منذ سنة 1980 ونحن نحتفي في نيسان من كلّ عام بذكرى رحيل المفكر الإسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر، إلا أنَّ السؤال الذي ما يزال يّجْبهنا بعد عقد ونصف من رحيل الصدر، هو: هل استطعنا أن نوفرّ – على الصعيد الثقافي من الذكرى – صيغة للإحياء الفكري تنسجم مع عطاء هذا المفكر وما يحمله من معالم مدرسية في اتجاهات الفكر الإسلامي؟
إن السؤال يحتاج قبل الإجابة عنه إلى قسط من الإبانة والتوضيح التي نعتقد أنها تنتهي بنا إلى تفكيك السؤال الأصلي إلى ثلاثة أسئلة فرعية، هي:
أولاً: هل أكتسب الصدر موقعه اللائق على الخريطة الفكرية داخل العالم الإسلامي وبين صفوف الفكر الإنساني العالمي؟
ثانياً: عل تمَّ استنفاذ، التركة الفكرية للصدر كاملة لما يخدم توظيفها في حركة الوعي الإسلامي، ولما هي جديرة به من مكانة في الصرح العام للفكر الإسلامي المعاصر؟
ثالثاً: هل قمنا بمراجعة دقيقة وواضحة لفكر الصدر في مسار الفكر الإسلامي من جهة، وحاجات المسلمين الفكرية الفعلية من جهة ثانية، لتتوفّر لدينا رؤية واضحة في مواصلة ما يجب مواصلته من بدايات وآفاق، واستئناف الجهد في مناطق الفراغ وما أكثرها الآن في حياتنا الفكرية والثقافية، خصوصاً بعد التحولات العظيمة التي شهدها الواقع الإسلام أبان العقد ونصف العقد الأخير؟
قد يعيد البعض ترتيب طرح الأسئلة، وقد يضع البعض الآخر صياغات جديدة، إلا أنَّ الحقيقة التي يجب أن نلتزم الإعلان عنها بصراحة فائقة، هي إنه لم يبذل لحد الآن الجهد الفكري الذي يتناسب مع موقع الصدر وفكره برغم كثرة الضجيج الذي يلهب الحماس وبكاء يغطي حتى على تلك المبادرات الفردية ذات الطابع الفكري الجاد التي ظهرت خلال السنوات الماضية.
ومن نافلة القول، أنَّ الحوار النقدي مع فكر الصدر ومنهجه ما لا يزال مهمة مؤجلة ومسكوتا عنها، طالما بقيت الأسئلة آنفة الذكر حيّز الانتظار. فالقراءة النقدية الواعية المنفتحة هي مهمة لا تتوقف على توافر الشروط الموضوعية المناسبة وحدها، وإنما تحتاج إلى مقدمات وبذل جهود فكرية تأتي بموازاة الشروط الموضوعية.
وطبيعي أن هذا المقال لا يزعم أن يملك القدرة على النهوض بمهمة عجز واقعنا الثقافي والفكري عن الإيفاء بها خلال عقد ونصف من السنوات، بل غاية ما يرمي إليه هو أن يحرّك بعض السواكن ويثير الانتباه من خلال تركيزه على وقائع مختارة تتسق مع الإجابة التي ننتظرها للأسئلة الثلاثة.
عالمية الفكر والمفكر
كون الصدر لم يكتسب بعد موقعه اللائق على خريطة الفكر داخل العالم الإسلامي؛ هذه حقيقة لا نحتاج إلى الاختلاف عليها قدر ما نحتاج إلى تحليلها تحليلاً موضوعياً مستوعباً، لنفهمها ونحاول أو نوفّر البواعث الكافية لنتجاوزها.
صحيح أنَّ هناك أسباباً تعود إلى دواعي الإقصاء السياسي والمذهبي، حيث تحرص أنظمة وقطاعات معروفة على حجب أسم الصدر من خلال الإعلان عن انتمائه إلى المدرسة الفكرية لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ومن خلال الإشارة إلى موقفه السياسي المعارض لنظام صدام حسين العلماني من جهة والمؤيد من جهة ثانية للنظام الإسلامي في إيران. إلا أنَّ هذه الدواعي لا تلغي تقصيرنا بقدر ما تؤشر على تقصير مسعانا الثقافي في التعريف بهذه الشخصية الفكرية الفذَّة في إطار رؤية منهجية واضحة.
أما الامتداد الذي ناله الصدر على نافذة الفكر العام في العالم العربي والإسلامي فقد كان يعود في الكثير من مظاهره إلى تأثيرات فردية وعفوية، ولا شك في أنَّ حادث الكويت وما ترتب عليه من تقلبات في العلاقات السياسية وفَّر مناخات ساهمت إلى حد بعيد في الامتداد باسم الصدر إلى صفوف الوعي العام، دون أن يتبع ذلك من جانبنا سعي حقيقي لترسيخ هذا الحضور وتعميقه وإرسائه على أصول صحيحة ثابتة.
أما على صعيد مفكري العالم ومسار الفكر العالمي، فإن الصدر ما يزال في الهامش أسوة بأقرانه ومن سبقه من علماء المسلمين وفقهائهم ومفكريهم. فمن ناحيتنا لم نبذل جهوداً، ولم نوفّر أبسط مقتضيات التعريف بمفكرينا، والامتداد بوجودهم الفكري إلى آفاق الدنيا. فما نزال مثلاً عاجزين عن عقد حلقة فكرية ندعو إليها بضعة مفكرين من بلدان العالم لمناقشة جانب أو أكثر من مساهمات الصدر والطباطبائي وإضرابهما، وما نزال وهذا مثال أتعس! تعوزنا حتى هذه اللحظة، الترجمات الكفوءة لفكر هؤلاء وبذلك فإنَّ الامتداد بمفكرينا عالمياً ما يزال أمنية تراود أذهاننا دون أن تشحذ همتنا الكافية لتوفير شروطها الموضوعية.
صحيح أنَّ الامتداد الفاعل يحتاج إلى تكافؤ في العلاقة بين المسلمين والغرب، والتكافؤ لا يتوقف بدوره على شروط الإبداع الفكري والنباهة الثقافية وحدهما، وإنما يحتاج إلى أرضية مُتقدمة على أكثر من صعيد ، إلا أنَّ الصحيح أيضاً أنَّ في العالم اليوم الكثير من القنوات التي يمكن أن ننفذ منها ونوظفها لما يخدم حضورنا، ثم أنَّ أمامنا تجربة بعض مثقفي العالم الثالث وأدبائه ممن توفرت لهم فرص الامتداد العالمي رغم أن بلدانهم لا تملك من الطاقات والقدرات أكثر مما نملك. وبعد ذلك فإنَّ الغرب ليس كل العالم.
إن من يملك إرادة العمل يستطيع أن يفتح أمامه، الآفاق، وبمقدوره أن يستخدم أدنى ما يتوفر لديه من قدرات، غذ لا أحد ينكر إنَّ أقلاماً عربية وإسلامية استطاعت أن تنفذ إلى واجهات الفكر والثقافة في عواصم العالم بكفاءاتها وبحسن تخطيطها، دون أن ننكر أن مسألة الامتداد والشهرة العالمية على صعيد الفكر والثقافة، كانت وما تزال عرضة للمزايدات السياسية والدعائية، وتخضع في مواقع مهمة منها لنفوذ مؤسسات ومراكز تنحاز سلفاً ضدنا.
إننا نعرف جيداً أن المواقع التي نعيشها أسقطت معنى عالمية الفكر والمفكر معايير تافهة مبتذلة، فأصبح كاتب كسلمان رشدي عنواناً للامتداد العالمي، بل ربما تحول مغن أو سينمائي وحتى عارضة أزياء لا تملك من مقومات الشهرة سوى الجمال إلى عنوان للامتداد العالمي يغزو الإذاعات والصحف ويتجاوز ذلك للنفوذ إلى حياة شبابنا ووعيهم وبيوتهم دون أن يُحسن صياغة جملة فكرية واحدة.
ونعرف لهذه المؤسسات أيضاً نفوذاً في تلميع أسماء لا تستحق عنوان شهرتها العالمية، كما فعلوا وما يزالون مع الشاب الياباني المتآمر فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب ((نهاية التأريخ ومصير الإنسان)) رغم أنَّ كتابه لا ينطوي على إبداع فكري ونظري عميق، وإنما يخدم أهداف الحضارة الغربية ويوفر لها المزيد من التحكم العالمي.
ولكننا إلى جوار ذل كلّه نملك الثقة الكاملة بطاقاتنا الفكرية، ونعرف أن لدينا الكثير ممن يستحق لقب المفكر العالمي، إلا أننا لا نملك الإرادة الكافية للعمل، وإذا توفرت الإرادة فقد لا تتوفر الرؤية الدقيقة الناضجة للامتداد بهؤلاء عالمياً مما يساهم في إثراء الفكر الإنساني.
وليست قضية المفكر السيد الصدر هنا سوى مثال على هذا اللون من المعاناة وما تكشف عنه من تقصير فاضح رغم وفرة الإمكانات والفرص المناسبة أحياناً، بل وبرغم وعينا للعقبات أيضاً!.
استنفاذ التركة الفكرية
سنُقصي جانباً التراب الأصولي والفقهي للسيد الصدر، وسنتعامل فقط مع الجانب الفكري لنختار نافذة واحدة نطل عبرها على أحد كتبه.
ففي مطلع السبعينات أصدر الصدر كتابه ((الأسس المنطقية للاستقراء)) وبرغم مرور ما يناهز ربع القرن على صدوره، ورغم مرور ما يناهز العقد ونصف العقد على استشهاد مؤلفه، إلا أننا ما نزال لا نملك إزاء هذا الكتاب إلا أن نردّد مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين قوله: ((هو كتاب أعتقد أنه لم يكتشف حتى الآن)). أن حديثنا عن ((الأسس المنطقية للاستقراء)) الذي هو من أبرز مؤلفات الصدر يشبه الحديث عن ألغاز أسفار صدر الدين الشيرازي وحكمه المتعالية، إذ ما زلنا رغم ما يفصلنا من قرون عن زمان تأليف الفيلسوف الإسلامي لأسفاره وحكمه المتعالية، نعيش مرحلة الغزل الخجول بأفكار صدر الدين الشيرازي عن ((الحركة الجوهرية)) ونتداول إشارات أوضحها وأكثرها شيوعاً هي أقرب إلى الألغاز منها إلى الأفكار الكاملة، وكأن تأليف كتب ثقافية عام تتوفر على شرح الأفكار المعقدة وبيانها هو من المعجزات بالنسبة لنا. أنّ في ذهن كل واحد منا مثالاً أو أكثر حول هذه الحال التي تعكس وجهاً من أوجه الأزمة التي تعيشها ثقافة الفكر الإسلامي في وقتنا الراهن.
لقد أراد الصدر لكتابه ((الأسس)) أن يحقق للفكر الإسلامي نقلة كبيرة على طريق العالمية والمبادأة بالهجوم بديلاً عن حال الدفاع أمام اتجاهات الفكر الغربي. بيد أنَّ الذي حصل – كما تدل مؤشرات الواقع – أنَّ الإسلاميين أنفسهم عجزوا عن الاستفادة من هذا الأثر، فكيف بتسويق معطياته إلى ساحة الفكر الإنساني!
وفي الواقع أنَّ كتاب الأسس هو مجرد مثال، إذ مشكلة عدم استنفاذ التركة الفكرية للسيد الصدر تمتد لتشمل الكثير من نواحي الإبداع الفكري والمنهجي، في آثاره، إذ ما تزال المساعي تشهد تقصيراً كبيراً على هذا الصعيد.
الموقف الفكري الراهن
لكل مرحلة من حياة المسلمين، ولكل حقبة فيها لون خاص من ألوان التحدي الفكري المضاد، وبالتالي لها أدواتها ووسائلها التي قد يمتد بعضها ويشترك خلال أكثر من مرحلة، وقد يُهمل بعضها الآخر أو يعاد النظر فيه، فيما المعركة مستمرة.
فعندما سقطت دولة الخلافة العثمانية بوصفها آخر رمز للكيان السياسي الموحد للمسلمين، صعدت في منطقتنا فاعلية تيارات العلمنة والتغريب التي اشتغلت في موازاة المخطط السياسي الموحد للمسلمين، صعدت في منطقتنا فاعلية تيارات العلمنة والتغريب التي اشتغلت في موازاة المخطط السياسي الذي ارتكز على مبدأ التجزئة وفقاً لما قرَّره أقطاب النظام العالمي آنذاك في خريطة سايكس – بيكو.
ومع التحوّل الذي أعقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران بدت دعوات العلمنة والتغريب مرفوضة في أدائها الفاقع المباشر، فظهرت الحاجة إلى تخطيط آخر يحقق هدف التخريب الفكري في أوساط المسلمين دون أن يستخدم الأداء المباشر من غير أن يضع المبضع على الجسم الإسلامي مرة واحدة؛ بل وأن يستخدم اللغة الإسلامية، ويرفع شعاراتها، ويتمرس في طرح مفاهيمها، حتى كأنه.
خالد توفيق