الإمام الصدر.. تأملات في فكره وسيرته

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

الإمام الصدر.. تأملات في فكره وسيرته
(وفضّل الله المجاهدين على القاعدين اجراً عظيماً) (النساء ـ 95).
حين تمر الاُمّة بظروف صعبة تشكّل تحدياً حقيقياً لها على مستوى العقيدة والمشاعر، تصبح المواجهة في مجال الصمود والتغيير والبناء عملية استثنائية تتطلب اقصى درجات الجد والمثابرة.. وما لم يتقيّض لمثل هذه المهمة البالغة الصعوبة رجال استثنائيون يغورون في عمق واقعهم ليعوه، ويمدّون ببصره إلى آفاق المستقبل ليخططوا له يصبح من العسير ان لم يكن من المستحيل تجاوز هذه المحنة.
هكذا كانت الظروف التي أحاطت بالامة في الوطن الاسلامي عموماً وفي العراق خاصة. فالفكر الكافر تفشّى إلى الدرجة التي اصبح طابعاً مميّزاً لطبقة واسعة من المثقفين الذين انتشروا في مختلف القطاعات الاجتماعية ولم تسلم حتى المدن المقدسة من انضمام عدد من ابنائها في الاتجاهات المنحرفة والتيارات الكافرة.
في الوقت الذي افتقرت فيه المكتبة إلى الفكر الاسلامي على مستوى النظرية المعاصرة التي تتكفل بتعميق الفكر الاسلامي بما يحتاجه من زاد ثقافي يصونه من الانحراف ويعينه على ممارسة دوره المرتقب في التوعية والتغيير.
وإذا اخذنا بنظر الاعتبار طبيعة التيارات السياسية التي التفّت في ساحة الاُمّة وتسببت بانخراط اعداد كبيرة من ابنائها وتغييب التيار الاسلامي على المستوى السياسي نشعر مع وجود هذه العوامل وعوامل اخرى بعمق المحنة التي مرت بها الاُمّة وبحجم الحاجة إلى رائد اسلامي يتمتع بقدرة خلاقة على طرح الإسلام فلسفة ورؤية شاملة لتثبيت القاعدة العقيدية ونظاماً يغطي جوانب الحياة الاجتماعية المختلفة ونهجاً عملياً يستطيع ان يطوّع ذلك الواقع لما يريده الله تعالى على هدي شريعته.
وكانت الاُمّة على موعد مع ولادة ذلك الرائد الفذ الذي يؤمل ان يكون فذّاً في عقله وثقافته ووعيه بل اضافة لذلك فذاً في اخلاقه ومواقفه.
انّه الصدر الذي اصبح يوحي اسمه حين يذكر بانه المتميز بالكلمة والمنهج والموقف والاخلاق.
وإذا كان ما قدمه الصدر مثار اعجاب ودهشة موافقيه ومخالفيه واحبائه واعدائه فان ما توّج ذلك الفكر من موقف التضحية بالنفس وعلى يد مجرم العصر صدام الكافر يجعله في مصافي النوادر الذين رصّعوا جبين التاريخ بدور الفضيلة وتحولوا إلى مشاعل تنير الدرب للسائرين عل طريق الحق والثابتين عليه.
وإذا كان المرء ـ كما في الحكمة ـ باصغريه بقلبه ولسانه فان الشهيد الصدر كان الكلمة وكان الموقف لذلك كان لزاماً علينا ان نقرأه ضمن الكلمة التي صدحت بفكر الإسلام ونقرأه في اطار الموقف الذي جسّد فعل الإسلام وقدرته على صناعة الافذاذ الذين يموتون من اجل الكلمة الحرة. فالشهيد الصدر كان بتعدد مواهبه قد كتب في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والفقه والاصول والتفسير والسياسة والتاريخ والسيرة. هذا على مستوى التنوع فيما كتب وقد تميز نوعياً في كل ما كتب.
وإذا كان قد اختار اسمي «فلسفتنا» و«اقتصادنا» عنواناً لفلسفة الإسلام ونظامه الاقتصادي فلأن في مثل هذا العنوان اشعاراً لابناء الاُمّة التي استبد بها اليأس في عودة الإسلام إلى واقع الحياة ووجود فلسفة واقتصاد فيه. وإذ تولى في كتابيه المباركين طرحاً مقارناً على مستوى العقيدة والنظام لاربعة انظمة هي الرأسمالية والماركسية الشيوعية الاشتراكية والإسلام فقد كان في حينه قد اشار إلى ان اثنين من هذه الانظمة انها ليست مطبقة في الواقع وهما النظام الاسلامي والنظام الشيوعي باعتبار الاول قد طبّق ونحيّ عن ميدان الحياة وباعتبار ان النظام الشيوعي لم يطبق بعد ـ هذا ما ذكره (رحمه الله) في مقدمة فلسفتنا قبل قيام الدولة الإسلامية في ايران وقبل انهيار الماركسية. وإذا كان قد تنبأ بسقوط الماركسية وعودة الاُمّة إلى الإسلام من جديد فها هي قراءته قد تحققت وها هي نظرته المستقبلية ـ بنور الله ـ قد اثبتت جدارتها. واذ نازل الماركسية عقيدة ونظاماً والرأسمالية نظاماً وتحفظ على تسميتها عقيدة وخرج في ذلك النزال مظفراً بما قدم من الادلة الكافية لدحض ونسف الاسس التي تقوم عليها تلك الانظمة وتفنيد كل الشبهات التي تثار على الإسلام وقد تميزت الكتابات بقوة الحجة بالاستدلال والموضوعية بالنقد والاحاطة بكل مفردات الفكر الآخر وبالاسلوب الرائع الذي تميز بالوضوح والسهولة والقوة مما فرض نفسه على كل من اطلّع عليه.
وإذا كنا قد حُرمنا من فيض عطائه الذي وعد به بذلك الكتاب الذي ازمع تأليفه وهو «مجتمعنا» فقد زخرت الاضمامة التي جمعها عنوان «الإسلام يقود الحياة» بعضاً من محتويات ذلك الكتاب والتي جلّت قدرة الإسلام على بناء المجتمع والدولة وقد اظهر قدرة فائقة في فهم العوامل التي تتحكم في المجتمع وكيف اختمرت في وجدان الاُمّة وما تتمخض عنه من نتائج لصالح الإسلام.
واذ ننتقل معه إلى عالم الفقه الذي كان بيده ـ كما ذكر ـ كالعجينة بيد الخباز وهو ومنذ ان تكلف لم يقلد احداً من المجتهدين لانه ومن مرحلة مبكرة من عمره الشريف احتاط ثم اجتهد وقد كتب عنه بحوث في شرح العروة الوثقى تعكس سعة افقه وعمق قدرته الاستدلالية. في نفس الوقت الذي تميزت رسالته الفقهية التي شهدت النور في جزئها الاول كانت قد تميزت بالوضوح وسمّاها بـ«الفتاوى الواضحة»، وقد خطّ نسيجه ببراعته الفائقة مما جعله سهل الفهم وفي ميسور المكلّف لان يتفاعل مع الفتوى التي تنطوي عليها والاحكام.
واذ استهل رسالته الفقهية «الفتاوى الواضحة» ببحث قيم في العقيدة تضمن المرسل ـ الله تبارك وتعالى ـ والرسول والرسالة ليواكب المكلف مع اول متطلبات شخصيته على مستوى العقيدة بالله تعالى وبرسوله (ص) وبرسالته ثم تشدّه عقيدياً إلى الائمة الاطهار باعتبارهم اوصياء رسول الله (ص) إلى ان يصل به إلى عهد الغيبة وما يستلزم ذلك من رجوع الناس إلى الفقهاء والذي استدعى فتح باب الاجتهاد وبذلك يكون قد وطأ للفتاوى الواضحة باعتبارها تعبير اجتهادي عن احكام الشريعة الإسلامية.
وبذلك اخذ بالمكلف الذي انطلق من موقع العلم واليقين بربه وبنبيه ومعاده ودينه وإمامه دون أن يكون في هذه الامور مقلداً، وكيف شجب القرآن الكريم الذين يتبنون عقائدهم الدينية على التقليد للآخرين بدافع الحرص على طريقة الاباء». اقول حمل من هذا الموقع في العقيدة على ضرورة التقليد في احكام الشريعة والى اثبات هذه الضرورة بالادلة النقلية والعقلية لانها حقيقة انسانية تشير إلى مراجعة العالم باي اختصاص والالتزام برأيه ممن ليس له مثل هذه القدرة العلمية.
واذ يختم الفتاوى الواضحة ببحث حول العبادة يعمق الاحساس بضرورة ممارستها باعتبارها تعبير عن الجزء الثابت في الشخصية، ذلك الجزء الذي يشده إلى الله تعالى بغض النظر عن المقطع الزمني الذي يتواجد فيه كما يخلص إلى ان هذه المسألة العبادية ليست مسألة فردية مقطوعة الآثار عن المجتمع بل انها تترك اروع النتائج عليه حين تتحرك باطاره كما اشار لنفس المفهوم في اقتصادنا حيث ابرز اهمية البعد الاخلاقي في الاقتصاد الاسلامي، وكيف يكون الجانب الاخلاقي قوّة ردع ذاتية تدفع المكلف لاداء ما عليه من حقوق رغم غياب الرقابة الخارجية.
وحين اشار بصراحة إلى انّه صاحب مدرسة اصولية «في اصول الفقه» فلأنه جاء بالجديد واختلف في الكثير من المباني الاصولية عمن سبقه من فطاحل هذا العلم ورواده. فهو بدأ تنظيره المخالف في تعريف علم الاصول إلى تحديد موضوعه إلى تصنيف البحث في الاصول مؤكداً على ضرورة تقديم بحث حجية القطع على غيره من البحوث وطرح لذلك نظرة تحليلية تحت عنوان تنويع البحث يبرر فيها ذلك «على اعتبار ان ـ حجية القطع ـ اعم العناصر الاصولية المشتركة واوسعها نطاقاً».
وكذلك اختلف السيد الشهيد (ره) في منهجه عن المسلك المشهور والمتبنى لدى الاصوليين وهو (قبح العقاب بلا بيان) الذي يسمى «البراءة العقلية» ويتبنى مسلكاً آخراً هو مسلك حق الطاعة الذي يتركز على «اصالة اشتغال الذمة» ومفاده «ان كل تكليف يحتمل وجوده ولم يثبت اذن الشارع في ترك التحفظ تجاهه فهو منجز وتشتغل به ذمة المكلف ومرد ذلك إلى ما تقدم في ان حق الطاعة للمولى يشمل كل ما ينكشف من التكاليف ولو انكشافاً ظنيّاً أو احتمالياً» .
ثم ينتهي (رض) بعد توضيح الفرق بين مولوية الله تبارك وتعالى عن مولوية غيره إلى تبني اصالة الاشتغال وهي «البراءة الشرعية»، وعليه فالقاعدة العملية الاولية هي اصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجاد في ترك التحفظ على ما تقدم في مباحث القطع فلابدّ من الكلام عن هذا الترخيص وامكان اثباته شرعاً وهو ما يسمى بـ«البراءة الشرعية» .
ولا يسع المجال للوقوف على كل مسألة اصولية اختلف فيها السيد الشهيد مع غيره من الاصوليين ولكن طالما ونحن بصدد الحديث عنه في هذا المجال نشير إلى ما تميز كتابه دروس في علم الاصول من التبويب الذي أعتمد في الحلقات الثلاث مع الفارق في العمق الذي يأخذ بالطالب لما يؤهله حضور البحث الخارج بجدارة «وبذلك يختم الجزء الثاني من الحلقة الثالثة التي ينتهي الطالب بدراستها من السطوح ويصبح جديراً بحضور البحث الخارج» دروس في علم الاصول، ج2، ص269.
اما عن منهجه في التفسير فقد اختار لذلك اسم «التفسير التوحيدي الموضوعي» واستوحى هذه التسمية من طبيعة اتجاهه الذي اعتمده في التفسير اذ توحي كلمة الموضوعي باجراء عملية الحوار بين المفسر والقرآن الكريم ينطلق فيها المفسر من الواقع وينتهي إلى القرآن يتحرى كل موضوع يمر فيه ومن ذلك الموقع يتساءل مع القرآن ليستلهم منه ما يتطلبه ذلك الموضوع ومن هنا تراه ينفتح على الحياة بكل جوانبها ويواجه التحديات مهما كانت ضراوتها لانه شعر ان للحياة موضوعاً ولها كتاباً وان القرآن هو كتاب الحياة وانّه جاء ليغطّي كل جوانبها وهذا هو الذي عبّر عنه امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) بالاستنطاق فقال (ع): «ذلك القرآن فاستنطقوه..».
ثم يطلق كلمة التوحيدي لانه يرمي به إلى مفهوم الحصول إلى المركب النظري القرآني ذلك المركب الذي يستوعب كل المدلولات التفصيلية التي يتولاها التفسير التجزيئي. ان هذا التعبير «مركبّ نظري قرآني» يعبّر عنه حاليا بالنظرية وبذلك يكون المفسّر قد وقف على مجموعة نظريات قرآنية كل واحدة تعنى بموضوع محدد فنظرية عن النبوة، واخرى عن سنن التاريخ، وثالثة عن العلاقات الاجتماعية ورابعة عن الحكم. وهذا يعني ان حركة المفسر حركة توحيدية في الاتجاه تجعله ينطلق بكل المعطيات ويدفع الإنسان لتخطّي العقبات ومسابقة الزمن في نفس الوقت الذي يكون فيه ثابتاً على القرآن الكريم.
لنأخذ مثلاً من التفسير الموضوعي التحيدي كما طرحه السيد الشهيد وهو فرعون فهو يخرج بمنهجه هذا من ان الفرعونية ظاهرة تتكرر في التاريخ وهي تتألف من مجموعة عناصر:
العنصر الاول ـ طائفة الظالمين وهي بمثابة الحماية والسند للفرعونية (ولو ترى اذ الظالمون موقوفون عن ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا انتم لكنّا مؤمنين) (سبأ ـ 31).
العنصر الثاني ـ طائفة المتملقين والمنتفعين وهؤلاء يتناغمون معه في كل نزوة ويعمقون فيه حالة الشر ويبررّون له فعل السوء (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك والهتك قال سنتقل ابناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) (الاعراف ـ 127).
وهذا يعني إن «فرعون الشخص» يتحول إلى «الفرعون النوع» بعد تكوين الاتباع من حوله لكنه سرعان ما تتحول هذه الطائفة إلى رافد يعمّق عنده النزعة الشريرة ويرى نفسه منسجماً ليس فقط مع ذاته انما مع من يتعامل معه وتأخذ نزعة الشر صفة موضوعية من وجهة نظره.
العنصر الثالث ـ طبقة الهمج الرعّاع، هؤلاء الذين لا يعون واقعهم ولا يدركون الظلم الذي يقع عليهم وهم بذلك يتحولون إلى امّعات تمشي وراء من يسوقهم معصّبة العين، طابعهم المميّز انهم يطيعون اسيادهم (وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبرائنا فاضلّونا السبيلا) (الاحزاب ـ 67).
هذا النوع من الناس الذي يقول امير المؤمنين (ع): انّهم همج رعاع كما جاء: «الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق».
وهذه الطبقة من المجتمع الفرعوني تشكل خطراً حقيقياً على وجود الإسلام وهو يحدّد منها موقفاً واضحاً لالغاء هذه الطبقة وتحويلها إلى طبقة اخرى متعلّمة ومتبصّرة بامور الدين والحياة من اجل ان مستقلة بالعقل حين تفكر ومستقلة بالارادة حين تتحرك وهذه المساحة من المجتمع هي مدار الصراع بين قوى الشر والخير لان فرعون كان يريد منها ان تبقى كذلك بل تتوسّع لكي تكون القاعدة العريضة لانها فاقدة الوعي والحركة بينما يريد لها الله تعالى ان تكون على بصيرة من امرها، وحرّة في حركتها وبذلك تتمتع بمواصفات الصنف الاول أو الثاني على اقل تقدير.
العنصر الرابع (الطائفة الرابعة): ـ هي تلك الطائفة التي تستنكر الظلم في دائرة النفس ولكنهم يسكتون عليه عملياً ويهادنون الظالم وهذا ما يعرّضهم إلى التوتر والقلق في داخلهم وهم والحالة هذه يفقدون اي قدر من الابداع والنمو والتأثير.
(ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا) (النساء ـ 97).
انّهم يتهيّبون من اتخاذ الموقف يعيشون حالة الوعي للظالم ويستنكرون ظلمه لكن ذلك في داخل نفوسهم فقط دون ان يبوحوا بكلمة أو يتخذوا موقفا أو يتحركوا من مواقع الضغط إلى مواقع العطاء.
العنصر الخامس ـ (الطائفة الخامسة): الطائفة المنكفئة التي تترهبن، تنسحب من المواجهة سواء من منطلق الحفاظ على طهارتها وعدم تلّوثها ام من منطلق تخدير الناس بدعوى الحفاظ على النقاء. انّه موقف سلبي لا ينتفع منه إلاّ الظالم لانه لا يسهم الا في تقوية الظالم على الناس. (يا أيّها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة ـ 34).
العنصر السادس ـ (الطائفة السادسة): انهم المستضعفون هؤلاء الذين وجه لهم الظالم سهامه للقضاء عليهم لانهم يشكلون التحدي الحقيقي دون باقي الطبقات، (واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) (البقرة 49). وهذه الطائفة هي التي تحمل في طياتها تباشير المستقبل لانها ضمن سنن الله تعالى في خلقه انهم هم الوارثون (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين) (القصص ـ 5).
النظرة الدقيقة إلى الظاهرة الفرعونية وعناصرها الخمسة المكونة لها تتجلّى حقيقة تكرارها في كل عصر من عصور التحكم الظالم ومن هنا ان المنهج الموضوعي التوحيدي جعل المفسر امام موضوع اجتماعي متباين من حيث المقاطع الزمنية لكنه يعبّر عن طبيعة واحدة هي الظلم المتجسد بالسلطة والطبقة المتملقة والطبقة الفاقدة للوعي والحركة والطبقة المهادنة والطبقة المترهبنة وحين يطرح هذه المسألة الموضوعية على القرآن الكريم وتقف امامه مستنطقاً يجد ان المركب القرآني النظري أو النظرية القرآنية ازاء الظاهرة ان يعي الحقيقة القرآنية التي تحدد له الموقف هذا من الناحية الموضوعية اما على المستوى التوحيدي بالفهم فان هذه الطبقات لا يمكن ان تفهم فهماً تجزيئياً وانما تشكل لمجموعها حلقات مترابطة في سلسلة الوسط الاجتماعي ذي الطبيعة الفرعونية ومن هنا ينهض المفسر بفهم موحد لكيفية التعامل معها وحين نمعن النظر لمثل هذه الظاهرة وننفتح على النظرية القرآنية لتشخيصها ومعالجتها نجد انها تتحرك في واقع المجتمع الاموي الذي بسط يزيد نفوذه فيه وان الطبقات المشار اليها قد تشكلت بنفس الآلية الفرعونية وان المجتمعات المعاصرة التي يحتدم فيها الصراع بين الفرعون النوعي والاُمّة الإسلامية تعكس هي الاخرى نفس الظاهرة وتجد في القرآن نفس النظرية بالعلاج.
وحين ادلى الامام الشهيد الصدر بدلوه في مجال السيرة المطهرة في سلسلة محاضرات خرج بتحليل رائع مفاده ان النظرة إلى الائمة الاطهار (ع) لا ينبغي ان تكون نظرة تجزيئية انما نظرة كلية تستوعب كل مراحل حياتهم الشريفة لتخلص بان الائمة وان تعددت اسماؤهم وتعاقبت مراحل حياتهم وتباينت ادوارهم لكنهم تعبيرً عن موقف واحد لظروف مختلفة وليس ذلك ردة فعل للجو الارهابي الذي عاشوه وانما المتغير الموضوعي الذي يتمم الثابت الرسالي لهم جميعاً تماماً كما راعى القرآن متدرجاً بين مرحلته المكية والمدنية وبذلك يخلص إلى ان الائمة (ع) مروا بثلاث مراحل وحدد معالم كل مرحلة بمعالم موضوعية وكشف النقاب عن دور الائمة (ع) في كل مرحلة بما يميّزها عن غيرها كيف نهضوا بدورهم في حفظ الشريعة وتعميقها وممارسة العمل السياسي بالشكل الذي شكل ذلك العمل خطراً حقيقياً ضد الحكام.
وحين نلقي نظرة تحليلية لهذا الفهم الموضوعي لادوار الائمة نجده فهماً يفسر وبكل جدارة سبب تعدد الادوار من خلال استيعاب المبررات الموضوعية لكل ظرف اجتماعي وسياسي احاط بامام كل مرحلة وبذلك يكون قد قطع دابر النظر التقليدي لفهم السيرة والذي يغوص في حياة كل امام بمعزل عن الظرف الذي يحيطه فترى الناظر لكل امام يكون قد استوحى موقفه منه مع التباين الموضوعي بين ظرف الامام ومن يروم الاقتداء به. فمثلاً كان البعض ينظر للامام الحسن (ع) بعيدا عن ظرفه وما املي عليه ذلك الظرف من استحقاقات ولما لم يكن قد وعى ذلك الدور الحسني فقد انطلق لممارسته وهو في ظرف قد يكون فيه اقرب إلى الظرف الذي احاط بالامام الحسين (ع) وهكذا وقع في فهم ادوار باقي الائمة (ع).
واكثر من ذلك فقد فَسّر البعض التباين بين موقفي الامامين الحسن والحسين(ع) بانه تناقض وان المسألة ناشئة من الفرق التكويني (المفترض) بين مزاجي الحسنين (ع) فوصف الحسن مثلا بانه مسالم والحسين (ع) بانه ثائر. ونسي أو تناسى اولئك بان الامام الحسين كان حسنياً في موقفه طيلة فترة العشر سنوات التي استشهد فيها الحسن وظل معاوية باسطا سلطته على الاُمّة الإسلامية والتي تعطي دليلا قاطعا من ان القضية ليست ذاتية في شخص الامام وانما موضعية مستوحاة من الظرف الاجتماعي والسياسي بكل ملابساته.
واما عن بحثه القيّم «بحث حول المهدي» فقد تناولها على مستوى اصل فكرة المهدي مشيراً إلى النصوص الكثيرة التي لا يمكن معها ان يرد الشك(400) حديث عن النبي (ص) من طرق السنة، اما مجموع الاخبار الواردة في الامام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان اكثر من(6000) رواية وهذا رقم كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية وتناولها على مستوى تجسيد الفكرة في الامام الثاني عشر (ع) فقد تناولها بدليلين اسلامي وعلمي، فاسلامياً ان عدد الروايات الذي بلغ المئات عن الرسول (ص) والائمة (ع) والتي تشير ان المهدي من ولد فاطمة (ع) ومن ذرية الحسين (ع) ويشير السيد الشهيد إلى لفتة رائعة وهي: ان الكثرة العددية لم تكن الاساس الوحيد لقبولها بل هناك مزايا اخرى وقرائن منها وجودها عند اهل السنة ومنها ان البخاري الذي نقل الحديث كان معاصراً للامام الجواد (ع) والامامين الهادي والعسكري وهذا يعني انّه عندما سجل هذه الاحاديث والروايات لم يكن مجالاً للشك من انّه تأثر بالواقع الامامي الاثنى عشري. واما الدليل العلمي فهو يشير فيه إلى حقيقة علمية تاريخية حصلت وعاشها المسلمون وشهدوا عليها وهي الغيبة الصغرى (سبعين سنة تقريباً) والتي كان النواب الاربعة للامام المهدي وهم السفراء يقومون بدور الوسيط بين الامام والاُمّة.
والمتتبع لنتاج الامام الصدر في كل ما كتب يخرج بنتيجة انّه صاحب منهج متميز ولعل ابرز معالم نهجه:
1ـ الشمولية: واقصد بها النظرة المستوعبة لكل اطراف الموضوع الذي يتناوله بل ويرجع بكل موضوع إلى المقدمات المؤثرة فيه والنتائج المترتبة عليه وبصمات البعد الشمولي في منهجه واضحة في نتاجه. فمثلا حين كتب في التفسير الموضوعي يكون قد تخطى التفسير التجزيئي الذي يعيش القرآن الكريم آية آية على ما لهذا التفسير من اهمية فخرج بنتاج زاخر في:
السنن التاريخية في القرآن.
عناصر المجتمع في القرآن.
القرآن ودور الإنسان في حركة التاريخ.
القرآن والعلاقات الاجتماعية.
علاقة النظرية القرآنية بالتشريع الاسلامي وما كتبه في السيرة ومن خلال تلك النظرة الشمولية التي ربطت حياة الرسول (ص) منذ بعثته المباركة حتى وفاته بمراحلها الثلاث ربطتها مع بعضها في جانب وربطتها مع ما يعقبها من سيرة الائمة الاطهار من الجانب الآخر.
فكانت المرحلة الاولى سرية نظراً لما تقتضيه مصلحة الدعوة الإسلامية فكان المؤمنون بدعوته (ص) قليلين يقارب عددهم الاربعين رجلا وامرأة واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات إلى ان امره الله تعالى بالجهر بالدعوة فكانت المرحلة الثانية (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين) وقد تحمل المسلمون اشد انواع التعذيب وشتى صنوف الاضطهاد حتى قال رسول الله (ص) «ما اوذي نبي مثلما اوذيت» ومع بلوغ الضغط والاذى ذروته على المسلمين وخشي الرسول (ص) على الرسالة حصل الانتقال إلى الطائف وما ان وصل اليها حتى شعر رسول الله (ص) بان الطائف لا تصلح ان تكون قاعدة انطلاق للدعوة.. مهّد للهجرة إلى يثرب وحصلت البيعة وانشأت اول «دار اسلام» على وجه الارض وبذلك كانت تمهيداً لظهور الدول الإسلامية تحت اشراف محمد رسول الله (ص).
وهذه هي المرحلة الثالثة من الدعوة. ثم يثير السيد الشهيد هنا موضوع مستقبل الدعوة وموقف الرسول (ص) منها وهو الذي حملها إلى الناس وخطّ مسيرتها خطوة خطوة.. فيطرح (رحمه الله) ثلاثة طرق:
(1) الموقف السلبي من مستقبل وهو الذي يجعل الرسول (ص) يكتفي بممارسة دوره في قيادة الدعوة في حياته ويترك مستقبلها للظروف.
(2) ان يخطط لمستقبل الدعوة بعد وفاته ولكن يجعل القيمومة على الدعوة وقيادة التجربة للامة ممثلة على اساس نظام الشورى.
(3) ان يختار بامر الله شخصاً يرشحه عمق وجوده في كيان الدعوة فيعده اعداداً رسالياً وقيادياً خاصاً.
وحين تمعن النظرة بهذا الرد العلمي الشامل لبداية طريق الدعوة وما حضيت من رعاية واشراف مباشر من الرسول وكيف خطط للتعامل مع كل مرحلة من مراحلها ثم كيف يترقب منه وهو يستشرف آفاق المستقبل قبل ان ينتقل (ص) إلى جوار ربه.. ان منهجاً كهذا بالطرح يجعل الترابط وثيقاً بين دور النبي (ص) في قيادة الاُمّة ودور الامام الذي نص عليه. وان عملية كهذه لا يمكن ان تؤخذ على انها مقطوعة الجذور عما يريده الله تعالى واوصى به إلى رسوله وفي الاعداد الذي مورس من قبل الرسول (ص) للامام علي (ع).
ثم يواصل السيد الشهيد بنظريته الشمولية بربط المراحل التي تمر بها الاُمّة وما تطلبت من توافق للامة (ع) بحيث يخرج المتتبع لدراسة السيرة ان هذه السلسلة مترابطة الحلقات ومنسجمة في عمقها المبدئي وابعادها الموضوعية.
2ـ التجديد: وهي السمة الثانية التي يتصف بها منهجه الامام الصدر ذلك انّه لا يتقيدبالصيغ التقليدية أو يكون حبيساً بالافق الذي نشأ فيه فهو يتطلع إلى آفاق المستقبل ويرسم على ضوء ذلك نهجه التجديدي.
فتراه يدعو إلى التحرر مما يسميه في محاضرة المحنة من «النزعة الاستصحابية» تلك التي تتحقق في نفس الإنسان وتحول دون ان يتفاعل مع الجديد في المنهج أو الكتاب أو الاسلوب، لذلك يتجه إلى مواكبة العصر ومندداً بالاساليب التي مضى عليها الزمن وكانت صالحة ليس لانسان اليوم انما لانسان الظرف الذي ولدت فيه تلك المبادرات.
فهو مثلاً يذكّر بمحاولة الشهيد الاول (رضوان الله عليه) في تنظيم شؤون الدين والمرجعية في ظرف يختلف عن هذا الظرف كانت المحاولة في زمن المماليك في سوريا ثم يذكر ان العالم اليوم لم يقف عند حدود المماليك انّه يتحرك باستمرار.
3ـ التنوّع: الكثير من مفكري الإسلام وروّاده اشتهروا بالابداع والتفوق لكن الحفاظ على هذا الابداع والتفوق وفي مختلف المجالات التي خاضوها امر نادر جداً.
فالامام الشهيد الصدر كتب بالفقه والاصول والتاريخ والتفسير والفلسفة والاقتصاد والاجتماع، قد ظل معانقاً القمة في كل هذه المجالات وإذا اخذنا بنظر الاعتبار ان انتاجه المبكر في الفلسفة والاقتصاد جاء ليس فقط في مرحلة مبكرة من عمره بل في ظرف لم يكن للاسلام قاعدة دولية ولم تكن الصحوة الإسلامية قد بلغت ما هي عليه الآن. وعلى الرغم من كل ذلك فقد مضى إلى الآن اكثر من ثلاثين عاماً ولم ترَ المكتبة الإسلامية نتاجاً نوعياً في هذه المجالات يضاهي ما انتجه الصدر فضلاً عن ان يتفوق عليه.
4ـ المقارنة: لعل النهج العلمي الذي يتكفل طرح الفكرة والاستدلال على صحتها له حصّة كبيرة في التأثير في الاجواء التي تكون الفكرة بعيدة عن التحديات للفكر الآخر فيما يكون النهج المقارن الذي يتولى تفنيد الفكر الآخر بالحجة والدليل وابراز الفكر الاسلامي الاصيل باجلى صورته من القوة والنصاعة والواقعية يتطلب مقدرة فائقة واطلاعاً واسعاً وموضوعية منقطعة النظير.
البحوث التي كتبها (رض) كانت تتميز بذلك المنهج المقارن الذي كشف عن استيعاب واسع لفكر الآخرين ونقل امين لما يتطلبه البحث من نقل نقاط الخلاف والالتقاء.
ولعل ذلك يبدو جلياً في اقتصادنا وفلسفتنا حين يتناول الماركسية والرأسمالية ثم يُجلّي المدرسة الإسلامية.
وحتى في التفسير حين يستعرض انواع التفسير ثم ينتهي إلى اهمية التفسير الموضوعي التوحيدي.
5ـ التقويمية: صاحب المنهج التقويمي يحتاج إلى نظرة ثاقبة تغور إلى عمق الواقع الذي يحيطه لكي يشخص نقاط الخلل ويحتاج إلى جرءة عالية ليفوه فيها دون أن تأخذه في الله لومة لائم ويحتاج ايضاً إلى نظرة هادفة تطرح البديل دون ان تقف في حدود الرفض للخطأ وإلاّ ستكون العملية النقدية ذات اثر سلبي لا تترك الا اسوء الآثار في المجال الذي يثار فيه النقد.
ومنهج الصدر الشهيد توافر على هذه الخصوصيات فتراه يتكلم بحرقة القائد الذي يتقطع من اجل رسالته ويتفانى من اجل امته وحين يتساءل: «لماذا تعيش الحوزة العلمية في هذا البلد مئات السنين، وإذا بابناء هذا البلد أو ببعض ابنائه يظهرون بمظهر الاعداء والحاقدين والحاسدين والمتربصين بالحوزة الا تفكرون في ان هذه هي جريمتنا قبل ان تكون جريمتهم؟ لاننا لم نتعامل معهم، نحن نتعامل مع اجدادهم.
6ـ الواقعية: ويستبطن منهجه في هذا البعد صفة الوعي لواقع الاُمّة ولما ينبغي ان تكون عليه، وعدم الوقوف عند حدود طرح الإسلام العقيدة أو الإسلام النظرية بل اعتماد الخطوات العملية التي تتكفل احداث التغيير في المجتمع ليتحرك على هدي الإسلام لتحقيق اهدافه وفي هذا السياق يأتي دوره في جماعة العلماء وتأسيسه لحزب الدعوة الإسلامية وما وضع له من اسس وحدد لمسيرته من معالم تؤهله ممارسة دوره التغييري الاسلامي في الاُمّة رغم كل ما يواجه من تحديات وما تتطلب تلك العملية من سيل من التضحيات.
بدأنا الحديث عن الصدر الفكر، تحدثنا عن الصدر المنهج والآن ننتقل إلى الصدر السلوك والموقف وهنا لابد ان نشير إلى الحقائق التالية:
1ـ ان دراستنا للفكر وتحصيلنا للثقافة لا ينبغي ان يكون من موقع الترف والتمايز على الآخرين، فان العلم يستمد قيمته من قيمة العمل، والامام الصدر يقول «اننا ندرس العلم للعمل ولا ندرس العلم لكي نجمّده في رؤوسنا: نحن ورثة الانبياء بحسب زعمنا والانبياء عاملون قبل أن يكونوا علماء وهم علماء لكي يكونوا عاملين وليسوا عالمين من دون عمل».
من هنا ووفق هذه الحقيقة نريد ان ننفتح على الصدر العامل بعد ان انفتحنا عليه الصدر العالم لنرتب في ضوء ذلك جملة امور:
أ ـ قيمة المبادىء التي انتجت هؤلاء الرجال الذين رفضوا ان يكونوا حبيسي ظرفهم ومرحلتهم وانطلقوا يطوون الزمن ويصنعون المستقبل.
ب ـ مقدار اندكاك هؤلاء في عقيدتهم وذوبانهم فيها إلى الدرجة التي اصبحت شخصياتهم تمور بمفاهيمها.
جـ ـ جدارتهم العلمية التي اهّلتهم لمثل هذه المهمة الصعبة التي تنوء بحملها الجبال.
2ـ الحقيقة الثانية هي التضحية من اجل المبادىء خصوصاً عندما يصل حجم التضحية إلى اختيار القتل من اجل المبدأ.
3ـ الحقيقة الثالثة اننا كثير ما نقف على نتاج الفقهاء والمفكرين دون ان نقف على سيرتهم الشخصية وما تعبق به من روح ايمانية وخلق اسلامي رفيع وهذا قد يحول ولو إلى حد ما دون ان نأخذ تلك السيرة دورها التربوي في بناء الشخصية. لان العلم المجرد والمفهوم النظري مهما بلغ من القوة لا يأخذ طريقه في النفس بالدرجة التي يكون فيها مقروناً بالتطبيق لمن يدعو له.
4ـ الحقيقة الرابعة إنّ الكلمة مهما بلغت من القوة في نفوس الذين يتعاملون معها لا يمكن ان تصل المدى الذي تصل إليه مقرونة بالموقف وحين ينتكس المرء في اتخاذ الموقف تقع الكلمة في نظر الآخرين ضحية ضعفه. من هنا كان لزاماً علينا ان نقرأ الكلمة مرتين مرة حين يطلقها صاحبها من مواطن التوجيه واخرى نقرأها من مواطن التضحية من اجلها.
5 ـ الحقيقة الخامسة ان الموقف الخاتم للحياة والذي يتسنم الإنسان فيه موقع الشهادة وهو العالم والمبدع جدير بان يجعل الآخرين ان يتأملو كل فصول حياته الشريفة لانها كونت محتواه الروحي والفكري والنفسي والتي دللت بالشهادة بما لا يدع مجالا للشك على سلامة بنيته.
فإذا كنّا قد قرأنا فكراً في أتون معركة فكرية وتحدي فكري فنحن الاسلاميين مدعوون لان نقرأه اليوم موقفاً. فاذا كان الصدر قد خط بقلمه فكر الإسلام فهو اليوم قد خط بدمه الزكي موقف الإسلام المتحدي.
سيرته الذاتية
ذكاؤه: «تحدث عنه مدرس اللغة العربية قائلاً: والله لولا الانظمة والقوانين ولو كانت هناك حكومة تقدر النبوغ والكفاءة لمنحته الشهادة الثانوية باعلى الدرجات وفتحت له ابواب الكليات ليختار فيها ما يشاء وكفيته امر الذهاب إلى المدرسة والعودة منها إلى البيت. ان المامه باللغة العربية يفوق حد التصور لطفل في سنّه وكم من مرة جعلني اقف امامه محرجاً لا اجد جواباً فاضطر ان اؤجل الجواب على سؤاله إلى يوم آخر لئلا اكون في موضع العاجز عن الجواب امام تلامذتي» .
ويذكر السيد الحائري عن استاذه الامام الشهيد: انّه اورد على استاذه السيد الخوئي فيما بين الصلاة والدرس ـ في مسألة من اهم المسائل الاصولية ـ فأجاب السيد الخوئي بجواب واجابه السيد الشهيد بنقض عليه فأجابه السيد الخوئي بجواب آخر فنقض عليه الشهيد بنقض آخر وهو لا يزال يجيبه وينقض عليه حتى وصلت النقوض إلى السبعة وأخذ السيد الخوئي يفكر في الجواب غير ان وقت الدرس قد حان فانقطعت المناظرة بينهما» .
«وقد حدثني احد الزملاء ممن كان لديهم المام بالماركسية واطلاع على كثير من الكتب التي كتبت فيها قائلاً له: لقد جاءني يوماً مبدياً رغبته في ان يقرأ بعض الكتب الماركسية ونظرياتها ليطلع على مكنونات هذه النظرية. ترددت في بادىء الامر عن ارشاده إلى ذلك لانه طفل وخشيت ان تتشبع افكاره بالماركسية ونظرياتها، وبعد الحاح منه شديد ولما كنت لا احب رد طلبه ارشدته إلى بعض المجلات والكتب المبسطة في كتابتها عن الماركسية وفي عرضها لها. وقد اخذت على عاتقي تهيئة ما تيسر لي من هذه المجلات والكتب وهي نادرة وعزيزة لانها كانت آنذاك من الكتب المحرّم بيعها في المكتبات. وبعد ان تسلّمها مني تهلل وجه فرحاً ثم اعادها الىّ بعد ان قرأها مكرراً طلبه ان اجد له كتباً اكثر موضوعية واعمق شرحاً وعرضاً لآراء الماركسية فهيأت له ما طلب وكنت اظن انّه سوف لا يفقه منها شيئا لانني انا نفسي رغم مطالعاتي الكثيرة في هذا الموضوع اجد احياناً صعوبة في فهمها. وبعد مدة اسبوع واحد اعادها الي وطلب غيرها. واضاف المدرس قائلاً: احببت ان اعرف ما الذي استفاده هذا الطفل من قراءته لهذه الكتب وإذا به يدخل في شرح الماركسية طولاً وعرضاً فأخذت عن شرحه لها كل ما غمض عليّ معناه عند قراءتي لها، فعجبت لهذا الطفل المعجزة وهو لما يزال في المرحلة الثالثة من الابتدائية وقد زاد في اطمئناني عندما راح يشرح لي انّه كان يأتي على مناقشة كل رأي على حدة مناقشة العالم المتبحر في العلم فاطمأننت بأنّه لم يتأثر بالماركسية مطلقاً وانّه كان يقرؤها كناقد لا كدارس لها .
من خلال هذه الامثلة الثلاثة، مثل على ذكائه كما يرويه مدرسه وهو في مرحلة مبكرة من العمر وقد شهد له ذلك الاستاذ بانه كان قد وصل من النبوغ والذكاء ما تجاوز المرحلة الدراسية التي هو عليها واستحق ان يكون في مرحلة الجامعة. وهذا ينم عن وجود ذكاء غير طبيعي وهو في مثل تلك السن المبكرة.
ومثل على مناقشته وردّه على استاذه السيد الخوئي وبتلك السرعة من النقض وتكرار النقض على كل جواب إلى ان يصل حد السبعة. وإذا اخذنا بنظر الاعتبار القدرة العلمية الفائقة التي يتمتع بها السيد الخوئي ادركنا مبلغ الذكاء والحنكة التي وصل اليها السيد الشهيد.
ومثل على اطلاعه على الادب الماركسي وهو في مثل تلك العمر المبكرة مما يدل على انّه لم يكن فقط قد انفتح على الادب والقصص الادبية ككتب فيكتور هيجو (وغوته) وانما دخل في محاكمة الفكر الماركسي بما فيه من بريق وترابط بين العقيدة المادية والنظام الاقتصادي. وهذا يدل على القدرة الفائقة لتحدي هذا الفكر والكفاءة المنقطعة النظير التي لم تجعله فقط عديم التأثر به بل تجعله في موقع يورد عليه الاشكالات والتي تفجرت فيما بعد عن منازلة جسوره اهلته لتقويض الماركسية عقيدة ونظاماً وفهماً للتاريخ وبالشكل الذي جعل الكثيرين ممن يختلفون مع الماركسية لا يستغنون عن مطالعة ودراسة فكر الامام الصدر في هذا المجال ليحصنوا انفسهم من التأثير بالفكر الماركسي رغم انهم غير اسلاميين ولا يؤمنون بالفكر الاسلامي.
اجتهاده
منذ تلك الفترة في أوائل بلوغه بلغ الإمام الشهيد ما لم يبلغه العلماء من افاضل الحوزة حتى قال عنه اخوه السيد اسماعيل «سيدنا الاخ بلغ ما بلغ في اوان بلوغه» . ففي السابعة عشر من عمره الشريف شهد له العلماء بملكة الاجتهاد ففي عام(1370 هـ) توفي الشيخ محمد رضا آل ياسين (ره) وعلّق الشيخ عباس الرميثي بتعليقه على رسالة الشيخ آل ياسين (بلغة الراغبين) ولفرط اعتقاده وشدة ايمانه بذكاء شهيدنا الصدر ونبوغه طلب منه ان يحضر مجلس التحشية فلبى الشهيد دعوة استاذه واشترك في مجلس التحشية.. وكان يقول له الشيخ عباس الرميثي في ذاك التاريخ: ان التقليد عليك حرام .
ويقول الفقيه السيد كاظم الحائري: سألت الاستاذ ـ رحمه الله ـ ذات يوم عن انّه هل قلّد في حياته عالماً من العلماء اولاً؟ فأجاب بأني قلدت قبل بلوغي سن التكليف المرحوم الشيخ محمد رضا آل ياسين، اما من حين البلوغ فلم اقلد احداً. ولا اذكر انّه قال: كنت من حين البلوغ اعمل برأي أو قال: كنت بين العمل بالاحتياط والعمل بالرأي .
في مثل هذه السنة المبكرة بل السيد الشهيد ما بلغه من مرتبة الاجتهاد وبتلك الجدارة ولعل ما صدر منه من انتاج على مستوى اقتصادنا وفلسفتنا دلالاته على ذلك المستوى الرفيع.
تواضعه
ومن المصاديق الرائعة التي جسدها الامام الشهيد ما ينقله السيد كاظم الحائري يقول «حدثني ـ رحمه الله ـ ذات يوم: انّه كتب كتاب (فلسفتنا) اراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الاشرف بعد عرضه عليهم متنازلا عن حقه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب الا ان الذي منعه ان جماعة العلماء ارادت اجراء بعض التعديلات في الكتاب وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي استاذنا الشهيد ولم يكن يقبل باجرائها فيه فاضطر ان يطبعه باسمه» .
ربما يرغب الكثير من المؤلفين ان يذاع لهم نتاج في مجال الكتابة خصوصا إذا كان في عمر مبكر وحين يكون الكتاب في حجم قيمته بالحجم الذي يبلغه كتاب فلسفتنا فان مؤلفا لمثل هذا الكتاب وفي تلك السن المبكرة ما لم يكن كبيراً في نفسه ومندكاً بالله تعالى يصعب عليه والحالة هذه ان يقدم على مثل هذا الاجراء.
وكذلك كان موقفه في البيانات التي كتبها باسم جماعة العلماء، انها كانت من خط يده لكنها صدرت باسم جماعة العلماء.
حدثني احد العلماء انّه رغم صغر سنه لم يستطع ولا مرة ان يبدأ السيد الشهيد بالسلام ذلك لانه لم يترك فرصة في اللقاء الا وبدأ السيد الشهيد نفسه بالتحية واذكر قصة شهدتها يوم زرته وأحد الاشخاص معي إلى بيته فسأل عن بعض الكتب التي صدرت حديثاً وقد ذكر ذلك الشخص اسماء بعضها التي صدرت في الاردن وكان يومها يتردد على ذلك البلد. فطلب منه السيد الشهيد بعضها وما ان ذكر احد الكتب التي رغب بقرائتها حتى توقف هذا الشخص عنده قائلاً: انّه كتاب غير جدير بالاهتمام سأله السيد الشهيد هل قراءته قال نعم قال هلا اعطيتني فكرة عن محتواه اخذ ذلك الشخص يتحدث عن الكتاب والسيد الشهيد يصغي وبكل احترام إليه وكأنه لم يكن ذلك المفكر الكبير كان يتطلع إليه وهو يتحدث وما ان انتهى من تقريره عن الكتاب حتى قال له الشهيد الصدر جزاك الله خيراً اغنيتي عن قرائته.
مثلان متحركان نعيشها في كل ساحة وفي كل ظرف ومع مختلف الشرائع الاجتماعية التحية مع من نتعامل ويثبت لنا السيد الشهيد (ره) تأسياً بجده المصطفى (ص) وآبائه الائمة الاطهار (ع) ان يبدأ بالسلام وعلى من هو اصغر منه سناً فما بالك بالكبار والمجاهدين.
والاستماع باحترام دون مقاطعة لمن اطلع على كتاب ما. لم يكن السيد الشهيد قد شعر باي حرج أو ازعج بل بدت على وجهه سمات الارتياح يريد ان يربي الآخرين انهم يتحدثوا من الموقع الذي يعملون فيه دون تردد وبذلك اعطى الصورة الناصعة للعالم المربي الذي يتجلّى بالتواضع باجلى صوره.
عطفه
من اجمل مصاديق الرعاية والعطف رسالة كتبها لخادمه وهي بالنص التالي:
«جناب الوفي الزكي الصفي والمؤمن المهذب محمد علي حرسه الله بعينه التي لا تنام.
السلام عليكم ورحمته وبركاته
وبعد فقد تسلمت رسالتكم الكريمة وكنت في تلهف للاطلاع على احوالكم واستقراركم ففرحت بالرسالة كثيراً وحمدت المولى سبحانه وتعالى على وصولكم وسائر افراد العائلة صحيحين سالمين وعلم الله ان ذكرك وصورتك في قلبي والبراني بكل ما فيه يذكّر بك وبنبلك وامانتك فأنت لم تكن خادماً للبراني وانما كنت ابناً من ابنائه البارين وولداً من اولاده المخلصين اعادك الله إليه على افضل حال بجاه محمد وآله الاطهار واني على اي حال وفي جميع الاحوال حاضر لما اقدر عليه من عونك ومساعدتك وان ولدنا آقاي ابو احمد حفظه الله يمكنك ان تلجأ إليه كلما احتجت اليّ.
ان الرفقاء والعائلة جميعا يذكرونك بافضل الذكر واعطره ويشعرون بالوحشة لسفرك وولدنا محمد جعفر حينما اطلع على ان الرسالة منك اهوى عليها بفمه وامتد يقبلها وهو يناديك وقلبه الصغير ممتلىء حباً ووفاءاً لك وثناءاً عليك» .
اي قلب ذلك الذي يختزن صورة خادمه فيه واي حسّ مرهف الذي لم ينكر على الآخرين نبلهم وامانتهم واي صدر ذلك الذي يحتضن الخادم لينزله منزلة الابن البار والولد المخلص وايُّ اب قائد ذلك الذي يربي ابنه على تقبيل الفضيلة حتى إذا تأطرت برسالة خادم واي ثقة هذه التي تجعله يعتز لان يفضي بهذا الاحساس للخادم وهو يكتب له رسالة بخطه…
وفي الإهداء الذي قدمه لكتابه دروس في علم الاصول وجهه إلى السيد عبد الغني الأردبيلي بعد ان سمع بنبأ وفاته في حادث سيارة وهو من طلابه:
«اي رب اني إذا كنت قد عجزت عن مكافأة هذا الولد البار الذي كان بالنسبة لي وبالنسبة إلى ابيه معاً مثلاً فريداً للولد المخلص الذي لا يتردد في الطاعة والتضحية والفداء وإذا كنت قد فجعت به وانا في قمة الاعتزاز به وبما تجسدت فيه من عناصر النبل والشهامة والوفاء والايثار وما تكاملت فيه من خصال التقوى والفضل والايمان وإذا كان القدر الذى لا راد له قد اطفأ في لحظة املي في ان امتد بعد وفاتي واعيش في قلوب بارة كقلبه وفي حياة نابضة بالخير كحياته فاني اتوسل اليك يا ربي بعد حمدك في كل يسر وعسر ان تتلقاه بعظيم لطفك وتحشره مع الصديقين من عبادك الصالحين وحسن اولئك رفيقا وان لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد وفاته ووفاتي بعد ان حرمتني من ذلك في حياته وارجو ان لا يكون انتظاري طويلا للاجتماع به في مستقر رحمتك وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين».
وهو اذ يكتب هذا الاهداء الصادق اللهجة والمتدفق بالحب والعاطفة انما يكتبه إلى انسان رحل عن الدنيا وهو بين يدي الله. كتبه وهو لا يتوقع ان يكون ذلك مدعاة لرد فعل شخصي. ثم انّه يتناوله بالصفات التي يحبها الله تعالى من التقوى والفضل والايمان.. اذن لم يعطه مثل هذا الاحترام وينزله مثل تلك المنزلة الا لله تعالى بعيداً عن الذات.. واي حب ذاك الذي اخذ من السيد الشهيد لان يقول داعياً الله «لا تحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد وفاته ووفاتي» ولم يكن ذلك القلب يتفجر حباً لطلابه ومريديه بل وصل إلى المدى الذي غمر حتى من تحرك في اطار معاديه بل الدّ اعدائه.
ومن ذلك ما ينقله الشيخ محمد رضا النعماني الذي لازمه في ايام الحصار والاقامة الجبرية يقول: ( فلقد سمعته مرة يكثر من قول لا حول ولا قوّة الا بالله.. ولما استوضحته علمت انّه نظر من الشباك فرأى رجال الامن ممن كان مكلفاً بالحراسة على بيته في اقامته الجبرية عطاشى يتصبب العرق من وجوههم فأمر الخادم بأن يسقيهم الماء. ولما قلت له سيدنا هؤلاء يستحقون اكثر من ذلك قال: انت واي طالب آخر عندما توضع هذه العمامة على رأسه يجب ان يغير نظرته للناس (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). انت عشت في بيئة مؤمنه فصرت مؤمناًولو ان المجتمع اتاح لهؤلاء الفرصة لكانوا مثلك ومثل اي مؤمن آخر، وما يدريك ان يأتي وقت يهتدون فيه.
ثم يقول الشيخ النعماني: إن هذا الخلق الرفيع لدى هؤلاء كوّن شعوراً بمظلومية السيد الشهيد فقاموا بكتابة المنشورات ضد السلطة والصقوها على الجدران فشعرت بهم السلطات فالقت القبض عليهم .
موقفه ممن يسيء إليه
ربما اتسع صدر البعض للناقدين والمتجاوزين حين يكون التجاوز بعد لم يصل حد الشتم وإذا شملت دائرة الاتساع للشامتين فمن الصعب ان نرى من يبرر شتمهم ولا يقفون عند هذا الحد بل يثبت اعتقاده بعدالته مستدلاً لمسألة القناعة والاعتقاد وليس بدافع اللامبالاة بالدين.
هكذا يكون العالم الرباني الذي يتآنى في الحكم على الاخرين ويلتمس لهم ما امكنه من الاعذار كي نحفظ لهم مكانتهم عنده وعند الآخرين. وكمثل على ذلك ما حصل له مع احد طلاّبه «انفصل احد طلابه عن درسه وعن خطه الفكري الاسلامي ثم بدأ يشتمه وينال منه في غيابه امام الناس وكان كثير من كلماته تصل إلى مسامع استاذنا العظيم وكنت ـ السيد الحائري ـ ذات يوم جالساً بحضرته الشريفة فجرى الكلام عن الطالب الذي ذكرناه فقال: انا لا زلت اعتقد بعدالة هذا الشخص وان ما يصدر منه ناتج عن خطأ في اعتقاده وليس ناتجاً عن عدم مبالاته بالدين» .
زهده ومواساته للآخرين
حين لا يستطيع المتصدي ان يلبي حاجة الفقراء لينتشلهم من هوة الفقر يعذره الناس لكن الذي لا يعذر عليه هو عدم الموساة فمن اجل ان تتجسد الصورة الإسلامية التي اعلنها علي امير المؤمنين (ع) «لكي لا يتبّيغ بالفقير فقره» نجد ان الفقراء حين يرون القادة بمستوى معاناتهم يأنون لأناتهم يثبتوا على الطريق ويتخذوا منهم قدوة.. فالسيد الصدر كان متواضعا في مأكله وملبسه وكما ينقل عنه خادمه: «دخلت عليه صباح احد الايام لآتيه بفطوره فرأيته يأكل صمونة يابسة كنت قد جلبتها منذ اسبوع فلما رآني استحى ودار وجهه الشريف.. واما من ناحية اثاث البيت وفراشه فلا يوجد شيء جديد الا ما كان موجوداً في ايام زواجه وتلاحظ عباءته فهي الاخرى قديمة مضت عليه السنون» .
تفاعله مع ما يقول
ان من ابلغ عوامل التأثير في الآخرين هو ان يتفاعل المتحدث نفسه مع حديثه وهذا يتآتى من ايمانه وصدقه وحكمته حين يتحدث وقد تميز السيد الشهيد من جملة ما تميز به هو تأثيره فيمن يتحدث معه فهو يتمتع بقدرة عالية ليس فقط بالاسلوب بل بعمق التفعل واستجاشة المشاعر.
فقد روي عنه ان كان يتحدث بمناسبة ولادة الامام الحسن (ع) أو وفاته وقد جرت عادته ان يوقف الدرس بمثل هذه المناسبات ويصب الحديث عنها.
وقد كان من الحضّار احد المجتهدين وكان متخصصاً بالسيرة، وحيث استرسل السيد الشهيد بالحديث كان قد اجهش الحاضرون بالبكاء ثم نقل عن هذا المجتهد انّه هو الآخر كان يستمع إليه ويبكي إلى ان اخذ السيد الصدر هو الآخر يتحدث ويبكي ليس فقط لانه يستوحي فكراً ونظريةً من حياة الامام (ع) انما كان يتعامل في عمق قلبه وبغزارة مشاعره لذلك كان يحدث مثل ذلك التأثير في الآخرين.
تنوع ثقافته
ما اروع ما يكون فيه العالم من الثقافة المتنوعة التي تجعله ومن موقع وعيه يفهم الآخرين ويفهم محنتهم ويتناول اهتمامهم من زاوية التأثير عليهم وبذلك تتحول الثقافة والوعي إلى اداة للتغيير وليس إلى اداة من ادوات الابتزاز أو التفوق عليهم. ان اهتمامات الناس وعوامل الضغط المحسوسة تجعلهم يتطلعونه إلى المنقذ الذي يملك القدرة على التشخيص والكفاءة باجراء الحلول..
وفي هذا الصدد اذكر اني توفقت لزيارة السيد الشهيد مع بعض الاخوة المؤمنين وقد سأله احدهم وقد استشهد فيما بعد عن مسألة الغناء والموقف من الحالات التي تصادفنا في وسائط النقل (السيارة) وبمجرد ان اتمّ الاخ سؤاله قال الامام الصدر (ره) إذا كنت تسأل عن مبررات التحريم والروايات التي جاءت بهذا الصدد فارجع إلى وسائل الشيعة لتجد فيها الكثير من الروايات بهذا الصدد وان كنت تسأل عن اثر الغناء في النفس وما يترتب عليها من مفاسد فلذلك حديث آخر اجابه الاخ بانه يسأل عن ذلك (المفاسد المترتبة) وشرع السيد الشهيد بحديث مفصل تجاوز النصف الساعة وقد حلّق في كلمته بربط المشاعر بالافكار وضرورة اخضاعها (اي المشاعر) للفكر دون أن تحدث حالة من الانفصام بينهما وكان يتساءل مسترعياً انتباهنا هل الإسلام يريد لنا ان نفهم لماذا نفرح لما نحزن؟ ام نجعل مشاعرنا رهن ألحان معينة تتلاعب بها حيث تشاء.. وما انتهى من الحديث حتى احدث ابلغ الاثر في الاخوة الحاضرين جميعاً.
واذكر له قصة ثانية اذ زاره احد الاخوة ومعه مجموعة من الجزائريين كانوا يرغبون بزيارته وما ان وصلوا إلى البيت حتى اخبرهم الخادم بان السيد (ره) نائم وبعد ان فهم بان هؤلاء من الجزائر وانهم يرومون السفر في اليوم الثاني إلى الجزائر ولا يسعهم الوقت لتأجيل الزيارة حتى ذهب وايقظ السيد وبعد ان توضأ جلس إلى جانبهم يحييهم ويتطلع في وجوههم وبدأ يتحدث معهم انكم من بلد الجزائر بلد الإسلام البلد الذي ثار فيه عبد القادر الحسيني الجزائري واستطرد يتحدث عن اهمية الحفاظ على تلك الثورة وطال بهم الوقت وهم ينظرون له بلهفة وقد التمسوه في ان يجري معهم لقاءً آخر وقد زاروه في اليوم الثاني وقد ارجأوا سفرتهم.
وعيه
النظرة السطحية لاي عمل تقيّمه على اساس حجمه المادي واثره الوضعي ولكن النظرة الواعية تغور فيه لتخرج منه نتائج وعبر تستحق التقييم. لذلك كان الواعي اكثر اهتماماً للامور التي تمس المجتمع وتحمل في طياتها دلالات ايمانية واجتماعية.
واذكر في هذا الخصوص اني ارسلت له (رحمه الله) بعض الحقوق الشرعية لبعض الاخوات والاخوة الاطباء وهم الآن في المهجر والمبلغ كان محدوداً لان الراتب الشهري(63 دينار) في حينها وما ان استلم الشهيد المبلغ لاحدى الاخوات رفع يديه وحمد الله تبارك وتعالى وسأله الشخص الذى ارسلته بيده قائلاً هل لهذا المبلغ قيمة (اقل من ثلاثة عشر دينار)؟ فاجابه السيد الشهيد (ره) انني احمد الله تعالى لما يحمل هذا من دلالة ثم قال له نحن الان في عام(75) في المحنة وهناك مؤمنات طبيبات ويعطين الخمس؟
وفي نفس الصدد اشتهرت فتواه بتحريم (النكته) والهزل والتجريح على الاخوة الاكراد ادراكاً منه انها وظّفت للاساءة إلى سمعتهم وبالتالي شق الصف والنيل من كرامتهم.
نظرته للشهادة
نقل لي احد الاخوة (حفظه الله) وكان قد حضر وليمة خاصة للسيد الشهيد اعدها لعدد محدود في جلسة خاصة، وحين هيأ السيد الشهيد الطعام كانت المائدة على غير المألوف من حيث تنوع الطعام والفاكهة وكان السيد الشهيد قد بدت عليه سمات الفرحة الغامرة. وكان قد سأله احدهم (سيدنا نراك فرحاً والسفرة عامرة بالطعام. هل لنا ان نعرف المناسبة قال لهم قد رايت في المنام اني استشهد وقد سرّني ذلك).
وحين ترددت شائعة بين اوساط المؤمنين مفادها ان مؤامرة تحاك للقضاء على شخص الامام الصدر بشكل هادىء لا يثير الشكوك ضد السلطات فتدبر ضده حادث سيارة وهو في طريقه لزيارة الامام الحسين (ع) في كربلاء.
وعلى اثر هذه الشائعة سارع احد العلماء للتعبير عن قلق المؤمنين فأخبر السيد الشهيد وحذره كيد السلطة وموآمراتها فقال (رضوان الله عليه) «لا يهمني بأي طريقة اموت لان الموت واحد ولا فرق عندي بين ان اموت بحادث سيارة أو بطلقة أو على الوسادة».
ولما طلب من السيد الشهيد (ره) ادانة الثورة الإسلامية والتعرض بسوء لشخص قائدها الامام الخميني قال السيد الشهيد مخاطباً ضابط الامن «لقد كان هدفي وامنيتي تأسيس حكومة اسلامية والآن وقد تأسست في ايران وتحققت امنيتي فكيف اقول شيئا ضدها؟
وعندما قال له الضابط بأنه سيعدم قال له السيد الشهيد: إذا كنت مأموراً بتنفيذ حكم الاعدام فنفذه الآن وانا انتظر الإعدام منذ فترة والشهادة طريق آبائي واجدادي فما كان من ضابط الأمن إلاّ أن بكى وقبّل يد السيد الشهيد.
شهادته
ليس هنا مجال الحديث عن تفاصيل الاحداث التي جرت قبيل استشهاده لان ذلك خارج حدود هذه الدراسة ويفترض ان يعقد لذلك فصل خاص يتول متابعة الاحداث السياسية والظروف المعقدة التي تقدمت وحفت ذلك الحدث الجلل والفاجعة الكبرى.
لكن الذي اريد الاشارة إليه ان السيد الشهيد كان قد علم من خلال قرائن متعددة بانه مقتول لان حالة وهو من ذلك الموقع بقي بكامل الجدارة والشجاعة والورع يمارس دوره القيادي، ولقد حاولت السلطة العميلة الظالمة لصدام ان تساومه من خلال عدة طروحات واجراءات حتى تلغي قرارها بالاعدام.
1ـ فتوى بجواز الانتماء لحزب البعث.
2ـ فتوى بتحريم الانتماء لحزب الدعوة الإسلامية.
3ـ ادانة الثورة الإسلامية والتعرض بسوء لشخص الامام الخميني.
لم يستجب لهم ولم يعض لضغوطهم ثم طلبت منه السلطة ان يوافق على احد الاجراءات الثلاثة. وقد وعدوه بتنفيذ ما يريد ولم يكن منه الا ن يقول كلمة الرفض القاطعة التي لا تردد فيها فجاء القرار وحصلت المأساة التي حجبت الظروف ما جرى على الامام الصدر من صنوف التعذيب والوان التنكيل فان الايام القادمة ستكشف هذه الحقائق وعندها سيتضح ان الصدر شمخ على هامة الزمان بصموده وانّه انسى قصص التعذيب الذي مارسها هولاكو وجنكيز خان وستالين وهتلر والحجاج ونادر شاه وكل مجرمي التاريخ بحق مناوئيهم. وان الصدر الذي هو قمة في الفكر وقمة في الخلق وقمة في السلوك لكن قمته في الصمود اعلى من كل تلك القمم، وان الذين عرفوا ما جرى للشهيد الصدر ادركوا عمق ايمانه لان الصبر الذي تحلى به ازاء البلاء الذي صب عليه لتزول منه الجبال ويؤرق العين ويقطع نياط القلب سيدي ابا جعفر وانا اكتب هذه الكلمات غمرتي موجة البكاء واشتدّ بي الاسف واعترتني احاسيس اللوعة.
حرقة عليك وانت تقاوم وتعطي حتى النفس الاخير تتحدى اعتى طواغيت الارض فهنياً لك هذا القلب المفعهم بالايمان وهذا الصبر الذي على ايمانك وانت تأبى الا ان تتوج مسيرتك العلمية الجهادية باكاليل الشهادة.
فيا سليل العترة الطاهرة ويا ابن الاسرة العريقة بالعلم ويا ابي الضيم ويا جواد النفس لقد تركتنا ونحن بامس الحاجة اليك.. عقلا يتفتق عن فكر خلاق وقلباً يتفجر عن ينابيع الحب. ومشعلاً تنير لنا الطريق.
ولكن ان فقدناك جسداً.. فان روحك لم تفارقنا ابداً. ان المجاهدين مدينون اليك بفكرهم.. وجهادهم وانهم حوّلوك إلى لحن خالد يردّوون مع نشيد جدك الحسين (ع).
فدم الشهيد لا يزال يتحرك في العروق ونفسه يتصعّد في الصدور إلى ان يمن الله تبارك وتعالى علينا ويجمعنا مع الشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.

د. إبراهيم الأشيقر