أجدني وأنا أتأهب للكتابة عن هذه الشخصية الفذة – ضئيلاً جداً لا أقوى على الإحاطة بمواقع العظمة فيها لأنها كثيرة واسعة الأبعاد.
لقد عشت فترة من عمري في ظله، ورشفت من مناهله العذبة الروية، وغرس في روحي معاني الإخلاص للعقيدة، ورسم أمام رؤاي الصورة الإسلامية المثلى، وتركني أسبح في بحور من علمه الزاهر، ومناقبه الرائعة، ونفحاته الجهادية الزاخرة.
إنه كبير، كبير حقاً …
وخسارتنا به كبيرة، كبيرة حقاً …
إنه عملاق المواجهة الحضارية لهجمات استعمارية شرسة واجهت العالم الإسلامي وتحدت حضارته الإسلامية فلم تجد من يقابلها إلا القليل، وفي طليعتهم ؛ الإمام الخميني القائد، والشهيد العظيم الصدر.
وإنه عملاق الفكر العميق المربي الهادي للجماهير …
وإنه عملاق الجهاد المرّ ضد قوى الظلام …
وإنه الحب الطاهر الصادق لكل ما ينتسب للإسلام، والانتظار العامل لتحقيق حكمه في الأرض.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً …
وسلام على مدرسة أهل البيت (ع) التي خرجت أمثال هؤلاء العظماء الأفذاذ فضمنت بهم استمرار المسيرة الإسلامية الصاعدة وديمومة الهدى في الأرض.
من أبعاد شخصيته الفذة:
أنني متأكد من أن لهذه الشخصية الفذة أبعاداً كثيرة. ومن هنا كان من اللازم على أن اقتصر على بعضٍ فيها، عسى أن تكشف عن عظمتها – وإن كانت عظمتها لا تحتاج إلى كشف.
وهذه الأبعاد هي: (التنظير، والتربية، والحب، والجهاد).
فلنقف على كل بعدٍ منها بإيجاز ؛
التنظير:
فلقد كان ( رحمه الله ) منظراً إسلامياً يقل نظيره في الزمان ومدرسة فكرية مجددة في مختلف الحقول، لها خصائصها وصفاتها الفريدة والتي يمكن اختصارها في النقاط التالية:
أ- الشمولية والكلية في النظرة:
وهي خاصة يلاحظها كل من يتعرف على مؤلفات الأستاذ الشهيد ولأول مرة.. فيجده لا ينظر لكل قضية وفي أي حقل كانت إلا في إطارها العام ومن خلال متابعة صلاتها وجذورها والمؤثرات في صياغة الموقف حولها.
إذا عالج قضية ( الإمامة ) – تاريخياً – ربطها بالمسيرة الإنسانية الكبرى والهدف الكبير، وإذا درس الفلسفة، نفذ إليها من خلال موقعها الاجتماعي الرفيع، وإذا عالج قضية منطقية كالاستقراء، نفذ من خلالها إلى أعظم حقيقة في الكون، وإذا تعرض لنظام العبادات، درس دوره في نفي أكبر أعراض المرض في المسيرة الحضارية.
وإذا درس الماركسية، ناقش من خلالها نظريات العامل الواحد، وإذا ركز على الواقعة الفقهية، انتقل لدراسة كل القواعد الفقهية الأوسع والأوسع، وإذا عالج موضوعاً أصولياً، نظر إليه من جميع الجهات وربما تطرق إلى نظريات عالمية لم يعهد طرحها في مثل المجالات الأصولية كما تم في بحث ( الوضع )، وإذا ذكر الاجتهاد وكيفيته درسه من خلال حركته والمؤثرات الخارجية فيه أو من خلال نقاط الخطر النفسية والتاريخية العاملة على انحرافه، وإذا درس قضية معاصرة كقضية البنوك، راح يضعها في ظروفها ويسد كل ثغورها ويقدمها أطروحة كاملة قابلة للتطبيق، وإذا درس الموقع الإنساني، سار به منذ بدأ مسيرته وعبر به كل المراحل الاجتماعية وإذا طالع القرآن الكريم، انتقلت روحه العظيمة في آفاقه ورجعت بتفسيرٍ موضوعيٍ اجتماعيٍ رائع، وحتى عندما يكتب رسالته العملية لمقلديه، يطرح نموذجاً جديداً للرسالة العملية، يبدأ بالعبادات ويمر بالمعاملات، ويصل إلى السلوك الخاص، وينتهي بالسلوك العام.
وهكذا نجده عندما يخطط للمرجعية الموضوعية التي تقود الجامعات العلمية دون تأثير بالذاتيات والعلائق الشخصية.
وأروع ما نجده من تخطيط وتنظير هو ما تجلى في كتابه الرائع ( اقتصادنا ) فهو أفضل نموذج لبيان هذه الخاصة.
ب- العمق:
وهي خاصة يشهد لها كل من هو بمستوى فهم البحث المعمق حين يطالع كتبه الرائعة … إنه يتجلى في كل كتاب من كتبه، وكل حديثٍ من أحاديثه، وكل درس من دروسه القيمة …
إنه يتتبع الفكرة مناقشاً إياه بكل منطقية، وموضوعية، وإبداع، دارساً الصلة بينها وبين أسسها، وربما حاكم الفكرة على أساس مما تقوله هي، وهو ما صنعه حين ناقش المادية الديالكتيكية على ضوئها هي.
وأروع ما يتجلى العمق في كتبه الفقهية، والأصولية التي عبرت عن مرحلة جديدة في هذا المجال، كما يتجلى بوضوح في كتابه الرائع ( الأسس المنطقية للاستقراء ) والذي قال عنه:
” إنني أقمت البراهين في هذا الكتاب بما لو قرأه المادي لآمن بالله وبالعلوم الطبيعية معاً أو كفر بهما معاً وأغلقت في وجه الكافر باب الخضوع للعلم والتمرد على الله سبحانه “.
ج- الموسوعة:
فقد ألف في مختلف المجالات الإسلامية ( الاجتماعية، والاقتصادية، والفلسفية، والمالية، والأصولية، والفقهية، والتاريخية، والحضارية، والتفسيرية، والحديثية والعقائدية وغيرها ) وجاء في كل هذه المجالات بالجديد العميق وهو ما يقودنا إلى الصفة الأخرى وهي:
د- الأصالة:
فهو يستقي من القرآن، والقرآن لا غير، يسلك الطريق الوسطى رافضاً كل السبل الأخرى غير متأثر بأية فكرة لا تأتيه من منبع الوحي وإن كان يستوعبها بحثاً ونظراً، ولا يقف منها موقف الرفض اللاموضوعي.
إنه يناقش الفكر الماركسي المادي بأروع مناقشة، كما يناقش الفكر الرأسمالي بكل عمق، فإذا انتهى من نفيهما، عاد إلى منبع الوحي يستقي منه المذهب الاقتصادي الإسلامي الأصيل.
وهو يناقش الأفكار اللامنطقية المنحرفة بكل منطقية وبرهنة، ثم يختار الرأي الأصيل.
وأنت تجد هذه الأصالة في كل ما كتب وخطب.
هـ- البعد الاجتماعي:
وهي صفة هامة إلى جنب الصفات الأخرى التي يتسم بها تنظيره الفريد … إنه يرى الإنسان موجوداً يتكامل في الإطار الاجتماعي لا غير، ووعي الإسلام ديناُ يركز على المسيرة الإنسانية الاجتماعية المتكاملة وإن كان يمنح الفرد أصالته الذاتية ….
هذه النظرة الاجتماعية الواسعة، تجلت في أغلب بل في كل ما كتب، حتى تجده يطرح النظرية الفلسفية الإسلامية من خلال مقدمة اجتماعية، وإذا تعرض لحركة الاجتهاد، طرحها بهذا المنظار، وإذا درس فكرة الإمامة أو الخلافة الإنسانية، تجلى هذا البعد بشكل رائع.
كل هذه كانت ملامح للشهيد العظيم، منظراً للأمة ومخططاً لها صورتها ونظرتها الكونية وأيديولوجيتها السلوكية العامة.
التربية:
وهي تستحق أن تشكل بعداً ضخماً من أبعاد شخصية الشهيد الصدر العظيمة.
ولقد قضى كل عمره الشريف المبارك مربياً يصنع الجيل الناهض الواعي من خلال:
تربيته للعديد من العلماء الواعين الذين انتشروا يبثون أنوار التربية الإسلامية في جسم الأمة المسلمة.
محاضراته العامة التي كانت تترك أكبر الآثار في نفوس الشباب العراقي المتطلع.
مؤلفاته التي تخاطب القلب والعاطفة،كما تخاطب العقل فتترك، أثرها المتوازن على شخصية الجيل الإسلامي، مما أمكننا أن نقول بحق إنه ربى جيلاُ كاملاً، وحصنه ضد كل الهجمات الإلحادية والاستعمارية.
سلوكه المناقبي الرائع الذي كان يجذب إليه كل واعٍ متطلعٍ فيربيه التربية المثُلى.
الحب الإلهي والفناء في الإسلام والعمل به:
فلقد كان (رحمه الله) شعلة حباً لله وتفانٍ في الإسلام، وشوقٍ لتطبيقه لا يوازيه شوق … عاش معه ومات من أجله.
لقد كان يخطط للحكم الإسلامي نظرياً عندما بدأ بالتخطيط لكتابة (فلسفتنا)، و (اقتصادنا)، و (مجتمعنا).
كما إتجه لنفس السبب إلى إيجاد ظاهرة النتظيم الإسلامي في المجتمع بعد أن واجه هجمة شرسة من قبل الشيوعية والعلمانية.
وقاد عملية توعية فكرية ضخمة في هذا المجال، ثم قام بدورٍ أساسي في إنشاء جماعة العلماء، وراح يدعو للتحديد الواعي لأسلوب المرجعية، ثم عمل على مقارعة الحكم المنحرف مما تركه يتعرض للتضييق والاعتقال مرات عديدة.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة إمام الأمة الخميني العظيم، بدأت مرحلة ضخمة من التضحية ومواجهة الحكم البعثي الكافر.
فأرسل للإمام القائد يعلن أنه يضع كل إمكاناته المرجعية بخدمة الإمام والثورة الإسلامية بعد أن طلب من كل تلامذته أن يذوبوا في مرجعية الإمام القائد كما ذاب هو بدوره في الإسلام.
وراح يكسر جدار الخوف والإرهاب، ويصدر الفتاوى التي تعلن للأمة أن حزب البعث حزب كافر علماني وحرمة الانتماء إلى مثل هذا المسلك الخبيث، وهذا موقف يدرك من عاش في العراق خطورته.
وأصدر فتواه بحرمة الصلاة خلف المرتزقة الذين دسهم البعث بين العلماء، ثم أصدر إجازته ببدء العمليات الجهادية ضد الحكم الصدامي الغاشم، كل ذلك حباً له وفناء في الإسلام، وعملاً على تمهيد السبيل لإقامة حكومته العادلة في الأرض.
لقد كان شهيدنا الغالي يهب كل وجوده لهذا الهدف الكبير ويتفاعل معه عقلياً وعاطفياً إلى حدٍ عظيمٍ.
فلا غرو أن يؤبنه الإمام الخميني قائد الأمة بقوله:
” فالشهادة ميراث ناله هؤلاء العظماء، الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية على يد أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنما العجب هو أن يموت مجاهدو طريق الحق على فراشهم دون أن يلطخ الظلمة الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم “.
رحمك الله أيُها الإمام الشهيد، ولتقر عيناك بأبنائك الذين يحملون اللواء خلف قائدهم الإمام ليحكموا شريعة الله في الأرض، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والعاقبة للمتقين.
مجلة التوحيد