يعتبر المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) من بناة التوجه السياسي الاسلامي الحالي في العراق ورائد الثورة الاسلامية المشتعلة فيه اليوم، كما انه ملهم الكثير من الحركات الاسلامية السياسية العاملة هنا وهناك في العالم، ولعلّ مردّ ذلك يرجع الى شخصية الشهيد الصدر (رض) نفسه، فلقد اجتمعت في شخصيته (رض) عدّة مواصفات متميزة مكّنته من تقديم نظرية متكاملة في المجال السياسي الاسلامي، كما مهّدت لنظريته الرواج والانتشار ومنحته شخصية فريدة وخاصة.
فمن الناحية التكوينية كان (رض) يمتلك ذكاءً قوياً واستعداداً غير عادي قلّ نظيره بين اقرانه يعترف بذلك من عاشره عن قرب او تتلمذ عليه او قرأ له كتاباته وطروحاته او استمع الى محاضراته ودروسه او تابع منشآته الفكرية والدراسية.
ومن جانب آخر فان الشهيد الصدر (رض) تميّز بثقافة اسلامية واسعة واصيلة اكتسبها منذ نعومة اظافره اذ نشأ في عائلة علمية حفته بالكثير من الرعاية والعناية حتى تفتّقت قابلياته في سن مبكرة وبرزت عبقريته عملياً في مجالات البحث والمذاكرة، وقد عُرف عنه استيعابه الكثير من الكتب والاسفار بمجهود شخصي ودون ان يكون له استاذ فيها.
وقد بلغ درجة الاجتهاد في بداية العشرينات من حياته الشريفة مما يعني تمكّنه الفائق من مجمل الدراسات الحوزوية وتعمّقه في ادراك الخطوط التفصيلية للشريعة الاسلامية.
هذه القدرة التي تمتع بها شهيدنا الغالي (رض) فاقت كل تصور في مجال فهم شمولي عام للاسلام ومراميه الكبيرة في بناء المجتمع الانساني وتحقيق الغايات الالهية في خلقه، لذلك فان موقع الشهيد الصدر الاجتهادي في الحوزة كان من اهم الامور التي نسجت نجاحه الباهر في طرح الاسلام ضمن منهجية واضحة ومستوعية وشمولية..
يضاف الى ذلك ان شهيدنا السعيد استوعب ثقافة العصر والتراث الثقافي العام، وهذا امتياز آخر احرزه شهيدنا الغالي، وكان السبب وراء كل الدراسات المقارنة التي اجراها في حياته وعكسها في كل نتاجاته الفكرية والعملية، فقد استوعب (رض) كل الثقافات المادية شرقيها وغربيها واشهر الفلسفات والنظريات المعاصرة بالاضافة الى محاولته الواضحة في استيعاب الجهد البشري العام عبر تراكمات التجربة الانسانية المعاصرة.
اشرنا في الحلقة السابقة ان الشهيد الصدر (رض) امتاز بخصائص فريدة في شخصيته مكنته من تقديم نظرية متكاملة في المجال السياسي، وتطرقنا بايجاز الى ثلاث خصائص، وهنا نكمل الحديث عن بقية الخصائص والتي كان ابرزها:
احاطته بمشكلات المجتمع البشري عموماً والامة الاسلامية خصوصاً، وهذه الصفة تهيأت له بفضل متابعاته النظرية لكل ما كتب وسطّر عن مشكلات الانسان العصري وانكشفت له من خلال متابعاته للتخبطات المختلفة للباحثين والمنظرين الماديين، كما هيأت له مكانته في الحوزة ومعايشته لأجوائها الاجتماعية واختلاطه بجنسيات افرادها المختلفة من استيعاب محاولات الاصلاح والتغيير التي قادها زعماء دينيون ومصلحون اجتماعيون في مختلف البلدان، من اجل انقاذ واقع الامة المتدهور ورضوخها الذليل للسيطرة الاجنبية، وكان يتحسس بعمق آلام ومعاناة المحرومين مثلما يتحسس حالة انحراف المسلمين وزيغانهم عن مسيرة دينهم العظيم، ولذلك لم يرض اية محاولة ترقيعية لاصلاح هذا الواقع انما وجه نظره للجذور لتغيير الارضية من اساسها واقامة بناء جديد على انقاضها مستعيناً بالفطرة السليمة للانسان وعدالة واستقامة الشريعة الالهية.
وعيه السياسي وادراكه مسؤولياته كعالم مرجع، كان (قده) من المراجع الذين ادركوا واقع الخارطة السياسية في العالم وتوزع ميزان القوى العالمية بين اولئك العمالقة المغتصبين، وعرف بأنّ السياسة اصبحت لعبة الكبار لامتصاص دماء الضعفاء، كما ادرك بذهنه الواعي عمق اللعبة الاستعمارية في اذلال الشعوب وعرف مسؤوليته كمسلم ينبغي له ان يهتم بأمور المسلمين وعمق هذه المسؤولية وتركّزها في الخط العلمائي المرجعي باعتباره الخط الذي يرث مسؤوليات الانبياء والاوصياء عليهم السلام في هداية البشرية وانقاذها من وهدة الضلال والانحراف ليضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم.. وقد ظهر ادراكه الواعي هذا منذ مطلع حياته العملية بتبنيه مشاريع واطروحات ساهمت بشكل واضح في انضاج الامة الاسلامية وتبصيرها بواقع اوضاعها السياسية وحثّها على النهوض والثورة ضد كلّ ما هو دخيل وعميل، فتبنى على ـ هذا الطريق ـ الحركة الاسلامية العراقية ونظّر لمسيرتها الطويلة، كما تبنى مهمّة التصدي للحكومة الكافرة في العراق بفتواه القائلة بتحريم الانتماء لحزب البعث باعتباره حزباً جاهلياً كافراً ومعادياً للاسلام.
السلام على الامام الصدر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
احمد علي