ذات امسية واحسب انها كانت احدى امسيات شهر محرم الحرام، حيث تتجدد ذكرى شهادة الامام الحسين (ع) في كربلاء وتتعطل الدراسة في الحوزة تحدث استاذنا الصدر في “مجلسه” الذي كان يجلس فيه الى طلابه وخاصته في بيته في تلك الايام عن زيارة الحسين (ع) المعروفة بزيارة “وارث”، والتي جاء في مطلعها: “السلام عليك يا وارث آدم صفوة اللّه، السلام عليك يا وارث نوح نبي اللّه، السلام عليك يا وارث ابراهيم خليل اللّه، السلام عليك يا وارث موسى كليم اللّه، السلام عليك يا وارث عيسى روح اللّه، السلام عليك يا وارث محمد حبيب اللّه، السلام عليك يا وارث اميرالمؤمنين ولي اللّه…”.
قال الصدر، وقد تالقت عيناه، وسرى في اساريره وهج شاعري:
حينما نسلم على الحسين بهذه الكلمات نشعر اننا نعيش في اجواء رسالات الانبياء، واننا متواصلون معهم ومندمجون في حركتهم الواحدة الممتدة في خطها المستقيم الواحد الطويل..
انها ترينا الحسين في موقعه التاريخي من الاطروحة الالهية والتدبير الرباني لهداية البشر، فتصفه بحق انه وارث الانبياء اولي العزم ووارث وصي خاتمهم امير المؤمنين علي بن ابي طالب… وهذه جملة ليست بحاجة الى تفسير، (والكلام للشهيد الصدر)، فهو بقية ذواتهم الطاهرة، وسليل اصلابهم الشامخة، كما انه مجسد معانيهم الشريفة وقيمهم الخالدة، ومستودع كتبهم المنزلة، ومبلغ رسالاتهم المتتابعة،والمتحمل، وحده، على قلة الناصر وخذلان الاصحاب، اعباء جهادهم الشاق وآلام تضحياتهم الدامية.. انها وراثة سمو الذات وشرف النسب الى جانب كونها وراثة الخصال والمسؤولية والهدف والموقف الصعب.
هذا ما اتذكره الان من حديث الصدر في تلك الامسية بعد مضي ما يزيد على ثلاثين عاما عليه! وقد بقي هذا الحديث محفورا في ذاكرتي بعد كل هذه السنين، ليس لان الصدر قد لامس فيه حقيقة الحسين (ع) وشخص فيه دوره الرسالي بذكاء وصدق فحسب، وان ما ايضا لانه هو نفسه كان يشعر في اعماقه، ويمثل في شخصه، ويجسد في حياته وعمله وآثاره العلمية والفكرية، على نحو بارز، هذا المعنى العظيم لوراثة الانبياء الذي تضمنته هذه الكلمات من زيارة الحسين (ع) وشرحه هو هذا الشرح الصادق الجميل…
فعلى مستوى وراثة النسب، كان الصدر واضح الانتماء في نسبه الشريف الى الرسول الاعظم والائمة الاطهار عبر آبائه واجداده العلماء المشهورين الكبار، وكان الشعور بهذا الانتماء النسبي الخاص حاضرا بقوة في وعيه من غير ان يحمله على الفخر او الاحساس بالامتياز والتفوق على الناس على نحو ما يفعله بعض مدعي النسب الشريف بحق وبغير حق، لانه كان مصحوبا بشعور اقوى واعمق بما يترتب عليه من مسؤولية خاصة في الاقتداء بمن ينتمي في نسبه اليهم والالتزام بخطهم وقضيتهم.
ولقد حدثني بعض خاصته، المقربين منه، انه قال له بعد ان رزق بولده جعفر بعد ثلاث بنات على التوالي: “لا يوجد بيني وبين جدي الامام موسى بن جعفر الكاظم، من سلسلة آبائي واجدادي، الا من كان مرجعا او مجتهدا، وقد سالت اللّه عز وجل ان يرزقني ولدا تتصل به حلقات هذه السلسلة، ويحمل من بعدي تراثها المتراكم وارجو ان يكون اللّه قد استجاب لي”. وعلى مستوى وراثة الخصال والسجايا والمزايا الشخصية كان الصدر صورة شبيهة باسلافه الطيبين الاطهار فناء في ذات اللّه، وعلما بدينه وآياته، وخشية له، ودابا في طلب مرضاته، وصبرا على بلائه وقضائه، وشجاعة في مجاهدة اعدائه وقول كلمة الحق في وجوههم وان جر عليه ذلك السجن والقتل، وزهدا في حطام الدنيا ومتاعها الفاني، وتواضعا للناس، وبرا بارحامه واصحابه وطلبته.
وآيات ذلك كله ودلائله ظاهرة بينة في معالم سيرته التي سوف نوجز ابرزها بعد قليل، مع ان المشهور والمكتوب من هذه السيرة لا يمثل الا جزا منها ولا يزال الباقي ينتظر الذين عرفوه عن قرب وآمنوا بخطه ونهلوا من علمه وفضله ليكشفوا عن دقائقه واسراره.
وعلى مستوى وراثة القضية والموقف الصعب ورث الصدر قضية الانبياء والاوصياء وقضية نوابهم مراجع الدين الامناء الاتقياء، وهي قضية واحدة لا تتجزا.. انها قضية الدين الذي هو عند اللّه الاسلام.
كان الاسلام عشق الصدر الكبير، وكانت عودته الى حياة المسلمين او عودة المسلمين الى حياته وانفتاح البشرية المعذبة كلها عليه ودخولها في رحابه هي امله المعقود وطموحه الاسمى، وقد فاضت بهذا العشق وهذا الامل والطموح كتبه ومؤلفاته واحاديثه ومحاضراته. ولا اعتقد ان احدا ممن عرفه او التقاه الا وسمعه يتحدث بشغف عن مزايا الاسلام ويحلل اسباب عظمته وخلود قيمه ونظمه وتشريعاته.
لقد عاش الصدر، طوال حياته، وهو يرنو الى انتصار قضية الاسلام ويتطلع الى بزوغ فجره، مكرسا في سبيل ذلك كل طاقات نبوغه الفريد وعبقريته الفذة. اما الموقف الصعب، موقف التضحية والفداء من اجل الاسلام، فقد ورث الصدر اروع ما ضرب مثلا له في سجل آبائه واجداده الطاهرين، وهو موقف وارث الانبياء وسيد الشهداء الحسين بن علي (ع) في كربلاء، فكان بحق حسين عصره. واننا، اذ ندرك دور الصدر الشهيد في تجسيد هذه الوراثة، وفي النهوض بمهماتها، نجد واجبا علينا في هذه الاونة التي نعيش فيها الذكرى السنوية العشرين لشهادته، ان نسهم في تعريف المسلمين بشخصيته وفكره… وفي سبيل اداء هذا الواجب، كان هذا العدد الخاص عن سمو ذاته وخلود عطائه. وقد يكون من البدهي ان نمهد للدراسات والابحاث والحوارات التي تضمنها هذا العدد بنبذة موجزة عن سيرة حياته.
سطور مضيئة من سيرة الشهيد الصدر ولد السيد محمد باقر ابن السيد حيدر ابن السيد اسماعيل ابن السيد صدر الدين الموسوي في مدينة الكاظمية فيالعراق، في الخامس والعشرين من ذي القعدة، سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة والف للهجرة، من اسرة علوية كريمة يتصل نسبها بالامام موسى الكاظم (ع)، انجبت العديد من افاضل العلماء والصلحاء، وهي تعرف حاليا باسرة “الصدر”، وهو لقب جدها الاكبر السيد صدر الدين محمد الموسوي العاملي، الذي كان من اكابر العلماء، وزعيما للشيعة الامامية في بلاد الشام. توفي عنه ابوه، السيد حيدر، وهو في الثالثة من عمره، فتربى في حجر والدته السيدة العابدة الفاضلة بنت آية اللّه الشيخ عبد الحسين آل ياسين، والتي كان ابوها واخوتها جميعا من الايات العظام، ومن اكابر العلماء الاعلام، ونشا تحوطه رعاية اخيه الاكبر آية اللّه السيد اسماعيل الذي قرا عليه مقدمات العلوم.
ترك المدرسة الابتدائية التي برزت فيها اولى علامات نبوغه وتفوقه بعد سنتها الثالثة، ليتفرغ لدراسته الدينية، ومطالعاته الخاصة، وهاجر، وهو في الثالثة عشرة من عمره، الى النجف الاشرف ليكمل في حوزتها العلمية تحصيله.
استطاع، لفرط نبوغه وذكائه، ان يقرا اكثر ابحاث المرحلة المسماة بمرحلة “السطح العالي” معتمدا على نفسه، وتتلمذ، في مرحلة “الخارج”، وهي المرحلة الخاصة بتخريج المجتهدين، وهو بعد في اوائل سني بلوغه على يد اثنين من اكابر علماء عصره هما:
خاله آية اللّه العظمى، الشيخ محمد رضا آل ياسين (قده) وآية اللّه العظمى السيد ابو القاسم الخوئي(قده)، وبلغ رتبة الاجتهاد وهو في هذه المرحلة.
كتب في السابعة عشرة من عمره تعليقه على فتاوى خاله آية اللّه الشيخ محمد رضا آل ياسين المسماة “بلغة الراغبين”. اطلع معتمدا على نفسه الى جانب دراساته المتخصصة على العلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الانسانية اطلاعا اهله للمشاركة والابداع فيها، وعني منذ صباه بتثقيف نفسه ثقافة عامة وبمتابعة ما يجري من احداث سياسية واجتماعية. بدا بالقاء دروسه على مستوى بحث الخارج وهو في الخامسة والعشرين، سنة 1378ه، ونهل من علمه وفضله العشرات من طلاب العلم، وتخرج على يديه العديد من افاضل العلماء.
عاش للّه وحده مكرسا حياته كلها للدفاع عن دينه واعلاء كلمته، عازفا عن حطام الدنيا وزخارفها، فلم يمتلك دارا ولاعقارا، ولا ادخر درهما ولا دينارا وانما كان ينفق كل ما يصل الى يده الشريفة من اموال الحقوق الشرعية على قلتها نسبيا في مصارفها ويضعها في مواضعها، وكانت اخلاقه وسجاياه صورة صادقة من اخلاق الائمة الطاهرين وسجاياهم.. زهدا، وتواضعا، ونبلا.
الف في الفقه، واصول الفقه، واصول الدين، والفلسفة، والمنطق، والاقتصاد، والتاريخ، والفكر الاسلامي الاجتماعي والسياسي، وكتب بحوثا ومقالات في التاريخ والفكر السياسي الاسلامي واصول الدستور الاسلامي، والقى محاضرات في التفسير والاخلاق والتاريخ السياسي لائمة اهل البيت (ع).
طور مناهج البحث في العلوم الاسلامية الاساسية التي يرتكز عليها نظام التعليم في الحوزات الدينية، كالفقه واصول الفقه واصول العقيدة والحديث والتفسير والفلسفة والمنطق.
واسفرت جهوده، في جميع هذه المجالات، عن نتائج علمية هامة ونظريات جديدة، كما اسهم، بما كتبه من بحوث ودراسات خارج النطاق الحوزوي التقليدي، في اضافة مواد ثقافية جديدة الى التعليم الديني وسعت آفاقه وجعلته يستوعب العلوم الانسانية الحديثة، وكانت مجمل ابحاثه ودراساته صدى لحاجات عصره، واستجابة للتحديات الحضارية التي تواجه مسيرة الاسلام في العصر الحديث، وابرز مثل على ذلك كتابا: “فلسفتنا” و”اقتصادنا” اللذان الفهما بعد الانقلاب على العهد الملكي عام 1958م، وكان لهما اثر بالغ في صد التيارات الفكرية الوافدة والدفاع عن عقيدة الامة، كما كانت محاضراته ومؤلفاته مصدر جذب واستقطاب لعناصر جديدة من الشباب المثقف، اخذوا يدخلون الحوزة العلمية ويضخون دما جديدا في عروقها ويجندون انفسهم للدعوة الى اللّه والعمل في سبيل الاسلام، فضلا عن تاثيرها الكبير في زيادة وعي الامة وارتباطها بدينها.
اعطی للعمل الاسلامي ابعادا وآفاقا جديدة، وفتح امامه طرقا واساليب حديثة، اسهم من خلالها في الانتقال بوعي الامة مراحل متقدمة على صعيد العمل لرفع الظلم عنها وضمان تمكين قيم الاسلام واحكام شريعته بقوة في واقعها الاجتماعي والسياسي.
ساند بقوة وفاعلية المرجعيات الدينية الصالحة المتصدية للعمل الاسلامي في العراق وفي غيره من الحواضر الشيعية الاخرى كايران ولبنان، ورشد حركتها واسلوب عملها وامدها بالعديد من طلبته العلماء الرساليين الذين اصبحوا في طليعة وكلائها العاملين في اوساط الامة، وشجعها على تبني قضايا الاسلام والامة الاسلامية في مواجهة الانظمة المحلية الحاكمة والقوى الاستكبارية الدولية الساعية للنفوذ في العالم الاسلامي والسيطرة على مقدراته.
كما طرح افكارا جديدة لاصلاح نظام المرجعية الدينية والارتقاء بها الى مستوى مؤسسة موضوعية تعتمد في ادارة عملها على الخبرة والاجهزة الفنية المتخصصة. كان له دور رئيسي في جملة من الاعمال والمشاريع الاسلامية العامة، منها:
1- جماعة العلماء في النجف الاشرف تاسست بعد الانقلاب على العهد الملكي عام 1958م، وكان له دور رئيسي في تحريكها وتوجيهها، وان لم يكن لصغر سنه عضوا فيها، وقد كان هو الذي يكتب افتتاحيات المجلة التي كانت تصدر باسم هذه الجماعة: “الاضواء” ويوقعها باسمها.
2- مدرسة العلوم الاسلامية في النجف الاشرف وهي مدرسة لطلاب العلوم الدينية، اسسها المرجع المرحوم آية اللّه العظمى السيد محسن الحكيم، وكانت للسيد الشهيد رعاية خاصة لها من طريق عدد من طلابه الذين كانوا يشرفون عليها او يدرسون فيها.
3- كلية اصول الدين في بغداد وقد شارك السيد الشهيد الصدر في تاسيس هذه الكلية وفي وضع مناهجها المقررة، ورعى بالخصوص شؤونها الثقافية.
شكلت نشاطات السيد الشهيد واعماله، في اطار الفهم الواعي والشامل للاسلام، تحديا كبيرا للانظمة الحاكمة المرتبطة بعجلة الاستكبار العالمي، وخصوصا نظام البكر صدام في العراق الذي جاء الى الحكم عام 1968م، وشرع على الفور في العمل من اجل مصادرة الصحوة الاسلامية في العراق ومطاردة العاملين في الساحة الاسلامية.
وقد قامت هذه السلطة بمضايقة السيد الشهيد، واقدمت على اعتقاله اربع مرات منذ سنة 1972م، ذاق خلالها ابشع الوان التنكيل والتعذيب.
ولما قامت الثورة الاسلامية في ايران، بقيادة الامام الخميني (قده)، واعلن السيد الشهيد موقفه المؤيد لها، تملك النظام العراقي المتسلط الخوف من المد الاسلامي القادم، فامر جلاوزته باحتجاز الشهيد الصدر في بيته ومنعه من القاء دروسه، ثم قام اخيرا باعتقاله واعدامه، هو واخته المجاهدة الفاضلة بنت الهدى، ودفن سرا في النجف في منتصف ليلة الثالث والعشرين، من شهر جمادى الاولى، سنة 1400 ه ليلة التاسع من شهر نيسان سنة 1980م. فسلام على الصدر الشهيد في الشهداء الوارثين وقدس اللّه روحه الزكية واعلى في جنان الخلد مقامه مع الانبياء والصديقين وحسن اولئك رفيقا.
الشيخ خالد عطية