لا نذيع سرا اذا قلنا بأن المرجع الشهيد الخالد آية الله العظمى السيد الصدر ـ قدس سره ـ مدرسة متميزة المعالم، فريدة البناء، سخية العطاء في كل ما يتصل بميادين الفكر والتشريع والعقيدة والجهاد والجهاد.
ويقينا بأن تاريخ المرجعيات الدينية في النجف الاشرف لم يشهد مرجعا غيره، آلت اليه المرجعية قبل أن يكمل العقد الرابع من أعوامه الحالفة بشجون المرحلة، وهموم المسيرة، وتطلعات الرسالة، وآلام المسلمين وآمالهم.
وتبرز ظاهرة المرجعية المبكرة للسيد الشهيد الصدرـ رضوان الله عليه ـ مؤشراً على ما كان ينطوي عليه من مواهب نادرة، تخرق معها التقاليد الموروثة في «التقليد».
ولدينا ما يشير الى أنه أستكمل عدته الاجتهادية، وأداة الاستنباط، قبل أن يبلغ العشرين وذلك مظهر آخر من مظاهر نبوغه الفذ وعبقريته المدهشة.
ومسألة أخرى تطالعنا في حياة هذا المرجع الكبير تلك في نزوعه الى طرح الرؤى والافكار والمفاهيم الاسلامية بصيغ لا يؤطرها منحى
مذهبي معين، تكاد تجد هذه الخصيصة واضحة جلية في كتبه:
فلسفتنا.
اقتصادنا.
البنك اللاربوي في الاسلام.
الاسس المنطقية للاستقراء.
وفي الكثير من بحوثه وكتاباته، الأمر الذي عاد معه السيد الشهيد الصدر قمة اسلامية، يتعشقها كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
وشيء مذهل آخر يلمسه المتتبعون لاعمال السيد الشهيد الصدر الفكرية، وهو القدرة الفائقة على الابداع والتجديد في اطار من العمق والأصالة في ما عالج من موضوعات، فما تقرأ له بحثاً، ولا تعكف على كتاب من كتبه، الا وتجد نفسك مبهورا بطريقة العرض، والاستدلال وبالطروحات البكر التي يتفتق عنها ذهنه الوقاد وهكذا تأتي النتائج متناغمة مع مقدماتها الفريدة.
وتستوقفنا هنا سمات يتيمة لأعماله الفكرية تلك، وأبرز هذه السمات، الموسوعية والشمولية:
فهو امام محقق في علوم الفقه والأصول والرجال والحديث وصاحب منهج خاص في التفسير الموضوعي للقرآن.
ورائد «منطق» جديد نسف به المنطق الوضعي. وعملاق في الميادين الفلسفية، القديم منها والحديث. وله في العقائد والاخلاق والسير نظريات ونظرات جديدة.
كما أن له في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ براعات لا يمكن أن تكون مثار جدل أو نزاع.
وتنعكس في كتاباته ملامح التفاعل مع آخر ما تفرزه المدارس العلمية الحديثة في مختلف جوانب العلم والمعرفة.
ومن خلال هذه الشمولية الرحيبة أستطاع أن يعرف العالم بالوجه الآخر للمرجعية الدينية الرائدة.
لقد كان الناس ـ الى وقت قريب ـ يحسبون أن مسائل «الحلال والحرام» «والطاهر والنجس» هي كل ما تدور عليه رحى الحوزة العلمية في النجف الاشرف، ولكنهم سرعان ما عادوا، ـ ومن خلال هذا التجسيد الحضاري الحي ـ الى تغيير تلك الانطباعات المرتجلة الخاطئة.
ومن الامانة والوفاء أن نسجل لهذا المرجع المجاهد دوره الرائد في أحداث هذا الانعطاف الكبير في مدلول المرجعية ومضمونها.
أن كتبه تدرس اليوم في كثير من جامعات العالم.
وللتحليل والتفضيل في ما أثرنا من نقاط مجال ثان.
ويلاحظ أن النهج التقليدي في التربية الدينية كان يعني ـ والى حد كبير ـ بالطرح الفردي، بعيداً عن طموحات الرسالة، وتطلعاتها في السيادة والحاكمية لميادين الحياة ومفصولا عن الوعي السياسي والهم الرسالي.
ان أداء الفرائض العبادية من الصلاة والصيام والحج والخمس مثلاً، كان يكفي ببراءة ذمة الممارسين لهذه الشعائر من تبعة أية مسؤلية أخرى.
أما مدرسة السيد الشهيد ـ قدس سره ـ فانها تميزت بطابع رسالي خاص، وفي الطرح والممارسة والمنطلقات والاهداف والمسار.
أنها أخذت على عاتقها مهمة النهوض بايجاد تيار فكري أسلامي تتعبأ معه الجماهير المسلمة، بضرورة العمل الدائب الحثيث والجهاد الدامي المرير، حتى يبزغ فجر أنتصار الاسلام في المضامير السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا في المجال السلوكي الفردي وحده.
وهنا لا بد أن نسجل لمرجعنا الشهيد الخالد هذه السابقة الرسالية، الشامخة، فهو المحور الفاعل الاصيل، في إيجاد القاعدة الجماهيرية المؤمنة بالاسلام عقيدة ونظاما للحياة، واليه يرجع الفضل في تواجد الجيل الطليعي الرسالي، الذي خاض غمار المعاناة الطويلة مع قوى الظلم والظلام من أجل تحقيق أهدافه الكبيرة في أسقاط الاقزام وأقامة حكم الاسلام، وهذه الصحوة الاسلامية في العراق بكل ما رافقتها من فعاليات ـ هي ثمرة من ثمار جهوده وجهاده.
وكان ـ عطر الله مرقده ـ يرى المرجعية الأطار العام الذي لا بد أن تصب فيه كل القوى الاسلامية العاملة ـ من علماء وخطباء وحركات وأحزاب اسلامية وكوادر رسالية ـ لتقودها ـ وهي الشهيد الرباني على الامة ـ الى مرافىء العزة والكرامة والاستقلال من كل تبعية أو تسلط.
وهذا هو المدلول الحقيقي للمرجعية وله في هذا الباب بحث نفيس مطبوع بعنوان (أطروحة المرجعية الصالحة) كرّسه لتبيان هذا المنحى.
ولا أريد في هذه السطور أن أتناول بالبحث كل الجوانب المرتبطة بمرجعيته الصالحة الرشيدة ولكني سأشير بشكل خاطف الى جملة نقاط:
بالرغم من الجو الارهابي الخانق والممارسات الصدامية الاجرامية أعلن اسناده المطلق للثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام القائد المفدى السيد الخميني دام ظله، فقد حقق هذا الامام العظيم الحلم الكبير والنقلة التاريخية، والفتح البكر، وولد الاسلام على يديه من جديد، وأطلّت انوار دولته الباهرة تملأ الدنيا بأسعاعاتها وأنجازاتها.
إن نشوة السيد الشهيد الصدر بأنتصار هذه الثورة المظفرة فضلا عما بعد الانتصار ـ والبرقيات المتبادلة بينه وبين الامام القائد، وما كتبه لها من بحوث، وما قام به من تكريم لرموز هذه الثورة المجيدة، ما يعكس مدى هذا الاسناد.
يمكن القول بأن السيد الشهيد الصدر «قدس سره» عمل جاهدا من أجل أرساء دعائم القيادة العالمية للامام الخميني العظيم.
اسمعه يخاطب الامام قائلاً:
«أستطعتم أن تقدموا أطروحة الاسلام للعالم كله كبديل منقذ عن الحضارتين المتصارعتين يكفل للبشرية سعادتها وكرامتها».
وهو القائل:
(ذبوا في الامام الخميني كما ذات هو في الاسلام).
وليس ثمة من شك في أن الامام هو أمل المستضعفين في العالم، وهو الولي الفقيه، الناهض بأعباء المسؤولية الكبرى.
ومن هنا فأن المسلمين جميعاً مدعوون للالتحام بخطه ـ خط ولاية الفقيه ـ والاستظلال بظل مرجعيته الرشيدة وقيادته الحكيمة.
السيد الشهيد الصدرـ رضوان الله عليه ـ هو مفجر الثورة الاسلامية في العراق، فلقد تحرّك ـ وكمرج ـ ليضع النهاية الحاسمة لحكم العفالقة الاسود، وحرك أبناء العراق الميامين من العلماء وكوادر الحركة الاسلامية الصاعدة، والمثقفين الرساليين ووضعهم في مواجهة حادة مع النظام الصليبي الصهيوني الحاكم في العراق.
وأفتى بحرمة الانتماء للحزب الكافر العميل الجاثم بكابوسه على الرقاب في العراق.
ورأى أن الكفاح المسلح واجب على سبيل الكفاية في هذه المواجهة المصيرية.
وعبأ الجماهير المسلمة لأداء دورها التاريخي في أسقاط الحكم العميل وأقامة حكم الاسلام العادل.
قال في بعض نداءاته لشعبه العزيز:
(فعلى كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي خارج العراق أن يعمل كل ما بوسعه ـ ولو كلفه ذلك حياته ـ من اجل أدانة هذا الجهاز والنظام لأزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره من العصابة اللانسانية وتوفير حكم فذ شريف يقوم على أساس الاسلام).
وبياناته التاريخية للشعب العراقي تنبض بالتركيز على كل الشرائح الاجتماعية في العراق، عربا وأكرادا، سنة وشيعة، ولم تحدد بأطار مذهبي أو قومي، بل كانت تجسد روح الاسلام.
وبهذا أسقط من يد السلطة الغاشمة ورقة الطائفية التي كانت تريد أن تستغلها في خضم الصراع الدائر بينها وبين أبناء الصدر الابطال.
إنّ وجود هذه المرجعية الصامدة كان الحاجز الحقيقي أمام تنفيذ خطط الصداميين في التهجير الجماعي للمؤمنين العراقيين ومصادرة ممتلكاتهم وأبتزاز حقوقهم وقد أبتدأت حملة التهجير الظالمة في أعقاب أستشهاده في مطلع نيسان 1980 وكانت بمآسيها تغطية للجريمة الكبرى التي أقدم عليها النظام المسعور بأغتيال المرجع الصلب الشهيد.
وكانت هذه المرجعية الشامخة عامل الأعاقة الكبير أمام شن الحرب الصدامية على الثورة الاسلامية في ايران، فلم يكن النظام الكافر يجرأ على سنها ابان وجود هذه المرجعية العتيدة.
ونستطيع أن نؤكد بأن دوائر الامبريالية والاستكبار العالمي هي التي كانت وراء التخليط لاعدام هذا المرجع الاسلامي الكبير وكان (صدام) بطل العار في التنفيذ.
ركل بقدميه كل العروض التي قدّمتها السلطة اليه في فترة أحتجازه الرهيبة ـ والتي كانت فصولها مأساة حالكة ناء بها السيد الشهيد الصدر وأهله وحرموا في بعض فتراتها حتى عن الماء ـ وآثر أن يوظف آخر قطرة من دمه الزكي في سبيل الله من أجل انقاذ المقهورين والمستضعفين.
أرسل اليه الطاغية رسولا يقول له:
إذا فتيت بجواز الانتماء الى الحزب الحاكم أو قمت بشجب الثورة الاسلامية في أيران والتحرك الثوري الاسلامي في العراق فانه ـ أي صدام ـ على أهبة الاستعداد لزيارتك في بيتك و تغطي هذه الزيارة أعلاميا، وتقوم دوائر الدولة ومؤسستها بتنفيذ كل ما تريده منها، فما زاده ذلك الا مضيا واصراراً، مشاها حتى النهاية ملاحم شموخ وفداء وبطولة.
من أنجازات مرجعيته الرشيدة تصديها لأن تقول كلمتها الحاسمة وتحدد الموقف في قضايا الامة المصرية.
ومن مصاديق ذلك موقفه من معادهدة «كامب ديفيد» الخيانية وبرقيته الساخنة للسادات المقبور.
وكان كاتب هذه السطور قد أقترح على السيد الشهيد الصدر ـ قدس سره ـ أن يقوم العلماء من وكلائه بتلاوة البرقية على منابرهم في حشود المصلين وكان أول من قرأها.
لعل أول مرجعية دينية في العراق تتولى أرسال البعوث والوكلاء الى الآفاق وتقوم بالتغطية الكاملة لنفقاتهم المالية هي هذه المرجعية.
ففي خضم سياسة مرجعية السيد الصدر الرشيدة في تربية الامة وتوعية الجماهير المسلمة أرسلت العلماء والوكلاء الى مناطق العراق المختلفة ـ والتي هي في الأعم الاغلب مهملة مهجورة ـ ليمارسوا وظائفهم في التبليغ والارشاد، والتهيئة والاعداد، لوثبة أسلامية عارمة، تعصف بالكيانات الظالمة الغاشمة. وبالفعل أدى هؤلاء العلماء من وكلاء السيد الشهيد الصدر ـ قدس سره ـ أدوارا جهادية جبارة وأمتصتهم حملات الاعدام وزنزانات الاجرام الصدامي الرهيبة.
ولمرجعية السيد الصدر عناية خاصة بتهيئة الكوادر العلمية الرسالية من المثقفين والجامعيين وأجتذابهم الى الحوزة العلمية في النجف الاشرف.
ومما لا يرقى اليه الشك أن تطعيم الحوزة العلمية بدم جديد، وكفاءات وطاقات من هذا القبيل، يثري الحوزة، ويزودها بعناصر فاعلة، قادرة على النهوض بالمهام الرسالية وبالتالي، تخطو المسيرة الاسلامية خطوات عريضة في طريق التصاعد والتكامل.
وكانت قد أعدت لهؤلاء برامج دراسية خاصية كما أن لهم رعاية مكثفة.
وكانت هذه الصفوة طليعة الثوار الذين تحركوا هنا وهناك ـ وبأمر من المرجعية ـ وقاموا بأعمال بطولية في وجه النظام العميل.
أن مرجعية السيد الشهيد الصدر مرجعية العلماء الثوريين والمسلمين الواعين والشهداء الصامدين.
من ممارسات هذه المرجعية الثورية الرشيدة تحريم الصلاة خلف من لا يكون منصوبا للامامة من قبل المرجعية الرشيدة.
لقد تصدت أجهزة المخابرات الصدامية الى زرع (العملاء) المتسترين بالدين في المساجد والحسينيات وتعينهم (أئمة) لصلوات الجماعة فيها، وهو عمل خبيث مسموم، يقصم ظهر التحرك الاسلامي الذي كان يتخذ المعابد مراكز ومحاور.
وبهذا الاسلوب الثوري الحازم حال السيد الشهيد الصدر بين السلطة وبين ما تريد. ومن مظاهر الأبوة الحانية والرعاية الحقيقية لطلاب العلوم الدينية في النجف الاشرف (مشروع الاطعام) الذي أوعز السيد الشهيد الصدر الى بعض مريديه أن يقوم به.
هناك المئات من الطلاب في المدارس الدينية ممن يشق عليهم حين يظلهم شهر الله المبارك أن يتولوا بأنفسهم أعداد الافطار والسحور. وهكذا تم أعداد وجبات الطعام للصائمين من الطلبة ونقلت اليهم وهم في غرفهم.
ان هذه الخطوة وحدها تكفي لأخذ صورة كاملة عما كان يعتمل في نفس هذا المرجع الكبير من مشاعر وعواطف أزاء أبنائه من طلاب العلوم الدينية. الجانب الاخلاقي واضح البصمات في مسارات هذه المرجعية الفذة.
تصدر كتب هذا المرجع العملاق وهي تحمل اسمه مجردا عن الألقاب.
وتغلّف أحدى دور النشر في بيروت طبعة من كتابه (أقتصادنا) بغلاف يحمل صورته ونبذة عن حياته فيأمر كاتب السطور أن يتفق مع الموزع ـ قاسم الرجب ـ على نزع هذا الغلاف قبل بيعه للناس. ويوصي اليه أحد التجار بسيارته الخاصة فيأمر ببيعها ليكون الثمن في بيت المال يصرف على مصالح الاسلام والمسلمين. ويزوره أحد مقلديه عارضا أن يشتري له دارا من ماله الخاص فيرفض ذلك وينصحه بشراء مبنى يوقف مدرسة على طلاب العلوم الدينية.
ويتناهى الى سمعه أعدام الكوكبة الاول ى من شهداء الحركة الاسلامية في العراق فيصاب بما يشبه الشلل حزنا وألما وفجيعة.
ويدخل الى محافل النجف العامة ومجالسها فيجلس الى جانب المستضعفين من الطلبة. ويأبى ألا أن يواسي صغار الطلاب في مأكله ومشربه وملبسه.
ويتأخر يوما عن الصلاة فيقيم المصلون أحد أقربائه أماما يصلي فيهم نيابة عنه فيرفض ذلك حين يحاط به علماء لا لشيء الا لما قد يحمل هذا الترشيح من معاني أستئثار الاقربين بالامتيازات على حساب غيرهم. وتطارد السلطة أحد طلابه فيضطر للتواري عن الانظار ومغادرة العراق فتنهمر عيناه بغزير الدموع ويشتد منه الحنين والوجيب. ويموت طالب عزيز من طلابه بحادث أصطدام سيارة فيتمنى الموت للقائه ويهدي كتابه الدراسي في الأصول الى روحه في مقدمة تقطر الماء ولوعة. هذا غيض من فيض.
لقد كانت نفسه تمور بكل معاني الشمم والفضيلة والمرؤة والايثار ونكران الذات. والشهادة ـ بحد ذاتها ـ عصارة القيم الاخلاقية.
فهي قمة الوعي والعطاء. ومؤشر الايمان الراسخ، والاخلاص الكامل، والشجاعة النادرة، والوفاء الاصيل، والثبات العظيم… والسيد الصدر هو أول مرجع يستشهد في العراق. ولقد كانت شهادة هذا المرجع العظيم جرح الانسانية الكبير، وفقد الاسلام باستشهاده ـ على يد العصابة الصهيونية الطليبية ـ قائد من قادته المبدأيين وزعيما من زعمائه المصلحين، ومفكرا موّن المسلمين بأنصع فكر وأنقى منهج.
وكما كان فاتحا بقلمه كان فاتحا بدمه لان دمه الزكي قذائف وبراكين يصطلي بها الجبارون.
وسيبقى في وجدان الأمة منارا للثائرين والاحرار.
حسين صدر