الإمام القائد والشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

العلاقة بين الإمام القائد الخميني حفظه الله والسيد الشهيد الصدر(قده)، ليست موقفاً سياسياً طارئاً، أو حدثاً انفعالياً لا يلبث أن يزول سريعاً.. وإنما هي مجموعة التزامات مبدأية ثابتة، تقوم على قاعدة (الإسلام) و(الشرعية)، وواجب النصرة والمساندة والتأييد للثورة الإسلامية المباركة، وفي إطار التكليف الشرعي الواضع والدقيق.. لهذا فإننا نرى الشهيد الصدر(قده) يبادر إلى تجسيد هذه الالتزامات الشرعية بالقول والعمل وإلى حد الشهادة، فبرغم عنف وشراسة المواجهة مع النظام الصليبي الصدامي، فإنه(قده) قد (وضع كل وجوده) في خدمة (الوجود الكبير) فبعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في (الأرض الطيبة) وعودة الإمام القائد مكللاً بالنصر والظفر، كتب الشهيد الصدر(قده) إلى الإمام القائد يقول:

((إني أكتب إليكم في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ امتنا الإسلامية لأعبر عن اعتزاز لا حد له بما حققه المسلمون من انتصار باهر بقيادتكم الرشيدة، إذ استطعتم أن تقدموا أطروحة الإسلام للعالم كله كبديل منقذ عن الحضارتين المتصارعتين يكفل البشرية سعادتها وكرامتها، وبما حققه الشعب الإيراني العظيم بقيادتكم البطولية من ملاحم النصر التي كان على رأسها تطهير الأرض الطيبة من شبح الطاغية واستعادة الأمة لأرادتها وكرامتها، وبما حققته الروحانية بقيادتكم المرجعية من تلاحم فريد ووحدة روحية وفكرية وعملية لم يسبق لها نظير في تاريخ علماء الإمامية، وهذه الوحدة هي سلاح الشعب والضمان الأكيد لقوته وانتصاره، وإنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير ونبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظله، ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم…)).

ولقد أشهر السيد الشهيد الصدر(قده)، بعد ذلك موقفاً لا يستطيعه إلا النوادر من الرجال ولا يتحمل نتائجه إلا صانعوا التاريخ، إذ ارتدى أكفان الشهادة، ورفع صوته، ويده بكل قوة ووضوح ضد النظام البعثي الكافر، وأعلن للشعب العراقي: ((سأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك)) ونعى نفسه الزكية إذ قال: ((أنا أعلن لكم، يا أبنائي بأني صممت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه مني وأن أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتى يكتب الله لكم النصر)) لأنه رضي الله عنه كان مؤمناً بأن ((زماننا هذا يشبه زمان الإمام الحسين(ع)، والأمة بحاجة إلى تضحية وفداء عظيمين يهزان مشاعرها))، إن فكرة الشهادة والتضحية بالنفس من أجل الإسلام قديمة في وجدانه الطاهر وقد ((تشرف ذات مرة بخدمة الإمام الخميني – حفظه الله – في بيته في النجف الأشرف، وعرض عليه الفكرة مستشيراً في مدى صحتها)).

لقد بقي الشهيد في قلب المعركة، يقود الصراع ضد الكفر والصليبية البعثية ويدعو العراقيين إلى الثورة ضد المظالم، ومصمما على الشهادة والفوز بالمنازل الرفيعة مع أجداده الطاهرين وأخيراً استطاع (قده) أن يخرق جدران الصمت واللامسؤولية بدمه الطاهر المهدور ظلماً وجوراً وذلك بتاريخ (8 / 4 / 1980م).

أما الإمام القائد، وكل المسلمين في العالم فقد راعهم هذا الخطب الجلل، والمصاب الفادح وتحركت الأمة من أقصى الدنيا إلى أقصاها تتفقد جسامة الخسارة وعمق الجرح، ولقد أصدر الإمام القائد حفظه الله بياناً جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

((.. أن المرحوم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر وشقيقته المكرمة المظلومة التي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة السعادة الرفيعة على أيدي نظام بعث العراق المنحط.. وذلك بصورة مفجعة)).

ثم يعقد الإمام القائد حفظه الله مقابلة بين صنفين مختلفين تماماً، احدهما له ميراث العزة والشهادة، والآخر له ميراث الظلم والجريمة فيقول:

((فالشهادة ميراث ناله أمثال هذه الشخصية العظيمة، من أوليائهم، والجريمة والظلم أيضاً ميراث يناله أمثال هؤلاء جناة التاريخ من أسلافهم الظلمة، فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية على يد أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنما العجب هو أن يموت مجاهدو طريق الحق في الفراش دون أن يلطخ الظلمة الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم، ولا عجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة، وإنما العجب أن تمر الشعوب الإسلامية وخاصة الشعب العراقي، النبيل وعشائر دجلة والفرات وشباب الجامعات الغيارى وغيرهم من الشبان الأعزاء في العراق على هذه المصائب الكبرى التي تحل بالإسلام وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، دون أن يأبه بذلك وتفسح المجال لحزب البعث اللعين لكي يقتل مفاخرهم ظلماً الواحد تلو الآخر… أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة وها أنني أعلن الحداد العام مدة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم الأربعاء الثالث من شهر اردبيهشت، الثالث والعشرين من نيسان، كما أعلن يوم الخميس عطلة عامة وذلك تكريماً لهذه الشخصية العلمية، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلمية ومراجع الدين والمفكرين المسلمين.وأرجو الخالق تعالى أن يعوضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظمة للإسلام والمسلمين، والسلام على عباد الله الصالحين)).

لقد تحولت هذه الشهادة إلى رمز، فكما أن دم جده الحسين عليه السلام أصبح بيرقاً لكل الثائرين، فإن دم الشهيد الصدر وذكرى استشهاده كانت نقطة تحوّل كبرى ليس في تاريخ العراق وحده بل وفي العالم الإسلامي كله، إذ انطلقت قوافل المجاهدين وتحركت الأمة، وفتحت أبواب الجنة للشهداء، أبناء الصدر وعشاق مدرسته وفكره، وفي يوم 9 / 4 / 1981م، وهي الذكرى الأولى لاستشهاده رضي الله عنه توجهت جموع عراقية إسلامية من المجاهدين إلى إمام الأمة مرة اخرى، حيث التقوا به في حسينية جمران، وانشدوا هناك:

باقر الصدر منا سلاما

أي باغ سقاك الحمامـا

أنت ايقظتنا كيف تغفو

أنت أقسمت أن لن تناما

وبعدها تحدث الإمام القائد حفظه الله فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم

((أقدم تعازيي إلى كافة الشعوب المستضعفة والمسلمين في العراق وإيران خاصة بمناسبة استشهاد المرحوم آية الله الصدر. إخواني وأعزائي يا من شردتم من أوطانكم وقد ابتليتم طيلة حكم البعث كما ابتلينا نحن أيضاً بحكومة ديكتاتورية خبيثة عاملت شعبنا معاملة لم يقم المغول بها. لقد نفت علماءنا من وطنهم وقامت بقتل عدد منهم كما استباحت حرمات النساء وسجنت شبابنا وعذبتهم واحرقت بعضهم وقطعت أرجل البعض الآخر. وقد واجه العلماء السجون واهينوا وظلموا لقد أعتقلوا شبابكم لأنهم كانوا يذهبون لزيارة حضرة سيد الشهداء وعاملوهم معاملة شرسة وكان علماؤكم قد ابتلوا بهذا الحزب الفاجر الفاسد. لقد عاملوا آية الله الصدر على يد هذا الحزب لأنه كان يشكو ظلمهم وكان يريد إقامة حكومة الإسلام كما استشهدت شقيقته المكرمة المظلومة على أيدي حزب البعث. اننا قدمنا الشهداء وقدمتم أنتم شهداء أيضاً، إننا أودعنا في السجون كما أودعتم السجون أيضاً، لكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يخلص الشعب الإيراني من الظلم ووفقهم من أجل الانتصار على الحكومة الظالمة وذلك بالاتحاد والإتكال على الله العزيز وقد قاموا بطرد الشاه من بلادهم وقطعوا أيدي القوى العظمى من بلادهم وأقاموا حكومة إسلامية وإنسانية في إيران ومع الأسف هناك أيد أجنبية ظالمة تريد أن لا تستقر هذه الحكومة الإسلامية وأن لا تكون الحكومة بيد الشعب في سائر الدول الإسلامية إن هذا الشخص الذي قام بكل هذا الظلم والجور في العراق وقام بالاعتداء على إيران كان يبغي من وراء ذلك كسب ود الدول العظمى إنه هاجم المناطق التي يسكنها الإيرانيون العرب وقام وهو جرثومة فساد بأسم العروبة بمهاجمة الإسلام وعامل الشعب العربي والإيرانيين العرب كما عامل محمد رضا الشعب الإيراني، وإن صدام قام بقتل العرب وتشريدهم وذبح نساءهم وأطفالهم في المناطق التي يسكنها العرب وسائر المناطق وذلك من أجل العروبة كما يدعي وأنه في الواقع قام بذلك من أجل الشيطان الكبير وأشقاء الشيطان الكبير إذ ضوعفت المقابر في إيران أثر هذه المجازر. ففي ظل حكومة هذا الظالم السفاك لا ينفع سوى الاتحاد والاعتماد على الله. في الماضي عندما كنت في إيران وقبل أن أنفى وأذهب إلى العراق، كنت أظن بأن العشائر العربية التي كانت تحمل السلاح سوف تقف في وجه هذه الحكومة وتوقفها عند حدها، لكن عندما جئت إلى العراق زاد عجبي عندما رأيت أمام أنظار هذه العشائر وحضور الشعب قاموا بمحاصرة المرجع الديني الأعلى للشعب العراقي والمسلمين ونقلوه تحت الحراسة من بغداد إلى النجف واستشهد ظلماً فإذا أراد الشعب العراقي أن يتخلص من المشاكل التي عاناها ويعانيها وإن ينجوا من ظلم هؤلاء الجائرين فعليه أن يسير في الطريق الذي سار عليه الشعب الإيراني. لقد أتخذ هذا الشعب وتمكن بهذا الاتحاد والاعتماد على الله تبارك وتعالى أن يسقط تلك الحكومة الظالمة. ومع أن حكومة الشاه كانت أعظم قوة من حكومة البعث وصدام الخبيث لكن الشعب الإيراني تمكن من الإطاحة بهذه الجرثومة وهذه السلسلة الخبيثة من سلسلة السلاطين الذين كانوا من أكثر الأفراد إجراماً طوال التاريخ دون أن يكون بحوزته أي سلاح وأقام الجمهورية الإسلامية مكانها، فلا طريق أمام العراق سوى هذا الطريق فعلى الشعوب أن تثور وأن تخلص نفسها من أيدي الأشرار وعلى الشعوب أن لا تقعد عن العمل حتى يقوم آخرون من الخارج بتخليصها، فبداية الأنقاذ يأتي من قبل الشعب نفسه، ومع أن إيران كانت وحيدة ولم تعاونها أية دولة بل كانت كافة الدول الإسلامية وغير الإسلامية بأستثناء عدد قليل تعارضها وتقف إلى جانب النظام، فقد أراد الشعب أن تنقرض هذه السلالة الخبيثة وكان له ذلك، فأن أراد الشعب شيئاً فلا يمكن أن يفرض عليه شيء أو ما يخالف إرادته، على الشعب العراقي أن لا يقعد عن العمل وأن ينتظر يداً تأتي من الخارج وتنقذه فالشعب العراقي هو شعب مسلم ويتبع الإسلام والقرآن الكريم ويعارض الاستبداد والظلم والطبائع الشرسة والحيوانية. إن الشعب الإيراني والشعب العراقي والشعوب المسلمة الأخرى التي قوامها مليار نسمة هي في الأصل شعب واحد ولديها ثروات لا حصر لها، ومع الأسف فأن أكثر الحكومات الإسلامية هي حكومات منحرفة وإن مليار إنسان يرزحون تحت ضغوط القوى الشيطانية الكبرى فهذه الثروات العظيمة التي تملكها الدول الإسلامية تذهب إلى جيوب القوى العظمى.

على الشعوب أن تنهض وتنقذ نفسها من سيطرة حكوماتها والقوى الكبرى، فأن كان الشعب الإيراني لا زال جالساً ينتظر أن تمتد يد من الخارج لأنقاذه لبقي على ما كان عليه حتى النهاية ولظل يعاني نفس الضغوط من الحكم البهلوي الجائر. ولكنه هب متحداً منسجماً وهتف جميع أبنائه بصوت هادر مدوّ رافضاً هيمنة تلك الحكومة الكافرة وانتصر رغم مساندة القوى الكبرى للشاه المقبور ورغم القدرة العسكرية الكبيرة التي كان يمتلكها في الداخل ولكن وحدة الشعب والتحام القوى العسكرية معه احبطت جهود الشاه وأسياده وأدت إلى انتصار الشعب، إذاً فلو نهض الشعب العراقي فإن جيشه لا بد وأنه سيلتحم معه ويجتث بؤرة الفساد من بلاده…

وذكر الإمام القائد في قسم آخر من حديثه قائلاً:

أنا أطلب من العلي القدير أن يوقظ الشعوب المسلمة وينبه الشعب العراقي كي ينقذ نفسه من قيود القوى الكبرى ويقضي على جرثومة الفساد في بلاده التي بأسم الإسلام تقتل المسلمين وتدوس أحكام الإسلام وتقتل علمائه البررة مثلما قتلت السيد محمد باقر الصدر ذاك الفيلسوف والمفكر الإسلامي الفذ الذي كان أمل الإسلام في الرقي والازدهار وآمل أن تستفاد من كتب هذا الرجل العظيم وتدرس من قبل المطلعين وآمل أن يحشر مع أجداده الطاهرين وتحشر أخته العزيزة المظلومة مع جدتها الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام وآمل للشعوب المسلمة النهوض وقطع أيدي القوى الكبرى من بلادها)).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وصايا القائد لشعبه

إن القائد الإسلامي الحقيقي الذي تذوب ذاته في الله وفي رسالته لا يرى مصلحة حقيقية يتوجه إليها ويرفض كل شيء في سبيلها إلا مصلحة الرسالة والانتصار لها.

وعلى سيرة جده رسول الله(ص) سار شهيدنا الصدر فلم يترك الأمة من بعده لا تعرف طريق الجهاد والنصر ولا تعرف تكليفها الشرعي الذي يجب أن تتحمله وتعيش بكل وجودها له.

وعلى سيرة جده الحسين سار شهيدنا الصدر فلم يبخل بدمه يسقي به غرس الإسلام العظيم الذي بات يهد عروش الظالمين وينذر الاستعمار وعملاءه بالرحيل وإلى الأبد من دياره وإدارة شعبه.[1]

وهكذا بذل دمه رخيصاً في سبيل الله والإسلام والأمة المجاهدة، فكان نبراساً ينير الدرب للسالكين درب الإسلام وطريق النصر.

وكان أهم ما حدده من معالم الثورة الإسلامية، في العراق وما خطه لها من منهج وأساليب ما ورد في وصيته وهو محجور عليه في بيته في النجف الأشرف في العشرين من رجب لعام 1399 هجرية حيث ثبت فيها إيمانه بالشعب وقدرته على تحقيق النصر الإسلامي وارتباطه الرسالي الكبير بقيادته الإسلامية المجاهدة المتمثلة بالمرجعية الرشيدة فقال مخاطباً شعبه العراقي المسلم:

((إني أخاطبك أيها الشعب الحر الأبي الكريم وأنا أشد الناس إيماناً بك وبروحك الكبيرة وبتأريخك المجيد وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية إذ تدفقوا إلى أبيهم يؤكدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملها الغيرة والحمية والتقوى، يطلبون مني أن أظل إلى جانبهم أواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب لأنها آلامي، وإني أود أن أؤكد لك يا شعب آبائي وأجدادي إني معك وفي أعماقك ولن أتخلى في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك)).

* ثم يطرح الشهيد العظيم السيد الصدر إحدى كبريات الحقائق التي سرت سنة في التأريخ، وخصوصاً تأريخ الشعوب، تأريخ الرسالات، تأريخ الثورات الأصيلة تلك الحقيقة الكبيرة هي أهم أن الظلم لن يدوم، والحكم لن يدوم على أساس القوة والقمع ومصادرة الحريات الإنسانية، وإن أي تجاوز لهذه الحقيقة لا يلغي قيمتها الموضوعية في الواقع فهي سنة لا بد وأن تقع، سواء أغمض الظالم الجاهل عينيه عنها، أم رآها بملء بصره القاصر، فكانت وصيته في ذلك قانوناً يستهديه الشعب العراقي وأبطاله المجاهدون: ((وأود أن أؤكد المسؤولين أن هذا الحكم الذي فرض بالحديد والنار على الشعب العراقي وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته في ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر ولا يمكن أن يعالج دائماً بالقوة والقمع، إن القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً إلا للفراعنة والجبابرة)).

* ثم يوجه خطابه إلى الجلاوزة من حكام بغداد العملاء، ويعدد ممارساتهم الإجرامية في الكيد لرسالة الإسلام والاستخفاف بالشعب العراقي المسلم، فلم يتركوا شعيرة من شعائر الإسلام ولا مؤسسة من مؤسساته، إلا وعملوا على ضربها وإزالتها أو شل فعاليتها في الأمة فكانت كلماته(قده) معاول هزت عروش الظالمين: ((أسقطوا الآذان الشريف من الإذاعة فصبرنا، أسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا، وطوقوا شعائر الإمام الحسين ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا، وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا، وقالوا إنها فترة انتقال يجب تجهيد الشعب فيها فصبرنا، ولكن إلى متى؟؟ إلى تستمر فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجو المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه متى وتستمر فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم أيها المسؤولون اقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلا عن طريق الإكراه فماذا تأملون؟ وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجتنب أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع عما يريدون))*

* ثم يتحول السيد الشهيد ليطالب باسم الشعب العراقي المجاهد، ناطقاً عنه، معبراً عن أحاسيسه وآماله، بشجاعة، المجاهد، وحكمة القائد، متقدماً شعبه هذا المقارعة الطغاة الفاسدين، مترجماً له سلوك الأباة وطريق الرسالة والتضحيات ولا يترك قضية اهتزت لها الأمة وتنادي لها المجاهدون، إلا وجعلها مطلباً حدياً لا يتهاون به، حتى شمل بمطاليبه الكف عن الممارسات اللصوصية والابتزاز السياسي الذي يمارسه حزب البعث العميل، في إكراه أبناء الشعب المستضعف في العراق للانتماء إليه، وهو يعلم أن ذلك سيكلفه حياته، التي هي الجهاد وهي العطاء، الذي يمد العاملين بالحيوية والاتقاد، ولكنه وكما شاء الله رأى أن الدم أمضى والشهادة أولى:

((فإني أطالب باسمكم جميعاً، أطالب بإطلاق حرية ممارسة الشعائر الدينية وشعائر أبي عبد الله الحسين(ع) كما أطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان الشريف وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة، وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث العميل على كل المستويات، وأطالب باسم كرامة الإنسان بالافراج عن المعتقلين بصورة تعسفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً وباسم القوى التي تمثلونها بفسح المجال للشعب في ممارسة صورته الحقة لتسيير شؤون البلاد وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلاً صادقاً، وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً وقد تكلفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد ولكن هذه الطلبات إرادة أمة وطلبات أمة ومشاعر أمة ولا يمكن أن تغلب أمة تعيش في أعماقها روح محمد وعلي وآل محمد وأصحابه وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات فإني أدعو أبناء الشعب العراقي الأبي إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلفه ذلك من ثمن لأن هذا دفاع عن النفس وعن الكرامة وعن الإسلام رسالة الله الخالدة والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته))*

* إن الاستعمار العالمي وقوى الكفر الكبرى عندما تصطنع لها صنيعة تمرر من خلالها مخططاتها لاستعباد الشعوب وتطويعها لاستكبارها المقيت وامتصاصها لثرواتها وجهودها فإنها في ممارساتها هذه لا تميز بين عربي أو كردي بين سني أو شيعي، لا تختص بمذهب دون آخر، ولا بقومية دون أخرى، إلا بمقدار ما يخدم أهدافها الخبيثة ولصوصيتها السافرة، ولهذا حدد السيد الشهيد الصدر هذه الحقيقة، وانطلق منها في قيادة الشعب العراقي البطل وتوحيد قواه، تحت راية لا إله إلا الله، وامتزج بمشاعره وأفكاره وآماله معهم جميعاً، وأفاض لهم بروحه الأبوية وأخلاقه الإسلامية ليخرج بهم قوة إسلامية شعبية شاملة لها هدف واحد هو إسقاط الطاغوت المتفرعن في العراق، المتمثل بصدام الكافر ونظامه الفاسد، وليخرج بهم أيضاً كقوة إسلامية شعبية شاملة لها طريقتها الموحدة في ممارسة الجهاد اللاحب حتى اسقاط النظام العميل، وتتمثل هذه الطريقة بإعلان الجهاد بالكلمة الصادقة وبالبندقية الهادفة طريقاً لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، ثم كشف الإمام القائد الشهيد الصدر لعبة الاستعمار وعملائه المتسلطين على رقاب أبناء العراق الأباة، كشف لعبتهم في بذر الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، بين قومياته وبين مذاهبه المتعددة، وسد عليهم طريق الانجليز القديم في تمزيق الشعوب للهيمنة عليها (فرق تسد):

((بسم الله الرحمن الرحيم: يا شعبي العراقي؛ أيها الشعب العظيم إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية لكل فئاتك وطوائفك بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر ولا قومية دون أخرى، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب والتلاحم النضالي هو واقع كل الشعب العراقي، وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء ومن أجل العربي والكردي على السواء حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخاص وهدف الجميع، فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملونه من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة إن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر أن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني إن الحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي(ع) السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول (أبي بكر) وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي، إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن تقريباً بوجوب الجهاد من أجله خرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام))*

* ولبيان الحقيقة الكاملة للشعب العراقي المجاهد وكشف طبيعة الحكم المتسلط عليه، وزيف وبطلان دعواته، وخداع أساليبه، أزاح الشهيد السيد الصدر، الوهم الذي خلقته هذه الأساليب والوسائل الكاذبة في اعتبار أن الصراع المعاصر في العراق، إنما هو صراع بين السنة والشيعة صراع بين القيادات الشيعية والحكم السني، وبين السيد الشهيد(قده) إن الشعب وحدة واحدة يجمعها الإسلام، ويفجر طاقاتها لتحطيم هدف واحد، وعدو واحد، هو الحكم الكافر في العراق ومن ورائه الأسياد واللصوص، كما عرّى طبيعة الحكم عن كل دعوى بالانتساب إلى التسنن، فهل يعقل الشعب المسلم في العراق أن يمثل التسنن رجال مارسوا الفساد وتوغلوا في وسائل المجون، وامتهنوا سفك الدماء وهتك الأعراض، وأنشؤوا حقول الخنازير بدل المزارع الإنتاجية وأشبعوا بالخمرة حتى نسوا الله والشعب، نسوا كل شيء إلا الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، إن الصوت الهادر للإمام الشهيد السيد الصدر وحقائقه الدامغة، كانا ضربة قويد أخرجت الطغاة عن توازنهم، إن كان لهم توازن فليهتزوا حتى الموت فالسيد الشهيد حي لن يموت:

((إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً وإن كانت الفئة المتسلطة تنتسب تأريخياً إلى التسنن، إن الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيين، بل يعني حكم ـ أبي بكر وعمر ـ الذي تحداه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم وينتهكون حرمة الإسلام وحرمة علي وعمر معاً في كل يوم وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية، ألا ترون يا أولادي وأخوتي انهم أسقطوا الشعائر الدينية التي دافع عنها علي وعمر معاً؟ ألا ترون انهم ملؤوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها علي وعمر معاً؟ ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب؟ ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب وتفننا في امتهان كرامته والانفصام عنه والاعتصام ضده في قصورهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات بينما كان علي وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس مع آلامهم وآمالهم ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائرياً يضفون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟ وسدّ هؤلاء أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذل والخنوع وباعوا كرامتهم وتحولوا إلى عبيد أذلاء، إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من عقائدي إلى عصابة تفرض الانضمام إليها والانتساب إليها بالقوة والإكراه وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوة؟؟ إنهم أحسوا بالخوف حتى من حزب البعث العربي الإشتراكي نفسه الذي يدعون تمثيله، أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيه ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده وتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد أي مضمون حقيقي له))*.

* ثم اندمج القائد العظيم بجنوده البواسل والأب الحنون بأبنائه الأبرار، في خطاب المسيرة الجهادية، وعاهدهم على الجهاد حتى النصر أو الشهادة، حتى تحكيم عدالة الله في الأرض، تحت شعار وحدة كل قوى الخير والحق، كل قوى الإسلام من أجل انقاذ العراق الجريح:

((يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء كربلاء وبغداد والنجف من أبناء سامراء والكاظمية، من أبناء العمارة والكوت والسليمانية، من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً، وإنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام ومن أجل انقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة وبناء عراق حر كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان ويشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم أخوة يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم وتحقيق مثلهم الإسلامية العليا المستمدة من رسالتنا الإسلامية وفجر تأريخنا العظيم))*[2]

الشهيد الصدر مرجعاً وثائراً

الشيخ محمد باقر الناصري

بسم الله الرحمن الرحيم

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)

كان الإيمان والعلم صنوان لسلم الرفعة والسعادة، وكفى العلم فخراً أن يدعيه من ليس فيه، وكفى العلماء فخراً أن يحصر الله تعالى معرفته وخشيته بهم فيقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

وإني للبشرية أن توفي للعلماء حقهم وهم الذين ميزوها عن البهائم، وشرفوها فوق أجل وأحسن مخلوقات الله سبحانه، (.. فالعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة..)

وفي الحديث الذي رواه الصادق(ع) عن جده رسول الله(ص) انه قال: (لا خير في العيش إلا لرجلين عالم مطاع أو مستمع واع)، وفيما رواه أبو حمزة عن الإمام زين العابدين(ع)، وفيما رواه أو حمزة عن الإمام زين العابدين(ع) إنه قال: (لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال إن أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتدا، بهم، إن أحب عبيدي إلي التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء)[3].

أما ما هو ذلك العلم؟

ومن هو اولئك العلماء الذين أمرنا بتوقيرهم والاقتداء بهم؟ الذين رفع الله قدرهم، وأمر البشرية بالرجوع إليهم وانهم ورثة الأنبياء، وقرنهم سبحانه بنفسه في اشهاده على وحدانيته وعدله بقول: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)[4].

ويريحنا من معاناة التشخيص باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي(ع) بقوله: ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس في تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر)[5] .

فالعلماء إذا هم (أفضل أفراد النوع الإنساني بعد الأنبياء وأجلهم قدراً بعد الأوصياء، كما أن أرقاهم منزلة أكثرهم نفعاً وأسماهم مكانة انفعهم آثاراً)[6].

وقد شمخ في تاريخنا الإسلامي علماء كثار، امتدت من خلالهم أصالة الرسالة وعظمتها عبر الأجيال، فمنهم من افرغ عصارة عمره في سراج فكرته، ومنهم من روّى بدمه اغراس عقيدته، وبين هذا وذاك سمت عمالقة العلماء فكراً وعملاً على امتداد العصور.

والشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر هو من أبرز العلماء الواعين في هذا العصر، وممن تطمئن النفوس بانطباق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة على شخصية… حيث حظى بالمنزلة العلمية الرفيعة، وفاز بالخاتمة السعيدة مع الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين.

وقبل البدء في إلقاء الأضواء على جانب من شخصية هذا المفكر العملاق، والعالم الفقيه الفذ، ينبغي لنا أن نتعرض لدراسة البيئة والظرف الذي تحرك هذا المفكر في وسطه، ومؤثرات الزمان والمكان التي تبلورت خلالها شخصيته، والواقع الذي تفاعل معه فتأثر وأثر به. ولا بد أن نتعرض أولاً للوسط العلمي الذي احتضن مفكرنا الشهيد منذ بداية حياته.

الشهيد الصدر والحوزة العلمية:

الحوزة العلمية: تعبير شائع عن جامعة العلوم الدينية أو مركز الدراسات الإسلامية في التركيبة الاجتماعية لاتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

كما هو المعروف عن النجف الأشرف وكربلاء والحلة والكاظمية وسامراء في العراق، وقم وأصفهان ومشهد وطهران في إيران الإسلام، وكابل وقندهار وسمرقند، ولكنور وحيدر آباد في افغانستان والهند.. إلى ما هناك من المدن الإسلامية التي اشتهرت باحتضانها لطلاب العلوم الدينية في الفقه والأصول وما يتعلق وما يتبع لهما وفق مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

ورغم اشتهار وتوسع الدراسات الإسلامية في مدن أخرى كالمدينة المنورة والقاهرة والقيروان وغيرها إلا انه لم يشتهر في أوساط المسلمين من اتباع مدارس الفقهاء الأربعة تسمية تلك المدن والجامعات والمعاهد باسم الحوزة العلمية، ولم نقف على نص في إطلاق مصطلح الحوزة العلمية عليها.

أما عن الحوزة العلمية في النجف الأشرف، فاقرب تاريخ لبناء هذه الحوزة العتيدة والتي خرجت آلاف الفقهاء والمجتهدين والمراجع العظام والقادة والثوار.. أقرب تاريخ لبناء هذه الحوزة هو نزوح الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي عام 449هـ إلى النجف من بغداد، وهذا هو القدر المتيقن من تاريخ جامعة النجف العلمية، إلا أن هناك من يذهب إلى وجود نواة هذه الجامعة في النجف قبل هجرة الشيخ الطوسي إليها، وإنها امتداد لمدرسة أهل البيت عليهم السلام التي أنشئت أيام إقامة علي أمير المؤمنين(ع) في الكوفة، ومن بعده أيام الإمام الصادق(ع)، والتي خرجت الفقهاء والمحدثين الذين شاركوا في تدوين الأصول الحديثة والتراث الذي هو بين أيدي الإمامية والمندرج في المجاميع الشيعية، وهي التي يقول فيها الحسن بن علي الوشاء: فإني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل ما يقول حدثني جعفر بن محمد.[7] فبعدما تكللت جهود الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام بالنجاح حيث كونوا حلقة نيرة من فقهاء الشيعة في المدينة المنورة، وكانت لتلك الصحابة وبخاصة الكوفيين منهم أثر كبير في استنباط الأحكام، وفي ترسيخ فكرة الاجتهاد بين الفقهاء، كما ان الاجتهاد أصبح بعد ذلك من أشهر مميزات الشيعة[8] .

وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي المتوفي سنة 333هـ كتاباً في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الإمام الصادق(ع) فذكر ترجمة (400) أربعة آلاف رجل بالإضافة إلى أشتهار آلاف الفقهاء والمحدثين من الكوفة وهناك دليل آخر على قدم هذه الجامعة وهو وجود البيوتات العلمية الكوفية ذات الشهرة العلمية الذائعة في العالم الإسلامي والتي عرفت بانتسابها إلى الإمام الصادق(ع) واشتهرت بالفقه والحديث كـ (بيت آل اعين) وبيت آل حيان التغلبي وبيت عطية، وبيت بني دراج، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بالتشيع واشتهرت بالفقه والحديث[9]، ومعلوم إنه لا يمكن الفصل بين مدرسة النجف ومدرسة الكوفة لأنهما تأسستا معاً على يد أهل البيت(ع) وفي أيامهم خاصة، مع أنهما في الحقيقة بلدة واحدة، كما هي الحال فعلاً، وكما هو المعروف عن تاريخ الكوفة وتوسع رقعتها إلى الحيرة والعباسيات وبحر النجف، ونفهم ذلك صريحاً من قول بعضهم في وصف مدرسة الإمام الصادق(ع) حيث يقول محمد بن معروف الهلالي: مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد(ع) فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس، فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرق الناس عنه، ومضى يريد قبر أمير المؤمنين(ع) فتبعته وكنت أسمع وأنا معه أمشي[10].

وقد ذهب إلى تقدم تاريخ جامعة النجف على هجرة الشيخ الطوسي كثير من المحققين القدامى والمتأخرين، ومنهم العلامة المحقق الشيخ آغا بزرگ الطهراني رحمه الله حيث يقول: إني أذهب إلى القول بأن النجف كانت مأوى العلماء ونادياً للمعارف قبل هجرة الشيخ ـ أي الشيخ الطوسي ـ إليها، وإن هذا الموضع المقدس أصبح ملجأ للشيعة منذ أنشئت فيه العمارة الأولى على مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، لكن حيث لم تأمن الشيعة على نفوسها من تحكمات الأمويين والعباسيين، ولم يستطيعوا بث علومهم وروايتهم، كان الفقهاء والمحدثون لا يتجاهرون بشيء مما عندهم، متبددين حتى عصر الشيخ الطوسي وإلى أيامه، وبعد هجرته انتظم الوضع الدراسي وتشكلت الحلقات كما لا يخفى على من راجع أمالي الشيخ الطوسي التي كان يميلها على تلامذته[11].

واستمرت النجف معهداً للدراسات الإسلامية بين مد وجزر حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري، حيث القت المرجعية للتقليد عصا ترحالها في النجف، وذلك بنبوغ المجتهدين الكبيرين السيد محمد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، بعد أن جابت عدة بلاد في فترات متباعدة كبغداد والحلة وكربلاء وأصفهان…[12]

ومن هذا العهد كثرت البنايات لسكن الطلاب المهاجرين إليها من مختلف البلاد النائية، وهذه البنايات التي تسمى بالمدارس وهي أشبه ما تكون بالاقسام الداخلية، بعد أن كانت بناية الصحن العلوي هي المأوى الكبير لهم من أبعد العهود[13].

الحوزة العلمية.. منهج ومواقف:

أسلوب الدراسة في حوزة النجف الأشرف ظل رتيباً لا يختلف كثيراً عن أسلوب الدراسة في سائر الجامعات الإسلامية القديمة في الطريقة، ونوعية العلوم، وكثير من الكتب والمناهج والمصطلحات، لكنها امتازت بعدة أمور: كان أهمها التوجه لتحصيل الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية في الفقه، وكذلك التصدي لقيادة الأمة وحل مشاكلها، وهذا ما منح جامعة النجف الثقة، وشد اليها أعناق ملايين المسلمين لطلب العلم من مناهلها.

وبعد الاحتلال الإنجليزي للعراق عام 1914م والمواقف الإسلامية الصارمة التي وقفها مراجع الأمة وقادتها في النجف الأشرف، وتابعتهم بقية المدن والجامعات الإسلامية في كل من إيران والعراق وتركيا، وعموم الهند، وأفغانستان، حيث أفشلت تلك المواقف الرسالية الجهادية الكثير من مخططات الاستكبار العالمي، وفوتت عليه فرص استعباد الشعوب الإسلامية ونهب خيرات الوطن الإسلامي، مليء الاستعمار حقداً عني العلماء والحوزات العلمية وكان نصيب النجف الأشرف كبيراً وفادحاً من الكيد والتمزيق والمحاصرة، والمحاولات المتكررة من الحكومات العملية في العراق لترويض هذا المارد العملاق ـ النجف الأشرف ـ وتحجيم دوره الفعال في قيادة الأمة الإسلامية.

وبتوالي المحن، واطروحات الاستعمار المتكررة لتحطيم هذه القلعة ـ النجف وحوزتها العلمية المجاهدة ـ عراها ـ مع الأسف ـ شيء من الفتور والانزواء، وشاعت في الحوزة ظواهر السلبية والانعزال عن تحمل أعباء قيادة الأمة، مما أقلق المخلصين من علماء الأمة ومفكريها، ودفعهم إلى التفكير بجدية لاستعادة المرجعية والحوزة العلمية مركزها القيادي الرائد في مسيرة الصراع الحضاري والفكري الذي يخوضه الإسلام مع قوى الكفر والفساد في الأرض، وكان لآية الله الشهيد الصدر دور بارز في مسيرة إصلاح الحوزة والمرجعية فكراً، وسلوكاً، وممارسة.

تحرك رحمه الله منذ أيام شبابه لمعالجة تقويم هذا المرفق الهام ووضع الأسس العملية الرصينة للاصلاح الشامل، باعتبار أن ذلك مقدمة ضرورية لإعادة الأمة لإسلامها، وتحكيم شرعة الله في الوطن الإسلامي وفي الأرض كلها.

وكان لمساعي آية الله السيد الصدر في إصلاح جامعة النجف وبنائها بناءً رسالياً هادفاً الأثر الكبير في مسح الغبار عن وجه هذه الجامعة الناصع وتاريخها العظيم، فإنه ـ رحمه الله ـ رغم قصر مدة ممارسته لعملية إصلاح جامعة النجف وكثرة المعوقات وتوالي المحن عليه، فإنه ترك آثاراً هامة في مسيرة الإصلاح وعلى مختلف الأصعدة والمجالات من التشخيص الدقيق الواعي للثغرات ومناطق الفراغ إلى التحرك الجدي البناء في إرساء القواعد السليمة للمرجعية الرشيدة وذلك بوضع المناهج، وتأليف الكتب، وممارسة التغيير، إلى التعريف بالمهمة السامية لحملة العلوم، وفقهاء الأمة، وتطوير مهامهم وواجباتهم، وممارساتهم، مما عزز ثقة الأمة بعلمائها وبنى تلاحما واعياً بين العلماء وبين الحركة الإسلامية المتنامية، وكون منهما درعاً حصيناً للإسلام والمسلمين.

وستبقى جامعة النجف مدينة لهذا المصلح العظيم والمفكر الإسلامي الكبير بالجهود الإصلاحية الجبارة التي خطط لها وسعى لتنفيذها، وكان آخر ما قدمه في هذا المجال دمه الطاهر ودماء الأبرار من تلامذته والسائرين على هديه.

والمؤمل أن يتحمل علماء الأمة ومفكروها اليوم عبء مواصلة هذه المسيرة المباركة وأن يواصلوا العمل على إصلاح الحوزة العلمية، وبناء جامعة النجف وبقية الجامعات والحوزات العلمية بناءً رسالياً هادفاً، ليعيدوا لها دورها الهام في القيادة والتوجيه وفي البناء العلمي والروحي، وفي التوعية السياسية والثقافية.. ومن هنا تأتي أهمية الدفاع عن جامعة النجف ضد محاولات المسخ والتدمير والإبادة المسلطة عليها من قوى الكفر والفساد وخاصة ممارسات النظام البعثي الصليبي الحاقد في العراق وقتله المئات من خيرة علماء وطلاب هذه الجامعة العتيدة وتهجير الآلاف وتعطيل المعاهد والمدارس العلمية وتحويل الكثير منها إلى دوائر ومؤسسات لسلطته الغشامة، لهذا فأن الدفاع عن هذه الجامعة المقدسة والثروة العلمية الإسلامية الهامة هو مهمة كل المسلمين، وخاصة اتباع مدرسة أهل البيت(ع) المستهدفة بهذا الغزو الصليبي الحاقد.

الشهيد الصدر والمرجعية الرشيدة:

المرجعية: تعني المنصب القيادي الأول في الأمة، لزمن غيبة الإمام الحجة بن الحسن المهدي سلام الله عليه، وهي ـ أي المرجعية ـ امتداد طبيعي لخط الأنبياء والرسل وبالمرجعية الرسالية الرشيدة الواعية نضمن وجود قيادة إسلامية فعلية مناسبة لأطروحة الدولة الإسلامية وحتميتها بعد الفراغ من لزوم وجود الدولة والنظام والحاكم، مهما كان نوعه.

وهذا ما تصدى له سيدنا الشهيد الصدر، بعدما تعرض مركز القيادة والمرجعية في الأمة إلى كثير من المضايقة والتطويق والتعطيل عن أداء الدور الرسالي للمرجعية.

وكان تحركه رحمه الله في هذا المضمار من أبرز معالم شخصيته حيث اتجه ووفق منظور إسلامي بناء لاصلاح هذا المركز الهام وتخليصه من تراكمات السنين العجاف، التي انهكت المرجعية وحجمت دورها، وحصرتها في دائرة ضيقة لا تتناسب والمهمة الرسالية للقيادة الشرعية، وكما هو معروف من تاريخ العلماء الواعين ومعاناتهم، وما لاقوه من المحن والكوارث، فبمقدار ما ورثوا من عظيم المقام وجسامة المسؤولية حين عبر عنهم الرسول الأعظم(ص) بقوله: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) فكذلك ورثوا معاناة المسيرة وضريبة الإصلاح من الأذى والمطاردة والسجون والقتل وهذا واضح من القاء نظرة سريعة على تاريخ المرجعية والعلماء الواعين من أيام الأئمة صلوات الله عليهم.

فالشيخ الطوسي، والشهيدين، وملف شهداء الفضيلة[14] الحاوي على الصفحات الدامية من معاناة علمائنا ومصلحينا منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا أو الصراع الدامي يحتدم ويزداد ضراوة كلما كبر دور المرجعية، وتبلورت صيغة القيادة الإسلامية.

تصدى رحمه الله للمرجعية بحكمة وجدارة وفق منهجه ومدرسته المتميزة بخطوات التغيير الهامة والإصلاح الشامل وذلك في السنوات العشر الأخيرة قبل استشهاده وللحقيقة والتاريخ أنه رحمه الله ما كان راغباً لهذا التصدي في تلك الفترة، وكان يود أن يؤدي دوره الرسالي في ظل المراجع والأساتذة، وكان كثيراً للتواضع والتوقير لاساتذته ولشيوخ الحوزة العلمية وعلمائها.

إلا أن توالي الأحداث واتساع مجالات العمل الإسلامي فرصاً عليه رحمه الله التصدي وطبع الرسالة العملية حيث رجع إليه في التقليد كثير من المؤمنين الواعين في العراق وخارجه بالاضافة إلى أن ملايين المسلمين في مختلف الوطن الإسلامي كانت ترتبط بالشهيد الصدر فكراً وقيادة مما كون تياراً إسلامياً متميزاً في شتى أرجاء الوطن الإسلامي الكبير واستمر هذا التيار بالتوسع والتنامي حتى بعد استشهاده فقد عجت أرجاء الوطن الإسلامي ومن مختلف الأجناس واللغات بالاحتفاء بأفكار الشهيد الصدر وتبني اطروحاته وطبع كتبه بعد ترجمتها إلى كثير من اللغات العالمية.

وحين عاود الاستكبار العالمين محاولاته اللئيمة للوقوف بوجه الصحوة الإسلامية المتنامية في العراق وفي كثير من بقاع العالم الإسلامي، وذلك بزرع حكومات عملية وطرح اديولوجيات وأفكار علمانية وصليبية حاقدة على الإسلام كان منها فكر البعث الصليبي الحاقد على الإسلام والمسلمين، كان لشهيدنا الصدر دور بارز وهام حين تصدى رحمه الله لمقارعة النظام البعثي الكافر في العراق، ووقف بصبر وصراحة لتعرية هذا النظام الصليبي الحاقد وكشف مخططاته، وتحذير الأمة من الحكم العميل، ومن الانسياق وراء شعاراته الزائفة، فجاهر رحمه الله بتحريم الانتماء لحزب البعث ومؤسساته المشبوهة. وعرى ارتباطاته بالاستعمار الغربي وحرض الأمة وبمختلف الوسائل للوقوف بوجه النظام البعثي ومحاربته بكل ما يتمكنون.

وقد اعتقل آية الله الصدر من قبل سلطة البعث في العراق لأكثر من مرة، حيث اعتقل عام 1975م وأفرج عنه تحت الضغط الإسلامي، كما اعتقل مرة أخرى عام 1977م في اعقاب انتفاضة الأمة المسلمة في العراق والمطالبة باسقاط النظام في انتفاضة إسلامية عارمة في صفر عام 1397هـ وأفرج عنه أيضاً تحت قوة الضغط الإسلامي المتنامي، واعتقل في رجب عام 1339هـ وذلك في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتصدي المرجع الشهيد الصدر لتأييد هذه الثورة والمجاهرة بدعمها، وإعلان الاستعداد للدفاع عنها، ومبايعة قائدها الإمام الخميني(ره) حيث استقبل السيد الصدر وفود المهنئين بالثورة (وفود البيعة) من كافة مناطق العراق، وقد اعتبرت أحداث رجب من عام 1399هـ بداية لاندلاع الثورة الإسلامية في العراق بقيادته وتلاحمها الواعي مع الثورة الإسلامية في إيران وقيادتها الإسلامية الرشيدة.

وفي السابع عشر من رجب عام 1399هـ أقدم النظام البعثي على اعتقال آية الله الصدر ونقله إلى بغداد بعد أن نفذ صبره من تنامي الحركة الإسلامية وتوسع الانتفاضة الجماهيرية والتي يعتبر الصدر محورها الرئيس وقائدها الفعلي ولكن المواقف الثورية الجريئة التي أقدم عليها المسلمون الرساليون في العراق من مظاهرات واستنكارات أجبرت النظام العراقي على إطلاق سراحه وإعادته إلى النجف الأشرف إلا أنها فرضت الرقابة والحصار على داره للحيلولة دون اتصال الأمة به، واستمر ذلك الحصار إلى يوم 5 / 4 / 1980م حيث عاود النظام اعتقاله، ونقله إلى بغداد وهناك أقدم مجرمو العصر على أبشع جريمة بحق العلم والدين والإنسانية بإعدامهم للصدر العظيم ودفنت جثته الشريفة سراً ليلة الأربعاء 8 / 4 / 1980م في النجف الأشرف (فإنا لله وإنا إليه راجعون).

الشهيد الصدر والحركة الإسلامية:

اتسم النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ببروز وتنامي الحركة الإسلامية في كثر من مناطق العالم الإسلامي المضطهد، وقد اتخذت الحركة الإسلامية في العراق ومصر وإيران، ودول شمال أفريقيا وغيرها ابعاداً واسعة، وكان بروزها نتيجة طبيعية وحتمية لمواجهة الغزو الصليبي والصهيونية العالمية، والغزو العسكري والفكري الحاقد على الإسلام والمسلمين، كما هو نتيجة لانتشار وباء المادية الملحدة عدوة الأديان وفشها في تحقيق ما ادعته من حل مشاكل البشرية.. وهنا وقف الإسلام متمثلاً في حركته الإسلامية المعاصرة، مدافعاً عن الأمة الإسلامية داعياً إلى الاستقلال الحقيقي عن محاور الاستكبار العالمي وأفكاره وفلسفاته.

ومعلوم ماذا تعني هذه المواجهة مع كل قوى الكفر والظلم والفساد التي انشبت أنيابها في الوطن الإسلامي، ووجدت فيه مرتعاً خصباً، وبنى المستكبرون ملاذهم ووسائل استكبارهم على خيرات الوطن الإسلامي وثرواته المادية، واستثمار كنوز أرضه الهائلة، وبقاعه المعطاءة، وبالتالي إصراره على الاحتفاظ بالوطن الإسلامي كسوق لمنتوجاته ومنجماً للمواد الأولية، ومختبراً لطموحاته وأطماعه.

ومعلوم أن الحركة الإسلامية أمام هذه الظروف والملابسات والتي ولدت في المحنة، انها ستواجه مقاومة ضارية، وتصديات شرسة من كل فصائل الكفر والجاهلية والانحراف، وبكل الأسلحة والوسائل وهذا ما حصل فعلاً، إلا أن الحركة الإسلامية المباركة خرجت من معاركها المتلاحقة ظافرة منتصرة بتوفيق الله في أكثر من خندق وأكبر مواجهة، وكان لهذه الحركة مظاهر ووجودات إسلامية بارزة، أسهمت بقسط هام في انهاض الأمة وتوعيتها، وتسليحها بالفكر والعقيدة، وإعدادها للمواجهة وقد سجل التاريخ بصدق ووثائقية أن رائد الحركة الإسلامية في العراق وقائدها ومفجر نهضتها فكر أو إعداداً وممارسة هو آية الله المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر، حيث قد خطى رحمه الله بالحركة الإسلامية خطوات عظيمة ونقلها من طور التفكير والممارسة الفردية إلى طور التجميع والتنظيم وبناء المؤسسات الحركية المنظمة السائرة على خط أهل البيت عليهم السلام، وهو ما كانت تفتقده الساحة الإسلامية.

بالإضافة إلى ما قدمه الشهيد الصدر في مجال ربط الحركة الإسلامية في العراق بباقي الحركات الإسلامية في الوطن الإسلامي سواء على صعيد العرض الفكري عبر الكتب والنشرات والمحاضرات التي كانت تصدر عنه رحمه الله.. أو التي كان ينصح بها العلماء والمفكرين ويحثهم على بحثها وطرحها والتصدي لها باعتبارها مناطق فراغ تشتد الحاجة لها، والتي يمكن أن تكون نقاط ضعف يتسرب منها الأعداء لحرب الإسلام وإفشال حركته المباركة وتمزيق الوحدة الإسلامية.

كما إنه رحمه الله كان يدعم توجهه هذا بالممارسة الفعلية لتوحيد الحركة الإسلامية، وتجميع قواها المعنوية والمادية، عبر تصديه لمخاطبة الأمة الإسلامية، واستنهاض علمائها ومفكريها وضرورة الاتحاد والتحرك، بعدما اتحدت الأمة فكراً ووجوداً ومصيراً، محذراً من خطر التجزئة ومكائد الأعداء والمندرسين في الصف الإسلامي من دعاة القومية الجاهلية والطائفية المقيتة، وهذا ما صرح به في أكثر من بيان ومحاضرة وموقف حيث يقول رحمه الله في بعض بياناته: (وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة، بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام، طريق الخلاص وهدف الجميع.

وأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملونه من هذا المشعل العظيم لأنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل، والاضطهاد..)[15].

الشهيد الصدر والثورة الإسلامية:

الثورة الإسلامية المعاصرة هي: امتداد طبيعي وترجمة واقعية للفكر الإسلامي الثائر ضد الكفر، والظلم، والإنحراف.وقد بعثت هذه الثورة الصحوة الإسلامية المباركة ووسعت نطاقها في جميع أنحاء العالم الإسلامي المستضعف.

وكان آية الله الشهيد الصدر من أبرز العلماء المجتهدين المعاصرين تصدياً لدعم وتنمية وقيادة الصحوة الإسلامية فكراً وممارسة، حيث كان رحمه الله السباق لتأييد الإمام الخميني ولنهضة الأمة الإسلامية في إيران، وقد جسد هذا الدعم إلى تلاحم واع مع الثورة وقائدها عبر كتاباته واطروحاته، وتأييده المطلق، ومسارعته المترحب بمقدم الإمام إلى النجف الأشرف واستمرار هذا التلاحم طيلة سبعة عشر عاماً قبل انتصار الثورة.

وقد جسد الشهيد الصدر دعمه بالبرقيات ودعوة المسلمين في إيران والعالم للالتفاف حول الثورة والتصدي لانجاحها سواء بالبرقيات والرسائل التي أرسلها الشهيد الصدر للإمام الخميني وهو في باريس يشد بها عضده كما هو معروف عن الرسالة التاريخية التي أرسلها رحمه الله للإمام في باريس وشفعها بتحريك الأمة ودفعها لمزيد من تأييد الإمام والثورة.

وعندما انتصرت الثورة وعاد الإمام القائد واستلم الثوار المسلمون مقاليد الحكم في إيران بقيادة الإمام المفدى، أرسل رحمه الله تلك البرقية التي عبرت بحق عن استعداده للتضحية في دعم الثورة وحمايتها حيث يخاطب فيها الإمام القائد بقوله: (إني أكتب إليكم في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ أمتنا الإسلامية لأعبر عن اعتزاز لاحد له بما حققه المسلمون من انتصار باهر بقيادتكم الرشيدة.. ثم يقول رحمه الله في آخرها وبمنتهى الجرأة والمواجهة مع طاغوت العراق ومع الاستكبار العالمي الذي كان مقصوداً بهذه الثورة فيقول… وأنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظله ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم)[16].

ومن يعرف ظروف العراق والإرهاب السائد فيه يعرف قيمة هذه الفقرات الثائرة التي أسهمت في تأجيج حماس الأمة وزجها في مواجهة السلطة الجائرة في العراق، حيث استشهد الآلاف من العلماء والثوار وسائر طبقات الشعب، واستمر الشهيد الصدر في دعمه للثورة في كافة مراحل الفترة العصبية بما في ذلك تحريض الشعب المسلم في إيران على دعم اطروحة الجمهورية الإسلامية فيما كانت الأطروحة تواجه تحدياً من الأعداء وفتوراً من كثير من المسلمين، لأنها جديدة على فكر المؤمنين فيقول الشهيد الصدر وبحماس بالغ وبحجة قاطعة (… ولا شك انكم باختيار الجمهورية الإسلامية منهجاً في الحياة وإطاراً للحكم تؤدون فريضة من أعظم فرائض الله تعالى، وتعيدون إلى واقع الحياة روح التجربة التي مارسها النبي الأعظم وكرس حياته من أجلها وروح الأطروحة التي جاهد من أجلها أمير المؤمنين.

واستمر آية الله العظمى السيد الصدر في الدعم المطلق للثورة ولقائدها حتى في أحرج اللحظات حين اعتقل واحتجز في بيته وجرت محاولات للتساوم معه(ره) بتوالي وفود السلطة إليه وكانت في مجملها دعوة السيد الصدر في أن يرفع اليد ولو بالكف عن تأييد الثورة وقائدها بالإضافة إلى شروط أخرى كان فيها رفع اليد عن العمل السياسي، ورفع اليد عن تأييد الحركة الإسلامية في العراق، وكلها في الواقع تصب في رفع اليد عن الثورة الإسلامية وقائدها المفدى ولكنه رحمه الله صبر ولم يتزحزح قيد أنملة عن مواقفه الواضحة الصريحة في تأييد الثورة وقائدها وهو يعلم والجميع يعلم أن ثمن ذلك الإصرار هو سيره للشهادة بخطوات سريعة وقد تقبلها برحابة صدر فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين)

صدق الله العلي العظيم

مع الشهيد الصدر محققاً

السيد حسن النوري

يعتبر السيد الشهيد الصدر من كبار الفقهاء ومراجع المسلمين وهذا يعني أنه قد طوى مراحل علمية متقدمة في مختلف العلوم التقليدية، ونريد في هذا المدخل أن نبين اشتراك الشهيد الصدر مع باقي الفقهاء في تبحره في العلوم التي أهلته للوصول إلى درجة الاجتهاد، حتى ننتقل بعد ذلك إلى معرفة الامتيازات العلمية لهذا الرجل الكبير.

لقد أخرجت الجامعات العلمية الإسلامية علماء أفذاذ في مختلف العلوم، كالفلسفة والمنطق والفقه والتاريخ واللغة والأصول والتفسير وعلوم القرآن وعلوم العقيدة والعلوم الطبيعية.

وكان حظ الكثير من العلماء هو التخصص في جانب واحد أو جانبين من هذه العلوم وغيرها، ويندر أن يظهر منهم من جمع بين مختلف هذه العلوم، والذي يتابع السيرة العلمية لأكثر العلماء في بحوثهم وتحقيقاتهم، يجدهم عيالاً على غيرهم في أكثر في علم.

من هنا نتهيأ لمعرفة الميزة الرئيسية في دراسات الفقهاء فلا يصل أحد إلى درجة الاجتهاد ما لم يستقل استقلالاً كاملاً في فهم جملة من العلوم، وعليه أن يقدم البراهين القاطعة على قناعاته وقطعياته ومصادراته العلمية، التي ستفتح أمامه آفاق المسائل والمفردات الشرعية التي يريد معرفة أحكامها والذين مارسوا الدراسات والتحقيقات العلمية يدركون خطورة هذا الكلام، فإن جامعات العالم الرسمية، إنما تؤهل الدارس لاستلام درجة الدكتوراه مثلاً، إذا استطاع إضافة شيء جديد أو بيان شيء خفي في المجالات التي يدرسها هذا الباحث…

والفقهاء يطوون مراحل طويلة للوصل إلى هذه الدرجة البعيدة (درجة الاجتهاد) وليس هذا تعقيداً، وإنما هو أبسط ما يمكن معرفته عن أبعاد وآثار منح درجة الاجتهاد للباحث أو المحقق.

إن معنى أن يكون إنسان ما مجتهداً، هو إعطاءه الأذن القانوني والشرعي في الاعتماد على ما يفهمه من الأدلة الشرعية كنتائج وكأحكام شرعية في مختلف المجالات الفردية والاجتماعية.

ومقدمات هذه الدرجة هي الاعتماد الذاتي على النفس في تكوين الرأي والعقيدة، في كل العلوم التي لها تأثير في معرفة الشريعة، من ذلك مثلاً علوم اللغة وعلم التفسير وعلم الأصول وعلم الرجال.. ولا يكفي لنيل تلك الدرجة أن يكون الطالب قد فهم كل المفردات المطروحة في هذه العلوم ما لم يكوّن له رأياً شخصياً في مختلف هذه العلوم.

ولهذا السبب نجد أن العلماء لا يصلون إلى درجة الإجتهاد إلا بعد: سنين من العناء والجهد والتفرغ الكامل…

التخصص الكامل في جملة من العلوم هو السمة البارزة للاجتهاد…

من الطبيعي إذن أن يتأخر الأساتذة والعلماء في إدراك مدى قدرة الطالب على الوصول إلى درجة الفقاهة والاجتهاد لأن هذه الدرجة إنما تعرف عن طريق المماحكة والمناقشة الدقيقة بين الطالب واستاذه، وقد عرف من سيرة الشهيد الصدر(قده) إنه حصل على درجة الاجتهاد قبل سن الخامسة والعشرين.

ماذا يعني هذا في عصرنا؟

إنه يعني أن الشهيد كان متفرغاً تفرغاً كاملاً للبحث والتحقيق في تلك العلوم، وهذا ما شهد به أساتذته الذين غذوه من علومهم في أوائل دراسته، وعند وصوله إلى ما يسمى (بالبحوث الخارجية)، وهي الدروس التي يعرض فيها الأستاذ كل ما لديه من أدلة حول مسألة من المسائل، ثم يجيب على كل المناقشات التي تطرح، ويمكن اعتبار مناقشة رسائل الدكتوراه مثالاً مصغراً لهذه البحوث.

اشترك الشهيد الصدر مع أقرانه في دراسة الكتب اللغوية المعهود تدارسها في جامعة النجف الإسلامية، كذلك الكتب الفقهية كاللمعة والمكاسب، ودرس أيضاً كتاب الكفاية والرسائل، ثم حضر مع نفس زملائه دروس الخارج.. وكان امتيازه على أقرانه هو المناقشة في الصغيرة والكبيرة من المسائل والبحوث التي يتلقونها، ولم يعرف في حياته الإستسلام العقلي لمقالات الكبار والمحققين.

كان الشهيد يقضي الساعات المتواصلة المتلاحقة في التأمل والتدقيق والتحليل، ولا أدري هل أن ما توصل إليه أخيراً من نتائج خطيرة في مختلف المجالات كان يخطر في ذهنه كلمح البرق ثم يتابع نوره؟! أم كان مجرد احتمالات يسطرها على صفحات الذهن ثم يناقشها لينفذ بعضها ويثبت البعض؟!

لقد كان للشهيد الصدر صفة الرفض العقلي (أي عدم الإستسلام) لكل المسلمات والمصادرات، سواء ما كان منها منطقياً أو فقهياً وأصولياً، وهذا الرفض وليد للمنهج العلمي الذي شادته الجامعات الإسلامية، التي فتحت باب الاجتهاد، فهي تعلم الباحث والمحقق على الاستقلالية الكاملة في الاختيار والاستنباط، لكن بروز هذا الرفض بالشكل الذي ظهر في حياة الشهيد الصدر العلمية ليس واضحاً في حياة الكثير من الفقهاء والعلماء والمحققين.

فالمعروف إن كبار الفقهاء يحصلون على نصيب كبير من تلك الميزة التي هي ضمان الوصول إلى النتائج المستقلة في العلوم التقليدية، ولا يصل الأمر بهم إلى تكوين الآراء خارج حدود هذه العلوم.. فلم نجد فقيهاً كوّن له نظرية في المعرفة الإنسانية، أو أكتشف المذهب الاقتصادي الإسلامي، أو قدم الأدلة المتكاملة على صحة مسائل كثيرة لا تدخل نطاق تلك العلوم التي يطويها الفقهاء… أو اكتشف السنن التاريخية من خلال الدراسات القرآنية.

لقد عرف تاريخ الفقهاء جملة من الفقهاء الفلاسفة والفقهاء الأدباء والفقهاء المؤرخين والفقهاء المتكلمين والفقهاء المفسرين لكن من الصعب وضع اليد على فقيه جمع مختلف هذه العلوم على مستوى التخصص.

لقد كان الشهيد الصدر فيلسوفاً من غير منازع، استطاع تكوين نظرية جديدة في المعرفة، ولقد دخل ميدان النظريات القديمة في المعرفة، وناقشها جميعاً، وانتهى إلى عدم قدرتها الكاملة على طرح النظرية الصحيحة في تفسير المعرفة الإنسانية ثم دخل ميدان النظريات الحديثة، وطاف مع الوضعيين في منطقهم، ومع الفلاسفة المحدثين، لينتهي إلى نفس النتيجة السابقة فما كان منه إلا أن طرح ما يراه صحيحاً، كنظرية جديدة للمعرفة الإنسانية.. وقد يقول البعض أن الفيلسوف هو من يدرس الفلسفة القديمة، ثم يقوم بشرحها وتفصيلها، كالسيد الطباطبائي ونحن نقول أن من يستطيع أن يطرح نظرية جديدة للمعرفة لا تبتني فقط مع الأسس المنطقية والفلسفية التقليدية، فيلسوف بمعنى الكلمة، وهذا ما ينطبق على الشهيد الصدر، فهو من أساتذة (الحكمة المتعالية)، ومن الذين قدموا نظرية جديدة في المعرفة.

وكان الشهيد الصدر فقيهاً محققاً من الطراز الأول، وأصولياً بارعاً تشهد له نظرياته الجديدة في تفسير نشوء العلم الإجمالي وفي كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، وفي بيانه لمسلك حق الطاعة.. ويظهر من بحثه للسيرة إطلاعه الواسع على الدراسات الإجتماعية والانثرپولوجية، فهو يتعمق في دراسة الدوافع في تشكيل السلوكيات الاجتماعية المشتركة للجماعات وقد كان الشهيد الصدر عالماً لغوياً، استطاع مناقشة الفطاحل من علماء اللغة وأساتذتها، وقدم نتائج خطيرة في اللغة.. خصوصاً في تفسير المعنى الحرفي.

ولا ننسى للشهيد الصدر تخصصه في العقيدة حيث استطاع الاستدلال على صحة العقيدة الإسلامية بالأدلة التي لم تستخدم من قبل إلا في مجالات العلوم الطبيعية… كما في كتاب الرسالة والمرسل والرسول.

ويكفي الشهيد فخراً أن يكون أول من قارع المدارس الفكرية الوافدة على الفكر الإسلامي من خلال دراسة نفس تلك المدارس ومناقشتها مناقشة علمية هادئة، وكان ينتقد بعض شارحي الماركسية في فهمهم لما طرحه ماركس، وإذا كان (روبرت بي داونز) قد حدد الكتب التي غيرت الدنيا في ستة عشر كتاباً وجعل عشرةً منها خاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية، فنحن نقول أن (روبرت) لم يطلع على تأثير كتابي اقتصادنا وفلسفتنا في العالم الإسلامي، ولو كان قد عرف ذلك لأصبح في كتابه المجال الواسع للحديث عن هذين الكتابين.

ولقد كان الماركسيون في العراق يدرسون الأفكار الماركسية من خلال ما عرضه كتاب (اقتصادنا)، فإن هذا يشهد بمدى الأمانة العلمية التي كان يتمتع بها الشهيد، في نفس الوقت الذي يشهد بمدى الخيانة الفكرية لدى الماركسيين الذين يقرأون نظرياتهم ولا يقرأون مناقشاتها، وهي في كتاب واحد، ثم أن ذلك يكشف عن قدرة الفكر الإسلامي على المواجهة النزيهة المستقلة ضد التيارات الكافرة والمنحرفة، بدون اللجوء إلى التحريف أو إلى أفكار المدارس الفكرية الأخرى، أو اللجوء إلى العواطف الإسلامية المختزنة في ضمير الأمة المسلمة.

وإن هذا يؤكد أيضاً أن الشهيد الصدر كان يطمح إلى أن تتجه الأبحاث الإسلامية في هذا الإتجاه، وقد تحقق ما كان يطمح إليه، فقد أصبحت كتبه مصادر أساسية للدراسات الاقتصادية والفكرية الإسلامية.

وأما التاريخ، فتشهد محاضرات الشهيد التي ألقاها على ثلة من طلابه بالعمق والدقة التي كان عليها في دراسة سيرة الأئمة وأدوارهم الرسالية التي اضطلعوا بها، وكذلك بحثه حول الولاية.

إن ما أريد أن انتهي إليه في هذا المدخل نتيجتان:

1ـ إن الشمول والعمق والدقة والإستقلالية عطاء للمنهج العلمي في المدارزس الإسلامية التي فتحت باب الاجتهاد.

2ـ إن العمق والدقة في حياة الشهيد الصدر العلمية كانت واضحة في كل المجالات العلمية المعهودة لدى طلاب وعلماء الحوزة العلمية، وهي أيضاً سمة بارزة في تحقيقات الشهيد في مختلف شؤون الفكر والمعرفة التي درسها الشهيد(رض).

نظرة عامة إلى التحقيق عند السيد الشهيد:

من الضرورات القائمة واللازمة في كل فكر ومعرفة، التحقيق الذي يستدعي التأمل والتدبر والتحليل في مفردات المعرفة وأجزائها وشرائطها وأدلتها.. والتحقيق منه ما هو سطحي، ومنه ما هو عميق، ومن علامات التحقيق السطحي، إن المحقق لا يضع له برنامجاً لدراسة المسائل، وليس لديه منهج علمي للتحقيق، ولا يملك المقاييس لمعرفة الصحيح أو السقيم، ويعتمد على السماع أو المشهور بين الناس، ويتساهل في دراسة النصوص والمستندات أو البراهين والأدلة، ويتعصب لرأيه وما يتبناه، ولا يملك سعة الأفق والتي تؤهل المحقق المنظر إلى واقع الأمر بكل أبعاده وآثاره أو مقدماته وشروطه، ونتائج التحقيق السطحي نتائج شخصية مبتورة، ليس لها أصل أو أساس سليم، ولا يمكن أن يبني عليها بناء علمي نافع، وهذه النتائج السطحية تضرباً لمعرفة الإنسانية بصورة عامة، وتضر بشكل خاص نفس الباحث، لأنه يحسب إنه توصل إلى الشوط الأخير في دراسة مسائله، مع أن الواقع خلاف ما تصوره، ليس في مثل هذا التحقيق أي ميزة على بحوث الدارسين ودراساتهم، فإن أغلب الباحثين يعتمدون تلك الطرق للوصول إلى تلك النتائج.

ولو أردنا تطبيق هذا المنهج السطحي في التحقيق على بعض الدراسات الإسلامية، فإننا نجد ذلك في الكثير من الكتب الإسلامية التي كتبت في المرحلة التي كان الإسلام فيها في (مرحلة الدفاع)، فنجد الكثير ممن كتب عن إن الإسلام:

1ـ لا يؤمن بالقتال ولا يجعله مشروعاً إلا في مرحلة الدفاع.

2ـ وإن القرآن يتحدث عن علم الذرة والفلك والجغرافيا والكيمياء،…

3ـ وإن الإسلام طرح الإشتراكية منهجاً اقتصادياً.

4ـ إن الإسلام آمن بحرية أصحاب رؤوس الأموال.

5ـ وإن الإسلام لا يمنع من الترف، وغير ذلك من المسائل التي استدل لها بحديث أو آية من الكتاب الكريم، بلا ملاحظة للروح العامة للقرآن، والجو الخاص التي تتحدث عنه الروايات أو الآيات الكريمة، ولو أردنا تطبيق هذا المنهج على الدراسات التاريخية الإسلامية، نجد أن هذا المنهج هو السائد في هذه الدراسات.

والدراسات الأصولية والفقهية أخذت حظها الوافر من هذا المنهج السطحي، فالكثير من الفقهاء ليست لهم نظريات محددة واضحة في القواعد الأصولية، والتي تعتبر الأسس لعلم الفقه واستنباط نتائجه.. فهؤلاء اتباع ومقلدون في هذه القواعد الأصولية، والذي يمارسونه من بحث ودراسة، هو تطبيق تلك القواعد على مسائل فرعية أو جديدة البحث.. فالجديد في دراساتهم هو تطبيق القواعد لا الإضافة إليها أو مناقشتها، والذين استطاعوا تكوين مدرسة أصولية هيمنوا على الساحة العلمية، واكتفى طلابهم بنتائج بحوثهم وسلموا بها تسليماً كاد أن يكون كاملاً.. والدوافع الكامنة وراء التبعية العلمية كثيرة، منها العظمة العلمية لأصحاب المدارس والنظريات الجديدة، ومنها طبيعة الباحث الداعية إلى التقليد، واتباع الغير، وحسن الظن بدراسة العلماء وتحقيقاتهم.. ومن يريد الخروج على هذه المدارس يحتاج إلى طاقة دافعة، وإلى جهد نفسي كبير، يقاوم حالة الخمول والركون إلى الراحة، ومن الطبيعي إن نجد أن من يملك هذه الطاقة والجهد النفسي قليل، والمحققون الأصوليون الذين بذلوا الجهود العلمية الكبيرة في دراستهم الأصولية، وتوصلوا إلى نتائج جديدة وتحقيقات غريبة على الساحة الأصولية، لا يختلفون عن المحققين في مختلف العلوم، فإن (فرويد) يبقى مهيمناً على ميدان علم النفس، ويبقى (آدم سميث) عالم الاقتصاد المبرز، وعلم الفيزياء يتصدره (نيوتن وانيشتاين) ويبقى (اليكسيس كاريل) الرجل الأول في علم التشريح.. والعالم النفسي لا بد أن يدرس تفسير الأحلام، واللاشعور، وعالم الاقتصاد لا بد أن يمر على دراسات (سميث) في الاقتصاد الحر ومن يدرس النسبية، أو يريد دراسة نظام الكون، لا بد أن يمر على مؤلفات (نيوتن وانيشتاين) وطالب كلية الطب لا بد له من دراسة (الإنسان ذلك المجهول).

والدراسات العلمية الحديثة، تطوير أو تشذيب لدراسة أولئك وغيرهم من أعاظم العلماء.. ولا نتصور أن الساحة العلمية تستوعب التجديد في كل دراسات الباحثين.. إن هذا يعني إن العلم سوف يتوقف عن النمو، لأن عدد الدارسين في كل المجالات العلمية كبير جداً، فإذا قدر لهم الوصول إلى نتائج جديدة في كل بحوثهم، فما الذي يبقى للأجيال القادمة من العلماء والدارسين.

وعلم الأصول لا ينسى بناته الأوائل كالمرتضى والطوسي وبن أدريس.. ولا ينسى المتأخرين من الذين شادوا ذلك البناء وأحكموه، كالأنصاري والخراساني والنائيني، والشهيد الصدر يعتبر آخر المحققين من أصحاب المدارس الأصولية.. وبين أولئك الأوائل وهؤلاء المتأخرين، سلسلة من الرجال المحققين لم يعمدوا إلى دراسات قواعد الأصول على ضوء المنهج السطحي المتقدم، بل استفادوا من قواعد التحقيق العلمي العميق.

وعلينا الآن أن نلقي نظرة على هذه القواعد، التي أعتمدها المحقق الشهيد الصدر في مختلف دراساته، واعتمدها المحققون الأصوليون في دراساتهم الأصولية، وعلينا أن نلاحظ أن تطبيق هذه القواعد يحتاج إلى دقة وعمق، لأنها على خلاف الطبيعة الإنسانية التي تركن إلى التقليد واتباع الآخرين، أو الاعتماد على النتائج الناقصة.. وعلينا أن نلاحظ أيضاً، إن هذه القواعد برزت في الدراسات الأوروبية الحديثة في السنوات الأخيرة مع أن علمائنا الأبرار طبقوها في دراساتهم وتحقيقاتهم قبل أن تنشأ جامعات علمية أوروبية.. والسيد الشهيد الصدر طبقها في أوائل دراساته ونتاجاته العلمية بصورة مذهلة.. ويمكن ملاحظة ذلك في كتاب فدك في التاريخ حيث سلم مشهور الفقهاء والمحققين بأن المجتهد القاضي يجوز له الاعتماد في قضائه على علمه الخاص، بحجة أن القاضي يجوز له الاعتماد على قضائه على علمه الخاص، بحجة أن القاضي يجوز له الاعتماد على البينة في قضائه والبينة لا تفيد أكثر من الظن، بينما علم القاضي يعتبر كاشفاً تاماً، فإذا جاز له الاعتماد على الكاشف الظني فمن باب أولى يجوز له الاعتماد على علمه.. والشهيد الصدر يناقش في هذا الدليل، بأن (المشرع) ينظر إلى البينة التي اكتملت شروطها وكأنها علمان لا علم واحد، ولا ينظر إليها بما هي ظن، وينظر المشرع إلى علم القاضي وهو علم واحد فأين الأولوية.

قواعد التحقيق العلمي عند الشهيد الصدر:

أولاً: يعتمد التحقيق العلمي عند السيد الشهيد على برنامج متكامل يمنع من الاستطراد في البحث، والخروج عن دائرته وهدفه، ويستوفي في الباحث كل المقدمات والأدلة المعتمدة.. وهذه البرامج كانت واضحة في دراسات لشهيد الصدر، حيث كان يحدد نقاط البحث ابتداءً وانتهاءً، ويستدل على كل دعاواه من غير أن يعتمد على رأي لا يملك دليلاً أو برهاناً واضحاً، ولم يعهد من السيد الشهيد أن يقفز إلى النتائج التي توصل إليها بلا دراسة موضوعية لمقدماتها.. وأما هدفه من دراساته، فكان هدفاً واضحاً ومحدداً يمكن الوصول إليه عن طريق التحليل والتأمل أو المتابعة والتنقيب، ثم إن أهدافه كانت علمية دقيقة وذات فائدة، وغير متعارضة مع أهدافه العلمية الأخرى، هذا من جهة ومن جهة أخرى، كان هدفه أسمى من الأهداف الشخصية الزائلة، كالشهرة أو الطمع، وإنما أقصى غاياته وأهدافه أن يوضح الحقائق كما هي من غير زيادة أو نقيصة وقد كان الماركسيون يقرأون بعض أفكار المادية الديالكتيكية والتاريخية وغيرها من أفكار الماركسية في كتب السيد الشهيد ودراساته، لأنهم أيقنوا أن السيد الشهيد، وإن ناقش نظريات الماركسية، لكنه اعتمد الحقيقة وعرضها كما هي من مصادرها الأساسية، وقد نجد السيد الشهيد مدافعاً عن بعض الأفكار والنظريات التي لا يؤمن بها، لاعتماد من ناقشها على أسس باطلة وقد يتصدى لإبراز حجة جديدة يستدل بها لنظرية لا يؤمن بها وقد يعتمد مقدمات غير مسلمة عنده للانتهاء إلى بناء متكامل، كما فعل ذلك في اكتشافه للنظام الاقتصادي الإسلامي.. وكان يطمح أيضاً إلى توسيع معارف البشرية، فالأهداف عند السيد الشهيد أسمى من المطامع الشخصية، ولعل من أفضل الأدلة على ما نقول، خلود دراساته وكتبه وانتشارها في آفاق العالم الإسلامي.

ثانياً: التحقيق العلمي عند الشهيد الصدر، يعتمد على منهج متكامل في دراسة المسائل، أو الأدلة والبراهين، ويمتاز المنهج العلمي على المنهج غير العلمي، في إنه يعتمد الدقة في الدراسة، ويعتمد الأدلة التي تنتهي إلى نفس النتائج التي توصل إليها المحقق، ويعتمد هذا المنهج أيضاً على الحياد الذهني والنفس تجاه أي من الافتراضات التي يحتمل انتهاء التحقيق إليها.

وقد أكد الشهيد على أن السبب في إنحراف الأوربيين عن الدين والعقيدة، هو عدم وجود حالة الهدوء النفسي والحياد الفكري تجاه قضية الدين، نتيجة ما حملته الكنيسة واتباعها من حيف وظلم، ومن جهل وغباء في عرض المسائل الدينية وتبرير تصرفات الحكام المتسلطين بالقوة، مما جعل الإنسان الأوروبي ينظر إلى الدين مثل نظرة إلى الحكم والجهل والمرض والفقر، الذي صاحب حاكمية الكنيسة، أو حاكمية المتسلطين الذين كانوا يحظون برعاية الكنيسة.. وأكد السيد الشهيد أيضاً، إنه متى استطاع الإنسان الأوروبي رفع هذا الحياد غير المشروع لجانب الكفر والإلحاد، والخروج عن الدين، يمكنه بسهولة، الإيمان بقضية الدين.. وكان السيد الشهيد يعيب على فلاسفة أوربا وعلمائها وتطبيقهم لمنهج حساب الاحتمال في قضايا العلم، وتخلفهم عن الاستفادة منها لاثبات قضية الدين، والذي ينبغي هو النظر المحايد إلى كل القضايا والشؤون، دينية كانت أو علمية، وأنا أجزم أن (راسل) والكثير من اتباعه لو اطلعوا على مناقشات السيد الشهيد لهذه القضية لآمنوا بقضية الدين، ولعل هذا هو الذي دعا بعض أساتذة الفلسفة إلى أن يطلبوا ترجمة كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) إلى اللغة الإنجليزية… ومن الواضح في حياة الشهيد الصدر أنه لم يكن مقلداً في منهجه العلمي، ولم يكن مطبقا فقط لما طرحه (أرسطو) واتباعه في منطقهم الشكلي، فقد امتاز السيد الشهيد في أنه سار على المنهج الأرسطي في جملة من الأمور، فإنما كان ذلك بعد ثبات صحة هذا المنهج في تلك الدائرة، ثم اكتشف منهجاً جديداً يمكن أن يتمم به نواقص المنهج الأرسطي، ويسد فراغاته، وقد طبقه في الأصول والفقه والعقيدة.

إن الشهيد الصدر من خلال تصحيحه لنظرية المعرفة التي طرحها المنطق الأرسطي، استطاع أن يثبت إن الإسلام يملك رصيداً كبيراً من الأدلة الفلسفية والمنطقية والعلمية، وأثبت أيضاً أن من لا يسلم ببديهيات المنطق الأرسطي ليس له أن يتنكر للعقيدة الإسلامية بدعوى أنها مبنية على تلك البديهيات.. لأن هذا سوف يعتمد على منهج آخر في اثبات قضايا العلم وهذا المنهج صالح لاثبات قضايا العقيدة والعلم في وقت واحد.

وكان الشهيد الصدر مخلصاً للحقيقة، ولم يكن يتعصب لما يراه، أو يكتبه، وقد ناقش بعض ما طرحه هو في كتاب فلسفتنا بعد اكتشافه لنظريته الجديدة في المعرفة، حيث كان يثبت بدليل العلية أن الصورة الذهنية أو المفهوم منتزع من نفس الشيء؛ الخارجي، لأن الصورة حادثة ومعلولة وعلتها الشيء الخارجي.. ناقش هذا الطرز من الاستدلال، بأن دليل العلية العامة يقول، أن هناك علة ما للصورة الذهنية، واثبات أن العلة هي الشيء الخارجي، أو قوة نفسية، أو (س) من الأمور، لا يرجع إلى دليل السببية العام، وإنما يمكن إثبات ذلك عن طريق تطبيق حسابات الاحتمال،.. والإخلاص للحقيقة بهذه الدرجة يثبت أن الشهيد الصدر(قده) لم يكن يهدف من بحوثه ودراساته أهدافاً شخصية وإنما كان يهدف إلى عرض الحقيقة كما هي.. والذي يدل على أن اهتمام السيد الشهيد بالحقيقة وعرضها كما هي، هو هدفه الأول والأخير، انه تعرض لبعض الحقائق التي اكتشفها، أو أبرزها غيره من المفكرين والباحثين، ونسبها لهم، وشكر لهم هذا الاكتشاف، نذكر من ذلك ثلاثة وقائع:

1ـ في كتاب اقتصادنا ذكر السيد الشهيد الاستاذ الجليل الدكتور (محمد المبارك) وقال: (بالإمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الأستاذ الجليل محمد المبارك).

2ـ في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء، أعتمد على بعض مصادر حساب الاحتمال المكتوبة باللغة الإنجليزية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، وقال في رسالة له متحدثاً عن الدكتور زكي نجيب محمود وكتابه المنطق الوضعي (أنا اعتز بما جاء فيه ـ كتاب المنطق الوضعي ـ عن الاحتمال، ولا أزال أرجع إليه واستفيد منه).

3ـ ذكر السيد الشهيد في رسالته إلى الفقيه المحقق السيد كاظم الحائري، أنه كان مع تلميذه البارز يعانيان اكتشاف الأسس المنطقية للاستقراء والرسالة كما يلي:

((أجدك في كل شيء مهم حولي، أجدك في الأسس المنطقية للاستقراء حين عشنا معاناة اكتشافها، وأجدك في المفاهيم حين كنت تلاحقني ليلاً ونهاراً بالإشكال تلو الإشكال والسؤال تلو السؤال، وأجدك في تلك الساعات الطوال التي كنا نقضيها نتذاكر ونتحدث، إني أجدك في كل شيء وافتقدك في كل شيء…))[17].

إن الرسالة تكشف عن جانب مهم في حياة الشهيد العليمة والتحقيقية، وهذا الجانب الهام، هو أن الشهيد كان يعتمد على التحقيقات المشتركة في بعض الأحيان.. فلو أن التحقيق الفردي بلغ إلى الدرجة القصوى، فسوف يبقى فردياً، أما لو كان التحقيق مشتركاً، فإنه يعني تلاقح الأفكار وتداول النظر من أجل تقديم معرفة جديدة للبشرية، أو الاستدلال على المعارف البشرية المتداولة، والبحث بصورة عامة في الجامعات الإسلامية فيه مسحة من التحقيق المشترك، فإن الفقهاء في بحوثهم يطرحون ما يرونه من آراء ونتائج على مجموعة من الدارسين والباحثين، ثم تبدأ المناقشات الحرة، والتي تغير آراء هذا الباحث أو ذاك في ما يطرحه ويراه..

والملاحظ في المنهج الذي اختاره السيد الشهيد في تحقيقاته إن الموانع الزمانية والمكانية والسياسية والبيئية لم تكن تؤثر عليه ولا يهمه من أجل اكتشاف الحقيقة وأبرزها، أن تكون العوامل المحيطة به لا تقبل هذه الحقيقة.. وقد كان السيد الشهيد سباقاً في ميادين العمل وميادين التخطيط وميادين الاكتشافات العلمية.. في الزمن والبيئة والمكان الذي لا يعرف بعد شيئاً عن الحكومة الإسلامية، عرض السيد الشهيد الأدلة التي تثبت مشروعية الحكومة الإسلامية في رسالة لا زالت مخطوطة.. ويشكك في بعض بديهيات أرسطو ومنطقة، في بيئة علمية اعتمدت على المنطق الأرسطي في كل علومها.. ويطرح نظريات جديدة، تنسف بعض ما اعتبره جملة من الأصوليين قواعد ثابتة لا تقبل المناقشة.. ويبني بنفسه الأسس للعمل الحركي الإسلامي في وقت لا يستوعب ذلك، ثم يكشف عن كتاب الله القانون التاريخي بصورته العلمية والاستقرائية، ثم يفلسف للثورة الإسلامية أسسها التي تعتمد عليها.

أن المنهج الذي اعتمده السيد الشهيد، والبرنامج الذي كان يسير عليه في تحقيقاته، لا يعرف التساهل.. وقد وقع الكثير من المفكرين في الأخطاء، لا لخطأ في منهجهم، بل لتساهل في تطبيق ذلك المنهج.. وكان السيد الشهيد دقيقاً في تطبيقه لمنهجه العلمي، وكان ينتهي إلى النتائج بصورة طبيعية منظمة، وكان يعطي للتأمل الكثير من وقته، ولم تكن تؤثر عليه العوامل المعيقة، والتي استطاعت منع الكثيرين من مواصلة المسيرة العلمية، أو التعمق فيها، كالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمسلمات العلمية المزعومة.

ومن الصعوبات التي كانت تواجه (جامعة النجف)، عدم الإطلاع على ما يدور في العالم من بحوث حول المعرفة والاقتصاد والسياسة وغير ذلك.. ولم يكن يدور بخلد الكثيرين إن من الضروري البحث في هذه الأمور.. ولكن السيد الشهيد كان من السباقين في هذه الميادين، واستطاع اثبات إن للإسلام رأياً مبايناً لما تراه بحوث المحدثين في تلك المحاولات…

ومن الصفات البارزة في تحقيقات السيد الشهيد التعمق والتحليل الدقيق، وقد عبر عن ذلك العالم الجليل محمد جواد مغنية بقوله (إن الصدر عندما ما يريد إن يحقق مسألة ما، فهو كالذي ينزل إلى أعماق الأرض، ثم عندما يريد الخروج إلى سطحها يفتش عن كل الطرق المؤدية إلى السطح ولا يكتفي بطريق واحد).

ثالثاً: ومن مفردات التحقيق العلمي العميق عند السيد الشهيد، نوع الأدلة.. والجامعات الإسلامية لم تكن لتتبع الأدلة الظنية أو الناقصة، ولكن بعض المحققين الإسلاميين قد يغفلون عن الضعف الذي يكتنف بعض الأدلة، أو يعتمدون على ما اشتهر وذاع بين الباحثين، وقد تؤثر الأجواء العلمية على ذهن المحقق فترصفه عن أن يجترئ على المخالفة.. ولهذا قد ينصرف كثير من العلماء عن مواصلة بحوثهم، لأنها تؤدي إلى مخالفة المشهور.. وقد يحاول بعضهم بمختلف الوسائل التوفيق بين نتائج بحوثهم وبين المشهور، ولو بتشذيب النتائج، وحذف بعض حدودها، وفي الجامعات الإسلامية بالخصوص، ساعدت صفة التقديس والاحترام للعلماء على مثل هذا السلوك.. وقد أثبت التاريخ أن العلماء بعد الشيخ الطوسي لم يكونوا ليجرأ وأعلى التفكير في مخالفة الشيخ (فكانوا مجتهدين مقلدة)، إلى أن جاء ابن ادريس، وبدأ بمجاهرة الخلاف مع الطوسي، وفتح الطريق أمام الأفكار والنظريات المخالفة للشيخ.

وبرز السيد الشهيد في جو يقدس منطق أرسطو، ويخضع لقواعد أصولية معينة، ويستدل على قضايا العقيدة بنوع واحد من الأدلة، ويستنبط في الفقه مفردات فقهية تعالج شؤون الأفراد.. ويستعمل في مجمل العمليات الفكرية الاستدلالية الطرق المعهودة من غير أن يخطر بالبال إن هذه الأدلة ناقصة، أو غير بديهية، وسر هذا كله إن المنطق الأرسطي يضفي على أدلته نوعاً من القطعية والصرامة، فالقياس لا بد أن تكون نتائجه نوعاً من القطعية والصرامة، فالقياس لا بد أن تكون نتائجه صحيحة، والاستقراء الكامل يؤدي إلى القطع، وهكذا.. أما إن يكون ثمة استقراء كامل أو لا يكون، أو إن القياس سوف يعصم الذهن من ناحية الصورة فقط، أما المواد فهي استقرائية، فهذا ما يوجب الشك في تلك الصرامة، لكنه لم يدفع المحققين إلى طلب الدليل والبرهان من ارسطو لأثبات دعاواه.. هذا وغيره دفع بالسيد الشهيد إلى بحث نظرية المعرفة بصورة عامة، وبناء على هذا تكون استدلالات السيد الشهيد مبنية على منطق جديد، ونظرية جديدة في المعرفة.

رابعاً: ومن مفردات التحقيق العلمي عند السيد الشهيد الحفاظ على الحالة النفسية المحايدة تجاه أي من الاحتمالات وكثير من النتائج الخاطئة تنشأ من حالة التعصب بمختلف إشكاله، أو من حالة الإستسلام للعادة أو السيرة المتبعة، أو الشهرة أو الذوق.. وقد صرح السيد الشهيد أن إنحراف أوربا عن الدين ناشئ من مخلفات الكنيسة وتأثيراتها على النفوس، وليس ناشئاً من قصور في قضايا الدين.

خامساً: ومن مفردات التحقيق العلمي العميق عند السيد الشهيد الوضوح في المقدمات والنتائج، وخلو المسائل من الغموض، فقد تكون مفردات مسألة ما واضحة تماماً، ومع هذا نجد أن الباحث ينتهي إلى نتيجة معينة، وحق التحقيق إن تتوضح كل المقدمات المؤثرة في تكوين النتيجة أو اكتشافها، وليس المراد من الغموض هذا الصعوبة في فهم المسائل، بل يراد من الغموض عدم الانكشاف بنحو القطع والجزم،… وما انتهى إليه السيد الشهيد في مختلف العلوم ليس غامضاً أو مهيمناً، وإنما هو من السهولة بمكان، إذا تهيأ للذهن تصور المقدمات وإنكشافها.. ولهذا فأن حجج السيد الشهيد تمتاز بقدرتها على الإقناع.

سادساً: ومن معالم التحقيق العلمي عند السيد الشهيد الأصالة والإبداع وسنتحدث عن ذلك في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.

سابعاً: ومن أهم مظاهر التحقيق العلمي البارزة في فكر الشهيد الصدر، الشمول والبحث المستوعب لكل المقدمات والآثار المترتبة، فكان السيد الشهيد يبحث المسألة من الجذور ثم يلاحظ الثمار.. فحين يطرح المسألة، يأخذ موضوعها ليحلله تحليلاً كاملاً، ثم يطرح ما يراه الآخرون بهدوء وحياد، ثم يبدأ المناقشة العلمية،.. وسنرجع إلى بحث هذا الموضوع بصورة أشمل ونحن نعلم إننا لن نصل إلى مستوى الكشف عن معالم التحقيق العلمي عند السيد الشهيد، ولكن هذا لا يمنعنا من أداء حق الشهيد الصدر الذي أفاض علينا من بحر علمه، وشملنا بعنايته وأبوته.

[1] مستل من كتاب (أرقام وآراء حول نظام البعث في العراق) بقلم فؤاد كاظم / إصدار المركز الإسلامي للأبحاث السياسية ـ قم المقدسة / ص: 265 ـ 272.

[2] * من نداءات الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر للشعب العراقي عندما كان محتجراً في بيته بالنجف الأشرف قبل استشهاده عام 1339 هجرية على يد جلاوزة البعث.

[3] مرآة العقول ج1 / باب فضل العلم.

[4] سورة آل عمران ـ آية 16.

[5] مرآة العقول ج1 / ص: 119.

[6] أوصاف الأشراف مقدمة الحليلي / ص: 18.

[7] رجال النجاشي 28.

[8] علي الفاضل القائني / علم الأصول / ص: 82.

[9] تاريخ الكوفة للبراقي / ص: 396 ـ 408.

[10] مقدمة شرح اللمعة / الشيخ الآصفي / ج1 ص: 33.

[11] آغا بزرگ الطهراني / مقدمة النهاية / ص: و.

[12] تلخيص الشافي / طبعة النجف / ص: 15. تلخيص الشافي / طبعة النجف / ص: 15.

[13] محمد رضا مظفر في حديثه في المهرجات الألفي لجامعة القيروان بما اختصر عنه في تلخيص الشافي / ج1 ص: 15.

[14] يراجع للتوسع في هذا المقام شهداء الفضيلة للشيخ الأميني وكذلك أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، وبقية كتب التراجم والتاريخ.

[15] النداء الثالث الذي وجهه الإمام الشهيد الصدر أيام احتجازه في بيته في النجف الأشرف عام 1399هـ.

[16] الشهيد الصدر / غالب حسن / ص: 73.

[17] تجد صورة الرسالة في نهاية البحث.