احتلت الثورة الإسلامية في إيران المكانة العليا من اهتمامات آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر بصفته مرجعاً من مراجع الأمة الإسلامية، وقائداً لانطلاقة الشعب العراقي المسلم، ضد حكم الطواغيت.
فكان سماحته عبر رسائله التي يوجهها إلى الشعب الإيراني ينفخ في هذا الشعب روح اليقظة والثبات في طريق الكدح الرباني الطويل، مبيناً لهذا الشعب أن ثورته امتداد لخط النبوة التغييري في هذه الأرض
فها هو سماحته يخاطب الشعب الإيراني قائلاً ((إني أشعر باعتزاز كبير يغمر نفسي وأنا أتحدث إلى هذا الشعب العظيم، إلى هذا الشعب الإيراني المسلم الذي كتب بجهاده ودمه وبطولته الفريدة تاريخ الإسلام من جديد، وقدم إلى العالم، تجسيداً حياً ناطقاً لأيام الإسلام الأولى بكل ما زخرت به من ملاحم الشجاعة والإيمان)).
ولم يغب عن ذهن المفكر الإسلامي الشهيد أن يواكب الشعب الإيراني وهو بخوض جولاته الانتخابية فقد خاطبهم في إحدى رسائله الشريفة، جاعلاً مشاركتهم في الانتخاب عملاً عبادياً، وواجباً مفروضاً لابد أن يؤدي بروح تعبدية خالصة.
قال حفظه الله ((ولا شك أنكم باختيار الجمهورية الإسلامية منهجاً في الحياة، وإطاراً للحكم تؤدون فريضة من أعظم فرائض الله تعالى، وتعيدون إلى واقع الحياة روح التجربة التي مارسها النبي الأعظم (ص) وكرس حياته كلها من أجلها، وروح الأطروحة التي جاهد من أجلها الإمام أمير المؤمنين (ع) وحارب لحسابها المارقين والقاسطين، وروح الثورة التي ضحى الإمام الحسين (ع) بآخر قطرة من دمه الطاهر في سبيلها)).
وفي فترة الأعداد للتصويت على دستور الجمهورية الإسلامية، كان العلامة الشهيد يقيم في مقدمة أحد كتبه عن هذه الفترة: بأنها ذات لحظات زاخرة بالتاريخ وغنية بمعاني البطولة والجهاد، ومفعمة بمشاعر النصر والإرادة التغيرية، فقد كان سماحته يرى أن القيام بهذا الدور، إنما هو تجسيد لتجربة رائعة ورائدة في تاريخ الإسلام الحديث.
وما أكثر ما كان يتطلع قدس سره إلى أن يأخذ الشعب المسلم في إيران دوره الجهادي في تعميم نور الإسلام، ليغمر به العالم بعد أن حجبته عنه ظلمات الإنسان الغربي وعملائه المتربين على ثقافته المادية، وبكل تأكيد فسوف يعري هذا النور تلك الأنظمة التي حملت اسم الإسلام زوراً بنفس الدرجة التي يدين بها الأنظمة التي رفضت الإسلام.
والسيد الصدر حينما كان يقيم انتصار الشعب الإيراني المسلم، لم يكن ليغفل الإشارة إلى أسباب هذا النصر المبين، بل كان يرى أن من الطبيعي أن يزداد هذا الشعب المسلم إيماناً برسالته التاريخية العظيمة، لأنه بالإسلام وبزخم المرجعية التي بناها الإسلام، وبالإمام الخميني استطاع أن يكسر أثقل القيود ويحطم عن معصمه تلك السلاسل الهائلة، فالإسلام هو المنقذ، وهو القوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت أن تكتب النصر لهذا الشعب المجاهد.
فالإمام الشهيد بهذا إنما يريد أن يقول للمسلمين في العالم أجمع، وفي العراق بشكل خاص، بأن سر النصر واكتساح حكم الطواغيت، يكمن في الرسالة الإسلامية ممثلة بقيادتها الشرعية الواعية.
فاستيعاب هذه الرسالة والالتفاف حول القيادة الشرعية، من أهم عوامل النصر، وتحقيق الأهداف المقدسة في إقامة حكم الله في الأرض.
أما عن قائد الثورة الإمام الخميني فكثيراً ما كان الشهيد السيد الصدر يبين للناس أن خط الإمام الخميني خط النبوة والإمامة الواجب الاتباع، وهو الخط القادر على اقتلاع الجذور الاستعمارية من نفوس المسلمين وأراضيهم.
قال رحمة الله عليه في رسالة له ((ولم يكن الإمام الخميني في طرحه لشعار الجمهورية الإسلامية إلا استمراراً لرسالة الأنبياء، وامتداداً لدور محمد وعلي الأمة التي لم تعرف لها مجداً إلا بالإسلام، ولم تعش الذل والهوان والبؤس والحرمان، والتبعية للكافر المستعمر، إلا حين تركت الإسلام، وتخلت عن رسالتها العظيمة في الحياة)).
ولقد تمتع سماحة آية الله السيد محمد باقر الصدر بروح جهادية عالية في مواجهة طغيان الحكم الطاغوتي في العراق، وما أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، حتى بادر سماحته بتأييدها في برقية للإمام القائد آية الله العظمى السيد الخميني يهنئه فيها على هذا النصر العظيم، ويعلن ولاءه ودعمه لهذه الخطوة المباركة، ومن بعدها أعلن بياناً مفصلاً ضمنه إشادته لجهود الشعب الإيراني المسلم، وأبرز فيه دور المرجعية في مبارزة الكفر مهما تعددت ألوانه، ولقد كان قدس الله سره يدرك تماماً أنه بعمله هذا في تأييد الثورة الإسلامية، سيؤجج نار الحقد عليه في صدور الزمرة الحاكمة في بغداد، لكنه لم يكن ليأبه لمثل هذه الأمور، وما هي إلا فترة قصيرة، حتى أخذوا يضيقون في تعاملهم الوحشي على سماحة السيد الصدر، ويعتقلون كل من يتوجه لزيارته، وبعدها طلبوا منه رسمياً مغادرة العراق، ولكنه رفض بإباء هذا المنطق الأجوف، وفضل أن لا يفارق ساحة جهاده، ولا يدع الشعب الذي أحبه من كل قلبه لقمة سائغة لإشباع النزعات الدموية لحكام البعث تلامذة الاستعمار.
وهنا بادر السيد الإمام الخميني إلى تأييد سماحته وحثه على البقاء في النجف الأشرف، معرباً عن قلقه فيما لو غادرها، وقد أجابه السيد الصدر ببرقية تضمنت إصراره على البقاء والمحافظة على الكيان العلمي للنجف الأشرف، كما نقل إلى الإمام تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في العراق العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرف من جديد على يد الإمام الخميني ضوءاً هادياً للعالم كله، وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأميركي خاصة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية، وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين، كما جاء في نص برقية سماحته الجوابية.
ومنذ ذلك الحين أخذ سماحة السيد الشهيد يعمل جاهداً لتحريك الساحة العراقية من أجل تحقيق أهداف مسيرتها الإسلامية، وإتمام النصر الذي أحرز في إيران بنصر آخر للإسلام على أرض العراق المقدسة.
وأخذ القائد البطل ينسق مع أبنائه وإخوانه المجاهدين خطوات العمل الثوري المبارك، ويصعد في العاملين روح الثبات والتضحية لتطهير الأرض من حكم الطواغيت الأمناء على المصالح الاستعمارية في أرضنا الإسلامية.
وأخذ يلتقي بجموع الشباب المؤمن في بيته المتواضع المحشور في أحد أزقة النجف الضيقة التي ما عادت لتسع وفود المجاهدين، وهم يغرسون بكل خطوة شوكة في عيون المخبرين الذين زرعتهم السلطة القمعية عند مداخل تلك الأزقة، وتحت شرفات منازلها الموغلة في القدم، وما هي إلا أيام حتى غدت تلك الأزقة والشوارع مسرحاً لعمليات جريئة، ينفذها المجاهدون الأبطال، وهم يتصيدون جلاوزة السلطة الطاغوتية، مبرهنين لهم أن سياسة البطش وخنق الحريات، لا تولد إلى ثورة في نفوس المتطلعين شوقاً إلى أنوار الفجر، مهما أدلهم الليل وطال.
وهنا لا بد أن يتصرف الجلادون كما تملي عليهم طباعهم الخبيثة، فلا شيء غير منطق الاعتقال والإرهاب والتهديد كجولة أولى للتأثير على معنويات المجاهدين وقائدهم فكان أن اقتحمت مجموعة مسلحة منزل السيد الصدر، واقتادته بوقاحة القذر إلى مديرية أمن بغداد، حيث تعرض قدس الله سره إلى جولات تحقيقية، كشفت بوضوح عن مدى الرعب الذي يدب في أوصال الطغمة الحاكمين، والدائرين في فلكها من جراء تصاعد المد الثوري في إيران والعراق.
فلقد سئل قدس الله سره من قبل مدير الأمن العام عن سبب تعاطفه وتأييده للثورة الإسلامية في إيران خاصة وأن هذا التأييد قد جاء قبل إعلان موقف حكومة بغداد من هذه الثورة، وباطمئنان المؤمن، وعقلية القائد أجاب المرجع الشهيد:
بأني مرجع المسلمين، وأتصرف كما يمليه علي ديني الإسلامي، وموقعي القيادي في الأمة وإني غير مرتبط بموقف حكومة ما، ولا مسؤول أمامها عن تصرفاتي.
لقد كانوا يشعرون بأن كل فرد في العراق، لابد أن يخضع لقانون الوصاية بشكل أو آخر، وحينما يصطدمون بالقمم العالية، يتهاوون إلى الحضيض أذلة تافهين.
وبعد أيام من اعتقال السيد الشهيد الصدر، شعر الجهاز الحاكم بخطورة الموقف، فبادر إلى إطلاق سراحه بعد أن فشلوا في انتزاع كلمة ضعيفة، أو موقف لين ليجعلوا منه جسراً للعبور إلى ذلك الأفق الصعب المترامي.
ولم تتكلف العقلية القمعية في بغداد عناء التفكير بعد أن رأت بالأمس القريب الدور الذي قام به الإمام الخميني في تحريك الساحة الإيرانية، وإسقاط (هُبَل) فما كان من الجلاوزة إلا أن قاموا بتطويق منزل السيد الصدر، وفرضوا عليه الإقامة الجبرية، ولكي يحكموا عزله عن الجماهير الثائرة، بادروا إلى منع اتصاله بالناس واعتقال أي زائر يخرج من بيته، بعد أن يسمح له بعض رجال الأمن كإرجاء لصنع كمين للعناصر المتحركة.
واستمرت السلطة القمعية في احتجازها للسيد الصدر، غير أنها لم تستطع وقف التيار الثوري الذي بعثه الإمام القائد في أوساط الشعب المضطهد المسلم فلم يمر يوم إلا وللمجاهدين عمل يؤرقون به ليل الطغاة المتحكمين في بغداد، حتى قام الجلاوزة أخيراً على جريمتهم الوقحة، حينما اعتقلوا الشهيد الصدر مع أسرته وأطفاله الأبرياء، ونقلوهم من النجف الأشرف إلى بغداد.
ثم ارتكبوا بعد ذلك جريمة إعدام المرجع الكبير وشقيقته العالمة الفاضلة (بنت الهدى) رحمهما الله برحمته الواسعة.
وإذ نستقبل اليوم ذكرى استشهاد آية الله الصدر فإننا نعاهد شهيدنا أن تستمر رايته مرفوعة لتحقيق أهدافه الإسلامية العليا.(انتهى).
[1] – مجلة (سروش للعالم العربي) الطهرانية، السنة الأولى، العدد الثالث (عدد خاص).