بسم الله الرّحمن الرّحيم
ملاحظة: البحث يدور حول المحور الأول (المقترح)، ويتناول جوانب من مشاريع الشهيد الصدر في اصلاح المرجعية، وتبني المرجعية الموضوعية، الصالحة، وكذلك رؤيته في المناهج والأساليب الدراسية في الحوزة العلمية، ونقده البناء لواقع هذه المؤسسة العلمية العريقة.
محمدباقر الناصري
تمهيد
حياة العلماء، واعمالهم العلمية هي أحد أهم مصادر بناء الوجود الاسلامي والانساني، وقاعدة من قواعد رفد الانسانية وشموخ بنائها الحضاري، اذ يقاس رقي الامم، ورفعة شأنها بمقدار ما تملك من العلماء والمفكرين، وبمقدار ما تبديه الامم من التفاعل والرعاية والأهتمام برموزها العلمية من النوابغ والحكماء والمفكرين.
ومن هذا المنطلق يمكن النظر الى آية الله الشهيد السيد محمدباقر الصدر، فلقد حقق للعلم والدين وللأمة الاسلامية وجوداً علمياً وفكرياً واجتماعياً.. رسالياً متميزاً، أقر الجميع بتقدمه، وتفوقه، وعطاءاته في الميدان الذي طبع بطابعه في إصلاح وتطوير الحوزة العلمية، والمرجعية الدينية، وهو الأمر الذين سنحاول القاء بعض الأضواء على جوانب منه.
أصول فكرة الاصلاح والتطوير
تولد حركة الإصلاح والتطوير في الامم الحية مع حركة هذه الامم، وتنمو وتتوسع جنباً الى جنب مع نماء الأمة وتوسعها، وارتفاع شأنها، عملاً بهدي الكتب السماوية، ونهج الأنبياء والأئمة والرساليين من العلماء… وذلك متابعة والتزاماً بالقاعدة القرآنية: «إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم…» (الرعد/11).
وكلما كان الكيان، والمبدأ رسالياً، طموحاً نحو الاهداف العامة، كان الاصلاح والتطوير ملازمين له. قال تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون…» (التوبة/105). وقد بشر الله تعالى اولئك الذين يتحرون الأفضل والأتم. فقال تعالى: «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوالألباب…» (الزمر/17ـ18) وقد حث القرآن الكريم الانسان على التفكر واستيعاب التجربة والخبرة من الظواهر الكونية، وهي آيات الله الكبرى، فقال تعالى: «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب…» (آل عمران/190).
ومن المروي المأثور عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال: «.. يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد..»، وروي عنه(صلى الله عليه وآله) انه قال: «من تساوى يوماه فهو مغبون…».
والحوزة العلمية، وهي المؤسسة العلمية الاسلامية، كانت وزالت واحدة من أهم قواعد ومنطلقات وأسس العمل من اجل العلم والشريعة الأسلامية، ودين الله الخالد، وكلمته الباقية، وحكمه الفصل. قال: «وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون…» (التوبة/122). وقد وضع رسول الله(صلى الله عليه وآله) نواة وأسس الكيان العلمي في الاسلام، والحضارة الاسلامية، منذ الأيام الأولى لهجرته المباركة الى المدينة المنورة، وتأسيسه لقاعدة الحكم الاسلامي العتيد فيها. فقد حث(صلى الله عليه وآله) أصحابه، ومن حوله على طلب العلم والمعرفة والتعلم. ابتداءاً من حفظ القرآن الكريم، وتفسيره، وتعليمه للناس، وتعلم ما فيه من فقه، ونشره بين الناس، وارسال المبلغين، العلماء لتعليم الناس، منطلقاً في ذلك من رؤية كلية شاملة، شرعها وفرضها الاسلام. وعمل بها المسلمون، تقوم على الاهتمام بالعلم والعلماء. وقد كرس القرآن الكريم العشرات، بل المئات من آياته المباركة، الداعية الى العلم والتعليم، المشيدة بفضل العلم والعلماء، المؤكدة على نشر العلم، واعتباره السلم الأول لرفي الانسان وسعادته في الدنيا والآخرة، قال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء…» (فاطر/28) وقال تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون…» (الزمر/9).
وقد ورد الحث النبوي الشريف على طلب العلم والمعرفة بأعلى صيغ الحث والتشويق، فقال(صلى الله عليه وآله): «اطلبوا العلم ولو بالصين…» «فان طلب العلم فريضة على كل مسلم…» و«… طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ألا أن الله يحب بغاة العلم…»
وعنه(صلى الله عليه وآله) انه قال: «من طلب باباً من العلم يحيي به الاسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة…»([1])
ومن هنا جاء اهتمام الأمة بالعلم والعلماء، وتأسيس المراكز العلمية كقواعد لنشر الاسلام والدعوة الى الله تعالى في إطار من العلم والمعرفة والعرفان.
وقد ارتبط اهتمام الأئمة(عليهم السلام)، ومن بعدهم العلماء والمصلحين بالاصلاح والتطوير والتقويم مع اهتمامهم بالدين والعلم وسعادة البشر، وورد توالي الحث على ذلك بمختلف الصيغ والأساليب، كما هو صريح في الرواية المشهورة: «من تساوى يوماه فهو مغبون…»، وقوله(صلى الله عليه وآله): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان…».
وقد استأثرت محاولات التطوير والتجديد والتصحيح باهتمام العلماء منذ أقدم العصور. وستبقى الى آخر يوم من أيام الدنيا، اذ لاتبلغ مرحلة الا وتستعد لأخرى، كما هو واضح من المحاولات الدائبة من كافة المصلحين، وحثهم المستمر عليه، يقول الامام الراحل الخميني ـ طاب ثراه ـ في إشارة منه للعلاقة الوطيدة بين النقد والحرية والاصلاح المطلوب: «ينبغي ان يكون هناك نقد، فما لم يكن هناك نقد لايكون اصلاح، وان النظرة القائلة أن ذكر نقاط الضعف يؤدي الى إضعاف الدولة الاسلامية نظرة خاطئة، لأن انتقاد تحرك معين، أو سياسة ما يعني بالضبط دعم الدولة، على وسائل الاعلام أن تسمح لرقابة الأمة بحرية أوسع، ومن الحفاظ على هذه الحرية وتوسيع نطاقها، لأن حرية التعبير من مستلزمات تقدم المجتمع…»([2]).
لقد استوعب الشهيد الصدر هذا الفهم الاجتماعي، ومعطيات وأصول الفكر الاسلامي، وتعمق في فهم فلسفة الاسلام في التغيير والتطوير ومارس، علمياً، وعملياً، محاولات بناء وإصلاح واقع المسلمين المتردي، وخصوصاً مراكز ومؤسسات «الحوزة العلمية» وقيادتها التاريخية العتيدة، المتمثلة بالمرجعية الدينية. ومن الواضح ان هناك اشتباك وتداخل في الحديث والمسار والنتائج بين كل من المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وان لكل من الموضوعين من الخصوصيات والمميزات ما لايمكن تجاهله، إلا أن الامام الشهيد الصدر حاول معالجة الموضوعين معاً مبتدءاً ـ اولاً ـ بنقد ما ابتليت به المؤسسات العلمية (الحوزة العلمية) من الجمود والتقليد والسلفية، والوقوف عند عطاء القرون البعيدة في المسار العلمي الاسلامي، والتردد في محاولة أي تغيير او تطوير للمناهج العلمية، وللكتب والمباحث الدراسية. حتى شاع عنه ـ رحمه الله تعالى ـ مصطلح النزعة الاستصحابية حيث يقول معبراً عن نقده الجمود: «الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول، طبقناه على اساليب العمل، وطبقناه على حياتنا فكنا نتجه دائماً الى ما كان، ولا نفكر أبداً في أنه بالامكان ان يكون أفضل مما كان…»، واتجه الأمام الصدر ـ ثانيا ـ الى اصلاح وتطوير «المرجعية الدينية» بنفس المنهجية التي عُرف بها وأصبحت خاصاً به.
أولاً: إصلاح الحوزة العلمية
من خلال استقراء ما كتبه الامام الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ وما القاه من دروس على تلامذته في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، وكذلك من خلال كتاباته من كتب دراسية في الأصول والفلسفة والفقه والتفسير… الخ، نجد بوضوح، وباستمرار. أن هذا المصلح الكبير قد قام بجهد كبير في عملية نقد واعادة بناء للكيان العلمي الاسلامي الشيعي ـ في الحوزة العلمية، وكما أسلفنا فقد شاع عنه نقده للمناهج والمقررات العلمية المتبعة، إذ كان يقول ناقداً للجمود: «الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول طبقناه على اساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً الى ما كان، ولا نفكر أبداً في أنه بالامكان ان يكون افضل مما كان…؟» ويضيف ـ رحمه الله ـ: «لابد ان نتجرد من النزعة الاستصحابية ومن نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة الى كل أساليب العمل، هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، حتى ان كتاباً دراسياً مثل: امثل بابسط الأمثلة ـ اذا أريد تغييره بكتاب أخر في مجال التدريس ـ وهذا أقل مظاهر التغيير ـ حينئذ يقال: لا، ليس الأمر هكذا، لابد من الوقوف، لابد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الانصاري ـ رضوان الله عليه ـ او المحقق القمي ـ رضوان الله عليه ـ هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أمة لم يبق منها أحد، وقد انتهت، وحدثت أمة اخرى ذات أفكار أخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى…»([3])
وحتى لايُساء فهم هذا الصوت المخلص، فالرفض هنا ليس لكل قديم وانما الرفض للجمود والتحجر وعدم الحساب للزمان ومستجداته في الوسائل والأدوات المناسبة. سواء في كيفية عرض المادة العلمية، بعد فرض حاجة الطالب الحوزوي لهذه المادة بالذات، او الية العرض واسلوب الطرح والكتابة، وطرق التدريس، والتأكيد على نقاط الضعف في الدراسة، وهي أمور إرتفعت فيها أصوات الرواد الأوائل ممن سبق السيد الشهيد الصدر، فكان إقدامه حافزاً ومشجعاً للكثيرين بالنقد الشديد لنظام الحوزة العلمية ومناهجها الدراسية، فقبل أكثر من خمسين عاماً تحدث الأمام الراحل محمدرضا المظفر ـ رحمه الله ـ وهو أحد المصلحين المنادين باصلاح الحوزة العلمية، محذراً، ومنبهاً من مغبة وعواقب الثغرات والنواقص في المناهج الحوزوية، حاكياً عن هموم النخبة الواعية من العلماء والمفكرين الذين كانوا يعملون على اصلاح نواقص الدراسات العلمية في معاهد النجف الأشرف، كفقدان نظم التدريس، والامتحانات، والمواد العلمية، والانتظام في الأوقات، والشهادات… الخ وهي أمور كانت تهدد المفكرين منا بشلل الحركة العلمية في مستقبل الجامعة القريب والبعيد، يوم ان اصطدمت سفينة هذه الجامعة القديمة العريقة بتيارات هذا العصر الجديد، فهزتها في بحر متلاطم([4])، ويضيف الشيخ المظفر واصفاً محاولات الاصلاح، واجواء التعسف الفكري تجاه المصلحين. فيقول ـ رحمه الله ـ: «.. ولا أزال أحتفظ بمحاضر جلسات جماعتي الأولى تلك، وبمذاكراتي الخاصة عنها وعن غيرها، وهي على بساطتها، تمثل لي مقدار التكتم والخوف الذي كان يساورنا. وكان عملنا وتفكيرنا مقتصراً على تفقد المفكرين من أصحابنا الذين يحسون بالداء مثلنا، وبالرغم من مواصلة الجلسات والتفكير طيلة عام واحد، لم نستطع ان نخرج صوتنا من غرفتنا الابعض الشيء ولم نستطع ان نظم الينا اكثر من عشرة أعضاء..»([5])
ولا تعني هذه الصورة المعبرة عن الأجواء النفسية لما يعانيه المصلحون في النجف الاشرف فقط، بل هي متشابهة ومتماثلة في كثير من الحواضر العلمية التاريخية، مثل قم، كما وردت في دروس وملاحظات الاساتذة كالسيد حسين البروجردي، والشهيد مطهري، وكذلك بقية المراكز العلمية في العراق ولبنان والأزهر والزيتونة والقيروان وغيرها. ولم تكن هذه الأجواء والعقد ضد الاصلاح والمصلحين لتؤثر على حركة الاصلاح. بل بقيت جذوة فكرة الاصلاح في الحوزة العلمية متقدة، وتزداد اندفاعاً وقوة، بتنامي الوعي، ولو فتشنا في تاريخ هذه المعاهد الاسلامية العريقة، وحياة المصلحين فيها لقرأنا العجب العجاب.
والسيد الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ يقف في اول صف المصلحين الواعين المغيرين، الذين قدموا لفكرة اصلاح الحوزة، والدراسات فيها أكثر من مشروع، وهو على اطلاع وإدراك بان مشروع الاصلاح والتطوير بقدر ما يختزن من خطورة وأهمية، فانه يحمّل الرواد والمصلحين اكبر قدر من المتاعب ـ ويستبطن الكثير من الأمراض المزمنة، وقد استفحل فيها داء السكوت، وما من سلعة أنفق من النفاق والمداهنة، وسيطرة العوام والجهال على العلماء والمفكرين، وعلى الجو العام، حيث كمموا أفواه العلماء واقلام المصلحين. وعلى حد قول المصلح هبة الدين الشهرستاني وهو من رواد الاصلاح الأوائل، اذ قال: «.. فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطف به بين العوام وبالعكس. ويختار في كتبه الاستدلالية غير ما يفتي به في الرسائل العملية، ويستعمل في بيان الفتوى فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من هياج العوام…»([6]) ويضيف السيد هبة الدين ـ رحمه الله ـ معلقاً على هذه الحالة فيقول: «.. لكن هذه الحالة تهدد الدين بانقراض معالمه واضمحلال أصوله، لان جهال الامم يميلون من قلة علمهم ونقص استعدادهم وضعف طبعهم الى خرافات وبدع الاقوام والمنكرات. فاذا سكت العلماء ولم يزجر تقلل الفاصلة وهم او ساعدوهم على مشتهياتهم غلبت زوائد الدين على اصوله، وبدعه على حقائقه، حتى يمسي ذلك الدين شريعة وثنية همجية تهزأ بها الامم…»([7]).
وقد جاء تحرك الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ لاصلاح الحوزة العلمية من زوايا متعددة، وشاملاً، منها:
1ـ فقد شخص ـ اولاً ـ ضعف وانحسار دور الاجتهاد العام من خلال نقاط ضعف تسربت اليه، منها كما اسماه رحمه الله «النزعة الفردية في الفقه» والدراسات الفقهية اذ شخص هذه الظاهرة، حسب قوله: «بعزوف الفقهاء والمجتهدين ـ او اغلبهم ـ عن الاهتمام بالشأن العام للأمة، فأخذ الاجتهاد يركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي، وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي نتيجة لانكماش هدفه، واتجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط ـ غالباً ـ الى الفرد المسلم، وحاجته الى التوجيه، وهي أمور وقضايا، وإن كانت مطلوبة وجليلة، إلا أنها جاءت على حساب الجماعة المسلمة، وحاجتها الى تنظيم حياتها الاجتماعية وهذا الاتجاه الذهني ـ الفردي ـ لدى الفقيه لم يؤد فقط الى انكماش الفقه من الناحية الموضوعيه. بل أدى ـ بالتدريج ـ الى تسرب الذهنية الفردية الى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها، وكان من نتائج ترسيخ هذه النظرة رسوخ اتجاه عام في الذهنية الفقهية يحاول دائماً حل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الاشكال([8]).
وهذا التحليل العميق لم يتنبه اليه إلا خواص المفكرين، إن لم يكن من بنات أفكار الشهيد الصدر لوحده، ولم يسبقه إليه سابق. وقد حاول المتأخرون معالجة هذه السلبيات وعلى ضوء ما شخصه، خصوصاً وقد اتضحت الحاجة إليه، واتضحت معالمه بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران، وتصدي الفقهاء للشؤون العامة. فقد برزت نقاط الضعف هذه عند كثير من الفقهاء والمجتهدين، ولم يستطيعوا ان يلجوا الميدان العملي للأمة وفي أحكام وإدارة شؤونهم بعد ان تربوا ولفترات زمنية طويلة على الحالة الفردية، حيث حصروا اهتمامهم بالميادين الخاصة للانسان المسلم في عباداته وسلوكياته… ومن هنا برزت الحاجة ملحة لا عادة النظر في هيكلية ومضامين الدراسات في الحوزة العلمية، ومجالات العمل الاجتهادي، ومن هنا برزت الدعوة للتمازج بين الحوزات العلمية والجامعات الحديثة، كما هو معروف من مشروع آية الله الشهيد بهشتي، وآية الله المطهري، والذي أكده ودعمه الامام الخميني ـ اعلى الله مقامه ـ وظل يطرحه كثيراً في أحاديثه ولقاءاته مع طلاب الحوزة والجامعات، وألفت لذلك لجان علمية مشتركة عالية بين الحوزة العلمية والجامعات، وسار على ذلك خلفه سماحة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي في دعم هذا المشروع، وفي توسيع الذهنية الاجتهادية للخروج من مأزق الفردية الى العالم الارحب الأوسع في الفقه والاجتهاد. وأضاف عليها سماحة السيد خامنئي التأكيد على مبدأ التكامل بين فقهاء الأمة ومجتهديها عبر مشروعه في الحث على التخصص العلمي… وكلها مساع تصب في مشروع إصلاح الحوزة العلمية واعادة صياغتها علمياً وادارياً، ولكنها جميعا لازالت تراوح مكانها مع الاسف.
2ـ ومن زاوية ثانية ترك السيد الشهيد الصدر آثاراً بليغة وواضحة في اصلاح الحوزة العلمية، وذلك من خلال أهم مفاصل الدرس العلمي. وهو اصلاح وتجديد علم الأصول، اذ قدم فيه من البحوث والدراسات ما تجمع الأوساط العلمية على جدارته. مضموناً واسلوبا، والتي فرضت وجودها، وأخذت طريقها للكثير من حلقات الدرس في الحوزات العلمية في العراق وايران وسوريا ولبنان والهند وغيرها. بالاضافة الى اهتمام المحافل العلمية والجامعات بما تضمنته كتاباته الأصولية لما فيها من نظريات علمية، بعد أن خلص هذا العلم من بعض الزوائد والتراكمات التي لا حاجة لها، والتي اثقلت كاهلة لقرون عديدة.
وفي الواقع إن محاولات الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ لم تتوقف عند حدود إعادة كتابة علم اصول الفقه، أو محاولة توجيهه للاجتهاد نحو الشان العام، الاجتماعي، وتخليصه من النزعة الفردية، وإنما امتدت الى كل مجالات واهتمامات الحوزة العلمية، كالفقه، وإعداد دروس في التفسير، والفلسفة، والاقتصاد… وغير ذلك من حقول المعرفة والعلوم، التي يحتاجها طالب العلوم الأسلامية، بروح متجددة، متطورة، تختزن منظوراً شاملاً، وتعتمد روح التفتح على الموروث الفكري الأسلامي الأصيل. وفي نفس الوقت تعتمد على التفتح على التجديد، وعلى معطيات الحياة المعاصرة، فى معطياتها العلمية، واساليبها المتطورة.
ثانياً ـ إصلاح المرجعية الدينية
واذا ما انتقلنا بالحديث من الحوزة العلمية، باعتبارها المؤسسة العلمية المتخصصة بالدراسات العلمية الأسلامية، وجهود السيد الشهيد الصدر الناجحة في إصلاحها اصلاحاً شاملاً، فان ذلك يدعونا بالضرورة الى وقفة أخرى عند المرجعية الدينية، ويستوقفنا فيها العديد من النقاط والأسئلة، مثل: ماذا تعني المرجعية الدينية، والى اين انتهت، وما هي عوامل القوة والضعف فيها، ثم ما هو دور ومشروع الشهيد الصدر في إصلاحها، وما هي مهمة العلماء المعاصرين، وما هي علاقة ودور الأمة في مشاريع وأفكار إصلاحها…؟ الى غير ذلك من الاسئلة الملحة الحائرة وهناك بلاشك العديد، الكثير من القضايا والتفصيلات لايمكن طرحها لأنها تحتاج الى فسحة وبحوث موسعة، فكرية وتاريخية واجتماعية، لايسعها هذا البحث، نأمل في العودة اليها إن شاءالله تعالى في مناسبات تكميلية لاحقة، ولذا سنقف عند أبرز النقاط التي أثرناها:
1ـ ماذا تعني المرجعية الدينية:
قد يقال، لايوجد نص شرعي تاريخي، صريح ومباشر في الفكر الاسلامي يؤكد استعمال لفظ المرجع والمرجعية بمعناها المعروف الآن، إلا أنه يمكن القول أن ذلك مأخوذ من مفهوم الموضوع ومادته المشتقة من الرجوع والاتباع والاعتماد، بغض النظر عن خصوصيات الرجوع والراجع والمرجوع إليه، فالرجوع، لغة: العود، وقد استعمل في القرآن الكريم في معناه اللغوي في مجالات متعددة، منها الايجابي، المحبب، ومنها السلبي المبغوض، ومنها غير ذلك.
ومما يناسب موضوعنا قوله تعالى: «الى الله مرجعكم…» (المائدة/105) وقوله تعالى: «يرجع بعضهم الى بعض القول…» (سبأ/31). وهو ليس ببعيد في الاشتقاق من قوله تعالى: «وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون…» (التوبة/122). وإن أقرب نص حديثي يمكن ان يواكب النص القرآني ويؤكد معنى الرجوع والمرجعية هو قول الامام الحسن العسكري(عليه السلام): «.. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا، فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله…»([9])، بالاضافة الى أحاديث عديدة. ونصوص لعلماء وفقهاء كبار عبّروا فيها عن الفقيه بالمرجع وجرى في الأدبيات والمخاطبات والمراسلات استعمال المرجع والمراجع والمرجعية الدينية… فاذن لادقة، ولا صحة لما يقوله البعض من أن كلمة مرجع، او مرجع اعلى هي من مصطلحات المتأخرين، وبالتحديد في النصف الثاني للقرن العشرين. فقد أجمع الشيعة الأمامية الاثنا عشرية على ان الأمام الثاني عشر، الامام المهدي الحجة بن الحسن(عليه السلام) هو الذي أرجع الناس في احكام الدين والفتاوى وإدارة شؤون المؤمنين الى العلماء، رواة الحديث من ثقاة المؤمنين بعد أن أملت عليه الظروف موضوع الاختفاء والغياب، سواء في مرحلة التمهيد في الغيبة الصغرى بارجاع الناس الى نواب الأمام الأربعة، المعروفين في تلك الفترة وهم المعروفون بالسفراء الأربعة: عثمان بن سعيد، ومحمدبن عثمان، والحسين بن روح، وعلي بن محمد السمري او الصيمري، والذين انتهت فترتهم في المئة الثالثة للهجرة النبوية، وبها انتهت فترة الغيبة الصغرى عام 320هـ، لتبدأ فترة الغيبة الكبرى وانقطاع الاتصال المباشر المعروف بين الأمام المهدي(عليه السلام) وبين الأمة، وحيث بدأت مرجعية العلماء الفقهاء، كمراجع للطائفة، ومن اوائل المراجع في الغيبة الكبرى او ما عرف بالنيابة العامة، علماء كبار معروفون، أمثال علي بن بابويه القمي ـ المتوفى عام 329هـ، وأبي جعفر الكليني، المتوفى أيضاً في نفس العام، ثم من بعده ابن قولويه المتوفى 368هـ، ثم الشيخ المفيد، ثم ابن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، فالسيد المرتضى، فالشيخ الطوسي، وهكذا الى هذا العصر، رحم الله الماضين من العلماء، وحفظ الله الباقين.
ونحن لسنا بصدد التوسع في تعداد المراجع والمرجعيات، ولكننا نحاول ـبايجاز ـ ان نضع مسألة المرجعية الدينية في سياقها التاريخي، تمهيداً لموضوعنا، وهو يدور ـ كما اسلفنا ـ حول رؤية الشهيد الصدر في اصلاح هذه المؤسسة العتيدة، إذ كان الشهيد الصدر من السباقين في التفكير باصلاح هذه المرجعية، وكان دائب الاتصال والحديث عن دور المرجعية الدينية، وضرورة تلاحظ إجراء الاصلاحات الشاملة في هذا المركز الاسلامي الكبير، وان سنن الحياة، ومنهج التكامل والتطوير يستدعيان التفكير بالموضوع، خصوصاً بعد ان وصلت الأمة، في ارتباطها بالمرجعية مدارج عالية، انطلاقاً من توسع مفهوم المرجعية الدينية، وتعدد أفاقها، ومسؤولياتها، لذا فقد أولى ـ رحمه الله ـ هذه المسألة عناية فائقة، واعطاها بعدها حركياً، وبادر مبادرات عملية، بطرح عناوين هذا التغيير، حيث شاع عنه طرحه لمشروع الاصلاح المرجعي، والذي اسماه حيناً بالمرجعية الموضوعية، وتارة بالمرجعية الصالحة، وثالثة بالمرجعية الرشيدة.
واذا تحرينا الدقة، فان تعدد هذه التسميات يشير الى تعدد مضامينها، ومفاهيمها، ومقاصد الشهيد الصدر فيها، وقد سعى ـرحمه الله ـ لوضع نواة هذه الاصلاح، وخصوصاً بين تلامذته ومريديه، ودعا الى تدارسها، وتطبيقها، وهو ما سمعناه منه نصاً في بحوثه العامة، ومجالسه الخاصة، وكتب في ذلك ولو بالشكل العام، دون الدخول في التفاصيل، وهذا يستدعي دراسة أفكاره ومشاريعه، خصوصاً بعد تنامي الصحوة الاسلامية ودخول الأمة أطواراً متقدمة، ولارتباط الأمة بالمرجعية الدينية، وتعدد مسؤولياتها، وكلاً من الأمة والمرجعية تمثلان الكيان الاسلامي العام، والمجتمع البشري الشامل، وحيث ان البشرية تعيش تطورات تشمل نمط الحياة، ووسائل الاتصال والأفكار، والمعارف، والادارة، واساليب التعاطي… فلا يمكن للمرجعية الدينية ـ في مثل هذه الظروف ـ ان تتخلف عن هذه التطورات، او تنغلق على نفسها ضمن الأطر والأساليب القديمة ـ والتي باتت حتماً عاجزة عن تلبية حاجات المرجعية الدينية العامة، وحاجات الأمة. في ضرورة تلاحظ متابعة شؤونها وتنظيمها، بما يفي بالتزاماتها تجاه الأمة من اتباع مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) وتوزعهم في مختلف بقاع العالم واندماجهم في شتى حقول الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية… لهذا أدرك الامام الشهيد الصدر أهمية إعادة النظر في المرجعية الدينية، وأهمية الاصلاح والتطوير، وحاول جاهداً طرح رؤيته في الدعوة الى تطويرها واصلاحها، واعتبر ذلك ضرورة حياتية يمليها الدين والاخلاق، فقال في احدى محاضراته: «..من مظاهر اخلاقية الانسان العامل هو الاتجاه الى التجديد في اساليب العمل، ونحن عندنا (نظرية). وعندنا (عمل)، النظرية هي الاسلام، ولا شك ولا ريب أن ديننا ثابت لايتغير، ولا يتجدد، ولايمكن في يوم من الايام ان يفترض كون هذا الدين بحاجة الى تغيير او تحوير او تطوير، لأن هذا الدين هو أشرف رسالات السماء وخاتم تلك الاديان، الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى للانسان في كل مكان وفي كل زمان، ولهذا فالصيغة النظرية للرسالة صيغة ثابتة لاتتغير، ولايمكن ان نؤمن فيها بالتجديد…» ويضيف ـ رحمه الله ـ محذراً من سوء الفهم في معنى التغيير والتجديد، فيقول ـ رحمه الله ـ: «من الخطأ الف مرة ان نقول بأن الاسلام يتكيف وفق الزمان، الاسلام هو فوق الزمان والمكان، لأنه من وضع الواضع الذي خلق الزمان والمكان، فقد قدر لهذه الرسالة القدرة على الامتداد مهما امتد المكان والزمان، فالصيغة النظرية للأسلام صيغة ثابتة، فوق التجدد وفوق التغيير، لابد لها ان تحكم كل عوامل التغيير، وكل عوامل التجدد…»، «.. وأما العمل في سبيل هذه النظرية… ففي اساليب العمل الخارجي، كانت لدينا حالة، أنا استطيع ان اسميها حالة (النزعة الاستصحابية)، الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول طبقناه على اساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائماً الى ما كان، ولا نفكر أبداً في أنه هل بالامكان ان يكون افضل مما كان…؟ وهذه النزعة الاستصحابية الى ما كان والحفاظ على ما كان تجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا. وذلك لأن أساليب العمل ترتبط بالعالم، ترتبط بمنطقة العمل، ترتبط بالبستان الذي نريد ان نزرع فيه، وهذا البستان. وهي الأمة التي تريد أن تزرع فيها بذور الخير والتقوى والورع والايمان… ليست كلها حالة واحدة، الأمة تتغير، وحيث أن الأمة اليوم غير الأمة بالأمس، لايجوز لك ان تتعامل مع الأمة اليوم كما تتعامل مع الأمة بالأمس… انت اليوم حينما تريد ان تتصل بانسان من أبناء الأمة في بلد آخر لاتمشي على رجليك، ولا تركب حيواناً، وانما تركب سيارة (او طائرة) لكي تصل الى هناك… يجب ان يكون واضحاً عندنا أننا يجب ان نتعامل مع هذا الانسان الحي الموجود في الخارج… فلابد من ان نفكر دائماً في الأساليب التي تنسجم مع هذا الانسان… اليس بالامكان هذا…؟؟
وينتقل الشهيد الصدر ـ رضوان الله عليه ـ بعد هذه المقدمات المنطقية في تشخيص فكرة التطوير والتجديد، وبعد تشخيص دوائر العمل والنقاط المطلوب تجديدها… الى وضع خطوات وممارسات عملية للأصلاح في هيكلية المرجعية الدينية، يقول ـرحمه الله ـ: «.. فكر الشهيد الأول في أن يضع قواعد لهذه المرجعية، لكن هذه القواعد أهي هي…؟ لابد وأن تبقى بحدودها التي كانت في أيام المماليك؟ تلك الحدود التي كانت في أيام المماليك في سوريا تصدق على ما هو موجود اليوم في العالم، مع تغير العالم. وليس العالم اليوم عالم المماليك…؟
ويتخذ الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ من ذلك النموذج منهجاً، ومبرراً لمواصلة عملية التطوير والتغيير، ويطرح عدة تساؤلات علمية ومنطقية للخروج من دوائر الجمود والتحجر، لينطلق في مسار التفكير والتغيير… ما هو العمل…؟ وكيف نعمل…؟ وما هي اساليب العمل…؟ كيف يمكن تحديد اساليب العمل، بالشكل الذي ينسجم مع أمة اليوم…؟ وهذه اسئلة صعبة، وقد يكون الجواب عليها أصعب، لأنه ليس هناك ترويض فكري، وليس هناك مطالعات عامة او خاصة كافية… إذ قد تجد الجواب على مسألة أصولية، لأن هذا الانسان او ذاك قد درس الأصول لمدة عشرين عاماً، واكتسب الاستعداد، والمطالعات العامة والخاصة… «وأما مثل هذه الاسئلة، فحيث أنها بنفسها أيضاً اسئلة دقيقة، ومرتبطة بمدى خبرة الانسان وتجاربه واطلاعه على ظروف العالم. لهذا قد يجد صعوبة في الجواب على هذه الاسئلة، لكن هذه الصعوبة لابد من تذليلها بالبحث والتفكير، ومواصلة البحث والتفكير، إذن فلابد وان نجعل جزءاً من وظيفتنا ان نفكر دائماً في أنه كيف نغير اساليب العمل…؟ كيف ننسجم مع وضعنا وبيئتنا..؟»([10])
ويحاول الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ ان يقرب الموضوع الى ذهن السامع، وبزيل العقبات أمام مشروع الاصلاح والتغيير. ويدفعنا للسير في طريق الاصلاح ـ وبلورة خطوات فكرية ـ عملية، فيقول: «… إذن يجب ان نفتح أعيننا على العلم، إذن يجب ان نعيش الخبرة والتجربة في العالم، إذن يجب ان نفكر في اساليب العمل. لا بالطريقة التي نفكر بها0 في علم الأصول… واما العمل الاجتماعي فهو بحاجة الى حدس اجتماعي والحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس، من خلال الاطلاع على ظروف العالم… من خلال الاطلاع على الملابسات، من خلال الاطلاع على التجارب التي قام بها الأخرون… من خلال المقارنة بين أحوالنا وأحوال الاخرين…»([11]).
وهو ـ رحمه الله ـ يرسم الفكرة بكافة أبعادها، ويدفع راية الاصلاح في الاتجاه الصحيح، ويحدد المسار الصحيح في قراءة القضايا والمشاكل وفي فهم أبعادها، وظروف العمل. إذ ان مشكلة إصلاح المرجعية الدينية حملت من التراكمات والضغوط ما أثقل كاهلها، وصيرها في حوزة خشناء ـ كما يقول علي أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ: «.. فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها…»([12]) وهو تصوير ينطبق على الحالة، وإن اختلف المورد، الا ان الشبه واضح، والتشابه كبير، والمشكلة تنوء بثقل التعقيدات والحاجة الى فهمها، والأصرار على الاصلاح فيها، فإن كثيراً من العلماء والمصلحين حاولوا، وفي مراحل مبكرة، النزول الى المستويات العملية، وكما عرفنا من حياة وأنشطة علمائنا في النجف الأشرف، وقم، ولبنان، امثال جمال الدين الأفغاني، والميرزا النائيني، والسيد محسن الأمين، والسيد عبدالحسين شرف الدين، وكاشف الغطاء، والجزائري، والمظفر، والأمام الخميني، والشهيدين البهشتي والمطهري، وغيرهم.
وحاول بعض المصلحين ـ كما فعل الشهيد مرتضى المطهري ـ ان يلج ميدان الاصلاح بعقد مقارنة بين اوضاع المرجعية الدينية الشيعية ـ والمرجعيات الدينية الأخرى، مشيراً الى نقاط الضعف والقوة في كل منها، يقول ـ رحمه الله ـ: «لو قارنا بين مسلك علماءالدين في ايران ـ يقصد في العالم الشيعي ـ وفي مصر بزعامة الجامع الأزهر. للاحظنا وجود امتياز لكل من هاتين المؤسستين على الأخرى، ففي مصر يعين رئيس الجمهورية رئيس الجامع الأزهر. بالنظر لأسباب خاصة يأتي على رأسها عدم وجود ميزانية مستقلة للجامع الأزهر، وكذلك وجود نظرة مختلفة في مصر بشأن ولي الأمر… إن زعيم مصر الديني لايمكن ان يبلغ من القوة والقدرة بحيث يستطيع في قضية مثل قضية التبغ ان يسقط حكومة، لماذا لأنه ـ اي زعيم الازهر ـ متكيء على الدولة. ولكن من جهة أخرى نجد ان عالم الدين المصري بالنظر لكونه لايجد (اي لايعتمد بحصوله على…) مرتبه ومورد معاشه في ايدي الناس، فانه لايكون متكئاً على العامة، وتكون له حرية الرأي والعقيدة، ولايخفي الحقائق، ولا يكتمها. لأنه لايخشى الناس.» ثم يخطو الشهيد مطهري ـ رحمه الله ـ خطوة جريئة في تسمية الأشياء باسمائها. ووضع النقاط على الحروف في حالة المرجعية الدينية الشيعية، بوقوعها تحت الضغوط فيقول: «.. انه لمن المستبعد أن يقدر رئيس ديني شيعي في هذه الظروف الحاضرة، مهما يكن حي الضمير، وطالب إصلاح، ومخلصاً على إصدار فتوى مثل الفتوى التي أصدرها الشيخ شلتوت، والتي حطم بها طلسماً دام اكثر من الف سنة، أو حتى يخطو خطوة أصغر من تلك الخطوة بكثير…»([13]) ثم ينتهي الشهيد المطهري ـ رحمه الله ـ الى النتيجة المنطقية التالية، فيقول: «اذا اعتمدت المؤسسة الدينية على الناس نالت القدرة، ولكنها تخسر الحرية، واذا اعتمدت على الحكومات فقدت القدرة واحتفظت بالحرية… فالمؤسسة التي تتكيء على الناس تكون قادرة على محاربة ظلم الحكومات، وتجاوزها، ولكنها ضعيفة في محاربة خرافات الجهلة وعقائدهم الباطلة. أما اذا استندت المؤسسة الى الحكومات فانها تكون قادرة على محاربة العادات والأفكار الجاهلية، وتكون ضعيفة في وجه ظلم الحكومات وتجبرها…»([14]) وفي محاولة لمعالجة موضوعية لحل هذه الاشكالات، وايجاد طرق للتخلص من السلبيات، يضيف الشيخ المطهري ـ رحمه الله ـ واضعاً يده على مكمن الداء، فيقول: «.. عندي إن استناد ميزانية علماء الدين على الناس ليس هو سبب ضعفهم، إنما سبب الضعف هو عدم وجود تنظيم لهذه الميزانية، وهو الذي يؤدي الى هذه المنقصة الكبيرة، فبتنظيم ميزانيتهم يمكن إزالة المنقصة الكبرى، بحيث يكون لعلماء الدين الشيعة كل القدرة والحرية، وهدف كلامنا في هذا الموضوع هو ان نبلغ بالمؤسسة الدينية الى هذه المرحلة المثالية…»([15])
ويقف الشهيد المطهري طويلاً أمام هذه الفكرة، فمشكلة ايجاد وتنظيم ميزانية مالية في إطار مؤسسة، هو ـ في نظره ـ جزء من حل، وان اخراج المرجعية الدينية من مخاطر الفوضى المالية الضاربة بأطنابها في وضع المرجعية الدينية… يعتبر هو الأساس في كثير من المشاكل وان في حلها، وتنظيمها حلاً لأكثر مشاكل المرجعية الدينية، إن لم يكن حلاً جذرياً لجميع المشاكل، اذ يقول ـ رحمه الله ـ: ليس طريق الاصلاح ألا يكون للحوزة الدينية ميزانية، وان يكون على كل شخص ان يعيش من عرق جبينه، ولا طريق الاصلاح هو ان يصبح علماءالدين عندنا مثل علماءالدين في مصر أتباعاً للدولة، طريق الاصلاح واحد: تنظيم الميزانية الموجودة فعلاً، إن ميزانية الحوزة الدينية عندنا تعاني من حالة مماثلة لتلك، ولا طريق لأصلاحها. إلا باخضاعها للتنظيم، وبايجاد صندوق عام ودفاتر حسابات وأرصدة في مراكز الحوزات، بحيث ان أحداً لايستطيع ان يقبض مالاً من الناس مباشرة، بل يأخذ كل بحسب الخدمة التي يؤديها من ذلك الصندوق الذي يكون تحت تصرف علماءالدين من الطراز الأول، فيعتاشون منه… فلو أصبح هذا الحال لما راح أحد يتصل بالناس بصورة مباشرة، ولتحرر مراجع التقليد المحترمون ولانتض عن المساجد صور كونه أمكنة للكسب ووضع حد لحالتها المؤسفة هذه…»([16])
وقد ناقش هذه المسألة عدد كبير من العلماء المصلحين، سواء في مجالسهم العلمية الخاصة، او في كتاباتهم المنشورة. يقول الشيخ محمد ابراهيم جناتي بعد سرده لحالة المرجعية، ناقداً بعض ما تعانيه هذه المؤسسة العتيدة، من حالة الفردية في الاهداف والأساليب يقول: «نلاحظ ان المرجعية ما فتئت تعيش حالة شخصية، ولذلك فان الذين يعاونونها يلتفون حول الشخص، بحيث تكون القضية في وعيهم لخدمة الشخص ولا يكون الشخص في خدمة القضية، فجل اهتمام من يحيطون بالمرجع هو الاهتمام باسم المرجع بتأكيد شخصيته وفاعليته ومصداقيته لدى الناس… إن مشكلة المرجعية في كل تاريخها كانت شخصاً، كانت تعتمد على مستوى هذا الشخص، وعلى مبادراته، وعلى سعة أفقه، والظروف والاشخاص المحيطين به، ومن هنا فاننا في الوقت الذي نؤكد ان المرجعية، في كل تاريخها قامت بمبادرات مهمة في الدائرة الشيعية، وانها حفظت التشيع بطريقة أو بأخرى، لكنها لم تفكر بان تتحمل مسؤولية التشيع أمام كل المتغيرات الواقعية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وعلى مستوى التطورات التي انطلقت في العالم. ولذلك فاننا نعتقد ان المرجعية (بمسارها الفردي الحالي) لم يعد باستطاعتها ان تقوم بما يفرضه عليها موقعها القيادي الكبير. وبسمؤولياتها تجاه الشيعة على الأقل. اذا لم نقل باتجاه المسلمين كافة، لأن التشيع ليس طائفة، وانما هو خط في الاسلام…» ويضيف الشيخ جناتي مؤكداً ما شخصه الشهيد الصدر والعلماء المصلحون من عجز المرجعية الدينية بوضعها الحالي، الفردي عن اداء التزاماتها الفعلية والمستقبلية، فيقول: «إننا نعتقد ان المرجعية، مع احترامنا للأشخاص الذين يتحركون في دائرتها او يشرفون عليها او يقودونها، لاتسطيع ان تواجه تطورات العصر، ولذا فهي تعيش انكماشاً في دائرتها الخاصة، في نطاق الفتاوى أو في نطاق بعض الأعمال التي تتحرك هنا وهناك…»، ويضيف الشيخ قائلاً: انّ المرجعية الدينية حتى وإن نهضت في بعض الاحيان بالمهام الجسام. الا ان الاصلاح وحركة التغيير، اذا لم تكن شاملة وعامة، والتغيير اذا لم يكن اساسياً في منهج المرجعية، وتحولها الى مؤسسة ذات مناهج ثابتة في الوعي والممارسة… فإنها ستنتكس، وتعود بعد غياب المرجع الواعي المتحرك فيقول: «.. ولذلك فاننا نتصور أن الواقع الاسلامي الشيعي، الذي استطاع ان يجد في مرجعية الأمام الخميني الصدمة الكبرى لكل الاوضاع المتخلفة التي عاشيها والأرتباك الذي تتخبط فيه، لا يزال هناك الواقع خاضعاً لكثير من المؤثرات السلبية هنا وهناك، وبفعل فقدان الخط البياني المتحرك بطريقة تصاعدية منظمةو لأنك عندما تلتقي بمرجعية رائدة، فانها قد تخلفها مرجعية عادية جداً، قد تجمد تلك الروح التي كانت قد انطلقت او تحركنا…»
لهذه الاسباب، ولغيرها، كان منهج الشهيد الصدر في الاصلاح يرنو نحو ايجاد صورة وفكر وجو علمي يعزز دور المرجع، ويحرس مشروع وعمل المرجعية، وذلك باصلاح هيكل المرجعية باعتبار ان مهمة الاصلاح هي مهمة عامة ومشتركة، يتحمل مسؤوليتها:
اولاً: العلماء والمفكرون الاسلاميون، ومن يهمهم شأن الاسلام والصحوة الاسلامية، اذ أن اصلاح هذه المؤسسة القيادية هو الأساس والقاعدة لاصلاح كثير من أمور وقضايا الأمة، وأخذها لمكانها الطبيعي، ولابد للعلماء والمصلحين ان يتحركوا بجد في هذا المجال. باثارة هذه الفكرة، وعبر البحوث والدراسات والمؤتمرات.
وثانياً: لابد للأمة، وهي التي انتشر فيها الوعي، وانتقلت في عملها وعلاقتها من الخير الفردي ـ في المرجعية ـ الذي كان سائداً لقرون. وكان في يوم ما وافياً بالغرض، وكافياً لحجم الأمة، ودورها، ومدى ارتباطها بالمرجعية الدينية… بل إن كثيراً من طبقات الأمة بلغت من النضج والوعي، وإدراك المسؤولية حد الاستغاثة، لاصلاح شأن المرجعية الدينية، والانتقال بها من طور الحالة الفردية الى دائرة الادارة المركزية المؤسساتية. وبكل ما تعنيه هذه الكلمات.
واذا كانت شرائح وطبقات الأمة الواعية تواصل الارتباط بالمرجعية بصورتها الفردية الى اليوم، فانها تؤدي بذلك أدب الطاعة والارتباط، لأسباب نفسية أخلاقية، أدمنتها عبر قرون. وصارت تتحرك وتؤدي التزامات، وتمارس دوراً تقليدياً، انطلاقاً مما تحمله من تقديس واحترام موروث، وبهذه الصورة. وهذه الشرائح والطبقات، ومع أخلص صيغ أدائها للولاء والطاعة والالتزام، فانها لاتخفي تبرمها من سلبيات الحالة الفردية، كما لايخفي المخلصون قلقهم من محاذير ومخاطر الأصرار على انعدام الاصلاح، وتأخر الانتقال بالمرجعية الدينية الى الطور المنظم، المؤسساتي إن الاصرار على الأساليب القديمة يضر بسمعة ومنهج مدرسة اهل البيت(عليهم السلام). ويعرضها الى التخلف عن ركب الحياة، وعن تقدم الأمة، وسنن التطور الحتمية… وإن اتساع شأن الأمة، وتعقد المسؤوليات، وتعدد التزامات المرجعية الدينية، تحتم على الجميع العمل الجاد الواعي لاستيعاب حركة الاصلاح وفهمها، للوفاء بالالتزامات المرجعية.
وأما كيف يؤدى هذا الاصلاح، وكيف يتم تصور وبناء صيغة للانتقال بالأمة من المرجعية الفردية الى المرجعية المؤسسة، وتحديد آليات وميادين العمل…؟ فهذا ـ كله ـ هو مسؤولية العلماء والمفكرين. الذين يهمهم أمر الاسلام، وهو أمر لابد ان يدرك بعناية فائقة، بما يحفظ للمرجع والمرجعية دورها المرسوم لها من الله تعالى ومن الرسول(صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام)، وبما يهيىء للمرجع أداء دوره في خدمة الأمة، واستيعاب صحوتها والوفاء بالالتزامات الشرعية المتزايدة باطراد في هذا العصر وكلما سمحت الأمة والمرجعية الدينية لأثار التطور والنهوض ان تنفذ الى أعماق الوجود الأسلامي. وتلبي حالة النهوض والصحوة، بما يتفق واسس وثوابت الدين والعقيدة، وبما يؤكد مرونة التشريعات الاسلامية في اطار فهم مدرسة اهل البيت(عليه السلام) وفقهاء مدرستهم الواعين المخلصين، كنا قريبين من الاصلاح، وكنا نسير بالطريق الصحيح انشاءالله.
ومما لاشك فيه أن العلماء والمفكرين واعون تماماً لمستجدات العصر، وآفاق الصحوة الاسلامية، ويدركون حجم التوسع، وحجم المسؤوليات التي أنبطت بهم، وفي المقدمة منهم السيد الشهيد الصدر، ولذا نجده يستمع الى نداءات الأمة المتعالية، الداعية الى الاصلاح في المرجعية الدينية لتكون وافية بسعة الصحوة وامتداداتها، وان هذه المرجعية إن لم يجر عليها الاصلاح والتنظيم المناسبين فستكون خسارة الأمة كبيرة بذلك، وستؤدي ـ لاسمح الله ـ الى انتكاسة في واقع الأمة الأسلامية ومستقبلها، قد يكون اقلها ـ او أولها ـ تمزق الأمة، وتمرد كثير من شرائحها الاجتماعية، وربما تجبرها على الخروج عن دائرة السيطرة والالتزام والضبط عن مسيرة الصحوة الأسلامية واستمرارها، ونموها ورسوخها، كما لانرغب ان تنفرد بعض الاطراف ـ في الأمة ـ بأن تستبق علمائها ومفكريها في معالجة مثل هذه القضايا والمشاكل، وهذا ما شخصه الامام الصدر، ودعا الى معالجته في اكثر من مناسبة، إذ ان مشروع بناء المؤسسة المرجعية، واعادة نشاطها وصياغة هيكلها العام… هو شأن كبير جداً، يستدعي ان لاينفرد أحد، او جهة واحدة بتخطيطه، ورسم كافة أبعاده، ومساراته كما لاينبغي لأحد ان يبادر الى رفضه إبتداء، والوقوف بوجه خطوات المرجعية والاصلاح، فمواقف المعارضة المتشنجة، والرفض السلبي، والاعراض لمجرد الاعراض يزيد المسألة تعقيداً، ولا يقدم شيئاً، او حلاً، وبعيداً عن الرفض المتشنج، وبعيداً عن الحالة العاطفية والتي قد تطغى على بعض دعاة الأصلاح يمكن ان تختصر المسافات، بهدف الوصول الى امثل الصيغ، والتي تطرح بهدوء.
فيجب ان لايشتط بنا الرفض فنتناسى ان المرجعية الاسلامية عموماً، والشيعية بصورة خاصة، وفي اطارها المرجعي التاريخي العتيد ـ لاشك انها أمل الأمة وأمل الصحوة الأسلامية، وقد دخلت هذه المرجعية التاريخ، واطلت على الدنيا بمشاريعها العظيمة، كالجمهورية الاسلامية في ايران. وتوسع الوجود الاسلامي والشيعي، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً… كماً وكيفاً، وبشكل لايمكن تجاهله، أو غض الطرف عن مشاريعها المباركة… الا أن رؤية الشهيد الصدر، وعدد غير قليل من العلماء المصلحين ـ قبله وبعده ـ: أن المرجعية الاسلامية الشيعية، بالياتها الفردية المحدودة ـ وأوضاعها، وما تعرضت له من ابتلاءات، وشراسة المواجهة، وخصوصاً في قاعدتها التاريخية في النجف الأشرف، وما تعرضت له من تدمير متعمد… كلها عوامل تؤكد حاجة المرجعية الدينية الى الاصلاح والتغيير، وهو ما نقرأه صريحاً في تحرك الامام الشهيد، وعبر أبحاثه الفكرية والعلمية والسياسية، وعبَّر عنها احياناً بالمرجعية الصالحة، والمرجعية الموضوعية، والمرجعية الرشيدة، والاسماء الثلاثه وإن كانت تنطوي على بعض الخصوصيات التي تميز بعضها عن بعض، الا أن جوهر المشروع واحد، وهو الخروج بالمرجعية من حالتها الفردية التاريخية الى حالة المركزية المؤسساتية العامة، وانه لابد للمرجعية ان تتحرك وتعمل في دائرتين:
الأولى: العمل على ان لاتكون المرجعية، ولاتبقى شخصاً، او تراثاً خاصاً، فردياً، بل يجب ان تكون مؤسسة، بحيث ان المرجع، عندما يأتي، فانه يأتى الى مؤسسة تختزن تجارب المراجع السابقين. وبحيث تكون كل الملفات والوثائق، والتي تمثل علاقات المرجعية بالعالم، وتجاربها، وخصوصيات القضايا التي عالجتها، حتى في مسائل الاستفتاءات والاسئلة والأجوبة… وهذه تمثل ثروة علمية كبيرة، يجب أن تكون محفوظة للأمة، توضع تحت تصرف المرجعية الجديدة والتي ستجد كل هذه القضايا والتجارب جاهزة في مؤسسة المرجعية، وليبدأ المرجع ـ او المرجعية ـ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كل التجارب السابقة.
والثانية: ومن جانب اخر، فقد بات واضحاً ان الأمة تنتظر من المرجع ـ كما هو شأن الأئمة(عليهم السلام) الذين خلفهم العلماء بقيادة الأمة ـ ان يكون حاضراً في قضاياها، وفي ساحات العالم، وان تطل المرجعية على احوال العالم، ومجريات الاحداث… لارتباط كل ذلك بأحوال المسلمين وشؤونهم. فقد بات العالم ـ كما يقال ـ كقرية واحدة صغيرة، سواء على صعيد الاتصالات، او على صعيد العمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي… ولايمكن، او يتسنى الالمام والأحاطة بهذه الشؤون والقضايا الكبيرة والمتشعبة للمرجع كفرد، يعيش في جزء قصي من العالم، او واقع تحت هيمنة حاكم ظالم مستبد، كما هو الحال في العراق وغيره.
وأما التساؤل حول الكيفية التي يمكن ان تتم فيها تنظيم وانجاز هذا المشروع…؟ ومدى إمكانية تطوير حالة المرجعية الفردية، والنهوض بها…؟ وكيفية بناء واختيار هيأتها ومؤسساتها…؟ وهل يمكن تطوير المرجعية عبر وسائل هادئة، وتدريجية؟ وهل يسمح القديم بإفساح المجال للجديد…؟ وكيف يمكن الاستفادة من المعطيات العلمية في التنظيم والاتصال…؟ بهدف الوصول لأمثل الصيغ والاساليب والوسائل لانجاز واداء واجبات المرجعية الدينية…؟ فهي قضايا وامور تفصيلية، تحمل في كثير من الأحيان طابعاً فنياً ـ تنظيمياً، يمكن ان تقوم بها واعدادها مؤسسات وتجمعات ذات صفة استشارية فنية، والامة بحمدالله تعالى تمتلك في ابنائها من الكفاءات العلمية والفنية المخلصة ما يمكن ان لهم ان يؤدوا ادوار مهمة ومفيدة إن السيد الشهيد الصدر ـ رحمه الله ـ جاهد مخلصاً من اجل الانتقال ـ فكرياً ـ بالحوزة العلمية، والمرجعية من طور الى طور اكثر تقدماً، واكثر فاعلية، ووضعها في أفاق رحبة، ووضع الأسس العامة لفكرة الاصلاح، وهي فكرة أخذت طريقها الواضح في مسار الأمة والمصلحين، وظهرت أثارها الجلية في أجيال جديدة تؤمن بالاصلاح، وتمارسه… وأخذت الأمة طريقها في المشاركة والبناء في مسيرة لايمكن ان تتوقف، هي مسيرة، وفكرة السيد الشهيد الصدر ومعه المئات من العلماء والمصلحين الرساليين.
بقيت المراحل اللاحقة والخطوات العملية تنتظر التحرك
وهي مسؤلية الجميع وخاصة العلماء الواعون
(وقل اعملوا فيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
الحمدلله رب العالمين
محمدباقر الناصري
[1]– انظر هذه الاحاديث الشريفة وامثالها كثيرة جداً، ميزان الحكمة، ج3، ص2070ـ2072.
[2]– انظر جداليات الفكر الأسلامي المعاصر، حلقة رقم(13)، ص48.
[3]– من دروس السيد الشهيد الصدر، طبعت في كراس (المحنة).
[4]– مذكرات محمدرضا المظفر كما يرويها الشيخ محمد مهدي الآصفي عن الاستاذ الامام المظفر/ وانظر جدل التراث والعصر. الحلقة (7) ص92.
[5]– مذكرات محمدرضا المظفر كما يرويها الشيخ محمد مهدي الآصفي عن الاستاذ الامام المظفر/ وانظر جدل التراث والعصر. الحلقة (7) ص92.
[6]– انظر جدل التراث والعصر، ص80.
[7]– انظر المصدر السابق.
[8]– انظر الشهيد الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد في بحوث اسلامية، ص79 ـ 81، ط دارالزهراء، بيروت، لبنان.
[9]– انظر وسائل الشيعة، للعاملي، ج18، ص101.
[10]– انظر ذلك في محاضرة ارتجلها الشهيد الصدر في بحثه الخارج في مسجد الطوسي في النجف الاشرف. والمعروفة بمحاضرة «المحنة». طبعت في كراس في مدينة قم ـ ايران، عام 1404هـ. ص74ـ89.
[11]– انظر المصدر السابق.
[12]– نهج البلاغة، الخطبة الثالثة لأميرالمؤمنين(عليه السلام).
[13]– الشيخ محمود شلتوت هو شيخ الأزهر الشريف، اختير لمشيخة الأزهر عام 1958م. وهو صاحب الفتوى المشهورة، التي يقول فيها: ان مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشيعة الامامية الاثني عشرية. مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب اهل السنة. فينبغي للمسلمين ان يعرفوا ذلك وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب او مقصورة على مذهب…/ وقد نشرت الفتوى في الكثير من صحف مصر والعالم الاسلامي، ونصها موجود في كتاب البرهان على عدم تحريف القرآن، للسيد مرتضى الكشميري، ص268.
[14]– انظر أراء الشهيد المطهري في كراس (روحانيت و مرجعيت) مع عدد من اراء العلماء والباحثين في (جدل التراث والعصر الحلقة (7) لعبد الجبار الرفاعي، ص185.
[15]– انظر المصدر السابق.
[16]– انظر المصدر السابق.