نظرية الدولة عند الامام الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

عندما يجري الحديث حول نظرية الدولة في الشريعة الإسلامية، ينبغي لنا ان نفرّق بين مستويين:

المستوى الاول: تصوّر دولة يقودها المعصوم (ع) ـ نبيا أو اماما، كما جرى على عهد رسول الله (ص) الذي اسس اول دولة اسلامية في المدينة المنورة فور هجرته من مكة المكرمة، وقاد تلك الدولة حتى وفاته، ومن بعد ذلك دولة وصيه الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) الذي تسلّم زمام السلطة الفعلية ـ دينياً وزمنياً ـ بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ولمدة حوالي اربع سنوات وبضعة شعور انتهت بشهادته في مسجد الكوفة على يد ابن ملجم، ومن بعده ولده الامام الحسن (ع) الذي مارس اعمال السلطة شهورا معدودة بدأت ببيعته في الكوفة بعد شهادة ابيه الامام علي (ع) وانتهت بعقد الصلح مع معاوية بن ابى سفيان.

ان الظروف التي عاشها ائمة اهل البيت (ع) لم تسمح لهم بممارسة السلطة الفعلية وادارة شؤون الدولة باستثناء تلك الفترات القصيرة. فان هذا المستوى من الدولة والسلطة المعصومة لا يدخل ضمن نطاق البحث الفقهي الا بمقدار ما يتم التعرض له من الحديث عن مظاهر سياسية اقترنت بدولة المعصوم(ع)، أو مسألة الخلافة عن رسول الله (ص)، أو ملابسات الصلح وعقد الهدنة بين الامام الحسن (ع) ومعاوية، أو بحث فكرة الدولة العالمية للامام المنتظر الموعود المهدي (ع). اما المحاولات التي سعت إلى تقنين انشطة المعصوم (ع) واجهزته الحكومية فلا تعدو كونها قراءات لممارسته السلطة وبحثا في سنته ـ بما هي قوله وفعله وتقريره…

المستوى الثاني: تصور دولة تسير على هدي المعصومين (ع) الا انها قائمة في زمن الغيبة، وهذا المستوى هو المقصود في نطاق بحثنا الذي نشير ـ ابتداءً ـ إلى انّه يتحرك ضمن اطار مدرسة اهل البيت (ع)، فان للمدارس الإسلامية الاخرى ومناهجها بحوثا تتحرك على انحاء اخرى من البحث والدراسة.

ومن البديهي القول: ان مسألة الحكومة لا تختص بزمان حضور المعصوم (ع) فحسب، وانما تشمل عهدي الحضور والغيبة على حد سواء، لان احكام الشريعة الإسلامية قد وضعها الشارع المقدس لكي يجري تطبيقها، والجانب الاكبر من هذه الاحكام ـ كالحدود والتعزيرات وما إلى ذلك ـ لا يمكن تنفيذه من دون قيام سلطة تتولى اجراءه، وذلك مما لا يختص بزمان معين دون غيره من الامنة[1].

إننا نعتقد ان الدولة ـ كنظرية ـ لم تحظ بالدراسة الكافية إلاّ ما ندر من كتابات بعض الفقهاء والتي لا تعدو كونها اشارات إلى رؤى فقهية غير مبوبة. ان هذا الفراغ في مجال فقه الدولة لا يعود إلى فراغ في الاسس والمباحث بقدر ما يعود إلى اسباب تاريخية بحتة[2] لعل في مقدمتها انحسار مدرسة اهل البيت (ع) عن مزاولة اعمال السلطة وانحصارها بيد الاتجاه الاخر، فضلا عن الاضطهاد الذي كانوا يلقونه على يد حكام الجور.

وعلى مدى مراحل المرجعية الدينية (التي تمثل امتدادا فكرياً وسياسياً للامامة)[3] نجد تصديا من لدن الكثير من علمائنا الاعلام ـ رضوان الله عليهم ـ في الحقل السياسي، ولكن ذلك لم يكن يتعدى قيادة جهاد المسلمين لمقاومة المستعمر الكافر أو الحاكم الجائر، فضلا عن الاعتقاد السائد بعدم جواز القيام بالامر في زمن غيبة الامام المعصوم (ع)، استنادا إلى التفسير الخاطىء للحديث الوارد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) الذي يقول: «ما خرج ولا يخرج من اهل البيت إلى قيام قائمنا احد ليدفع ظلما أو ينعش حقا الا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»[4].

ولذلك فان التصدي لاستعادة السلطة من الحكام الظالمين واقام النظام الاسلامي يكاد يكون مميزا لعلمين من اعلام المرجعية في قرننا الحالي، هما الامام الخميني والامام الشهيد الصدر ـ رضوان الله عليهما ـ وقد نجح الامام الخميني (رحمه الله) في تأسيس اول دولة اسلامية حديثة عام 1979 والتي يعتبر بعض الباحثين ان للشهيد الصدر (رض) فضلا في المشاركة في تأسيسها اذ يقول: «.. ولا يقل عن هذا اهمية دور باقر الصدر كأحد الاباء الفكريين للدستور الاسلامي الايراني، وان يكون هذا الدور مجهولا نسبيا. والواقع ان الدلائل تشير إلى ان «اية الله» العربي هذا قد ساهم بشكل ملموس في تشكيل الاطار المذهبي ـ يقصد: المدرسي أو المنهجي ـ للنظام الاسلامي في ايران»[5] ويتابع: و«تعكس مؤلفاته التزاما مذهبيا واضحا بالدولة الإسلامية وبالمحافظة عليها كانت صياغات باقر الصدر النظرية والسياسية ذات اثر قوي في تأييد موقف الخميني بشأن الدور المسيطر للفقيه في الدولة الإسلامية. حقاً، كان باقر الصدر يسعى، من خلال ما يكتب، إلى التدخل في الصراع السياسي الدائر في ايران عام 1979 بين مؤيدي الخميني ومعارضيه في اصراره على دستور يقرر ولاية الفقهية. فدور المرجع، عند باقر الصدر و«ولاية الفقيه» عند الخميني مترادفان نظرياً وتطبيقياً، وهما يمثلان قمة بارزة في تطور الفكر السياسي الشيعي وتطبيقه الذي بدأ متأخرا حوالي منتصف القرن التاسع عشر. ومن الواضح ان باقر الصدر قد قدّم نظرية متكاملة للثورة الإسلامية والاجتماعية من اجل اقامة حكومة اسلامية تحققت على يد الخميني»[6].

لقد اغتالت الخصومة للاسلام ـ ممثلة بحزب البعث الحاكم في العراق ـ شهيدنا الصدر (رض) ولم تمهله لاستكمال تحقيق الهدف الذي كرّس حياته الشريفة من اجل بلوغه، حيث سعى (رض) إلى تقديم الصورة الكاملة للإسلام باعتباره مبدأ يتكون من «عقيدة كاملة في الكون ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأمس واهم حاجتين للبشرية، وهما القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي»[7].

ان الدولة الإسلامية عند الشهيد الصدر (رض) كما هي ضرورة شرعية، فانها ضرورة حضارية[8] لانها «المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الاسلامي والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانيّة وانقاذه مما يعانيه من الوان التشتت والتبعية والضياع»[9]، ومن المتعذر تطبيق المشروع الحضاري الاسلامي بكامل ابعاده بدون قيام دولة اسلامية باعتبارها ذات علاقة عضوية مع المشروع الحضاري للاسلام بما هي المسؤولة عن تطبيقه في مختلف مجالات الحياة[10]. وان غياب الدولة الإسلامية يعني سقوط الحضارة الإسلامية وتخلّيها عن قيادة المجتمع، وبذلك ستتم عملية تفكك المجتمع الاسلامي، فتنهار الاُمّة وتندمج ذائبة مع العالم الكافر الذي غزاها[11].

لقد مثّل الشهيد الصدر (رض) نقلة نوعية بحركته في مسار المرجعية الدينية يوم دعا إلى اقامة الحكم الاسلامي في ذلك الجو السائد الذي كان يتسم بالركود، وقد مارس مختف الاساليب الممكنة لبلوغ هذا المقصد، وفي مقدمة ذلك تأسيسه للتنظيم الاسلامي ـ كوسيلة ضرورية، فقد اسس عام 1957 في (العراق) مع ثلة من العلماء والمفكرين الاسلاميين حزب الدعوة الإسلامية الذي يعدّ اول حزب اسلامي يسير على هدى مدرسة اهل البيت (ع) في الدعوة إلى التغيير واعادة الإسلام قائدا للحياة، واستمر في رعاية الحزب وتوجيهه إلى آخر عمره الشريف، وحتى بعد ان اضطرته الظروف إلى الانفصال عن قيادة تنظيم الحزب، ناهيك عن وضع اسسه الفكرية والحركية ومراحل عمله لبلوغ الاهداف الإسلامية[12]. كما إنّ كتاباته الفكرية والحركية الاخرى كانت ذات طابع خاص في التعامل مع الرسال الإسلامية كاطروحة الهية منقذة. ان حياته كلها كانت عملا دائبا في سبيل تنضيج المشروع الاسلامي الحضاري الذي يقود الحياة ويبني المجتمع ويؤسس الدولة على ضوء الإسلام.

لقد بحث الامام الشهيد الصدر مسألة الدولة الإسلامية من خلال كونها ذات تركيبة عقائدية، ومن خلال تركيبة الفرد المسلم المعاصر، فالدولة الإسلامية ـ لديه ـ تملك هدفا اسمى هو الله سبحانه وتعالى، فتقوم على اساس الايمان بالله تعالى وصفاته، «ولا تستنفد اهدافها لان كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرك في تجاه المطلق لا يتوقف. وهذا هو سر الطاقة الهائلة في هذه الدولة وقدرتها على التطور والابداع المستمر في مسيرة الإنسان نحو الله (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)[13] »[14].

ان الدولة الإسلامية تنمي كل الطاقات الخيرة لدى الإنسان وتوظفها في المسيرة الحضارية للانسانية وتحرره من الانشداد للدنيا، بما تحمل من اخلاقية، فترتفع بالانسان عن الهموم الصغيرة التي تفصله عن الله تعالى، وتجعله يعيش من اجل الهموم الكبيرة، بحيث تكون كل قواه وطاقاته معبأة للمعركة ضد التخلف، ومن ثم في المعركة الحضارية الشاملة. ـ وهذا ما سنتوفر عليه في فقرات لاحقة ان شاء الله.

في اوائل العقد السادس من قرننا العشرن وضع الشهيد الصدر صورة تفصيلية لهيكلية الدولة الإسلامية واهدافها ومهامها في «الاسس» الاربع والثلاثين التي كتبها لحزب الدعوة الإسلامية، ويعتقد بعض الباحثين[15] ان هذه الاسس مفقودة الان ما عدا الاسس الاحدى عشرة الاولى.

ولدى انتصار الثورة الإسلامية في ايران كتب الشهيد الصدر (رض) بحوثه التي جمعت في كتاب (الإسلام يقود الحياة) وبدأها بلمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، مبينا المبادىء التي ينبغي لدولة الإسلام ان تقوم عليها، وموضحا بعضا من اهدافها، ومُفرداً بحثا خاصا حول منابع القدرة فيها.

ان الشهيد الصدر لم يتمكن من وضع نظرية كاملة مقننة حول الدولة، على انّه اشبع الموضوع بحثا ودراسة في الاراء والرؤى الفكرية التي توزعت على كتاباته المختلفة، وان اختصت بعضها بالموضوع ـ كما في (الإسلام يقود الحياة)، ورغم انّه حاول بحث المسالة في كتاب (مجتمعنا) الذي شاءت رغبة قرائه الملحّة ان يؤجل صـدوره[16] وكـان ذلك في اوائل حياته عندما كان يرى بأن الشورى اساس الحكم الاسلامي، وقد عاود إلى اعطاء جملة من ارائه وافكاره الدستورية تلبية لحاجة فعلية قائمة في الاجابة على السؤال الذي وجهه إليه جمع من علماء لبنان حول دستور الجمهورية الإسلامية ناظراً إلى متطلبات المرحلة ضمن المبادىء العامة للشريعة الإسلامية. ان القدر قد حال بينه وبين رغبته في تحقيق هذا الامر اذ عالجته الشهادة، ولا ندري فلعله خلال فترة الاقامة الجبرية كان قد باشر بحث نظرية الدولة بشكل واسع الا ان ما كتبه خسرناه فيما صادرته السلطة الجائرة من نفحات فكره العبقري المبارك.

والملفت للنظر ان الشهيد الصدر قد امتاز بموضوعية لا نظير لها في مقام البحث العلمي اذ لم يمنعه رأي سابق عن تغييره ما دام الدليل قائما على بطلانه واحقية رأي آخر، ولذلك فلا عجب ان يتغير رأيه في اساس الحكم ثلاث مرات، حيث كان في بادىء امره يؤمن بالشورى اساسا للحكم الاسلامي، ثم عدل عن رأيه إلى القول بولاية الفقيه، ثم استقر على المزج بين ولاية الفقيه والشورى[17].

في نشأة الدولة:

يجمع المفكرون ـ اسلاميين وغيرهم ـ على ان فكرة الدولة لم تكن معروفة عند الإنسان القديم، الا انهم يفترقون في تفسير المسألة، اذ يذهب الفكر غير الاسلامي ـ وفي اتجاهات متعددة ـ إلى ان الافراد لكونهم احراراً ومتساوين في الحقوق لم يكن للسلطة في جماعاتهم البدائية وجود، ولكن القائلين بهذه النظرية يذهبون إلى ان السمة السائدة في تلك المرحلة هي حالة الفوضى والخوف وسيطرة الاقوياء، ويذهب بعضهم من دعاة القانون الطبيعي إلى ان خضوعهم كان لنواميس طبيعية[18].

أمّا، كيف نشأت الدولة؟

فان هذا السؤال تتعدد النظريات للاجابة عليه، فمنها ما يقول بالتفويض الالهي حيث تعبر نشوء الدول القديمة في مصر واليونان والهند والصين وفارس كان قائما على زعم الحكام بانهم الهة أو يستمدون سلطتهم السياسية من الله. بينما ترى نظرية العقد الاجتماعي ان اساس ظهور الجماعة السياسية بموجب عقد اجتماعي تم بين افراد الناس ـ من جهة ـ وبين شخص وهمي يفترضونه ـ من جهة اخرى ـ أو مع انفسهم بوصفهم الجماعة السياسية المستقبلية. ويعتقد اصحاب نظرية التطور العائلي ـ وانطلاقا من عقيدة دينية ـ ان الدولة هي تطور لسلطة العائلة، وان اول عائلة على الارض (آدم وحواء) تكاثرت إلى عوائل وعشائر ثم قبائل سكنت المدن وكوّنت الامم وانشأت الدول. وتفترض نظرية القوة ان نشوء الدولة قامت لتفسير نشأة الدولة على اساس من التلفيق بين عدد من العوامل التي ادت إلى ظهور الجماعة السياسية[19].

إن كل هذه النظريات انما هي تعبير عن التأثير بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الفكر وبالظروف والعوامل التي تحيط به، بل انها قد تصدر كرد فعل للاحداث والنظم السياسية، أو لتأييد ودعم شكل من اشكال السلطة القائمة، أو تطويراً أو تحويراً لتجارب وأفكار سياسية قديمة[20].

والإسلام اذ يرفض هذه النظريات يقررّ ان حالة الفطرة هي التي كانت سائدة في الحياة الاولى للبشرية[21]. فقد كان البشر امة واحدة يعيش احدهم وهو يشعر بكونه جزءا من الجماعة الفطرية من دون احساس بالحاجة إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية (كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في امور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء»[22].

يقول تعالى:

(كان الناس امة واحدة).[23]

(وما كان الناس الا امة واحدة).[24]

فالفكر الاسلامي يعتقد ان اختلاف الناس هو الذي حدا بانبياء الله ـ عليهم السلام ـ ان يؤسسوا الدولة، ولئن كان البعض[25] يقول: لعل الحكومة ومقرراتها بسذاجتها كانت من جملة البرامج التي اتى بها الانبياء ـ عليهم السلام ـ من ناحية الوحي، حسب حاجة الإنسان اليها بطبعه وذاته، فان الشهيد الصدر يجزم بان الدولة ظاهرة اجتماعية اصيلة نشأت على يد الانبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال انجازات الانبياء ـ عليهم السلام ـ على صعيد التنظيم الاجتماعي القائم على الحق والعدل ضمن مسار الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح[26]. ولذلك، فان الشهيد الصدر يثبت رفض الإسلام القاطع لكل النظريات التي تحيد عن تقرير كون الدولة ظاهرة نبوية هي عبارة عن تصعيد للعمل النبوي[27]. وفي الحديث عن رسول الله(ص): «كانت بنو اسرائيل تسوسهم الانبياء كلما هلك نبي خلفه نبي»[28]، على انّه يجعل منشأ الدولة والسلطة السياسية من الله سبحانه وتعالى على يد انبيائه الكرام (ع) لا يتفق مع نظرة التفويض الالهي، فالانبياء (ع) لم يدعوا الالوهية لانفسهم ولم يزعموا انهم فوق البشر.

(قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم).[29]

(قل انما انا بشكر مثلكم).[30]

(ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول كونوا عبادا لي من دون الله).[31]

(وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أانت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي ان اقول ما ليس لي بحق)[32] فالانبياء (ع) دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ووضعوا البشرية على مسارها الصحيح بناء على ان الله تعالى منح الحق في الحكم للانبياء (ع) بصفة تشريعية: (ان تحكم بين الناس بما اراك الله)[33]، بينما يرى اصحاب نظرية التفويض الالهي ان هذا الحق معطى من الله تكوينيا[34]، وبذلك فان السيادة محصورة بالله سبحانه وتعالى على خلاف الذين طغوا في بلاد الله واستذلوا عباده تحت عنوان السيادة الاسمية لله، لكي يحتكروها في الواقع وينصبوا من انفسهم خلفاء لله على الارض[35].

يقول الشهيد الصدر: «ان الناس كانوا امة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحّد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محدّدة وحاجات بسيطة، ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات، وبرزت الامكانات المتفاوتة واتسعت افاق النظر، وتنوعت التطلعات، وتعقدت الحاجات، منشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، واصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق، وتجسّد العدل وتضمن استمرار وحدة الناس في اطار سليم، وتصب كل تلك القابليات والامكانات التي نمتها التجربة الإجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار، بدلا عن ان يكون مصدرا للتناقض، واساسا للصراع والاستغلال، وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الانبياء، وقام الانبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة اسسها وقواعدها»[36].

قال تعالى:

(كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه ان الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).[37]

السيادة

ان فكرة السيادة ـ كما يقرر فقهاء القانون الوضعي[38] ـ هي فكرة مركبة، بمعنى: انّه يمكن التعاطي معها على صعيد القانون الداخلي وعلى صعيد القانون الدولي، وقد بدأت فكرة السيادة ـ في رأيهم ـ في اطار سياسي، ثم تحولت إلى مفهوم قانوني بالتدريج.ويؤكد المفهوم السياسي للسيادة ان الدولة منعتقة من كل نوع من انواع التبعية تجاه اية سلطة غير سلطتها. وهذا ما يقابل مفهوم الاستقلال، وعنه يتفرع عدد من المبادىء، من بينها مبدأ عدم التدخل، ولما في نظرية السيادة ـ الاستقلال من عيب مؤداه عدم اعطاء مفهوم لمحتوى السلطة السيادية للدولة، فقد استعان الفقه الوضعي بمفهوم قانوني للفكرة يقضي بان السيادة تعني ملك السلطات الحكومية ويتيح هذا المفهوم القانوني في نفس الوقت قابلية انقسام السيادة وتوزيعها، بحيث تقسم الاعمال الحكومية بين عدد من الهيئات، وهو ما يعبّر عنه بالسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، على ان ذلك يجب ان لا يعني ـ باية حال من الاحوال ـ تعدد السلطات في داخل الدولة أو تناقضها، فما هذه السلطات الثلاث الا تعبير عن هيئات لسلطة سياسية واحدة[39].

وفي الواقع يعجز الفقه الوضعي عن اعطاء تفسير لامتلاك الدولة للسيادة، وتتشعب الاراء والاتجاهات والنظريات. وعند بحث فقهاء القانون لمسألة الحكم يقفون حيارى في اعطاء اجابة شافية للسؤال القائل: لماذا يصبح بعض الاشخاص حكاما على اشخاص آخرين هم المحكومون؟

يرى هوريو[40] ان السلطة قوّة ارادة تتيح للذين يتولون حكم جماعة من الناس ان يفرضوا انفسهم بفعل تأثير مزدوج للقوة والكفاءة، ويذهب اخرون[41] إلى ان القبض على القوة العسكرية أو التمتع بالقوة البدنية يمكن ان يكون سببا في امساك السلطة رغم اعتبار ان القوة العسكرية كالبدنية اساس بدائي من اسس السلطة لا يظهر الا في المجتمعات المتخلفة، فيضطر هؤلاء إلى اضافة عوامل اخرى كالكفاءة الشخصية والهيبة والظروف الاجتماعية، وفي مقدمة كل ذلك يعتبرون العامل الاقتصادي من اهم وابرز الاسباب[42].

اما الفكر والفقه الاسلامي فانه يعطي تفسيرا واضحا للسيادة بان يحصرها في رب الناس، ويمنع اية عبودية لغير الله سبحانه وتعالى ويضع الولاية والقيمومة للتشريع الالهي الذي يستطيع وحده ان ينهض بتنظيم الاجتماع الانساني[43].

(ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون)[44].

فالدولة الإسلامية ـ كنظام ـ تنبثق عن كون السيادة منحصرة في الله سبحانه وتعالى، بحيث يكون الناس جميعا سواسية امام الله بتركيز مفهوم التوحيد وعدم الخضوع لاي نوع من انواع العبودية غير الالهية (ان الذين تدعون من دون الله عباد امثالكم)[45] ، وذلك ان الله تعالى وحده هو رب الإنسان ومربيه وصاحب الحق في تنظيم منهاج حياته، وليس لفرد أو جماعة الحكم من دون الله[46]. وعلى هذا، فان الجماعة البشرية تنتمي إلى محور واحد هو الله سبحانه وتعالى[47] قال تعالى: (أارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار).[48]

يقول الشهيد الصدر: «ان الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً». وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر اعظم ثورة شنّها الانبياء ومارسوها في معركتهم من اجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان.

وتعني هذه الحقيق ان الإنسان حر، ولا سيادة لانسان اخر، أو لطبقة، أو لاي مجموعة بشرية عليه، وانما السيادة لله وحده، وبهذا يوضع حدّ نهائي لكل الوان التحكم واشكال الاستقلال وسيطرة الإنسان على الإنسان.

وهذه السيادة لله تعالى التي دعا اليها الانبياء تحت شعار (لا اله الا الله) تختلف اختلافا اساسيا عن الحق الالهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قرونا من الزمن للتحكم والسيطرة على الاخرين، فان هؤلاء وضعوا السيادة اسميا لله لكي يحتكروها واقعيا وينصبوا من انفسهم خلفاء لله على الارض.

واما الانبياء والسائرون في موكب التحرير الذي قاده هؤلاء الانبياء والامناء من خلفائهم وقواعدهم، فقد آمنوا بهذه السيادة وحرّروا بها انفسهم والإنسانيّة من الوهية الإنسان بكل اشكالها المزورة على مر التاريخ، لانهم اعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعي المحدّد المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء، فلم يعد بالامكان ان تستغل لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة الهية.

وما دام الله تعالى هو مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدّد عن الله تعالى، فمن الطبيعي ان تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية»[49].

ان التوحيد هو جوهر العقيدة الإسلامية، وبالتوحيد يحرر الإسلام الإنسان من عبودية غير الله، وهو تحرير الإنسان من داخل[50]، وبذلك فلا يخضع الإنسان الا إلى شرع الله، فالشريعة الإسلامية تكون هي مصدر التشريع ومنها يستمد الدستور الذي تسير على هدي مبادئه الدولة وتشرع على ضوئه القوانين. ويفصّل الشهيد الصدر ذلك، فيقول:

«وذلك على النحو التالي:

اولاً: ان احكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور سواء نص عليه صريحا في وثيقة الدستور ام لا.

ثانياً: ان اي موقف للشريعة يحتوي على اكثر من اجتهاد يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظلّ اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكلا إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الاُمّة على ضوء المصلحة العامة.

ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو ايجاب يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الاُمّة ان تسنّ من القوانين ما تراه صالحا على ان لا يتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فان من حق السلطة التشريعية ان تفرض عليه موقفا معينا وفقا لما تقدره من المصالح العامة على ان لا يتعارض مع الدستور…[51]

من يمارس السلطة؟

لما تقدم، فان الاُمّة تكون صاحبة الحق في ممارسة السلطة طبقا للشريعة الإسلامية بعد تقرير كون السيادة لله دون غيره وانّه لا ولاية بالاصل الا لله تعالى[52] والاُمّة في ممارسة السلطة لا تمتلك السلطان، وانما هي مسؤولية امام الله تعالى.

قال تعالى: (انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان انّه كان ظلوماً جهولاً)[53].

(اولاً: يعود إلى الاُمّة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد ان يتم ترشيحه من المرجعية (…) ويتولى الرئيس المنتخب بعد ذلك بنفسه تكوين اعضاء حكومته.

ثانياً: ينبثق عن الاُمّة بالانتخاب المباشر مجلس، وهو مجلس اهل الحل والعقد»[54].

ان مهمة هذا المجلس تتحدد فيما يلي:

«اولاً: اقرار اعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية لمساعدته في ممارسة السلطة.

ثانياً: تحديد احد البدائل من الاجتهادات المشروعة.

ثالثاً: ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة.

رابعاً: الاشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها»[55].

ان الاُمّة بما هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الامانة فان افرادها جميعاً متساوون في هذا الحق امام القانون، ويمتلك كل منهم الحرية في التبعير عن ارائه وافكاره، وله ان يمارس العمل السياسي بمختلف أشكاله[56].

ان الاُمّة تمارس السلطة التنفيذية من خلال انتخاب رئيس هذه السلطة، وتمارس السلطة التشريعية من خلال انتخاب المجلس، وتمارس الرقابة (الدستورية) على السلطة التنفيذية من خلال المجلس أيضاً  وبذلك فان الخلافة العامة للامة[57]. وتقوم هذه الخلافة العامة على اساس قاعدة الشورى ضم اطار الاشراف والرقابة الدستورية العليا من قبل نائب الامام وهو المرجع المتصدي لادارة شؤون الاُمّة فكرياً واجتماعياً وسياسياً.

اما المرجعية، فهي المعبّر الشرعي عن الإسلام باعتبار ان المرجع هو النائب العام عن الامام (ع) من الناحية الشرعية، فيكون الممثل الاعلى للدولة وقائد الجيش، وهو الذي يرشح أو يمضي ترشيح الافراد المتقدمي لرئاسة السلطة التنفيذية، كتأكيد على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلا له على تقدير انتخابه. ان المرجعية تضطلع بتعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية، والبت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس اهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ إلى غير ذلك من المهام التي تقوم بها المرجعية[58].

ونرى أنّ ما ذكره الشهيد الصدر في صدد تعداد مهام المرجعية لا يمثل حصراً لهذه المهام، وانما اورده على سبيل المثال، ويتضح ذلك جلياً من نصّه (رض) على ان يتألف مجلس المرجعية (الذي تمارس المرجعية اعمالها من خلاله) من مائة شخص على ان لا يقل عدد المجتهدين فيه عن عشرة. ان هذا العدد ينظر إلى حاجة المرحلة، والا فان العدد يزيد أو ينقص تبعا للظروف المحيطة.

ان مهمة المرجعية في اساسها هي «النيابة العامة للمجتهد المطلق العادل الكفوء عن الامام وفقا لقول امام العصر عليه السلام: «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة احاديثنا فانهم حجتى عليكم وانا حجة الله» فان هذا النص يدل على انهم المرجع في كل الحوادث الواقعية بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة، لان الرجوع اليهم بما هم رواة احاديثهم وحملة الشريعة يعطيهم الولاية بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة وحق الاشراف الكامل من هذه الزاوية»[59].

ان مسؤولية المرجع ـ في زمن الغيبة ـ هي الشهادة كامتداد للنبوة والامامة على هذا الخط الذي تميز عن خط الخلافة بسبب الغيبة الكبرى للامام المهدي (ع) بعد ان كان هذان الخطان مندمجين في شخص المعصوم (ع) القادر على ممارسة الخطين معاً، فيفترض في المرجع ان يحافظ على الشريعة والرسالة وان يكون في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه وفي اجتهاده هو المقياس الموضوعي للامة، فتحدد المرجعية الطابع الاسلامي للعناصر الثابتة والعناصر الاخرى المتحركة الزمنية على حدّ سواء، حيث ان المرجع هو الممثل الاعلى للايديولوجية الإسلامية، ناهيك عن دور الاشراف والرقابة لمنع الانحراف ولصيانة المبادىء العامة لخلافة الإنسان على الارض[60].

والمرجع معيّن من قبل الله تعالى بالشروط العامة المفترضة، ومعيّن من قبل الاُمّة بالشخص الذي تقع عليه مسؤولية الاختيار الواعي للامة[61]، وهذه الشروط هي:

«اولاً: صفات المرجع الديني من الاجتهاد المطلق والعدالة والكفاءة.

ثانياً: ان يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وابحاثه واضحا في الايمان بالدولة الإسلامية وضرورة حمايتها.

ثالثاً: ان تكون مرجعيته بالفعل في الاُمّة بالطرق الطبيعية المتبعة تاريخياً.

رابعأً: ان يرشحه اكثرية اعضاء مجلس المرجعية ويؤيد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية ـ يحدد دستوريا ـ كعلماء وطلبة في الحوزة وعلماء وكلاء وائمة مساجد وخطباء ومؤلفين ومفكرين اسلاميين.

وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط يعود إلى الاُمّة امر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام»[62].

ومن خلال هذا النقص يتضح أيضاً دور الاُمّة في تعيين المرجع، فهي انتخبته فعليا من خلال الشرط الثالث، ولها دور اخر في حالة تعدد المرجعيات المتكافئة، وذلك عبر الاستفتاء الشعبي العام.

ان الاُمّة إذا ما كانت محكومة للطاغوت ومقصية عن حقها في الخلافة العامة، فان ممارسة هذا الحق تندمج مع ممارسة المرجع لخط الشهادة، ولا يتمثل الامر حينئذ عمليا الا في نطاق ضيق محدود، وضمن تصرفات الاشخاص، وذلك من اجل ان يرتقي المرجع بالامة إلى تسلّم حقها في الخلافة العامة. وعندما ما تتحرر الاُمّة فانها هي التي ستمارس القيادة السياسية والاجتماعية بتطبيق احكام الله تعالى وعلى اساس ركائز الاستخلاف الرباني[63].

وتتمثل ركائز الاستخلاف في كونها انتماء من الجماعة البشرية إلى محور واحد هو المستخلف (الله سبحانه وتعالى)، واقامة العلاقات الاجتماعية على اساس العبودية الخالصة لله وتحرير الإنسان من العبوديات الاخرى، وتجسيد روح الاخوة العامة في العلاقات الاجتماعية، وكون الخلافة استئمانا للقيام بالمسؤولية[64].

ويستنتج الشهيد الصدر دور الخلافة العامة وايكاله إلى الاُمّة من قوله تعالى: (وامرهم شورى بينهم)[65] ، ومن قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[66]. حيث يعطي النص الاول للامة صلاحية ممارسة امورها عن طريق الشورى ما لم يرد نص على خلاف ذلك، فيما يقرر النص الثاني الولاية بان يكون كل مؤمن ولي الاخرين، والمستفاد من الولاية انها تولي الامور بقرينة تفريع الامر والنهي عليها، والظاهر ان الولاية تسري بصورة متساوية على كل المؤمنين والمؤمنات (الاُمّة)، ومن ذلك يستنتج الشهيد الصدر الاخذ بمبدأ الشورى وراي الاكثرية عند الاختلاف[67].

وحول علاقة الاُمّة بالمرجع يوضح الشهيد الصدر (رض) ان المرجع لا يمتلك الشهادة على الاُمّة فحسب، بل هو جزء منها أيضاً  فيحتل موقعا من الخلافة العامة، وبخاصة انّه من اوعى افراد الاُمّة واكثرهم عطاء ونزاهة، بالاضافة إلى ان له رأيه في المشاكل الزمنية والاوضاع السياسية بقدر ما له من وجود وامتداد اجتماعي وسياسي في الاُمّة  وبذلك فان المرجع يمارس دور الشهادة ـ من منطلق رباني ـ ودور الخلافة ـ من منطلق بشري اجتماعي..[68].

ويبدو ان الشهيد الصدر يذهب إلى ان مقدار ممارسة دور الخلافة يتوقف على مقدار ما للفرد من وجود وامتداد اجتماعي، مضافا إلى عناصر الوعي والعطاء والنزاهة، فيطّرد موقع الخلافة للفرد مع اطراد هذه العناصر بمعنى: اننا نفهم ذلك بانه معيار للكفاءة والتأثير في ممارسة دور الخلافة العامة.

شكل الدولة:

على مدى مراحل التاريخ المختلفة وجدت اشكال متعددة من الدول، وهي تختلف فيما بينها تبعا لتركيز السلطة، وانسياقا وراء الايديولوجية التي يتبناها الحاكم، فهناك الارستقراطية التي تعطي الحق لاقلية تتحكم بالناس من دون التقيد بالقانون، وهناك الملكية المقيدة التي تعبر وجودها المعاصر من المخلفات السياسية للاقطاع عندما كانت الملكية مطلقة. وقد ظهرت الملكية المقيدة (ويطلق عليها أيضاً الدستورية والبرلمانية) بعد ان عجز نظام الملكية المطلقة عن الاستجابة لمصالح البرجوازية التي عملت جاهدة على اقصاء طبقة النبلاء والاقطاعيين عن السلطة ونجحت في توسيع حقوق البرلمان وصلاحياته، ومن ابرز سماتها مسؤولية الحكومة امام البرلمان وعدم امتداد سلطة الملك إلى ميدان التشريع، حيث يتخذ البرلمان القوانين وحده وما على الملك الا ان يصادق عليها ـ من الناحية الشكلية فقط وليس له ان يعترض اذ لا يملك حق النقض (الفيتو)، كما ان سلطة الملك في مجال الادارة مقيدة أيضاً  فهو لا يملك حتى حرية اختيار الوزراء، فهو ملزم بتعيين رئيس الوزراء، وبناء على توصية الاخير يعينهم من بين اعضاء الحزب الذي يفوز باغلبية المقاعد في البرلمان، ومن اهم مميزات النظام الملكي المقيد الفصل التام بين السلطات.

والنوع الاخر من الانظمة هو النظام الرئاسي الذي تأخذ به غالبية الدول ذات النظام الجمهوري، وهذا النظام على عدة اشكال: النظام الرئاسي الجمهوري والبرلماني والمختلط.

في النظام الرئاسي الجمهوري تعود السلطة التشريعية إلى البرلمان، ويتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويعيّن الوزراء بغض النظر عن البرلمان الذي لا يمتلك حق سحب الثقة منهم، والوزراء ملزمون باتباع السياسة التي يراها الرئيس ويستمرون في مزاولة اعمالهم الحكومية ما داموا يتمتعون بثقة الرئيس، ويتم انتخاب الرئيس عادة من قبل الشعب بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، ويمتلك الرئيس عادة حق الاعتراض (الفيتو) ضد القوانين التي يرها البرلمان، ومن خلال هذا الحق يساهم في الوظيفة التشريعية اضافة إلى ترؤسه للسلطة التنفيذية. ومن الممكن ان يكون رئيس الجمهورية والوزراء من حزب والاغلبية البرلمانية من حزب آخر، الامر الذي ربما يؤدي إلى نزاعات حادة احيانا بين الحزبين الحاكم والمعارض (اي: بين الرئيس وحكومته من جهة والبرلمان من جهة اخرى)، ولا يملك الرئيس حق حل البرلمان كما لا يملك الاخير حق اقالته، وتحل النزاعات الحادة بينهما عن طريق اللجوء إلى اجراء انتخابات جديدة.

اما النظام الرئاسي البرلماني فانه يختلف عن سابقه في العلاقة بين هيئات السلطة العليا، حيث تعود السلطة التشريعية إلى البرلمان فيما يتولى الرئيس ادارة الدولة ورئيس الوزراء الحكومة، وعندما يعين الرئيس اعضاء الحكومة فانه غير مطلق الحرية حيث يتحتم عليه تعيين رئيس الوزراء والوزراء من بين الاشخاص الذين يحظون بثقة البرلمان وهم ممثلو الحزب الفائز بالاغلبية من مقاعد البرلمان، وفي حالة عدم احراز الحكومة الثقة المطلوبة في البرلمان فأمّا أن تستقيل الحكومة أو تطلب من الرئيس حلّ البرلمان واجراء انتخابات جديدة.

واما في النظام المختلط فان الرئيس لا يتولى من الناحية الشكلية رئاسة الحكومة وانما يراسها رئيس الوزراء، الا ان الرئيس هو صاحب الدور الاساسى والقيادي في هيئات الدولة ويمتلك حق الاعتراض (الفيتو) تجاه القوانين التي يسنها البرلمان وتكون الحكومة عادة مسؤولة امام البرلمان، فيضطر إلى الاستقالة مع حكومته فيما إذا سحبت الثقة منه، مما يؤدي إلى اجراء انتخابات جديدة بالطريق المباشر[69].

ان الدول الجمهورية في اشكال انظمتها الحكومية تتراوح بين هذه الانظمة، وقد تخلط فيما بينها استجابة لنوع العلاقة التي تريد بين هيئاتها، الا انها بالنتيجة تكون قد اقتربت من هذا النظام أو ذاك.

كما ان الدول يختلف شكلها من حيث كونها بسيطة أو مركبة، فالاولى هي ذات الكيان الوطني غير المجزء إلى اقاليم بامكان كل منها ان تكون دولة مستقلة لذاتها، اما الثانية فهي ما يعبر عنه بالاتحادية والفدرالية، وتتكون من مجموعة من الاقاليم التي يمكن لكل منها ان يشكل دولة مستقلة، وهذه الاقاليم تتنازل عن جزء من سلطتها لتكوّن فيما بينها اتحادا اشبه ما يكون بعقد الشركة[70].

اما الشريعة الإسلامية فانها لا تحدد شكلا معينا الا بما تفترضه من قانونية الدولة وشرعيتها، لا ينتظر من التشريع ان يحدد تشكيلات الحكومة ويعين الوسائل والاساليب لانها من الموضوعات التي لا يعود إليه تحديدها عادة، فوظيفة المشرع وضع الاحكام المناسبة لموضوعات بما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وبخاصة ان الموضوعات تخضع للمتغيرات الزمانية والمكانية والتطورات الحضارية. ان المنتظر من التشريع ان يحدده، هو اعطاء حكم يحدد نوعية الوسائل والاساليب لضمان مشروعيتها، اي: وضع خط عام للحكومة، وهو مالم يعدمه التشريع الاسلامي، اذ يفترض ذلك في اطار الاحكام الإسلامية العامة، بمعنى ان التشريع فرض اولاً: على المسلمين تحديد الموضوع، ومن ثم التماس حكم الشرعي ـ ثانياً، ولذلك تلاحظ متطلبات الظروف والملابسات المحيطة في وضع الدولة ما يحقق المصلحة ويبعد المفسدة وفي اطار الاحكام الإسلامية العامة[71].

وفي حالة توسّع المجتمع الاسلامي وشموله اقطارا متعددة، فهل يجب تكوين حكومة اسلامية واحدة، ام يجوز الاكتفاء بحكومات متعددة يحكم كل منها قطرا اسلاميا له حدوده الجغرافية وسماته المميزة ضمن الاطار الاسلامي العام، ام انّه يتعين حينئذ تكوين حكومة اتحادية مركزية تشرف على سير الحكومات الداخلية في هذه الاقطار؟

يرى بعض المفكرين الاسلاميين[72] ان هذه المسائل مما لا يستطيع الباحث ان يبت في جانب منه وانّه ليس في اصل الشريعة حكم ثابت لذلك، فيترك الامر لما تقتضيه مصلحة الوقت ونمط الحكومة والظروف الاجتماعية. ولكن اتجاها آخر[73] يذهب إلى انّه لا مجال للاختلاف والاجتهاد في هذه المسالة لارتباطها في نظرهم بالجزء الثابت من الدستور، فلا يمكن ان تؤثر الضرورات الاجتماعية على الحكم في هذه المسألة، ويعتقد اصحاب هذا الرأي ان الاتحاد الفدرالي لا يعني وحدة البلاد، وان وحدة الحكم في النظرية الإسلامية تعني وحدة الامامة والخلافة وتمركز الحكم في مركز اسلامي، على ان هذا الاتجاه لا يرى بأسا في استقلال الاقطار من حيث الادارة المحلية عن المركز الاسلامي شريطة ان لا ينطوي ذلك على افتراض وحدات سياسية وادارية وعسكرية مستقلة.

ان الفكر الاسلامي يرفض الانظمة الوضعية من ملكية وفردية وارستقراطية وما إلى ذلك، وتقترب الدولة الإسلامية فيه من حيث تحديد العلاقات بين السلطات من النظام الرئاسي، ولكن مع فوارق كبيرة عنه في ما هو مطبق في النظم الرأسمالية الديمقراطية التي تقوم على اساس الفصل التام والمحكم بين السلطات، وفي هذا الصدد يقول الامام الشهيد الصدر: «وتطرح ـ يعني: النظرية الإسلامية ـ شكلا لحكم يحتوي على كل النقاط الايجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية وضمانا لعدم الانحراف»[74]. ومن هذه الفوارق ان السيادة للامة في النظام الديمقراطي بينما السيادة لله سبحانه وتعالى في النظام الاسلامي والاُمّة هي محط الخلافة والمسؤولية أمام الله عزّوجل، وكذلك فان الدستور كله من وضع الإنسان في النظام الديمقراطي، وهو في افضل حالاته يعبّر عن تحكم الاكثرية في الاقلية، بينما تمثل الاجزاء الثابتة من الدستور الاسلامي شريعة الله تعالى وعدالته بما يضمه موضوعية الدستور وعدم تحيّزه[75] وحتى الاجزاء المرنة فانها تتحرك ضمن دائرة الخط العام الذي يضعه التشريع الالهي.

ولم يتطرق الشهيد الصدر بعد إلى تفاصيل الفروق فيما يتعلق بتنظيم السلطات وتحديد علاقاتها بين الصورة الإسلامية المقترحة والنظريات والتطبيقات الاخرى، مكتفيا بما اورده من الناحية النظرية من اقتراب النظام الاسلامي من النظام الرئاسي مع تأكيد الفوارق وايراد امثلة سريعة عليها، ومن الناحية التطبيقية اشار إلى ان «التطبيق العملي للحياة الإسلامية دائماً يفترض الدولة ممثلة في رئيس يستمد شرعية تمثيله من الدستور ـ النص الشرعي ـ أو من الاُمّة مباشرة ـ الانتخاب المباشر أو منهما معاً»[76].

ان شكل الحكومة الإسلامية في فكر الشهيد الصدر يقتضي ان تكون قانونية: «اي: تنفيذ بالقانون على اروع وجه، لان الشريعة تسيطر على الحاكم والمحكومين على السواء»[77].

ان حكومة الإسلام ليست مطلقة، بل دستورية، ولكن ليس بالمعنى الدستوري الغربي، وانما بمعنى ان الحكام ملزمون بالتقيد بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة وتطبيق احكام وقوانين الإسلام، «ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الالهي»[78].

مذهبية الدولة ومسؤولياتها:

في ضوء الايديولوجية التي تتبناها الدولة وتتحرك ضمن اطارها، تتحدد مسؤولياتها واهدافها التي تسعى إلى تحقيقها. وعلى العموم فان نظريتين رئيسيتين في الفكر غير الاسلامي هما اللتان تسير على هديهما الدول، وهاتان النظريتان تحددان اهداف الدولة من خلال وظائفها ومسؤولياتها، ويكون النظام السياسي لدولة ما مرتهناً للسير على ما يتبناه من احدى النظريتين، وقد تأخذ بعض الدول بمذهب مختلط يتم تلفيقه من كلتا النظريتين.

النظرية الاولى هي ما يطلق عليه بالمذهب الفردي أو عدم تدخل الدولة، ويرى القائلون بهذه النظرية ان وظائف الدولة يجب ان تضغط إلى الحد الاقصى الممكن من اجل ان تترك الحرية للافراد في تولي مختلف الشؤون التي تهمهم. اما النظرية الثانية، فهي ما يطلق عليه بالمذهب الاجتماعي أو مذهب تدخل الدولة، الذي يذهب اصحابه إلى ان مصلحة الافراد لا تتحقق الا عن طريق التوسع في اختصاصات الدولة، وذلك ضمانا للافراد مجتمعين أو منفردين.

النظريتان كلتاهما ترتبطان في الحقيقة بالفكر البرجوازي المعبّر عن مصالح فئة من الناس هي الطبقة الوسطى ـ في دول المعسكر الاشتراكي التي تهاوت مؤخراً ـ أو غيرها[79].

وفي مقابل هاتين الاطروحتين الوضعيتين، يؤكد الإسلام اطروحته في كون الحياة الاجتماعية تستوجب مساهمة كل فرد في الجماعة، بما اوتي من امكانات مادية أو معنوية في ادارة شؤون الحياة، ولابد لهذه المساهمة ان ينسى فيها الفرد بعضا من استقلاله وحريته متنازلا عن جزء من ذلك دون ان يفقد كل استقلاله وشخصيته، فان «وجود المجتمع لا ينفكّ عن وجود الافراد، ونسبة المجتمع إلى الافراد نسبة الصورة إلى المادة، ولا يمكن ان تتحقق هذه الصورة الجمعية بطبيعة الحال فيما لو زال اثر (الفردية) عن الوجود»[80].

«فالميزة الاساسية للنظام الاسلامي تتمثل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها. والخط العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرع لحسابه»[81].

ان الاساس يرفض وضع الفرد في مقابل المجتمع أو العكس، ولا يقيم وزنا للقول باصالة المجتمع وحده أو اصالة الفرد وحده، فمصالح الافراد مجتمعة هي التي تشكل المصلحة الاجتماعية.

ويؤمن الإسلام بمبدأ تدخل الدولة ولكن لا يتجاهل الفرد، فقيمة المصلحة الاجتماعية تتحدد بمقدار ما تنعكس على الافراد.

ان الدولة الإسلامية لا يقتصر تدخلها على مجرد تطبيق الاحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية وانما لها ان تملأ منطقة الفراغ بما ينظم العلاقات بين الافراد بالحدّ من بعض حرياتهم وفقاً للظروف وفي اطار المصلحة العليا للمجتمع الاسلامي المتكوّن من هؤلاء الافراد[82].

ان الإسلام يعي الحياة الاجتماعية ليس من الناحية الشكلية فحسب، وانما على اساس نظرة كلية شمولية للحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، ولذلك فان الإسلام عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للانسانية يحدد لها مسارها وهدفها الاعلى[83].

يقول الامام الشهيد الصدر في لمحته التمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية:

«ومن ناحية وظيفة الدولة نرفض اسلاميا المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق (اصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو اصالة المجتمع، ونؤمن بان وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع، وحمت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغيلياً مقابلا للفرد، بل بقدر ما يعبّر عن افراد وما يضم من جماهير تتطلب الحماية والرعاية»[84].

إن الهدف الذي يضعه الإسلام للانسان في حياته هو رضا الله سبحانه وتعالى: «والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الاعمال انما هو بمقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس»[85].

وفي ضوء هذا الهدف المقدس فان الشريعة الالهية الغراء تهدف إلى ان تزدهر وتسود القيم الحضارية الالهية في المجتمع من عدالة، وحرية ومساواة واقعية، وتوازن وتكافل اجتماعي، ووحدة، واخاء، ومقاومة للظلم والاستغلال والاستعباد، وذلك لادامة توجه الإنسان (المجتمع) في الحركة نحو الله تعالى بما يضمن الاستقرار للمجتمع الإنساني ويحقق له الرقي الحضاري[86].

وعلى هذا الاساس فان الدولة في الإسلام ليست سوى وسيلة يمكن من خلالها تحقيق الاهداف السامية عبر تنفيذ الاحكام الالهية واقرار النظام الاسلامي العادل، ولا يمكن اعتبارها هدفاً مقصوداً يطلب لذاته فانها عندئذ تتجرد عن اية قيمة واعتبار[87].

والدولة الإسلامية لا تستنفد اهدافها «لان كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرك في اتجاه المطلق لا يتوقف»[88]، قال تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً)[89].

ويثبت الشهيد الصدر جملة من الاهداف على صعيدي الداخل والخارج بالنسبة إلى الدولة الإسلامية، وبناء على ما تقدم منه من عدم استنفاد الدولة الإسلامية لاهدافها فاننا نرى ايرادها من قبله انما جاء على سبيل المثال لا الحصر، وكبيان لبعض من الاهداف ـ المسؤوليات في اطر كلية.

يقول (رحمه الله): «.. ففي الداخل تستهدف:

أولاً: تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة:

ثانياً: تجسيد روح الإسلام باقامة مبادىء الضمان الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في المعيشة، وتوفير حد ادنى كريم لكل مواطن، واعادة توزيع الثروة بالاساليب المشروعة، وبالطريقة التي تحقق هذه المبادىء الإسلامية للعدالة الاجتماعية.

ثالثاً: تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفا واعيا، وبناء الشخصية الإسلامية العقائدية في كل مواطنه، لتتكون القاعدة الفكرية الراسخة التي تمكن الاُمّة من مواصلة حمايتها للثورة»[90].

إنّ مسؤولية الدولة الإسلامية ان تمكّن الاُمّة من التعبير ـ كممارسة للحق في الرعاية وحمل الامانة، وتعبيراً عن التساوي في هذا الحق امام القانون عن آرائهم وافكارهم وممارسة العمل السياسي بمختلف اشكاله، فضلا عن حق ممارسة الشعائر الدينية والمذهبية. كما ان من مسؤولية الدولة الإسلامية ان توفر ذلك لمواطنيها من غير المسلمين شريطة ان يؤمنوا بالانتماء السياسي اليها والى اطارها العقائدي[91].

وعلى صعيد الخارج، فاهداف الدولة الإسلامية التي يذكرها الشهيد الصدر هي:

«اولاً: حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كله.

ثانياً: الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية، وتقديم المثل الاعلى للاسلام من خلال ذلك.

ثانياً: مساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الارض، ومقاومة الاستعمار والطغيان، خاصة في العالم الاسلامي..»[92].

فالدولة الإسلامية تلتزم بالدفاع عن المظلومين والمستضعفين ضد المستكبرين بين شعوب العالم، ولا تقتصر فى مهمتها على ذلك وانما تمد لها يد المعونة المادية والمعنوية لانقاذهم باعتبارهم بشراً كرمهم الله تبارك وتعالى وجعل هدايتهم منوطة برسالة الإسلام العالمي المنقذ التي تحملها الدولة الإسلامية[93].

قال تعالى: (قل يا ايها الناس إني رسول الله اليكم جميعاً)[94].

ان الاهداف التي تسعى الدولة الإسلامية إلى تحقيقها تمثل في حقيقتها المسؤوليات التي يتعين عليها ان تنهض باعبائها. وقد فصّل الشهيد الصدر مسؤوليات الدولة في المجال الاقتصادي، وحددها ضمن الخطين العريضين المتمثلين في تطبيق العناصرالثابتة من الاقتصاد الاسلامي، وفي ملء العناصر المتحركة وفقا لمتطلبات الواقع وظروفه، وعلى ضوء المؤشرات الإسلامية العالمية، فبحث مسؤولية الضمان الاجتماعي، والتوازن الاجتماعي، ورعاية القطاع العام، ورسم المنهج العام للتنمية، ومقاومة الاحتكار[95].

مميزات الدولة:

تختص الدولة بمميزات تحدد موقعها ازاء غيرها من المنظمات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فكونه تمتلك سلطة الامر والنهي والقدرة على الالزام بما تمتلك من ادواته التي يمنحها الدستور استخدامها لفرض ارادتها على المحكومين ولو بالاكراه لا يعني فقدان ما يماثل ذلك في غيرها من الكيانات، بل ان ظاهرة السلطة تكاد تكون موجودة في كل الفئات الاجتماعية، صغيرة أو كبيرة، بدائية أو متطورة[96].

غير ان السلطة التي تتمتع بها الدولة تفترق عن غيرها من السلطات بانها سلطة سياسية[97].

ويرى الفقه الدستوري الوضعي ان الحكام في الدولة (القابضين على السلطة) ـ انسجاماً مع احد الاتجاهين الفردي أو الاجتماعي اللذين مر ذكرهما آنفاً ـ لابد ان يكونوا معبرين عن مصالح طبقات وفئات اجتماعية معينة، وان هناك عناصر اخرى تميز الدولة وهي بالاضافة إلى وحدة السلطة وما ينبثق عنها من وحدة التشريع، وحدة الاقليم، ووحدة الشعب.

ان وحدة السلطة تعني وجود سلطة واحدة (حاكما أو مجموعة حكام) تملك القهر وتحوز اكبر قوّة مادية تمكنها من ضمان تنفيذ اوامرها ونواهيها من قبل المحكومين حتى لو اقتضى الامر اللجوء إلى الاكراه وذلك بما تمتلك من مؤسسات الشرطة والقوات المسلحة، وبما يسندها من قوّة الالزام في القانون، وكذلك فانها سلطة سائدة، اي: انها ذات قدرة على تنظيم نفسها وفرض اوامرها ونواهيها على جميع المحكومين وفي نطاق جميع اقاليمها من دون الخضوع في الداخل وفي الخارج لغيرها. اما وحدة التشريع فتعني ان الحكام الذين يمسكون بزمام السلطة يصنعون قواعد ملزمة لجميع الافراد والمقيمين على اقليمها.

كما ان لكل دولة اقليمها الذي يقطنه سكانها وتمارس عليه سلطتها، ويشمل الاقليم: اليابسة وما في باطنها وكذلك الانهار والبحيرات وما في باطنها بالاضافة إلى المياه الاقليمية وطبقات الجو التي تعلو هذه المساحة.

ان كل ذلك ـ وحسب الفقه الوضعي ـ يتطلب وحدة التركيب الاجتماعي في الدولة ومن ثم تجانس ووحدة المصالح المشتركة والاهداف العامة لمواطني الدولة[98].

ولا يهم الفكر الاسلامي صحة هذه العناصر فيما ذهب إليه الفكر الوضعي، وان كنا إذا اردنا التطبيق لوجدنا ان توافر هذه العناصر في الدولة الإسلامية، مع اشارة سريعة إلى ان الشعب في دولة الإسلام يشمل المسلمين وغيرهم من الذميين (غير المسلمين) ما داموا يؤمنون بالانتماء السياسي إلى الدولة الإسلامية واطارها العقائدي رغم انتسابهم دينياً إلى اديان اخرى[99]. وهذا خلاف ما ذكره بعض الكتّاب[100] من ان الشعب في الدولة الإسلامية الاولى ـ يقصد: دولة رسول الله (ص) في المدينة المنورة ـ يشمل المسلمين فقط.

ان الامام الشهيد الصدر يتناول مميزات الدولة الإسلامية من منظور يختلف عمّا تناولته من خلاله النظريات الوضعية، فهو يدرس الدولة الإسلامية من زاوية حقيقة كونها ضرورة شرعية وحضارية بما تحمل من معطيات حضارية عظمية وقدرات هائلة، الامر الذي يميزها عن اية تجربة اجتماعية اخرى[101].

ويوضح الشهيد الصدر هذه الحقيقة فيستعرض مميزات الدولة الإسلامية من خلال نقطتين رئيسيتين، هما:

1ـ التركيب العقائدي للدولة الإسلامية.

2ـ التركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم المعاصر.

في النقطة الاولى يبحث (رحمه الله) وفي ثلاث فقرات:

1ـ العلاقة بين التركيب العقائدي للدولة وهدف المسيرة.

2ـ اخلاقية التركيب العقائدي وتحرير الإنسان من الانشداد للدنيا.

3ـ المدلولات السياسية في التركيب العقائدي.

فيما يخصّ الفقرة الاولى، يقول: «كل مسيرة واعية لها هدف، وكل حركة حضارية لها غاية تتجه نحو تحقيقها، وكل مسيرة وحركة هادفة تستمد وقودها وزخم اندفاعها من الهدف الذي تسير نحوه، وتتحرك إلى تحقيقه، فالهدف هو وقود الحركة، وهو في نفس الوقت القوة التي تمتصها ـ اي: الحركة ـ عند تحقيق الهدف، فتتحول الحركة إلى سكون باستنفادها لهدفها»[102].

ومن اجل ان لا تتوقف الحركة وتتحول إلى سكون باستنفاد الهدف، ولضمان مواصلة سير التحرك الحضاري للانسان، لابد ان يكون الهدف هو الذي كلما يقترب الإنسان منه يكتشف آفاقاً جديدة تزيد جذوته اتقاداً وحركته نشاطا، «وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية لتضع الله تعالى هدفا للمسيرة الإنسانيّة، وتطرح صفات الله واخلاقه كمعالم لهذا الهدف الكبير، فالعدل والعلم والقدرة والقوة والرحمة والجود تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة، وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئا منه انفتحت امامها آفاق ارحب وازدادت عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق، لان الإنسان المحدود لا يمكن ان يصل إلى الله المطلق، ولكن كلما توغل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد وامتد به السبيل سعيا نحو المزيد»[103].

قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).[104]

«فالتركيب العقائدي للدول الإسلامية الذي يقوم على اساس الايمان بالله وصفاته ويجعل من الله هدفا للمسير وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الارض هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للانسان بوقود لا ينفد»[105].

وتأسيسا على ذلك، فان الإسلام لا يقر تحويل الاهداف النسبية والمرحلية إلى هدف مطلق لان من شأن ذلك ان يعيق الحركة عن الاستمرار وتجاوز الهدف النسبي في المراحل التالية[106].

ان الدولة الإسلامية لا تستنفد اهدافها لان كلمات الله لا تنفد[107].

قال تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلما ربي ولو جئنا بمثله مددا)[108].

وفي الفقرة الثانية، يؤكد الشهيد الصدر الحاجة إلى الدوافع النابعة من الشعور بالمسؤولية لاقامة الحق والعدل وتحمّل مشاق البناء الصالح، الامر الذي يواجه دائما عقبة الانشداد إلى الدنيا وزينتها والتعلق بالحياة على هذه الارض مهما كان شكلها، بحيث يعطل الإنسان عن مساهمته في عملية البناء الصالح. فلابد اذن ولكي تجند طاقات كل فرد من تركيب عقائدي ذي اخلاقية خاصة تربي الفرد على ان يكون «سيدا للدنيا لا عبداً لها» في اطار الايمان بان هذه الحياة الدنيا ما هي إلاّ جسر وزرع للحياة الآخرة»[109].

قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).[110]

ان البناء الصالح الذي يريده الإسلام للفرد في دولته هو الذي يستطيع ان يحرر الإنسان من مغريات الارض ويرتفع به إلى تحمل مسؤولياته ازاء الهموم الكبيرة دون الهموم الصغيرة التي تفصله عن الله تبارك وتعالى[111].

اما ما يتعلق بالمدلولات السياسية في التركيب العقائدي للدولة الإسلامية، فان الشهيد الصدر يتحدث عن كونها تقوم بادوار عظيمة في تنمية الطاقات الخيرة كلها لدى الإنسان وتوظيفها لخدمة الإنسان نفسه، ومن هذه المدلولات: استئصال كل علاقات الاستغلال التي تسود المجتمع الجاهلي من يوفر طاقتين احداهما طاقة المستغَل والاخرى طاقة المستغِل، وكذلك الوضع الواقعي الذي يعيشه الحاكمون في دولة الإسلام باعتبارهم مواطنين اعتياديين في حياتهم الخاصة وسلوكهم وعلاقاتهم ومساكنهم مما يجسّد «القدوة الحقيقية والسلوة الروحية» لكل المستضعفين في الارض، وكذلك التعامل على الساحة الدولية بعيدا عن الاستغلال وامتصاص الشعوب الضعيفة ـ كما هو شأن الحضارة الغربية ـ ولا على اساس المصالح المتبادلة ـ فيما تدعيه هذه الحضارة. وانما على اساس الحق والعدل ونصرة المستضعفين في الارض[112].

وفي النقطة الثانية، يبحث الشهيد الصدر تركيب الفرد المسلم في واقعنا المعاصر، فيبين ان البناء الحضاري الجديد للمجتمعات المختلفة يستهدف «وضع اطر سليمة» هدفها تنمية الاُمّة وتعبئة طاقاتها وتحريك امكاناتها للمعركة ضد التخلف، «فحركة الاُمّة شرط اساسي لانجاح اي عملية بناء حضاري جديد، واي معركة شاملة ضد التخلف، لان حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية، وحيث لا تنمو الاُمّة لا يمكن لاي منهج أو صيغ محنطة ان تغيّر من الواقع شيئاً»[113].

قال تعالى: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[114].

وان الدولة الإسلامية تتخذ من الإسلام «الاطروحة الالهية» اساسا لعملية البناء واطارا لنظامها الاجتماعي، فهي الوحيدة القادرة على تقديم «مركب حضاري» قادر على تحريك الاُمّة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، وذلك من جملة النقاط:

1ـ الايمان بالاسلام: حيث ان الايمان يعيش اليوم في الجزء الاعظم من المسلمين عقيدة باهتة بسبب عصور الانحراف والعمل الاستعماري الذي يستهدف تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها، «ومن اجل ذلك لم يعد المسلمون تعبيرا عن الاُمّة الإسلامية التي جعلها امة وسطا لتتولى الشهادة على العالم، وكانت خير امة اخرجت للناس».[115]قال تعالى: (كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).[116]

فعلى المستوى الداخلي للامة ثلاث خصائص: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان بالله، وعلى المستوى الخارجي تتضح مسؤولية الاُمّة الإسلامية عن العالم كله بوصفها امة وسطاً وشهيدة عليه.

قال تعالى: (وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس).[117]

«فما لم يكن المسلمون على مستوى هاتين المسؤوليتين فلا امة اسلامية بالمعنى الصحيح، وما لم تتخذ العقيدة الإسلامية مركزها القيادي كأساس لممارسة هاتين المسؤوليتين في كل جوانب الحياة فلا رسالة اسلامية في واقع الحياة بالمعنى الصحيح».[118]ويبيّن الشهيد الصدر ان العقيدة الإسلامية حتى لو كانت باهتة فانها تشكل عاملاً سلبياً تجاه اي اطار حضاري أو نظام اجتماعي لا ينبثق فكرياً وايديولوجيا من الإسلام، مما يشكل موقفا رافضا لكل عمليات التحريك الحضاري التي تمارسها الانظمة والمذاهب غير الإسلامية لدى تسلّمها السلطة وقيادة المجتمع، الامر الذي يضطرها إلى ممارسة الاكراهية «القمعية» تزداد قناعة الاُمّة بعدم شرعيتها، وتكون نتيجة ذلك ان تتبدد طاقات الاُمّة على اتجاهين: مما يبدد من طاقات في عمليات الاكراه وما يكون من عمليات «رد الفعل الصامت» وما تستوجبه من جهد ومقاومة.[119]

بيد ان الامر يختلف في الدولة الإسلامية التي تحمل اطروحتها امة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر ومؤمنه بالله سبحانه وتعالى، فما تلبث العقيدة الباهتة ان تتحول من عامل سلبي إلى عامل ايجابي في عملية البناء الحضاري الجديد. ان الدولة الإسلامية بقيادتها تضع كذلك حداً لمأساة الانشطار والتجزئة في كيان الفرد المسلم والتي تفرض عليه ولاءات متعارضة، فتعيد إليه وحدته الحقيقية وانسجامه الكامل، بحيث يؤدي به ذلك إلى الاخلاص والصبر.[120]

2ـ وضوح التجربة والارتباط العاطفي بتاريخها: اذ تقدم الدعوة إلى البناء مثالاً واقعياً يشكل اهم دافع للانسان إلى البذل والعطاء، وهذا المثال يندمج مع اعمق مشاعره وعواطفه، ويستمد وجوده من اشرف مراحل تاريخه وانقاها. فالدولة الإسلامية لا تسير بالناس في الظلام وانما في النور. قال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)[121]. وهذا ما يدفع الفرد المسلم في اطار التعبئة الحضارية الإسلامية ان يكون مطمئناً إلى طريقه، واثقاً بهدفه، قادراً على تمييز السلامة أو الانحراف في المسير، لامتلاكه بالمثل الاعلى «المقياس الموضوعي» لذلك، مما يؤدي إلى تهيئة «الجو النفسي في هذا السبيل، لا بوصفه آلة تسير وفقا للخطة، بل بوصفه واعياً على الخطة، مدركاً معالمها ومثلها الاعلى في واقع الحياة».[122]

3ـ نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالمستعمرين: فمعاناة الاُمّة الإسلامية المريرة من الاستعمار ولّدت لديها شعوراً نفسياً خاصاً تجاهه يتسم بالانكماش والقلق والحساسية وكذلك ازاء الأنظمة المستمدة من اوضاعه الاجتماعية. وإذا كان عدد من التكتلات السياسية في العالم الاسلامي قد اتخذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة واساسا للتنظيم الاجتماعي وقدم شعاراته الثورية المنفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار، فان القومية ليست سوى «رابطة تاريخية ولغوية» لا تمتلك فلسفة خاصة ذات مبادىء وعقيدة ترتكز إلى اسس معينة، وبذلك فانها تكون محتاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة، وفلسفة خاصة تصوغ على اساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي. اما المنهج الاسلامي فانه يتمتع بنظافة مطلقة من هذه الناحية، لانه لا يرتبط في ذهن الاُمّة بتاريخ اعدائها، بل بتاريخ امجادها الذاتية، ويعبّر عن اصالتها، بحيث يولّد شعورا لدى الاُمّة يعتبر عاملاً ضخماً لانفتاحها على عملية البناء الحضاري التي تقوم على اساس الإسلام. ان عملية البناء لن تبدأ من الصفر لانها ليست غريبة عن الاُمّة، وانما لها جذور تاريخية ونفسية ومرتكزات فكرية[123].

4ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد: ان من المحتّم ان تصطدم حركة التجديد بالاعراف والتقاليدوالاخلاق والسنن الاجتماعية السائدة التي اكتسبت بمرور الزمن درجة من التقديس الديني، ولكن يواجه التجديد التوتر النفسي الحاصل كردّ فعل على عملية التغيير فسيكون بن خيارين: فاما ان يحاول استئصال الجذور النفسية لهذا التحفز الرافض باقتلاع العقيدة الدينية التي تعتبر اساسا تقليديا لمشاعر المحافظة والتمسك بالتقاليد، واما ان يحاول فصل الدين عن هذه التقاليد وتوعية الجماهير على حقيقة الدين ودوره في الحياة، وبديهي ان الخيار الأوّل يحل المشكلة بل سيسفر عن وجه عدائي صريح تجاه الدين، بينما الخيار الثاني لا يكون عمليا بالنسبة إلى حركة التجديد القائمة على اسس علمانية. ولكن حركة التجديد القائمة على اساس الإسلام والمرتبطة بمصادره الحقيقية في الاُمّة والمجسدة له من خلال الدولة الامرة بالمعروف والناهية عن المنكر والمؤمنة بالله، هذه الحركة قادرة على امتصاص الجزء الاعظم من المحافظين لمصلحة البناء والتجديد، وذلك من خلال ادراكها العميق للاسلام ووعيها الثوري عليه بما يمكنها من القدرة على اقناع الاُمّة والمحافظين فيها بالتفسير الصحيح للاسلام وفصله عن الاوضاع المتخلفة[124].

5ـ التطلع إلى السماء ودوره في البناء: فعلى خلاف الإنسان الاوروبي المتطلع إلى الارض، يتطلع الإنسان الشرقي إلى الغيب والسماء، حيث ان اخلاقية الاثنين تختلفان فيما بينهما كنتيجة للتاريخ الديني. وبسبب هذه الغيبية العميقة لدى الإنسان الشرقي المسلم فان الفكر لديه يتجه إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي المرتبطة بالواقع المحسوس، مما يحدّ من قوّة اغراء المادة لديه، بحيث يتجه اتجاها سلبيا في موقفه من المادة عندما يتجرد عن الدوافع المعنوية، فيتخذ واحدا من ثلاثة مواقف في: الزهد، أو القناعة، أو الكسل.

وهذا بطبيعة الحال ناتج عن انفصال الارض عن السماء «اما إذا البست الارض اطار السماء، واعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة» فان النظرة الغيبية ستتحول إلى طاقة محركة وقوّة دافعة. ان ذلك هو ما تصنعه الدولة الإسلامية عندما تعطي للانسان المعنى الصحيح للسماء، وتضفي صفة الشرعية والواجب على العمل في الارض كمظهر من مظاهر خلافة الله على الارض[125].

ان ما نستنتجه مما عرضه الشهيد الصدر هو ان الدولة الإسلامية ـ في نظره ـ تتميز بكونها جزءا من مشروع حضاري الهي، وهذا الجزء هو ضرورة حضارية كما هو ضرورة شرعية، وذو تركيبة عقائدية تحدّد في مسيرتها الواعية هدفها وهو الله تعالى، فلا تستنفد اهدافها لان كلمات الله لا تنفد ولان السير نحو المطلق لا ينقطع، وذلك ضمن اخلاقية تعمل على تحرير الإنسان من الانشداد إلى الدنيا وتحمل مدلولات سياسية تقوم باعظم الادوار في تنمية الطاقات الخيرة التي تفجرها في الإنسان، وتدفع بالامة لتأخذ موقعها الريادي في تحمل مسؤولياتها على صعيدي الداخل والخارج ضمن عملية البناء الحضاري، وكل ذلك من خلال موازنة دقيقة فيما بين عالمي الغيب والشهادة، وفيما بين المجتمع والفرد، من دون افراط أو تفريط.

عقيل سعيد

 

[1] السيد محمد حسين الطباطبائي: نظرية السياسة والحكم في الإسلام، ترجمة الشيخ محمد مهدي الآصفي ص 66. الامام روح الله الخميني ـ الحكومة الإسلامية ص 23 وص 48.

[2] كيهان العربي الايرانية ـ العدد 2789 الصادر في 5/5/1993 مقابلة مع آية الله الدكتور عميد زنجاني.

[3] الشهيد محمد باقر الصدر ـ الإسلام يقود الحياة ص 144.

[4] الصحيفة السجادية ص 21.

[5] ريتشارد هرير دكحيان ـ الاصولية في العالم العربي ـ ترجمة وتعليق عبدالوارث سعيد ص 186.

[6] المصدر نفسه ص 188.

[7] اسس الدولة الإسلامية للشهيد الصدر منشور في مقالات اسلامية ص 130.

[8] الإسلام يقود الحياة ص 175.

[9] المصدر نفسه ص 197.

[10] انظر: محمد عبدالجبار – رؤية السيد الصدر للمشروع الحضاري ـ منشور في مجلة المنطلق العدد 62ـ كانون الثاني 1990 ص 96.

[11] الشهيد الصدر ـ أهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف ص 128 وما بعدها.

[12] للاستزادة راجع: محمد الحسيني ـ الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دراسة في سيرته ومنهجه ص 225 وما بعدها.

[13] الكهف / 109.

[14] الإسلام يقود الحياة ص 15.

[15] محمد عبدالجبار ـ مصدر سابق ص 96.

[16] الشهيد الصدر ـ اقتصادنا ص 27.

[17] السيد كاظم الحائري ـ مباحث الاصول تقريرا لابحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره» – الجزء الاول من القسم الثاني ـ المقدمة ص 103.

[18] د. ثروت بدوي ـ اصول الفكر السياسي ص 29.

[19] نخبة من العلماء المفكرين ـ احاديث من الفكر السياسي ص 26 وما بعدها ـ الشيخ حسين علي المنتظري ـ دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1:5 وما بعدها. الدكتور علي غالب خضير العاني والدكتور نوري لطيف ـ القانون الدستوري «ملازم بالرونيو» ص 8 وما بعدها. اندريه هوريو ـ القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، تعريف: علي مقلد وشفيق حداد وعبدالحسن سعد 1:126 وما بعدها. الدكتور محمد فاروق النبهان ـ نظام الحكم في الإسلام ص 26 وما بعدها.

[20] لمحات من الفكر السياسي ص 43.

[21] السيد محمد حسين الطباطبائي ـ الميزان في تفسير القرآن 2:117 وما بعدها.

[22] المصدر نفسه ص 124.

[23] البقرة / 213.

[24] يونس / 19.

[25] الشيخ المنتظري ـ مصدر سابق ص 6.

[26] الإسلام يقود الحياة ص 3 وما بعدها

[27] المصدر السابق ص 17.

[28] صحيح مسلم / الحديث 1842.

[29] ابراهيم / 11.

[30] الكهف / 110.

[31] آل عمران / 79.

[32]المائدة / 116.

[33] النساء / 105.

[34] الدكتور عبدالهادي الفضلي ـ الدولة الإسلامية ص 87.

[35] الإسلام يقود الحياة ص 9.

[36] المصدر السابق ص 4 وما بعدها.

[37] البقرة / 213.

[38] انظر هوريو ـ مصدر سابق ص 106.

[39] للتوسع: الدكتور علي غالب العاني والدكتور نوري لطيف ـ القانون الدستوري ص 76 وما بعدها.

[40] مصدر سابق ص 106.

[41] الدكتور منذر الشاوي ـ القانون الدستوري 1:56.

[42] المصدر نفسه ص 58 وما بعدها.

[43] لمحات من الفكر السياسي ـ ص 31.

[44] يوسف / 40.

[45] الاعراف / 194.

[46] الشهيد الصدر ـ المدرسة القرآنية ص 123.

[47] الشهيد الصدر ـ اقتصادنا ص 31 وما بعدها.

[48] يوسف / 39.

[49] الإسلام يقود الحياة ص 9 وما بعدها.

[50] المصدر السابق ص 24.

[51] المصدر السابق ص 10 وما بعدها.

[52] المصدر السابق ص 14.

[53] الاحزاب / 72.

[54] الإسلام يقود الحياة ص 11 وما بعدها.

[55] المصدر السابق ص 12.

[56] المصدر السابق ص 14.

[57] المصدر السابق ص 16.

[58] المصدر السابق ص 12 وما بعدها.

[59] المصدر السابق ص 16.

[60] المصدر السابق ص 144 وما بعدها. وكذلك ص 169 وما بعدها.

[61] المصدر السابق ص 170.

[62] المصدر السابق ص 13 وما بعدها.

[63] المصدر السابق ص 170 وما بعدها.

[64] المصدر السابق ص 115 وما بعدها.

[65] الشورى / 38.

[66] التوبة / 71.

[67] الإسلام يقود الحياة ص 171.

[68] د. علي غالب العاني والدكتور نوري لطيّف ـ مصدر سابق ص 105 وما بعدها ـ الدكتور منذر الشاوي ـ مصدر سابق.

[69] الدكتور العاني والدكتور لطيّف ـ مصدر سابق ص 107 وما بعدها، وراجع للتوسع: المنتظري ـ مصدر سابق ص 6 وما بعدها ـ هوريو ـ مصدر سابق ص 208 وما بعدها. الدكتور النبهان ـ مصدر سابق ص 62 وما بعدها.

[70] هوريو ـ مصدر سابق ص 149.

[71] الدكتور عبدالهادي الفضلي ـ مصدر سابق ص 88 وما بعدها.

[72] العلامة الطباطبائي ـ نظرية السياسة والحكم في الإسلام ص 71 وما بعدها.

[73] المصدر السابق ص 71 انظر الهامش بتعليقة الشيخ محمد مهدي الآصفي.

[74] الإسلام يقود الحياة ص 17 وما بعدها.

[75] المصدر السابق ص 18.

[76] المصدر السابق ص 18.

[77] المصدر السابق ص 17.

[78] الامام روح الله الخميني ـ الحكومة الإسلامية ص 41.

[79] للمزيد من التفاصيل راجع: الدكتور نوري لطيّف ـ القانون الدستوري ص 82 وما بعدها.

[80] العلاّمة الطباطبائي ـ نظرية السياسة والحكم في الإسلام ص 22.

[81] الشهيد الصدر ـ المدرسة الإسلامية ص 95.

[82] راجع اقتصادنا ص 721.

[83] المدرسة الإسلامية ص 98 وكذلك ص 96.

[84] الإسلام يقود الحياة ص 17.

[85] المدرسة الإسلامية ص 45.

[86] لمحات من الفكر السياسي ص 45.

[87] الامام الخميني ـ الحكومة الإسلامية ص 53.

[88] الإسلام يقود الحياة ص 15.

[89] الكهف / 109.

[90] الإسلام يقود الحياة ص 14 وما بعدها.

[91] المصدر السابق ص 14.

[92] المصدر السابق ص 15.

[93] لمحات من الفكر السياسي ص 67.

[94] الاعراف / 158.

[95] للمزيد من التفاصيل راجع: الإسلام يقود الحياة ص 119 وما بعدها.

[96] الدكتور منذر الشاوي ـ مصدر سابق ص 111.

[97] الدكتور العاني والدكتور لطيّف ـ مصدر سابق ص 111.

[98] المصدر السابق ص 112 وما بعدها.

[99] الإسلام يقود الحياة ص 14.

[100] الدكتور النبهان ـ مصدر سابق ص 140.

[101] الإسلام يقود الحياة ص 175.

[102] المصدر السابق ص 177.

[103] المصدر السابق ص 178 وما بعدها.

[104] العنكبوت / 69.

[105] الإسلام يقود الحياة ص 179 وما بعدها.

[106] المصدر السابق ص 180.

[107] المصدر السابق ص 15.

[108] الكهف / 109.

[109] الإسلام يقود الحياة ص 180 وما بعدها.

[110] القصص / 77.

[111] الإسلام يقود الحياة ص 184.

[112] المصدر السابق ص 185 وما بعدها.

[113] المصدر السابق ص 192.

[114] الرعد / 110.

[115] الإسلام يقود الحياة ص 193.

[116] آل عمران / 110.

[117] البقرة / 143.

[118] الإسلام يقود الحياة ص 194.

[119] المصدر السابق ص 194 وما بعدها.

[120] المصدر السابق ص 196 وما بعدها.

[121] البقرة / 257.

[122] الإسلام يقود الحياة ص 199.

[123] المصدر السابق ص 199 وما بعدها.

[124] المصدر السابق ص 201 وما بعدها.

[125] المصدر السابق ص 204 وما بعدها.