آية الله الصــــدر قائداً مجاهـــــــداً…

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

إن من يؤرخ للوعي الإسلامي المعاصر، لا بد أن تستوقفه بالضرورة ظاهرة متميزة اسمها: آية الله السيد محمد باقر الصدر. فلقد ترك هذا القائد المجاهد بصماته بوضوح على مسيرة العمل الإسلامي، ولعقدين من السنين، في العراق والعديد من أقطار العالم الإسلامي.. الى أن توج الله حياته بالشهادة.

فكان رائداً في مماته، كما كان رائداً في حياته.

ويمكن لنا ، لو أردنا تناول دور القائد الجهادي، أن نقسم حياته إلى مراحل ثلاث:

مرحلة النشأة وتحديد الاتجاه.

مرحلة التوعية الفكرية.

مرحلة الصراع السياسي.

وسنتحدث عن كل منها ببعض التفصيل.

مرحلة النشأة وتحديد الاتجاه:

أبصر السيد محمد باقر الصدر النور، ونشأ.. في بيت علمي عريق..وضمن حاضرة علمية إسلامية كبرى (النجف) يتوافد إليها الطلبة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

وكان خياره في الحياة أن يسلك طريق التحصيل العلمي الديني.

ويثبت الطالب النابغة في هذا الحقل كفاءة فريدة.. فيحرز رتبة الاجتهاد المطلق، أعلى رتبة علمية، خلال فترة زمنية قياسية. ويفتح ذلك أمامه فرصاً واسعة لممارسة التأثيرالاجتماعي.. واضعاً في حسابه أو مستفيداً من الثقل الاجتماعي الديني للحوزة العلمية ولمجتهديها بين صفوف الجماهير.

ويدرك السيد محمد باقر الصدر منذ البداية، أو في مرحلة متقدمة على الأقل.. وكما يتضح من مواقفه وأقواله.. أن المسلم الواعي والعالم الديني بالذات، وبالأخص في مثل هذا العصر، والظروف التي يعيشها العالم الإسلامي المجزء إلى كيانات والخاضع للنفوذ الاستعماري.. يتحمل مسؤولية كبرى تجاه مجتمعه وأمته. وأن الحوزة العلمية ومرجعية المسلمين، لا بد أن تمارس دوراً قيادياً جديداً على صعيد العراق والعالم الإسلامي يختلف عند دورها التقليدي السائد.

فتنضاف إلى ايجابياتها القائمة كالاستقلالية عن السلطات الظالمة.. ايجابية التحريك السياسي والقيادة السياسية.. أي ايجابية التحول من الدور السياسي السلبي الى الدور السياسي الايجابي.

ونلمس هذا التوجه لدى السيد محمد باقر الصدر… في حديث لا حق له عن حركة الاجتهاد واتجاهاتها المستقبلة.. حيث يؤكد على ضرورة تحولها (من حركة معزولة اجتماعياً، إلى حركة مجاهدة تستهدف تقديم الإسلام ككل وتعتبر أن رسالتها هي توعية الأمة على ضرورة تطبيقه في كل مجالات حياتها).

ويأتي انقلاب تموز 1985، الذي أطاح بالنظام الملكي، وما حصل بعده من تطورات ليدخل العراق في جو من اللااستقرار السياسي ويهز ذلك قطاعاً غير قليل من أبناء الأمة ومن علماء المسلمين بالذات. وتتلاقى إرادة بعض المتحسين منهم على ضرورة العمل الايجابي لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي الفاسد..لأن الاكتفاء بردود الفعل السلبية تجاه الأحداث يجعل القوى الإسلامية عاجزة باستمرار عن قطف ثمار مواقفها. ولا زالت نتائج انتفاضة 1920 الجهادية التي قادها العلماء ضد الغزو الانكليزي للعراق، مائلة للأذهان.

ويتدارس المتلاقون ظروف التحرك المطلوب، وشروط نجاحه..واضعين في اعتبارهم طبيعة النفوذ الاستعماري في العراق وغيره من أنحاء العالم الاسلامي..هذا النقوذ الذي يرد في الاتجاه السياسي الإسلامي الواعي عدوه الأول ومن هنا حصره الشديد على منع انتشار الوعي بين المسلمين ومنع قيام الحركات الإسلامية الهادفة بشتى الطرق والأساليب.

وواضعين في اعتبارهم أيضاً تجارب قوى الرفض الإسلامية السياسية والجهادية، ونجاحاتها وثغراتها.

ويتفق الرأي على أن خلق قوة سياسياً إسلامية تسعى لاستلام الحكم..لا بد أن يسبقه نشر التوعية الفكرية، وتجذير خط إسلامي هادف تلتف حوله الطليعة المسلمة.

ومن الطبيعي أن يكون السيد محمد باقر الصدر، بموقعه العلمي، وبما يملكه من وعي متقدم وكفاءات متميزة، في صلب هذا التوجه..بل عقله المفكر وقلبه المحرك والنابض.

مرحلة التوعية الفكرية:

إستهدفت التوعية الفكرية تحقيق هدفين:

بناء طليعة إسلامية واعية من العلماء والشباب المثقف.

وخلق مناخ وعي إسلامي عام.

وقد كان للقائد الشهيد الدور الريادي الأول في هذا المجال. حيث عمل رضوان الله عليه ضمن الحقول التالية:

أـ التوفر على تقديم أطروحة فكرية متكاملة عن الإسلام عقيدة ونظاماً. وبصيغة عصرية..تثبت أحقيته من جهة.. كما تقدمه للأمة والعالم بوصفه البديل الجاهز عن النظامين المعاصرين.الرأسمالي والاشتراكي، خاصة بعد أن بدأت بوادر إفلاسهما.

وقد أنتج السيد الصدر، في هذا الاتجاه، عدداً من الدراسات الكبرى والرائدة، مثل: فلسفتنا، واقتصادنا، والبنك اللاربوي في الإسلام…..

وقد أصبحت كتبه موضوعاً للتدريس والمذاكرة في حلقات الشباب الجامعي، وفي المساجد، والنوادي..ضمن العراق وغيره، كما تلقفها الأسلاميون بتلهف على امتداد العالم الإسلامي.

بـ القيام بدور أساسي في انشاء وتوجيه (جماعة العلماء في النجف الأشرف).. هذه الجماعة التي ضمت كوكبة من العلماء المجاهدين..

واستفادت من الغطاء الذي وفرته مرجعية المغفور له آية الله السيد محسن الحكيم.. لتقوم بنشاط مكثف في توعية الأمة..واعطائها صورة جديدة عن العالم الديني. .وكانت إحدى وسائلها المهمة مجلة الأضواء، الإسلامية الهادفة، التي صدرت لمة ست سنوات.. وسدت فراغاً كبيراً على صعيد الاعلام الاسلامي المستقل آنذاك.

جـ تقديم صورة جديدة عن المرجعية الإسلامية الواعية المجاهدة إلى الأمة. مع ما يترتب على ذلك من زيادة ربط المرجعية بالأمة وبالطلائع الشابة والمثقفة بالأخص..وبالتالي ممارسة ودورها القيادي الجماهيري بشكل أفعل وأشمل.

دـ إحداث هزة داخل الحوزة العلمية الدينية.. وإحداث نمط تجديدي في مناهج وأسلوب الدراسة فيها.. مما يؤهلها لتخريج نماذج قيادته واعية من العلماء الماجدين.

..وآتت جهود القائد، وإخوانه من الرواد المجاهدين ثمارها..وانتشر المد الإسلامي الواعي في أنحاء العراق بأسره كما وصل إشعاعه إلى العديد من أقطار العالم الإسلامي.. وأصبح آيد الله الصدر وكتبه…

رمزاً لهذا الواعي

وأحس الاستعمار بالخطر على مصالحه في العراق أمام زحف تيار الوعي الإسلامي وقوة الحركة الإسلامية. فعمل على التخلص من نظام عبد الرحمن عارف الضعيف.. ليجيء بحزب البعث إلى الحكم في تموز 1968وبعد أشهر من الوصول إلى السلطة فقط، بدأت عملية رد الحساب للمستعمر.. فكانت الهجمة القمعية على الحوزة العلمية في النجف سنة 1969.. وما رافقها من اعتقال وتشريد وتنكيل لمئات العلماء والمجاهدين.

وتستمر هذه الحملة الشرسة، لتتوج باعدام العلامة المجاهد الشيخ عارف البصري مع أربعة من إخوانه العلماء والمجاهدين سنة 1974.

وقد نال القائد الشهيد من هذه الحملة نصيبه الأوفى. فتعرض للاحتجاز والاعتقال والتهديد أكثر من مرة.. كما مورس معه أسلوب الاغراء في مرات أخرى..ولكن دون أن يفت ذلك من عضده.. فتابع دوره الجهادي الاعتيادي..وازادادت مرجعيته الرائدة مع الأيام رسوخا وتركيزاً.

مرحلة الصراع السياسي:

وجاءت سنة 1979 لتحمل معها الحدث العظيم الذي هز العالم بأكمله..وانتصرت الثورة الإسلامية المباركة في إيران بقيادة آية الله الإمام الخميني حفظه الله.

وطبيعي أن ينعكس هذا الحديث بعمق على العالم الإسلامي عموماً وعلى العراق البلد المجاور بالأخص.

وتشهد مسيرة الوعي الإسلامي في العراق كغيره من أقطار المسلمين قفزه نوعية وكمية بارزة. ويمتد إشعاع الثورة الإسلامية المباركة في إيران، ليشمل كل بيت من بيوته.

ويدرك القائد الشيهد، أن الظروف الموضوعية قد أصبحت مهيئة للانتقال إلى مرحلة الصراع السياسي مع السلطة الكافرة من أجل إسقاطها تمهيداً لإقامة حكم الإسلام.

ويستند القائد، كما يبدو، في اتخاذ قراره والخطوات المترتبة عليه، إلى فهم دقيق لطبيعة النظام العراقي القائمة على البطش والارهاب وكبت الحريات السياسية (وهذه حال كل نظام مرتبط يفتقر إلى التأييد الشعبي، ويعتمد بقاؤه على استمرار الأسناد الخارجي من قبل أسياده).. ثم إلى فهم طبيعة المجتمع بفئاته المختلفة، والذي أثرت عهود الاضطهاد السياسي المتتالية فضلاً عن غياب العمل السياسي الجماهيري، على سرعة استجابته لنداء التغيير السياسي.. وإن كان مهيأ وقابلاً للثورة مع توفر أداة وشروط التحريك الثوري..

إذ يتزايد وعية لحقيقة النظام، وتتصاعد. نقمته ضده يوماً بعد يوم.. خاصة مع ازدياد ممارساته القمعية وضلوعه بشكل أوضح في المخططات الاستعمارية التآمرية على الإسلام.. ودولة الإسلام.

كما يتزايد الالتفاف الشعبي من جهة ثانية حول البديل الإسلامي الذي تطرحه المرجعية الواعية والطلائع المجاهدة.. ويتأكد ايمان الشعب العراقي المسلم بهذا البديل وهو يرى بدايات تطبيقه على أرضه ايران الثورة…

لذلك، وضمن هذا الفهم، فقد توجه القائد الشهيد إلى تحقيق الأمور التالية:

(1) كسر حاجز الخوف الارهابي الذي أقامته السلطة في وجه كل عمل سياسي جماهيري يعارضها أولا يتفق وسياستها. وكانت خطوة البداية في هذا المجال..مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران..بإعلان القائد عن تعاطفه والتحامه معها، ووراء قيادتها.. على رغم معارضة السلطة الشديد لمثل هذا التوجه.

(2) وقد أرسل القائد الشهيد أكثر من برقية تأييدية إلى قائد الإمام الخميني حفظه الله..كما أعد دراسة بعنوان: لمحة فقهية عن دستور الدولة الإسلامية في إيران..يهاجم في مقدمتها النظام العراقي بشكل شبه سافر حيث يقول:

«وهذا النور الجديد الذي قدر للشعب الإيراني أن يحمله إلى العالم سوف يعري أيضاً تلك الأنظمة التي حملت اسم الإسلام زوراً بنفس الدرجة التي يدين فيها الأنظمة التي رفضت الإسلام».

(2) ويتصل بإعلان التلاحم مع الثورة الإسلامية في إيران، ومبايعة قائدها الإمام الخميني..تحقيق أمر آخر.. وهو تصعيد الروح الثورية لدى الشعب العراقي المسلم عبر دفعه إلى تمثل هذه الثورة..وإلفاته إلى قدرة الشعب الأعزل المتسلح بالإيمان على إلحاق الهزيمة المنكرة بأعتى أسلحة الفتك والدمار.

(3) البدء في ممارسة العزل السياسي ضد السلطة الكافرة ومن يتصل بها.عبر إصدار الفتوى علناً بحرمة الانتماء إلى حزب البعث الحاكم..ثم حرمة الصلاة وراء المرتزقة الذين دفعتهم مخابرات السلطة لإقامة الصلاة في المساجد..توهماً منها بإمكانية تطويق الوظيفة الجهادية للمسجد.. وانتزع هذا السلام التعبوي الهام من أيدي المجاهدين.

(4) التصريح الشرعي ببدء العلميات الجهادية المسلحة ضد أجهزة النظام ورموزه…من أجل إرباكه، وإضعافه من الداخل..وتكتسب هذه الخطوة أهميتها، من ملاحظة نتائجها المترقبة في شل القبضة القمعية للسلطة تدريجياً.مما يجعلها عاجزة عن الوقوف في وجه حركة الجماهير المسلمة المتصاعدة.

..وتصاب السلطة بالذهول والخوف..وتمارس أنواع المضايقات على القائد..وعلى المجاهدين الإسلاميين..فيفصح سماحته عن رغبته في مغادرة العراق..أولاً كتعبير إعلامي عن احتجاجه على مضايقات السلطة..ثم من جهة ثانية كي يتاح له المجال أكثر لقيادة الحركة الإسلامية المعارضة وتوجيهها من الخارج، أمام صعوبة قيامه بذلك وسط مناخ الحصار الشديد في الداخل.

ويرسل قائد الأمة الإمام الخميني برقية إلى القائد الشهيد يتمنى عليه فيها البقاء في العراق على رغم كل المضايقات..فيلتزم سماحته بالبقاء..وتحقق الخطوة دورها الاعلامي..

وتتقاطر الوفود الشعبية إلى داره في النجف من مختلف أنحاء البلاد معلنة مبايعتها له قائداً للمسلمين في العراق. ويلجأ زبانية البعث كعادتهم إلى لغة الإرهاب والقمع، فيعمدوا إلى اعقتال عدد كبير من أعضاء الوفود. ثم يتبعوا ذلك باعتقال سماحة القائد الشهيد لفترة قصيرة.. كوسيلة للابتزاز والضغط توهماً منهم بامكانية ثنيه عن موقفه.. ثم يضطروا أمام الخوف من غضبة الجماهير للافراج عنه..وتعود الوفود الشعبية إلى التقاطر من جديد..

وأمام فشل السلطة في مجابهة الالتفاذ الجماهيري العلني المتعاظم حول القائد وخشيتها من نتائج ذلك..تعمد إلى فرض الإقامة الجبرية عليه في منزله ولمدة تسعة أشهر كاملة.

وتشهد هذه الفترة أحداثاً وتطورات هامة على صعيد المواجهة بين دولة الإسلام في ايران وبين القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية..ويتحول النظام العراقي ، في التخطيط الاستعماري إلى رأس الحرمة المباشر ضد إيران..وتتفق إرادة كل من بريطانيا صاحبة النفوذ الأساسي فيه مع إرادة الولايات المتحدة الامريكية على دعمه وإسناده مقابل ضلوعه بالدور التخريبي ضد الدولة الإسلامية.

ويترافق ذلك مع تصاعد الثورة الإسلامية في العراق. وشمولها لمختلف أنحائه.وقدرتها على توجيه ضربات عسكرية مباشرة لبعض أركان النظام.

ويسيطر الارتباك على السلطة..وتأتيها النصيحة من أسيادها، بضرورة التعلم من الدرس الإيراني..وسرعة استباق الأمور قبل فوات الأوان وذلك بالتعامل مع المد الإسلامي في العراق..فيعتقل من بيته في ساعة متأخرة من الليل..ويؤتي به الى بغداد..حيث يخير بين أمرين لا ثالث لها: إما التراجع عن خطه الجهادي، وإعلان التبرؤ من الحكم الاسلامي في إيران..وإما مواجهة الإعدام..

ويأبى شرف القائد والتزامه الجهادي، أن يختار على الشهادة بديلاً..معلناً بكل ثبات وإباء:«اذا كان ضمير الشعب العراقي المسلم يحتاج إلى سفك دمي حتى يتحرك فإنني على استعداد لذلك».

ويختتم حياته الحافلة بالجهاد والعطاء.. بأقصى درجات العطاء.. ويبقى بعد استشهاده، كما كان في حياته رمز الثورة اللاهب، وضميرها الملهم والمحرك..إلى أن يندك عرض الطواغيت وبأذن الله بنصره..وما يوم الظالمين ببعيد.

مجلة المنطلق