ذهنية تجريدية طارئة.
وقد كان من بعض الجوانب التي كانت مثاراً للخلاف الفكري بينه وبين بعض قياداتها، هو جانب انتماء طلاب العلم الديني وعلماء الدين إلى الحركة الإسلامية فقد كان قدس سره يرى أن من الأفضل للعالم الديني أن لا ينتمي إلى تنظيم، ليكون للجميع في قيادته، حتى إذا كان مؤمناً بفكر التنظيم وأسلوبه في العمل، لأن الانتماء يحدد له حركته، ويجعل الآخرين من المؤمنين في موقع المقابل له: مما يعطل فاعليته في خدمة الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية ولهذا أصدر في بعض المراحل حكماً بحرمة الانتماء للأحزاب الإسلامية على طلاب العلم وكان من رأي بعض القيادات الإسلامية أن ابتعاد علماء الدين الدخول في التنظيم، يجعل التنظيمات الإسلامية في عهدة أشخاص قابلين للانحراف من موقع عدم تخصصهم بالثقافة الإسلامية، وعدم معرفتهم بأحكامها الأساسية، بينما يكون وجودهم في الداخل ضماناً لعدم الانحراف من جهة، وأساساً لشرعية العمل من جهة أخرى، وكانوا يرون أن السلبيات تقف أمام الإيجابيات، بعد أن كان لكل عمل سلبياته وإيجابياته وقيل: أنه تراجع عن هذا الحكم الذي يعتقد البعض أنه كان لمرحلة زمنية معينة، وقيل أنه جمده، ولكن من الثابت أن المرحلة الأخيرة من حياته، كانت تمثل انسجاماً كبيراً مع الطليعة الإسلامية الواعية، التي كانت ترى فيه بحق القائد الإسلامي الحكيم المخلص لجهادها المخضب بالدم المعطر بالاستشهاد الذي كان هو القمة في تجسيده للقائد الذي يتقدم صفوف الشهداء من أجل الإسلام، ليكون الطليعة الرائدة لهم في الطريق المستقيم الطويل.
3- محاولته التخطيط للمرجعية وإخراجها من واقعها الحالي الذي يجعلها مرجعية شخص يملك المؤهلات العلمية التي توصله إلى مركز القيادة، فتنطبع بطابعه في نطاق العلاقات والاتصالات والأوضاع، ثم تعبر كل وسائله ومشاريعه تركه شخصية لأهله من دون أن تبقى للمرجع الآخر.
الأمر الذي يعقد كثيراً من الأعمال الإسلامية، ويضيع كثيراً من الجهود ويخلق حالة من الارتباك في العلاقات العامة التي قد تكون مرتبطة بالمرجع القديم في نطاق استمرارها مع المرجع الجديد، فقد كان الشهيد السعيد، قدس سره يفكر في أن تكون المرجعية مؤسسة تستمر كل علاقاتها ومشاريعها وأعمالها في الإطار العام، بحث تكون الخصوصية في شخصية المرجع وطريقته في القيادة والعمل، بينما يتحرك في خط المؤسسات التي يتحرك فيها في الخط العام، وبذلك يجد المرجع الجديد كل شيء جاهزاً أمامه، فلا يبدأ من نقطة الصفر، بل من حيث انتهى أسلافه الآخرون.
ولا يزال هذا التفكير الذي يلتقي به الشهيد السعيد مع الكثيرين من إخوانه العاملين، حلماً وفكرة تنتظر الظروف الموضوعية للتحقيق.
4- إعداده الواعي المتكامل لشخصية العالم الديني الذي يعمل على تربيته، فقد كان طموحه أن يكون الجيل الجديد من علماء الدين المسلمين في جامعة النجف أو قم أو غيرهما من الجامعات الإسلامية نموذجاً فريداً في الثقافة الإسلامية، وفي الخط الواعي للتحرك، فقد كان يرى أن التحديات المضادة التي تواجه الإسلام والمسلمين، تفرض على العاملين الذين يتسلمون مهمة القيادة الفكرية والروحية للأمة، أن يكونوا في مستوى التحديات فيما يمثلونه من علم واسع عميق في نطاق اختصاصاتهم، وفيما يمثلونه من جهد دائب للسعي في تعزيز الإسلام في حركته الدائبة نحو تغييره الحياة على صورته.
وفي ضوء ذلك كان يدعو ويعمل على أن يدفعهم إلى التنوع في الثقافة، والتعمق فيما يتعلمونه منها، كما كان يملأ نفوسهم وأفكارهم بالوعي الذي يجعل منها شيئاً متحركاً في أجواء الحياة، لا مجرد شيء جامد في ذهن صاحبه، وكان يوجههم أن يعيشوا المسؤولية مشاعرها وحركيتها، وقد استطاع أن يدفع إلى الساحة بنماذج جيدة تلتقي جميعاً في وعيها الرسالي، وإن اختلفت في ما تملك من الثقافة والفكر.
5- محاولته الناجحة في تحديد الأسلوب للدراسات الأصولية والفقهية، وقد تمثل ذلك في كتابه، (دروس في علم الأصول)، الذي استطاع أن يعطي لكثير من الموضوعات الأصولية عناوين جديد مستقلة، كانت ضائعة في غمار أبحاث أخرى، كما استطاع أن ينظم هذه الموضوعات في تخطيط جديد يحتفظ للعلم بالعمق، ويطلق التوجه نحو التجديد في المضمون والشكل، وقد كان يعمل على تبويب الفقه في أبواب جديدة تختلف عن الأبواب المعروفة في الفهرسة الفقهية السابقة لعلم الفقه، تبعاً لتجدد الحاجات الحياتية التي تقتضي وضع كل مسألة في موقعها الطبيعي من حاجة الإنسان.
هذه هي بعض الأدوار البارزة في حياته، ونحن نشعر بأن الحياة لو امتدت به لاستطاع أن يحقق الكثير الكثير في تطوير هذه الأدوار وتعميقها وتوسيعها، كما نشعر بأن على رفاقه وتلاميذه أن يجددوا ذكراه بالعمل على إعطاء هذه الأدوار امتداداً في حياة الإسلام والمسلمين، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لبقاء اسم الشهيد السعيد حياً فاعلاً في امتداد المسيرة الطويلة للإسلام، في سبيل تحقيق الأهداف الكبيرة التي يرضاها الله ورسوله.
وإننا لنرجو – في هذا المجال – من الطاقات الحية الفاعلة التي تعمل في خط الشهيد السعيد، أن لا تتجمد أمام ذكراه كشخص، فتنفصل بذلك عن مسيرته، بل تحاول أن تنطلق من ذكراه كقضية، لأن عظمة الشهيد السعيد إنه كان قضية تتحرك في شخص لتمتد إلى غيره فيما تمتد به القضايا في حياة الآخرين، وعلى ضوء ذلك فلا بد لهم أن يلتقوا عند القضايا الكبيرة التي عاناها في حياته فيتجاوز كثيراً من السلبيات التي يمكن أن يتجاوزوها، ويتفاهموا على القضايا التي لا يمكن تجاوزها بالتأكيد على الإيجابيات للتحول السلبيات – من خلال ذلك – إلى إيجابيات فإن ذلك هو معنى الإخلاص لذكراه، وإن ذلك هو معنى الثأر الإيجابي الواعي له، أن يتحرك الإسلام حيث أرادوا له أن يقف ويتجمد وأن يتغير الواقع المنحرف من حيث أرادوا له أن يستمر، وأن يسقط حكم الطاغوت من حيث أراد لنفسه، وأراد له الآخرون أن يبقى.
إن الشهيد السعيد ليس شخصاً ينتمي إليه المنتمون، بل هو رسالة ينطلق من خلالها الرساليون، ولذلك فإنهم يعيشون الانتماء إليه بقدر انطلاقتهم الرسالية من خلال خطه الأصيل.
وكلمة أخيرة نثيرها أمام ذكراه
لقد كانت حياة شهيدنا الكبير حياة حافلة متنوعة في أحداثها وتطلعاتها وخلفياتها وقضاياها الخاصة والعامة ولا بد أن هناك قصصاً صغيرة أو كبير و يمكن أن تروى عن حياته، ولا بد أن هناك جوانب غير واضحة من جوانب علاقاته واتصالاته، ولابد أن هناك أفكاراً كان يسرها إلى تلامذته وإخوانه، فلا بد من أن تتظافر الجهود على رواية كل ذلك، على كتابة كل ذلك، من أجل أن تنطلق في تحليل جديد شامل لحياته، لتكون درساً للعاملين في مستوى القيادة، وفي مستوى القاعدة، فإذا كانت لحياته خصوصيات في حياته، فقد ذابت كل الظروف الضاغطة التي كانت تمنع من إذاعة أسراره، لأنّ الجميع قد أصبح ملك الأمة والإسلام، بقدر ما كان الشهيد السعيد ملكاً لأمته وإسلامه.
إننا نشعر بأن الفقيد لم يحصل الآن على كتابة شاملة مفصلة، فلتكن ذكراه الأولى هذه حافزاً على تسجيل كل ما نعرفه، ولا سيما في ما يتعلق بتفاصيل جهاده السياسي الإسلامي، في علاقاته بالقاعدة وبالقيادات الإسلامية، وبالحاكمين المنحرفين في صراعه المرير معهم، وتلك أمانة الإسلام في أعناق الجميع، (انتهى ملخصاً).
[1] – مجلة الحكمة: العدد التاسع والعاشر، ص11 فما بعدها.