لا يختلف اثنان على الدور الكبير الذي لعبه الشهيد الصدر في مقارعة النظام الديكتاتوري، وعلى الرغم من كونه يعتبر مؤسس الحركة الاسلامية العراقية المعاصرة الاّ أنه لم يطرح نفسه قائداً لفئة معينة دون أخرى، بل تحدث باسم العراقيين جميعاً.
فاستطاع من خلال دعوته للوحدة والوعي ومحاربة الظلم من استلهام مشاعر العراقيين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية للوقوف بوجه النظام الديكتاتوري. لقد أدرك الصدر مخاطر الطائفية وعمل على كشف لعبة النظام بتزييف الصراع الدائر بينه وبين الشعب العراقي على أنّه نزاع طائفي، وحذّر من الوقوع في أحابيله، فسارعت السلطة الغاشمة لاعتقاله واعدامه ومعه اخته الفاضلة بنت الهدى، وبفقدانه خسر الشعب العراقي قائداً بارزاً قدّم حياته من أجل انقاذ شعبه ووطنه، لقد كانت الروح الثورية التي خلفها الصدر الدور الفاعل في اذكاء روح المقاومة لدى العراقيين، فقد كانت روحه الطاهرة حاضرة مع ثوار انتفاضة اذار المجيدة، ولازالت تشكل رافداً لا ينضب في استلهام عزائم العراقيين في التصدي للنظام المتغطرس، ويظل الصدر لحد هذه اللحظة عنواناً للمشروع التغييري الكبير الذي يراود العراقيون منذ سنوات طويلة، ربما هذه المقدمة تكشف عن جزء يسير من النشاط الذي كرّس الشهيد الغالي حياته في أجله.
أما نشاطه الفكري فيشكل نقلة نوعية في تاريخ الفكر الاسلامي المعاصر، فقد نجح في كسر حواجز كانت تقف حائلا امام الفكر الاسلامي باعتباره أصبح لا يتماشى مع العصر، فمنذ انحسار الحضارة الاسلامية في القرن الثامن الهجري بعد سقوط الاندلس، لم يشهد العالم الاسلامي عالماً مفكراً مبدعاً، استطاع ان يجمع بين العلوم الدينية والفلسفية، ناهيك عن دوره كقائد سياسي في أحلك مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر، فقد استطاع أن يختزل الزمن لصالح نضوجه الفكري ونجح في بلوغ درجة الاجتهاد وهو لم يبلغ العشرين من العمر، لقد برز المفكر الكبير الصدر بتفاعله مع مشاكل عصره وقراءته للافكار السائدة فيه بنقده اياها وتشخيصه للسلبيات التي سببت المآسي للإنسان، بعد ان تعقدت الحياة البشرية من خلال مراحل التطور الصناعي الذي مرّ عليه أكثر من خمسة قرون، وبالرغم من تحقيق الكثير من المنجزات العلمية، الاّ إنها لم تلب الحاجات الروحية والاخلاقية للانسان، ولم تكن الصراعات بين الانسان وأخيه الانسان الاّ بسبب ابتعادها عن القيم الانسانية النبيلة، لقد استطاع الصدر من خلال الحوار العقلي المقرون بالأدلة الحسية ان يسلط الاضواء على مثالب التفسير المادي للتاريخ، ويتنبأ بفشل الشيوعية ودخولها متحف التاريخ، باعتبارها لا تختلف كثيراً عن بقية العقائد المندثرة، والتي كانت شائعة في التاريخ القديم، فالشيوعية لم تجد حلولاً لمشاكل المجتمع عبر تطوره الصناعي والتكنولوجي، وبقيت أسيرة جمودها العقائدي، وقد سرد الشهيد الصدر أدلّة كثيرة في كتابه «فلسفتنا» عن مثالب الماركسية ولحد الآن فأنه يعتبر أفضل من نقدها من الكتّاب المعاصرين، كما استطاع عبر كتابه «اقتصادنا» أن يضع أسس المشروع الاقتصادي الاسلامي، لوضع حد لموضوع استغلال الانسان لأخيه الانسان، وقد أعطى فيه دوراً كبيرا للمجتمع لتوفير الحاجات الاساسية للانسان، لتوفير متطلبات الحياة الحرة الكريمة استنادا الى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (الناس شركاء في الماء والكلأ والنار)، والذي سبق الدول الاوروبية بقرون عديدة في مناهج الرعاية الاجتماعية لغير القادرين على تحصيل رزقهم، كما ألقى الضوء على منجزات الاقتصاد الاسلامي، بتشجيعه للاستثمار وليس كنز المال، وبالنتيجة يصل الى نتيجة مفادها بأنّ العلاقة بين الفرد والمجتمع هي علاقة متوازنة محكومة بقيم أخلاقية وانسانية، وأن أي خلل في بناء الفرد المسلم، سيؤثر سلباً في علاقته بالمجتمع، ويتطرق الى أبعاد العلاقة بين الشعوب ورسالة الانسان في عمارة الأرض وخلاصها. إنّ فكر الشهيد الصدر يعد مدرسة متكاملة في الاقتصاد لا تختلف في شموليتها عن مدرسة آدم سميث الرأسمالية، أو كارل ماركس في الاشتراكية، ومن ثمرات الاقتصاد الاسلامي الذي وضع اسسه الصدر، البنك اللاربوي وبيوت الاستثمار، والتي أخذت بالانتشار في انحاء مختلفة من العالم الاسلامي ولا نبالغ اذا ما قلنا بأنّ هنالك بنوكاً عالمية كبيرة تبنت مبادىء الاقتصاد الاسلامي في معاملاتها التجارية لفوائدها الاقتصادية، كما للشهيد الصدر مدرسة خاصة في الاستقراء تختلف عن مدارس الكثير من السلف، وهي تشكل طفرة كبيرة في التفكير الاسلامي، ويعد كتابه الاسس المنطقية للاستقراء مفخرة للعقل الانساني وقفزة نوعية في اكتشاف اسس الاستدلال العقلي في تبنيه الاتجاه الموضوعي في منهجه باعتباره المحور الاساسي في بناء منهجه العلمي.
لقد استعرض الصدر بكتابه الموقف الذي اتخذه المذهب التجريبي وبقية المذاهب في الاستقراء فقد اكتشف من خلال بحثه عن نهج ارسطو ثغرات، نجح مفكرنا الكبير من ردمها من خلال تحويل الاحتمال الاستقرائي الى يقين، ثم استنتج منها النقاط الرئيسية في نظرية المعرفة على ضوء النتائج المستخلصة من البحوث السابقة حيث اكتشف مصدراً جديداً للمعرفة هو مصدر «التوالد الذاتي» وعن طريقه استطاع أن يحل المشكلة الكبيرة للاستقراء، وكان يستدل في بحوثه كلها على الاتجاه الموضوعي.
فهو أوّل من وضع اسس التفسير الموضوعي للقرآن والذي تحكمه سنن التاريخ والحق يقال بأن فكر الشهيد الصدر لم يكن نظرياً محضاً، فهو ينظر عن دور الفرد والمجتمع في كل زاوية من زواياها.
لقد تمتع الشهيد الصدر بفكر ثاقب، فهو لم يتوقف عن نقد النظريات السائدة، بل أغناها باضافاته القيمة، اضافة الى كونه يتمتع بحيادية علمية فهو لا يفرق في نقد آدم سميث وكارل ماركس أو ارسطو وابن سينا، فالبحث العلمي عنده لا يعرف الحدود الجغرافية ولا الموروثات التاريخية.
فهو يرفض «الصدفة» التي ذهب اليها داروين فمن وجهة نظر فلسفية تؤمن بمبدأ السببية بوصفه مبدأً عقلياً يرفض الحدس، وكما يقول لأن الصدفة المطلقة تتعارض مع مبدأ السببية فمن الطبيعي فانّ كل من يؤمن بمبدأ السببية أن يرفض الصدفة المطلقة، كما يعجز الدليل الاستقرائي عن اثبات أي تعميم اذا لم يفترض قدرته على إثبات السببية العقلية لأن ذلك يرتبط بالدليل الاستقرائي والطفرة والتي يستنبطها من الخاص الى العام.
فهو يؤمن بأن الدليل الاستقرائي يؤدي الى العلم بالتعميم عكس الاستنباط الذي يسير من العام الى الخاص، فهو يميز بين ثلاث انواع من اليقين، اليقين المنطقي واليقين الموضوعي واليقين الذاتي.
ويستنتج من دراسته لهذه الانواع الثلاثة الى ان اليقين المنطقي يختص بالاستدلال الاستنباطي ولا يشمل الاستدلالات الاستقرائية، وان اليقين الذاتي مسألة شخصية وليس له مقياس موضوعي وان اليقين الموضوعي هو اليقين الذي يمكن الاستدلال الاستقرائي ان يحققه، لقد كرس الصدر جهوده الفلسفية لخدمة الحقيقة والتي فيها سعادة البشر، فهو لا يختلف في شمولية تفكيره عن فلاسفتنا العظام كإبن سينا والفارابي وابن خلدون وربما يفوقهم جميعاً، لكونه عاصر فترة خطيرة تميزت بالتطور العلمي المذهل الذي فاق ما حققته البشرية منذ نشؤها ولحد الآن.
وسيبقى الصدر مخلداً بآثاره الخالدة ومؤلفاته العلمية، كما ستبقى دماؤه الزكية مناراً للثائرين السائرين في دروب الحرية والجهاد.
د. عدنان فاضل