لم تكن خسارة فقْد المرجع والمفكر الاسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض)، بالامر اليسير في حسابات الامة وقواها المؤمنة الرسالية، كما لم يكن حادث اعدامه على يد الغدر والجريمة، وفي الظرف الذي تزامن فيه، شيئاً مألوفاً ومطاقاً، ذلك ان الشهيد الصدر كان علماً من اعلام نهضة الامة المقدسة، واحد ابرز قادتها في مسيرتها التاريخية الثورية، من اجل احياء مبادئ رسالتها السماوية الحية وقيمها السامية.
فاغتيال المرجع الصدر، وكذلك اخته المفكرة والأديبة الثائرة بنت الهدى معه، بالفكرة والطريقة التي تمت فيها، انما جاءت لتمثل اغتيالاً بشعاً للعلم والمرجعية الرشيدة.. وتحدياً سافراً للجهاد المقدس والمقاومة الرسالية المشروعة، وانتهاكاً لكل القيم الاخلاقية والاعراف والمبادئ الانسانية. وحقاً كان يوم الثامن من نيسان 1980 يوماً مشؤوماً في تاريخنا المعاصر، وانه لوصمة عار ابدية في سجل عصابة البعث الحاكمة في بغداد، وشخص رئيسها صدام يزيد العصر بالذات، فلقد برز المفكر الصدر العظيم في وقت كانت فيه الامة هي بأمس الحاجة الى من تتطلع اليه بثقة وامل في قيادتها في مواجهة التحدي الايديولوجي والحضاري الذي تفرضه قوى الشرق المشفوعة بالافكار الالحادية الشيوعية، وقوى الغرب المشفوعة بالافكار المادية الرأسمالية ـ العلمانية، حيث كلاهما وضع الاسلام في دائرة الوسط، ليشهرا اسلحة حربهم الشعواء التي تستهدف محوه والقضاء عليه.
جهوده الفكرية والسياسية في مواجهة الثقافة المعاصرة
لقد مثل الشهيد الصدر بحركته الفكرية وقيادته المرجعية الرشيدة، نهضة كبرى لم تكن الامة قد عاشتها بهذا المستوى من الرؤية والوعي والشمولية في التنظير والتخطيط، في رسم معالم حياتها ومستقبلها، وكان (رض) يؤمن بأنه لابد للاسلام ان يقول بصراحة وقوة كلمته الواضحة والكاملة في نظرية تفسيره للكون والحياة والانسان في المجتمع والدولة والنظام، ليتاح للامة ان تعلن كلمتها، وترفع راية الايمان والتوحيد في ساحة المعترك الانساني.
ولقد كان الاسلام هو الدافع الاصيل والرئيسي في ابداعات وانجازات الشهيد الصدر في كل المجالات، وما حققه في مجال الفلسفة والمعرفة، لعله يمثل قمة انجازاته تلك، فكتاب فلسفتنا وكتاب الاسس المنطقية للاستقراء، لعله يمثل قمة انجازاته تلك، فكتاب فلسفتنا وكتاب الاسس المنطقية للاستقراء، الذي انتج نظرية جديدة المعرفة،وفتح الطريق أمام فلاسفة ومفكري اوربا للايمان بوجود الله تعالى، اما كتاب فلسسفتنا فقد مثل درعاً فكرياً تحطمت عنده هجمة الافكار الالحادية والمادية الوافدة على المجتمعات الاسلامية من الخارج، فهذه الدراسة الفلسفية الواقعية ناقشت الفلسفة الديالكتيكية والفلسفة الوضعية، ولم يفسح المجال لأي من هاتين الفلسفتين للظهور والانتشار في العالم الاسلامي بالشكل الذي اريد له.
يقول احد اساتذة الجامعات اكرم زعيتر عن كتاب فلسفتنا: هو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية، وخاصة الفلسفة الاسلامية والمادية والديالكتيكية الماركسية وهذه الدراسة تتسم بالدفاع المنطقي الحار عن الميتافيزيقية والالهية حتى يمكن القول ان الكتاب هو جهد فلسفي منطقي موفق لنسف الاسس الفلسفية للالحاد، وانني اعتقد ان المادية الديالكتيكية الماركسية، لم تجابه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة، ولم تقرع بردود علمية من قبل كتّاب العرب المتفلسفين، كما جوبهت وقرعت بهذا الكتاب.
اما على صعيد الجهاد السياسي فقد اشار آية الله السيد محمود الهاشمي متحدثاً عن الدافع نحو ابداع الصدر في الفهم السياسي الاسلامي قائلاً: «لقد ادرك الشهيد الصدر منذ البداية معنى العمل السياسي والدور الذي لابد لشخص مثله ان يقوم به، وادرك ايضاً ان هذا الدور يتطلب منه العمل على مستويين وخطين رئيسيين اولهما ترسيخ وتبيين المفاهيم الرسالية الاساسية القادرة على مقارعة مفاهيم الحضارة الغربية، اذ كان الدافع للشهيد الصدر في ذلك هو الشعور بالمسؤولية نحو الاسلام ونحو الفكر الاسلامي.
وثانيهما السعي الحثيث لبلورة النشاط السياسي المنظم، وبناء قاعدة الحركة الاسلامية الثورية في العراق لقيادة المعارضة السياسية المجاهدة ضد نظام ومؤسسات الحكم الفاسد، وتطوير هذا النشاط علمائياً وحركياً وجماهيرياً. لم تقتصر دراسات وابداعات الشهيد السيد محمد باقر الصدر في حدود معينة، بل شملت مجال الاقتصاد باعتبار ان ذلك جزءاً لا يتجزأ من مجمل اساسيات النظام الحياتي، ففي بداية العقد السادس من هذا القرن الّف المفكر الصدر بحثاً عميقاً ومسهباً عن الاقتصاد الاسلامي، تضمنه كتابه الشهير (اقتصادنا)، قارن فيه مع الخطوط العريضة للاقتصاد الرأسمالي الحاكم، على رقعة واسعة من العالم، ومع نظام الاقتصاد الماركسي المتحكم على مساحة كبيرة اخرى من المجتمعات البشرية، واثبت من خلال هذا الكتاب الى المجتمع نحو الرفاه والرخاء والسعادة، حيث تقضي على البؤس وتوفر العمل وتمنع الاحتكار والتنافس اللاّمشروع على العرض والطلب، وتنمي المواهب الشخصية للافراد، وقد تحقق هذا الانجاز العظيم في مجال التنظير الاقتصادي في وقت تعاني فيه الانسانية على الصعيد البشري، اقسى وأشد الوان القلق والتذبذب بين تيارين عالميين ملغمين بوسائل الدمار واسلحة الموت.
هدف الشهيد الصدر
تتلخص اهداف الشهيد الصدر من وراء مجمل نتاجاته الفكرية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية بما يلي:
1ـ تخليص وانقاذ العالم الاسلامي من التبعية السياسية التي تمثلت بممارسة القوى والدوائر الغربية ـ الاوربية اقتصادياً حكم الشعوب المختلفة بصورة مباشرة.
2ـ تخليصه من التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسية في البلاد المختلفة، وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الغربي ـ الاوربي، لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة، ويستثمر موادها الاولية، ويملأ فراغاتها برؤوس اموال اجنبية، ويحتكر عدداً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها، بحجة تمرين ابناء البلاد المختلفين على تحمل اعباء التطوير الاقتصادي لبلادهم.
3ـ التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم
الاسلامي، حاولت ان تستقل سياسياً، وتتخلص من الهيمنة الغربية اقتصادياً.
الدور المرجعي
المرجعية: تعني المنصب القيادي الاول في الامة، لزمن غيبة الامام الحجة بن الحسن المهدي (عج)، وهي امتداد طبيعي لخط الانبياء والرسل والاولياء والاوصياء، وبها يُصان وجود الامة وعقيدتها، وضمان قيادتها قيادة اسلامية فعلية مناسبة لاطروحة الدولة الاسلامية، وهذا ما تصدى له السيد الصدر، بحكمة وجدارة وفق منهجه ومدرسته المتميزة، وبخطوات التغيير الهامة والاصلاح الشامل، وذلك في السنوات العشر الاخيرة قبل استشهاده، ورغم ان ظروفاً صعبة للغاية قد واجهت المرجع الصدر، ومركز القيادة والمرجعية، من مضايقات وتطويق وتعطيل لاداء الدور الرسالي للمرجعية، الاّ انه استطاع ان يشق طريقه الشاق طريق ذات الشوكة، ويتحمل اعباء المسؤولية بكل امانة وعزم.
بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني (قدس سره) اواخر عقد السبعينات، برزت اهمية الاسلام السياسي، بعد ان جرب العالم الاسلامي الايديولوجيات المعاصرة من وطنية ضيقة او قومية اوسع او ليبرالية غربية او اشتراكية عسكرية او ماركسية تقليدية، قدمت الثورة الاسلامية الايرانية اخيراً الاسلام الثوري، باعتباره اختياراً نموذجياً يعيد للاسلام اصالته ومكانته بعد تغييب في البناء والدور، دام اكثر من نصف قرن، حين ابتدأ مع سقوط دولة الخلافة الاسلامية (العثمانية) عام 1924 على يد كمال اتاتورك، والى تاريخ اسقاط الحكم الشاهنشاهي المقيت في ايران مطلع العام 1979، عبر حركة وثورة المرجع الثائر الامام الخميني (رض).
وثورة ايران هذه كانت بحاجة ماسة الى غطاء واسع من الولاء والدعم من لدن طبقات الامة المسلمة، ولاسيما من جانب علماء الدين المجتهدين والفقهاء والقادة والمثقفين الرساليين، باعتبارها ثورة اسلامية ذات عناوين شاملة واهداف معلنة عريضة لا غبار عليها، مع انها ثورة اتسمت بطابعها الشيعي وسمتها العلمائية الواضحة، من هنا كان الشهيد المفكر والمرجع الصدر السباق من بين العلماء المجتهدين ومراجع الامة، لتأييد الامام الخميني، ولنهضة الامة الاسلامية في ايران، وقد جسد هذا الدعم عبر تلاحم واع مع الثورة وقائدها باعتبارها امتداد طبيعي وترجمة واقعية للفكر الاسلامي الثائر ضد الكفر والظلم والانحراف.
العلاقة بين الامام الخميني وثورته، وبين المرجع الصدر، كانت على الدوام علاقة مبدئية وثيقة، تقوم على قاعدة الاسلام والشرعية، وواجب النصرة والمساندة في اطار التكليف الشرعي الواضح والدقيق، والشهيد الصدر بادر بنفسه الى تجسيد هذه الالتزامات الشرعية بالقول والعمل الى حد الشهادة، رغم شراسة المواجهة الغاشمة المفروضة عليه من قبل النظام البعثي المجرم في بغداد. فهو (رض) سعى الى ارسال وفود البيعة الى ايران بكل علانية وجرأة، كما استقبل وفود المهنئين بالثورة، من كافة مناطق العراق، وقد اعتبرت احداث انتفاضة رجب / حزيران / 1979، بداية لانتقال الثورة الاسلامية في العراق بقيادته، وتلاحمها الواعي مع الثورة الاسلامية في ايران، وقيادتها المرجعية الرشيدة.
هذا الموقف الداعم والشجاع من جانبب المرجع الصدر، جسده بوضوح فيما قاله ببرقية التهنئة والولاء التي بعثها للامام الخميني بمناسبة انتصار الثورة: «اني اكتب في هذه اللحظة من تاريخ امتنا الاسلامية، لأُعبر عن اعتزاز لا حدّ له بما حققه المسلمون من انتصار باهر بقيادتكم الرشيدة…» ثم يواصل القول في آخرها «وانّا اذ نتطلع الى المزيد من انتصاراتكم، نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل الى المولى سبحانه وتعالى ان يديم ظله، ويحقق املنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم». وفي المقابل يجسد الامام الخميني الارتباط الاخوي ـ العقائدي الوثيق بالمرجع الصدر ووحدانية الهدف والمصير، اذ يقول الامام الخميني في رسالة التعزية (الجوابية): «اقدم تعازيِّ الحارة الى كافة الشعوب المستضعفة والمسلمين في العراق وايران خاصة، بمناسبة استشهاد المرحوم آية الله الصدر… انا اطلب من العليّ القدير ان يوقظ الشعوب المسلمة، وينبه الشعب العراقي كي ينقذ نفسه من قيود القوى الكبرى، ويقضي على جرثومة الفساد في في بلاده، التي باسم الاسلام، تقتل المسلمين، وتدوس احكام الاسلام وتقتل علمائه البررة، مثلما قتلت السيد محمد باقر الصدر، ذاك الفيلسوف والمفكر الفذ الذي كان امل الاسلام في الرقي والازدهار.
وتعبيراً عن صدق وعمق العلاقة المتينة التي تربط الامام الخميني والمرجع الصدر، فان الشهيد الصدر، كان يدعو كافة المسلمين وانصاره بالقول «ذوبوا في الامام الخميني كما ذاب هو في الاسلام»، ولعل الامر الاكثر مصداقية لهذا الترابط والتحالف، هو حادث استشهاده في سبيل العقيدة والولاء للثورة الاسلامية، وللامام الخميني، حينما اغتالته يد الغدر الحاقدة على الاسلام وأمته وعلماءه.
« ان الشهيد الصدر كان علماً من اعلام نهضة الامة المقدسة، واحد ابرز قادتها في مسيرتها التاريخية الثورية ومستقبلها.»
قاسم احمد