ولد الامام محمد باقر الصدر في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1353هـ / 1934م.
ينتمي الى آل الصدر احد البيوت القرشية العريقة، التي يتصل نسبها بالامام موسى بن جعفر الكاظم (ع). وقد اسند الى اسلافه نقابة الطالبيين في بغداد خلال القرن الثالث والرابع الهجريين، وبرز منهم اعلام كثيرون، كالسيد الشريف المرتضى «علم الهدى» من متقدمي فقهاء الشيعة واحد مؤسسي علم الكلام الامامي، والشاعر المعروف الشريف الرضي جامع «نهج البلاغة»، وقد تنقلت هذه الاسرة بين حواضر العلم والفقه كبغداد وجبل عامل واصفهان وكربلاء وسامراء والنجف الاشرف.
تلقى الامام الصدر دروسه ضمن المرحلة الابتدائية في مدينة بغداد، وبدأ نبوغه منذ مراحل الدراسة الاولى. حيث كان يستعير الكتب الماركسية وغيرها من معلميه فيقرؤها وينقدها نقداً علمياً يثير استغراب اساتذة مدرسته الابتدائية وعجبهم من هذا الناقد الصغير وعناده.
التحق بدراسة مبادئ العلوم الشرعية لدى أخيه الاكبر السيد اسماعيل الصدر الذي تعهد رعايته بعد وفاة والده السيد حيدر الصدر، رغم اصرار بعض أقاربه، كالسيد محمد الصدر، رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب العراقي في العهد الملكي، على ان يستمر في دراسة العلوم الاكاديمية، ويذكر انه كتب نقداً لما درسه في المنطق الارسطي، وهو مايزال في الحادية عشرة من العمر، فكان ايذاناً بنزال طويل مع شيخ المناطقة ارسطو، انتهى الى تأليف كتاب «الاسس المنطقية للاستقراء».
انتقل الى مدينة النجف الاشرف ليلتحق بحلقاتها العلمية، فحضر الدروس الفقهية والاصولية العليا عند خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد ابو القاسم الخوئي، كما درس الفلسفة الاسلامية عند الشيخ الفيلسوف صدرا البادكوبي.
بدأ تدريس البحث الخارج لمادتي الفقه والاصول العلمية عام 1378هـ/ 1959م، وله من العمر 25 عاماً.
ألّف في السنة ذاتها اطروحته النقدية ذائعة الصيت «فلسفتنا»، وقد كان قبل ذلك بسبع سنين قد كتب دراسة نقدية في اصول الفقه بعنوان «غاية الفكر» طبع منها جزء واحد عام 1955، وكشفت عن نبوغه المبكر في هذا العلم الذي سيبلغ فيما بعد أعلى درجات تطوره في مدرسة الصدر الاصولية.
استطاع الشهيد الصدر، وهو شاب في مقتبل العمر، ان يكمل شوط الاصلاح ويحمل لواء التجديد في النجف الاشرف، ويواصل شوط كبار المجتهدين، فاضفى على حركة التجديد طابعه الخاص وراح يطور الحركة العلمية عبر ما طرحه من مناهج جديدة للبحث النقدي الحديث وترسيخ النزعة التأصيلية الجديدة وتوظيف ادوات فعالة مبدعة في البحث العلمي الى جانب تفعيل المرجعية الدينية وتأسيس جمعيات ومؤسسات الاصلاح، وتطوير أساليب الدراسة، عبر المشاريع التربوية التي تبناها وبعض المقررات الدراسية التي اعدها بنفسه، مما لايزال حتى الآن معتمداً على نطاق واسع في الحوزة العلمية.
التحرك السياسي
يعتقد الشهيد الصدر بضرورة قيام حكومة اسلامية رشيدة، وقد نظّر لذلك في بعض مؤلفاته.
اعتمد في بدايات تحركه السياسي اطروحة التنظيم الحزبي فبادر مع بعض رفاقه وبشكل سري، الى تأسيس حزب «الدعوة الاسلامية» في حدود عام 1957م ـ 1377هـ، فيعتبر ذلك خطوة جريئة، في ظل الاجواء التقليدية الحاكمة آنذاك. ثم سرعان ماترك العمل المنظم تحت ضغط الاوساط الدينية السائدة.
ترسخت ريادة الامام الشهيد وقيادته للتحرك الاسلامي بعد تصديه للعمل المرجعي فعلياً بعيد عام 1970م، حيث استقطب الكفاءات الشابة والشرائح الاسلامية المثقفة بما كان يحمله من مؤهلات، ليتبلور في مرجعيته طموح تلك القطاعات الاسلامية التي وجدت منها تجلياً وتجسيداً سليماً لتطلعاتها، مما أدى الى تعاظم الدور الحركي والاسلامي، وفي مقابل ذلك الى ردة فعل قاسية من سلطة البعث الحاكم التي أخذت تلاحق الكوادر الرسالية ممارسة في حقها السجن والنفي والتعذيب والاعدام على مراحل متعددة من المواجهة، راح ضحيتها خيرة الكفاءات والعقول العراقية الناشطة في العمل الاسلامي، يتصدرهم تلامذة الصدر ومريدوه. وهو مالم يستثن منه السيد الصدر نفسه.
تسببت مواقفه الرافضة لسياسات النظام البعثي، الى اعتقاله من قبل اجهزة امن الدولة اربع مرات في الاعوام 1972م ، 1977م اثر انتفاضة صفر الشعبية، 1979 في اجواء انتفاضة رجب الشعبية، ليفرج عنه في المرات الثلاث هذه تحت ضغوطات جماهيرية شديدة.
خضع للاقامة الجبرية في داره بعد الاعتقال الثالث، استمرت تسعة أشهر تعرض خلالها الشهيد الى اربع محاولات اغتيال لم تنجح.اعتقل الشهيد الصدر للمرة الرابعة واعدم في 8/4/1980م بعد رحلة تعذيب قاسية رفض خلالها الرضوخ لشروط البعث.
رحل الصدر وعمره 47 عاماً وهو يقول ـ كما في ندائه الثاني الذي وجهه الى الشعب ـ : وانا اعلن لكم يا أبنائي اني صممت على الشهادة ولعل هذا هو آخر ماتسمعونه مني، وان ابواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر… فعلى كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي خارج العراق ان يعمل كل ما بوسعه ولو كلفه ذلك حياته من اجل ادامة الجهاد والنضال لازالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللا انسانية وتوفير حكم صالح فذ شريف طيب يقوم على اساس الاسلام».
لم يكن الشهيد في تطلعاته وهمومه السياسية يقصر وظائفه على مايجري في بلاده وانما تحرك في اطار اوسع شمل الحالة الاسلامية كلها، وذلك معلم شاخص في خطابه الذي نجده في دراساته التأسيسية المهمة، ودعمه لمختلف الحركات التغييرية في العالم الاسلامي.
ظلت العناصر الاساسية المكونة لرؤية الامام الشهيد في العمل الحركي والفكر السياسي المنهج الذي تستلهم منه الحركة الاسلامية في العراق وبلدان اسلامية اخرى، برامجها في العمل، واصبحت معياراً لتقييم التوجهات والمواقف التي تظهر على مسرح النشاط الاسلامي.
تميز الشهيد الصدر الانسان بالشموخ رغم موقعه المتميز، حيث اصبح محوراً للاستقطاب الفكري والجماهيري، وكان زاهداً ترك الدنيا ولم يحتفظ بشيء من حطامها وكان يواسي الطبقات الكادحة والفقيرة.
الاعمال العلمية
قدم الشهيد الصدر نتاجاً علمياً يمثل كل مفردة منه احد اجزاء مشروعه الفكري والاصلاحي.
ابتدأ العمل من خلال كتاب «فلسفتنا» الذي وجه نقوداً علمية رصينة للاتجاهات الآيديولوجية السائدة وعلى رأسها الماركسية، مبيناً ضمن ذلك موقف الفكر الاسلامي من امهات القضايا والمفاهيم المعاصرة.
وفي السياق ذاته اخرج الفقه الاسلامي من حالة الانزواء الى واقع الجدل الآيديولوجي فطرحه بشكل منهجي علمي حديث ومعمق في «اقتصادنا» الذي مارس فيه النقد للطروحات الماركسية في فلسفة التاريخ والاقتصاد، مقدماً البديل الاسلامي الناضج الذي بقي حجر الاساس القوي ـ ولعله الوحيد ـ لما تلاه من دراسات يكاد يجمع الباحثون انها لم ترق الى مستواه حتى المرحلة الراهنة.
ويأتي فيما بعد كتابه «الاسس المنطقية للاستقراء» ليطور رؤيته الفلسفية المتعلقة بالابستمولوجيا ومناهج المعرفة الانسانية، فينتقل من الرؤية التي تدور في فضاء الفلسفة التقليدية الذي يستلهم الارسطية والسينوية، الى البحث النقدي الجذري، الذي يتوافر على عناصر الابداع الخاصة الفعالة. ليكون اول مفكر مسلم يطرح منهجاً جديداً في تفسير نمو المعرفة البشرية كبديل لليقين اليوناني، ولنزعة الشك الحديثة. فيتجاوز لابلاس وكارناب وراسل وبوبر كما تجاوز ارسطو وابن سينا وصدر الدين الشيرازي، ليقدم مذهب التوالد الذاتي للمعرفة، القائم على حساب الاحتمال.
للامام الشهيد مساهمة قيمة جداً في حقل اصول الفقه، حيث مارس تدريس مباحث هذا العلم مدة تربو على العشرين عاماً، مبلوراً خلال ذلك منهج مدرسة مستقلة في اصول الفقه لا زالت تمثل اليوم آخر مراحل تطور علم الاصول، بما منحه من افق واسع ولغة تفكير جديدة ومنهج متماسك للبحث الاصولي، شهد تطبيقات منهجه الابداعي في الحقول النظرية الاخرى كالفلسفة والمنطق واللغة والتاريخ، وغير ذلك.
هناك اطروحات اخرى له «رض» تتمتع بأهمية خاصة في تفسير القرآن وعلم الكلام الجديد (في ضوء منطق الاستقراء)، والدستور الاسلامي والفكر السياسي، وغير ذلك مما لم يتح له فرصة اكماله، لكنه ترك في كل ذلك دراسات ومحاضرات مركزة وموجزة مثلت المعالم الرئيسة لمشاريعه التي لم تستكمل والتي تكشف عن مدى ما كان بوسع هذا المفكر ان يقدم للعلم من اضافات اخرى، فيما نرى ان اسماء بارزة على ساحة الفكر الاسلامي راحت تتلاقف هذه المشاريع وتحاول تطويرها وبلورتها ـ وان على نطاق لا يزال محدوداً ـ في مختلف اروقة النشاط العلمي والفكري.
يتسم منهج الامام الشهيد بانه خرج بالفكر الاسلامي من طابعه الفتوائي النصوصي الى فقه النظرية وفكر الرؤى والمشاريع والبدائل المتكاملة التي تتركب عناصرها بشكل منهجي ومبلور يرتبط بشكل وثيق بواقع التجربة البشرية الراهنة، مستبعداً النمط التجزيئي في التفكير من خلال طرحه اطاراً شمولياً تكاملياً يوحّد بين واقع الحركة الانسانية والنص. فيسبغ الحركية والفعالية على المفهوم الديني، في نفس الوقت الذي يلبس فيه الواقع مظهره الالهي ويمنحه القيم التي ينطلق عنها في حركته.
تتضح اهمية الشهيد الصدر العلمية والفكرية من خلال حضوره في مراجع الدراسات على مختلف مستوياتها وتوجهاتها، فتجده في دراسات الاسلاميين والعلمانيين ورجال الدين واصحاب المنهج الاكاديمي، بل وتلاحظ فرض اهميته على بعض الدراسات التي تتم في اطار عمل المؤسسات واللجان العالمية التابعة لمنظمة الامم المتحدة في مجالات التنمية والاقتصاد ونحوها.
قيل في الشهيد الصدر
الدكتور زكي نجيب محمود ابرز أئمة الفلسفة العربية الحديثة يقول في تأبينه للشهيد: ان اعدام مفكر ساهم في تنمية العقل العربي الاسلامي تثير لدينا مشاعر التقزز والاشمئزاز، فالدول المتقدمة تكرم افذاذها. اما العراق فيعدم مفكريه.
الدكتور محمد شوقي الفنجري، الاستاذ المصري المعروف. يخاطب الشهيد الصدر في لقاء شخصي بالنجف الاشرف: «لو ترجم كتاب الاسس المنطقية للاستقراء الى الانجليزية ترجمة دقيقة فسوف يحدث ثورة في اوربا. واقترح ان يقوم بالترجمة الدكتور زكي نجيب محمود».
«لقد اطلعت صديقي المفكر الفرنسي روجيه غارودي على مضمون كتبكم واعطيته صورة عن افكاركم فنالت اعجابه ووقع تحت تأثيرها وهو يرغب ان يلتقي بكم ويتعرف عليكم».
لقد حاول غارودي ـ الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي آنذاك ـ ان يلتقي الشهيد الصدر في بعض زياراته للعراق بعد مراسلات جرت بينهما، ولكنه لم يستطع ذلك، فبعث رسالة الى الشهيد جاء فيها: انه بعد ان طلب زيارة النجف للقاء الاستاذ محمد باقر الصدر ـ على حد تعبيره ـ ابلغه مرافقه الرسمي، وهو مسؤول في وزارة الخارجية، ان شخصاً بهذا الاسم لا يوجد في العراق، فقال له غارودي: بل هو موجود في النجف فقد راسلته وراسلني، فقال المسؤول البعثي: سوف نخصص لكم زيارة الى النجف ونسأل هناك عن هذا الشخص. وفعلاً وبعد ان انتهى المؤتمر الذي جاء غارودي ليشارك فيه ـ يقول غارودي ـ جاءوا بي الى النجف للبحث عن الصدر، وفي كلية الفقه احضروا لي عدداً من الطلاب وقالوا لي اسألهم عنه، فلما سألتهم قالوا : لايوجد في النجف شخص بهذا الاسم، وهذا ما أثار استغرابي وحيرتي، وتساءلت في نفسي : هل ما يحدث امامي حقيقة أم خيال ؟!!!.
المفكر المعروف د. حسن حنفي يقول في اطروحته، «مقدمة في علم الاستغراب» «وفي اطار جدل الأنا والآخر، وجدت الأنا هويتها في فلسفتنا واقتصادنا من اجل التركيز على خصوصيتها في مواجهة الآخر، وفي نفس الوقت تنقد ثقافة الآخر الذي قام باثبات طرف وانكار طرف آخر في الاسس المنطقية للاستقراء».
المستشرقة الايطالية بيانكا سكارسيا: كتبت عن محمد باقر الصدر، وتناولت تأثير كتاباته، الذي لم يقتصر على العراق وايران ولبنان فقط، بل امتد الى العالم الاسلامي برمته.
الاستاذ د. اكرم زعيتر: انني اعتقد ان المادية الديالكتيكية، لم تجابه بمناقشات فلسفية واعية، ولم تقرع بردود علمية من قبل كتاب العرب المتفلسفين، كما جوبهت وكما قرعت بهذا الكتاب، اجل انه لم ينازلها فلسفياً منازل عربي او مسلم عنيد، حسب اطلاعي مثل محمد باقر الصدر.
محمد المهاجر*