مرتكزات التصور حول الدولة الاسلامية عند الامام الشهيد الصدر (قدس سره)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

تمهيد:

يقول أحد الباحثين الاجانب في معرض حديثه عن تأسيس أول جمهورية اسلامية معاصرة في ايران بقيادة الامام الخميني الراحل (قدس سره): «… ولايقل عن هذا أهمية دور باقر الصدر كأحد الآباء الفكريين للدستور الاسلامي الايراني، وان يكن هذا الدور مجهولاً نسبياً، والواقع ان الدلائل تشير الى أن «آية اللّه» العربي هذا قد ساهم بشكل ملموس في تشكيل الاطار المذهبي ـ يقصد: المدرسي أوالمنهجي ـ للنظام الاسلامي في ايران»[1]. يشير في ذلك الى سلسلة المباحث التي كتبها الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة، في شباط عام 1979 م، والتي حملت عنوان (الاسلام يقود الحياة)، وافتتحها السيد الشهيد بجواب على رسالة لعلماء لبنان حول الدستور الاسلامي[2].

والحقيقة: ان السيد الشهيد (قدس سره) قد آمن منذ أن انفتح على الحياة بضرورة قيام الدولة الاسلامية، عندما بدأ الرحلة التغييرية الرامية الى اعادة الاسلام قائداً للحياة، وقد انعكس ذلك في مؤلفاته المختلفة، وفي حركته المستمرة التي توّجها بالشهادة في سبيل تحقيق هذا الحلم الكبير.

يضيف الباحث المذكور: «وتعكس مؤلفاته التزاماً مذهبياً واضحاً بالدولة الاسلامية، وبالمحافظة عليها كانت صياغات باقر الصدر النظرية والسياسية ذات أثر قوي في تأييد موقف الخميني بشأن الدور المسيطر للفقيه في الدولة الاسلامية. حقاً، كان باقر الصدر يسعى، من خلال مايكتب، الى التدخل في الصراع السياسي الدائر في ايران عام 1979 م بين مؤيدي الخميني ومعارضيه في اصراره على دستور يقرّر ولاية الفقيه.

فدور المرجع، عند باقر الصدر و«ولاية الفقيه» عند الخميني مترادفان نظرياً وتطبيقياً، وهما يمثلان قمة بارزة في تطور الفكر السياسي الشيعي وتطبيقه الذي بدأ متأخراً حوالي منتصف القرن التاسع عشر. ومن الواضح أن باقر الصدر قد قدّم نظرية متكاملة للثورة السياسية والاجتماعية من أجل اقامة حكومة اسلامية تحققت على يد الخميني»[3].

لقد طرح الامام الشهيد الصدر (قدس سره) تصوّراته وآراءه حول الدولة الاسلامية ضمن اطار حركي حيٍّ يحوط عملية التنظير من الترف الثقافي، فكانت هذه الرؤى والتصورات منطلقة من فهم معاصر غير مستلب امام الواقع المرِّ الذي جهد المستعمر الكافر واذنابه على تكريسه في حياة المسلمين، وغير منبهر بالتجارب الاسلامية السابقة، فقد استوعب فكر الشهيد الصدر(قدس سره) الغايات التي جاء بها الاسلام، وتشبّع بروحه، وادرك قدرته على النهوض بالامة؛ ولهذا عكف (قدس سره) على تكريس حياته الشريفة لتحقيق هدف اعادة الاسلام قائداً الى حياة الامة ينهض بها نحوالآفاق الرحبة التي أراد اللّه عزوجل للانسان ان ينفتح عليها بالتزامه بالمبدإ الالهي المتكون من «عقيدة كاملة في الكون، ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأمس وأهم حاجتين للبشرية، وهما: القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي»[4].

نحاول في هذه الدراسة السريعة أن نقف على أهم ركائز التصور الذي تبنّاه الامام الشهيد (قدس سره) حول الدولة الاسلامية، من خلال استعراض النقاط التالية.

1ـ مبدأ السيادة الالهية.

يوضح الفقه الدستوري الوضعي[5] أن فكرة السيادة قد شهدت تطوّراً انطلق من القانون الداخلي باتجاه القانون الدولي، فاضحت فكرة مركبة يمكن التعامل معها على كلا الصعيدين، حيثُ إن نشأتها كانت في اطار سياسي، ثم تحوّلت الى مفهوم قانوني بالتدريج.

ويعني المفهوم السياسي للسيادة انعتاق الدولة وتحرّرها من كل نوع من أنواع التبعية في مقابل أية سلطة غير سلطتها، وهذا مايقابل مفهوم الاستقلال. ونتيجة لعجز هذه الفكرة عن اعطاء مفهوم لمحتوى السلطة السيادية للدولة، فقد استعان الفقه الوضعي بمفهوم قانوني يعضد الفكرة، وتعني السيادة بمقتضاه امتلاك السلطات الحكومية، وذلك لكي يمكن انقسام السيادة وتوزيعها، بحيث يتسنّى تقسيم الاعمال الحكومية بين عدد من الهيئات، وهومايعبّر عنه بالسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، كتعبير عن هيئات لسلطة سياسية واحدة[6].

ان الفقه الوضعي، مهما حوّر وطوّر في فكرة السيادة، مايزال يقف عاجزاً عن اعطاء اجابة شافية، أوتفسير مقبول لامتلاك الدولة للسيادة، حيث يصبح بعض الاشخاص حكاماً على اشخاص آخرين هم المحكومون.

يذهب الفقيه هوريو[7] الى ان السلطة قوة ارادة تتيح للذين يتولون حكم جماعة من الناس ان يفرضوا انفسهم بفعل تأثير مزدوج للقوة والكفاءة، ويرى آخرون[8] ان امتلاك القوة العسكرية هوالسبب في الامساك بالسلطة، رغم اعتبار هذه القوة اساساً بدائياً كما القوة البدنية، فيضطر القائلون بهذا الرأي الى الاستعانة بعوامل أخرى كالكفاءة الشخصية، والهيبة، والظروف الاجتماعية، وفي مقدمة كل ذلك يضعون للعامل الاقتصادي مركز الصدارة.

غير ان الفكر الاسلامي لايعاني من هذه المشكلة، فيعطي تفسيراً واضحاً للسيادة، بان يحصرها بيد ربِّ العالمين، ويلغي كل عبودية لغير اللّه سبحانه وتعالى، ويقصر الولاية والقيمومة للتشريع الالهي الذي يستطيع وحده ان ينهض بتنظيم الاجتماع الانساني.

قال تعالى:

( ان الحكم إلاّ للّه أمر الاّ تعبدوا إلاّ ايّاه ذلك الدين القيِّم ولكنَّ أكثر الناس لايعلمون ) يوسف / 40.

ان النظام الاسلامي وسلطة الدولة الاسلامية تنبثق من السيادة المنحصرة في اللّه سبحانه وتعالى، حيث يتساوى الناس جميعاً امام اللّه، عبر تركيز مفهوم التوحيد، وعدم الخضوع لاي لون من العبودية غير الالهية ( انَّ الذين تدعون من دون اللّه عبادٌ أمثالكم ) الاعراف / 194. فاللّه عز وجل وحده هوربّ الانسان ومربِّيه وصاحب الحق في تنظيم حياته، وليس لفرد أوجماعة ان يتحكموا من دون اللّه الذي تنتمي الجماعة البشرية جميعاً اليه كمحور أوحد[9]. قال تعالى: ( أأربابٌ متفرّقون خيرٌ أمِ اللّهُ الواحدُ القهّار ) يوسف / 39.

يقول الشهيد الصدر (قدس سره)[10]: «ان اللّه سبحانه وتعالى هومصدر السلطات جميعاً. وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر أعظم ثورة شنّها الانبياء ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الانسان من عبودية الانسان.

وتعني هذه الحقيقة ان الانسان حرّ، ولاسيادة لانسان آخر، أولطبقة، أولأي مجموعة بشرية عليه، وانما السيادة للّه وحده، وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم، واشكال الاستغلال، وسيطرة الانسان على الانسان.

وهذه السيادة للّه تعالى التي دعا اليها الانبياء تحت شعار (لا اله إلاّ اللّه) تختلف اختلافاً أساسياً عن الحق الالهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين، فان هؤلاء وضعوا السيادة اسمياً للّه لكي يحتكروها واقعياً، وينصِّبوا من أنفسهم خلفاء للّه على الارض.

واما الانبياء، والسائرون في موكب التحرير الذي قاده هؤلاء الانبياء، والامناء خلفاؤهم وقواعدهم؛ فقد آمنوا بهذه السيادة، وحرّروا بها انفسهم والانسانية، من ألوهية الانسان بكل اشكالها المزوّرة على مرِّ التاريخ، لانهم أعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعي المحدّد المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء، فلم يعد بالامكان أن تستغل لتكريس سلطة فرد، أوعائلة، أوطبقة، بوصفها سلطة الهية.

ومادام اللّه تعالى هومصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدّد عند اللّه تعالى، فمن الطبيعي أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الاسلامية».

ان التوحيد ـ وهوجوهر العقيدة الاسلامية ـ لايحرِّر الانسان من عبودية الاغيار فحسب، بل ويحرِّره من داخل أيضاً[11]. فلايخضع الاّ لشرع اللّه تعالى، حيثُ الشريعةُ الالهيةُ مصدر التشريع، ومنها ينبثق الدستور الذي تسير في ضوء مبادئه الدولة وتشرع القوانين، «وذلك على النحوالتالي:

أولاً: إنّ أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور، سواء نصّ عليه صريحاً في وثيقة الدستور أم لا.

ثانياً: ان اي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد يعتبر من نطاق البدائل المتعدِّدة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظلّ اختيار البديل المعيّن من هذه البدائل موكلاً الى السلطة التشريعية التي تمارسها الامة في ضوء المصلحة العامة.

ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أوايجاب يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الامة ان تسن من القوانين ماتراه صالحاً على ان لايتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها تكلف اختيار اتخاذ الموقف، فان من حق السلطة التشريعية ان تفرض عليه موقفاً معيّناً على وفق ما تقدّره من المصالح العامة على ان لايتعارض مع الدستور»[12].

2ـ قيادة الدولة الاسلامية ودور الأمة

ان الامة ـ في نظر الامام الشهيد الصدر (قدس سره) ـ هي صاحبة الحق في ممارسة السلطة، طبقاً لاحكام الشريعة الاسلامية، فمفهوم الاسلام: ان الانسان خليفة اللّه في الارض، وان اللّه سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون والاعمار الاجتماعي والطبيعي، ويعتبر هذا هوالاساس في نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عند اللّه[13]، ولكنها لاتمتلك السلطان المطلق، وانما هي مسؤولية امام اللّه تعالى. قال تعالى: ( إنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والارضِ والجبالِ فأبيّنَ ان يحمِلْنَها وأشفَقْنَ منها وحملها الانسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً )الاحزاب72.

فيعود الى الامة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد ان ترشحه المرجعية، ليتولى بعد الانتخاب تشكيل حكومته، وينبثق عن الامة مجلس أهل الحلِّ والعقد، وذلك عبر الانتخاب المباشر[14].

وتتحدّد مهمة هذا المجلس فيما يلي:

«أولاً: إقرار أعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية لمساعدته في ممارسة السلطة.

ثانياً: تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة.

ثالثاً: ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة.

رابعاً: الاشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها»[15].

ان الامة تمارس السلطة التنفيذية من خلال انتخاب الرئيس، وتمارس السلطة التشريعية من خلال انتخاب المجلس، وتمارس الرقابة (دستورياً) على السلطة التنفيذية من خلال المجلس أيضاً[16]. وذلك انطلاقاً من ان الخلافة العامة للامة[17]، والتي هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الامانة. وفي ذلك يتساوى جميع أفراد الامة امام القانون، ويمتلك كل منهم الحرية في التعبير عن آرائه وأفكاره، وله حق ممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله[18].

وتقوم الخلافة العامة للامة على اساس قاعدة الشورى ضمن اطار الاشراف والرقابة الدستورية العليا من قبل نائب الامام، وهوالمرجع، حيثُ إن المرجعية تعتبر المعبر الشرعي عن الاسلام، فيكون الممثل الاعلى للدولة، وقائد الجيش، ويتولى ترشيح اويمضي ترشيح الافراد الذين يتقدمون لرئاسة السلطة التنفيذية، تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلاً له على تقدير انتخابه. ان المرجعية تضطلع بتعيين الموقف الدستوري للشريعة الاسلامية، والبتِّ في دستورية القوانين التي يملأ بها مجلس أهل الحل والعقد منطقة الفراغ، الى غير ذلك من مهام المرجعية[19].

ونرى ان المهام التي عدّدها السيد الشهيد (قدس سره) لاتمثل حصراً لهذه المهام، وانما اوردها (قدس سره) على سبيل المثال، ويتضح ذلك جلياً من النصِّ على ان يتألف مجلس المرجعية (الذي تمارس المرجعية أعمالها من خلاله) من مئة شخص، على ان لايقل عدد المجتهدين فيه عن عشرة، فهذا العدد ينظر الى حاجة المرحلة، والا فان العدد قابل للزيادة والنقصان تبعاً للظروف[20].

ان مهمة المرجعية في أساسها هي «النيابة العامة للمجتهد المطلق العادل الكفوء عن الامام، وفقاً لقول امام العصر (عليه السلام): «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة اللّه» فان هذا النصب يدل على انهم المرجع في كل الحوادث الواقعة بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة؛ لان الرجوع اليهم بما هم رواة احاديثهم وحملة الشريعة يعطيهم الولاية، بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة، وحق الاشراف الكامل من هذه الزاوية»[21].

ان المرجعية الشاهدة في زمن الغيبة تعتبر امتداداً للنبوة والامامة باعتبارها خطاً تميّز عن خطِّ الخلافة بسبب الغيبة الكبرى للامام المهدي(عليه السلام)، بعد أن كان الخطان مندمجين في شخص المعصوم (عليه السلام)، باعتباره القادر على ممارستهما معاً. ويفترض في المرجع ان يحافظ على الرسالة وان يكون المقياس الموضوعي للامة في بيان الاحكام الشرعية ومفاهيم الاسلام من خلال اجتهاده. ان المرجعية هي التي تحدِّد الطابع الاسلامي للعناصر الثابتة والعناصر الاخرى المتحركة الزمنية على حدٍّ سواء، باعتبار ان المرجع هوالمثل الاعلى للايديولوجية الاسلامية، بالاضافة الى دوره في الاشراف والرقابة، لمنع الانحراف، ولصيانة المبادئ العامة كخلافة الانسان في الارض[22].

ان المرجع معين من قبل اللّه سبحانه وتعالى عبر الشروط العامة المفترضة، ومعيّن من قبل الامة بالشخص الذي تقع عليه مسؤولية الاختيار الواعي الذي تمارسه الامة[23] وهذه الشروط هي:

« أولاً: صفات المرجع الديني من الاجتهاد المطلق والعدالة والكفاءة.

ثانياً: ان يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وابحاثه واضحاً في الايمان بالدولة الاسلامية، وضرورة حمايتها.

ثالثاً: ان تكون مرجعيته بالفعل في الامة بالطرق الطبيعية المتبعة تاريخياً.

رابعاً: ان يرشحه أكثرية أعضاء مجلس المرجعية، ويؤيد الترشيح من قبل عدد كبير من العقول الدينية ـ يحدّد دستورياً ـ كعلماء وطلبة في الحوزة وعلماء ووكلاء وأئمة مساجد وخطباء ومؤلفين ومفكرين اسلاميين.

وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط يعود الى الامة أمر التعيين من خلال الاستفتاء الشعبي العام »[24].

وكما يمارس المرجع خط الشهادة، فانه يمارس أيضاً الخلافة العامة عندما تكون الامة محكومة للطاغوت، ومقصاة عن حقها في الخلافة، بيد أن الامر لايتمثل عملياً الا في نطاق ضيق، وضمن تصرفات الاشخاص؛ وذلك من أجل ان يتاح للمرجع الارتقاء بالامة الى مستوى تسلم حقها في الخلافة العامة. ولدى تحرّر الامة فانها هي التي ستتولى ممارسة القيادة السياسية والاجتماعية بتطبيق احكام اللّه تعالى، وعلى اساس ركائز الاستخلاف الرباني[25].

ويستنتج الامام الشهيد (قدس سره) ايكال امر الخلافة العامة الى الامة من الآيتين الكريمتين: ( وأمرهم شورى بينهم ) الشورى / 38. و( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) التوبة / 71.

فالنص الشريف الأول يمنح الامة صلاحية ممارسة امورها عن طريق الشورى مالم يرد نص على خلاف ذلك، فيما يقرِّر النص الثاني الولاية بان يكون كل مؤمن ولي بقية المؤمنين، وتدلّ قرينة تفريع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الولاية بأن هذه الولاية هي مسألة تولي الامور، وعلى ذلك فان الظاهر ان الولاية تسري بصورة متساوية على كل المؤمنين والمؤمنات (أي: الامة)، فيرى (قدس سره) من خلال ذلك الاخذ بمبدإ الشورى ورأي الاكثرية عند الاختلاف[26].

والمرجع ـ كذلك ـ ليس يمتلك الشهادة على الامة فحسب، بل هوجزء منها أيضاً، فيحتل موقعاً من الخلافة العامة، يناسب كونه من أوعى افراد الامة، واكثرهم عطاء ونزاهة، مضافاً الى ماله من رأي في المشاكل الزمنية والاوضاع السياسية، بقدر وجوده وامتداده الاجتماعي والسياسي في الامة. فالمرجع ـ اذن ـ يمارس دور الشهادة ـ من منطلق رباني ـ وكذلك دور الخلافة ـ من منطلق بشري اجتماعي[27].

ونعتقد من خلال مايذهب اليه السيد الشهيد انه يرى اطرِّاد مسؤولية الفرد ضمن اطار الخلافة العامة من اطراد وجوده وامتداده الاجتماعي وتوافر عناصر الوعي والعطاء والنزاهة لديه، «بمعنى: اننا نفهم ذلك بانه معيار للكفاءة والتأثير في ممارسة دور الخلافة العامة»[28].

3ـ الضرورة الشرعية والحضارية:

ان فكرة الدولة لم تكن معروفة عند الانسان القديم، ويذهب المفكرون مذاهب شتى في تفسير الامر، اذ يذهب الفكر غير الاسلامي ـ وضمن نظريات متعددة ـ الى ان الناس كانوا أحراراً ومتساوين في الحقوق، فلم يكن للسلطة في جماعاتهم البدائية وجود، ويرى اصحاب هذه الاتجاهات الى ان السمة السائدة في تلك المرحلة من عمر البشرية كانت حالة من الفوضى والخوف وسيطرة الاقوياء ويعتقد بعضهم من دعاة القانون الطبيعي ان خضوع البشرية كان للنواميس الطبيعية[29].

ولكن الاسلام يرفض هذه النظريات، ويقرِّر ان حالة الفطرة هي التي كانت سائدة في الحياة البشرية الاولى[30] فقد كان الناس امة واحدة يعيش أفرادها وهم يشعرون بكونهم جزءاً من الجماعة الفطرية «كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لااختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في امور الحياة، ولااختلاف في المذاهب والآراء»[31].

يقول تبارك وتعالى: ( كان الناس أمة واحدة ) البقرة / 213.

( وماكان الناس إلاّ امة واحدة ) يونس / 19.

ولما اختلف الناس بتطور احتياجاتهم وتقاطع مصالحهم أسّس الانبياء (عليهم السلام)الدولة؛ لتنهض بمهمة التنظيم الاجتماعي والسياسي. ويجزم الشهيد الصدر (قدس سره)بأن الدولة ظاهرة اجتماعية اصيلة نشأت على يد الانبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الانساني وتوجيهه من خلال انجازات الانبياء على صعيد التنظيم الاجتماعي القائم على الحق والعدل، وضمن مسار الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح[32] ويؤكد الشهيد الصدر (قدس سره) رفض الاسلام القاطع لكل النظريات التي تحيد عن تقرير نبويّة ظاهرة الدولة، كونها تصعيداً للعمل النبوي[33].

ويقول (قدس سره): «ان الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محددة وحاجات بسيطة، ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات، وبرزت الامكانات المتفاوتة، واتسقت آفاق النظر، وتنوعت التطلعات، وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة الى موازين تحدِّد الحق، وتجسد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في اطار سليم، وتصب كل تلك القابليات والامكانات التي نمتها التجربة الاجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار، بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض، وأساساً للصراع والاستغلال، وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الانبياء، وقام الانبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع اللّه تعالى للدولة اسسها وقواعدها»[34].

قال تعالى: ( كان الناس أمة واحدة فبعث اللّه النبيين مبشِّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقِّ لِيحكمَ بين الناس فيما اختلفوا فيه ومااختلف فيه إلاّ الذين أُوتوهُ من بعدِ ماجاءتهم البيناتُ بغياً بينهم فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختُلِفُوا فيه من الحقِّ بإذنه ان اللّه يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ) البقرة / 213.

ان ايمان الشهيد الصدر (قدس سره) بقيام النظام الاسلامي والدولة الاسلامية لا ينطلق من كونها ضرورة يحتمها الشرع فحسب، بل ان الدولة تتميز بكونها جزءاً من مشروع حضاري الهي شامل فتستمد اسبابها من الضرورة الحضارية، كما تستمدها من الضرورة الشرعية، وذلك من خلال ماتنطوي عليه من معطيات حضارية عظيمة وقدرات هائلة، تميِّزها عن أية تجربة اجتماعية أخرى[35]. وذلك في ضوء الاهداف التي تتحرك اليها هذه المؤسسة الاجتماعية (الدولة)، ومن خلال حقيقة وعي الاسلام للحياة الاجتماعية على اساس نظرة كلية شمولية للحياة والكون والاجتماع، فالاسلام عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للانسانية يحدِّد لها مسارها وهدفها الاعلى[36] وهذا الهدف هوتحقيق الرضا الالهي «والمقياس الخلقي الذي توزَن به جميعُ الاعمال انما هوبمقدار مايحصل بها من هذا الهدف المقدس»[37].

وانطلاقاً من هذا الهدف فان الشريعة الاسلامية الغرّاء تهدف الى ان تزدهر وتسود القيم الحضارية الالهية في الاجتماع الانساني من عدالة، وحرية، ومساواة واقعية، وتوازن، وتكافل اجتماعي، ووحدة، واخاء، ومقاومة للظلم والاستغلال والاستعباد؛ وذلك لادامة توجه الانسان (والمجتمع) في الحركة نحواللّه تعالى بما يضمن الاستقرار للمجتمع الانساني ويحقق له الرقي الحضاري. فالدولة في الاسلام ليست سوى وسيلة يمكن من خلالها تحقيق الاهداف السامية، عبر تنفيذ الاحكام الالهية، واقرار النظام الاسلامي العادل، ولايمكن اعتبارها هدفاً مقصوداً يطلب لذاته، فانها عندئذ تتجرد عند أية قيمة واعتبار[38] ولذلك فان الدولة الاسلامية لاتستنفد اهدافها؛ «لان كلمات اللّه تعالى لاتنفد، والسير نحوه لاينقطع، والتحرك في اتجاه المطلق لايتوقف»[39].

قال تعالى:( قل لوكان البحر مداداً لكلماتِ ربي لنفد البحر قبلُ أنْ تنفَدَ كلماتُ ربي ولوجئنا بمثله مَدَدَاً ) الكهف / 109.

ان قيام الدولة الاسلامية ضرورة حضارية ـ كما هي ضرورة شرعية ـ لأنها «المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الانسان في العالم الاسلامي، والارتفاع به الى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الانسانية، وانقاذه ممّا يعانيه من الوان التشتت، والتبعية، والضياع»[40]، ومن المتعذّر تطبيق المشروع الحضاري الاسلامي بكامل أبعاده بدون قيام دولة اسلامية باعتبارها ذات علاقة عضوية مع المشروع الحضاري للاسلام، بما هي المسؤولية عن تطبيقه في مختلف مجالات الحياة[41] حيثُ إن غياب الدولة الاسلامية يعني سقوط الحضارة الاسلامية، وتخليها عن قيادة المجتمع، وبذلك ستتم عملية تفكك المجتمع الاسلامي، فتنهار الامة، وتندمج ذائبة في العالم الكافر الذي غزاها[42].

ان الدولة الاسلامية تنمي كل الطاقات الخيِّرة لدى الانسان، وتوظفها في المسيرة الحضارية للانسان أوتحرره من الانشداد للدنيا، بما تحمل من اخلاقية، فترتفع بالانسان عن الهموم الصغيرة التي تفصله عن اللّه تعالى، وتجعله يعيش من أجل الهموم الكبيرة، بحيثُ تكون كل قواه وطاقاته معبأة للمعركة ضد التخلف، ومن ثَمَّ في المعركة الحضارية الشاملة[43].

4ـ التركيبة العقائدية للدولة الاسلامية:

يتناول الشهيد الصدر (قدس سره) مميزات الدولة الاسلامية من خلال منظور يختلف عما تتناوله الدراسات الوضعية لمميزات الدولة، ويشتمل على نقطتين رئيستين، هما: التركيبة العقائدية للدولة الاسلامية والتركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم المعاصر.

في هذه النقطة سنستعرض تصوّرات السيد الشهيد فيما يخص التركيبة العقائدية للدولة الاسلامية، مرجئين الحديث عن التركيب العقائدي والنفسي للفرد المسلم المعاصر الى النقطة التالية.

يبحث (قدس سره) في هذه الزاوية ثلاث فقرات، هي:

1ـ العلاقة بين التركيب العقائدي للدولة وهدف المسيرة.

2ـ اخلاقية التركيب العقائدي وتحرير الانسان من الانشداد للدنيا.

3ـ المدلولات السياسية في التركيب العقائدي.

حول الفقرة الاولى، يقول (رحمه اللّه تعالى): «كل مسيرة واعية لها هدف، وكل حركة حضارية لها غاية تتجه نحوتحقيقها، وكل مسيرة وحركة هادفة تستمد وقودها وزخم اندفاعها من الهدف الذي تسير نحوه، وتتحرك الى تحقيقه، فالهدف هووقود الحركة، وهوفي الوقت نفسه القوة التي تمتصها ـ أي: الحركة ـ عند تحقيق الهدف، فتتحول الحركة سكوناً باستنفادها لهدفها»[44].

ان دور الدولة الاسلامية هوأن تصنع هدفاً كلّما اقترب الانسان منه اكتشف آفاقاً جديدة تزيد حركته نشاطاً، فلا يتوقف، ولايتحول، الى سكون باستنفاد الهدف؛ ضماناً لمواصلة سير التحرك الحضاري للانسان، فتضع الدولة اللّه سبحانه وتعالى هدفاً للمسيرة الانسانية، وتضع صفاته وأخلاقه معالم على الطريق، ان «الانسان المحدود لايمكن ان يصل الى اللّه المطلق، ولكن كلّما توغّل في الطريق اليه اهتدى الى جديد وامتدّ به السبيل سعياً نحوالمزيد»[45].

قال تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا ) العنكبوت / 69.

ان التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للانسان بوقود لاينفد هوالتركيب العقائدي للدولة الاسلامية، والذي لايقرّ تحويل الاهداف النسبية والمرحلية الى هدف مطلق؛ لان من شأن ذلك ان يعيق الحركة، ويمنع تجاوز الهدف النسبي في المراحل التالية، فاللّه سبحانه وتعالى هوهدف المسيرة وغاية التحرك الحضاري الصالح على الارض، بما يقوم عليه من اساس الايمان باللّه وصفاته[46].

وفي الفقرة الثانية، يؤكد السيد الشهيد (قدس سره) الحاجة الى الدوافع النابعة من الشعور بالمسؤولية لاقامة الحق والعدل وتحمل مشاق البناء الصالح، وهومايواجه دائماً عقبات الانشداد الى الدنيا وزينتها والتعلّق بالحياة على الارض، الامر الذي يعطِّل الانسان عن المساهمة في عملية البناء الصالح، فلابد من تركيب عقائدي ذي اخلاقية خاصة يجند طاقات كل فرد ويربيه على ان يكون «سيداً للدنيا لا عبداً لها»[47].

قال تعالى:( وابتغ فيما آتاك اللّهُ الدارَ الآخرةَ ولاتنسَ نصيبَك من الدنيا)القصص / 77.

واما مايخص المدلولات السياسية في التركيب العقائدي هذا، فان الشهيد الصدر (قدس سره) يتحدث عن ادوار عظيمة تقوم بها في تنمية كل طاقات الانسان الخيرة، وتوظيفها لخدمة الانسان نفسه، ومن هذه المدلولات: استئصال كل علاقات الاستغلال، وبتحرير الانسان من استغلال اخيه الانسان في كل مجالات الحياة تتوفر للمجتمع طاقتان للبناء؛ احداهما طاقة الانسان المستغَل، والاخرى طاقة الانسان المستغِل، الامر الذي يوفر مناخاً صالحاً للنمووالابداع. وكذلك الوضع الواقعي الذي يعيشه الحاكم، حيث يعيش كأي مواطن اعتيادي في حياته الخاصة، وسلوكه مع الناس، ومسكنه، وعلاقاته مع الآخرين ـ والحديث عن الوضع الواقعي وليس الوضع القانوني الذي لايتجسد في واقع الحياة، فلا يهزّ انساناً، ولا يحقق قدوة صالحة، ففي هذا الوضع الواقعي تجسيد حقيقي للقدوة الحقيقية والسلوة الروحية لمستضعفي الارض. وكذلك الامر فيما يتعلق بالتعامل الدولي بعيداً عن الاستغلال وامتصاص الشعوب الضعيفة، وبعيداً أيضاً عن المصالح، وانما على أسس الحق والعدل ونصرة المستضعفين[48].

5ـ الدولة الاسلامية وتركيبة الفرد المسلم المعاصر

في هذا الصدد يوضح الامام الشهيد الصدر (قدس سره) ان البناء الحضاري يستهدف ارساء أطر سليمة تعمل على تنمية الامة، وتعبئة طاقاتها، وتحريك امكاناتها للمعركة ضد التخلف، ويعتبر حركة الامة شرطاً أساسياً لانجاح عملية البناء الحضاري، والمعركة الشاملة ضد التخلف[49].

ان الدولة الاسلامية وحدها القادرة على تقديم «مركّب حضاري» قادر على تحريك الامة وتعبئة طاقاتها وامكاناتها، باعتبار ان هذه الدولة تتخذ من الاطروحة الالهية اساساً لعملية البناء، واطاراً لنظامها الاجتماعي، وذلك عبر مايلي:

1ـ الايمان بالاسلام، وتحمل مسؤوليات هذا الايمان. قال تعالى: ( كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَوْنَ عن المنكر وتؤمنون باللّه )آل عمران / 110.

وقال عزّ من قائل: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) البقرة / 143.

ان للامة الاسلامية ثلاث خصائص على الصعيد الداخلي تتمثل في الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والايمان باللّه، وعلى الصعيد الخارجي تتحمل الامة مسؤولية الشهادة، و«مالم يكن المسلمون على مستوى هاتين المسؤوليتين، فلا امة اسلامية بالمعنى الصحيح، وما لم تتخذ العقيدة الاسلامية مركزها القيادي أساساً لممارسة هاتين المسؤوليتين في كل جوانب الحياة فلا رسالة اسلامية في واقع الحياة بالمعنى الصحيح»[50].

ويوضح الامام الشهيد (قدس سره) ان العقيدة الاسلامية حتى لوكانت باهتة لدى الجزء الاعظم من المسلمين؛ بسبب عصور الانحراف والعمل الاستعماري الذي جهد على تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها، فانها تشكِّل عاملاً سلبياً تجاه أيِّ اطار حضاري، أونظام اجتماعي لاينبثق فكرياً وايديولوجياً من الاسلام، الأمر الذي يشكل موقفاً رافضاً لكل عمليات التحريك الحضاري التي تمارسها الانظمة والمذاهب غير الاسلامية لدى استيلائها على السلطة وقيادة المجتمع، فتضطر الاخيرة الى ممارسة القمع والاكراه، بما يكرِّس ويعزز قناعة الامة بعدم شرعيتها، وبالتالي فان طاقات الامة ستتبدد على اتجاهين: الطاقات المبدَّدة في (عمليات القمع والاكراه)، والطاقات المبدَّدة في (رد الفعل الصامت) وما تستوجبه من جهد ومقاومة»[51].

ولكن القضية تختلف في دولة الاسلام، حيثُ تتحول العقيدة الى عامل ايجابي في عملية البناء الحضاري الجديد، حيثُ تصنع الدولة الاسلامية حداً لمأساة الانشطار والتجزئة في كيان الفرد المسلم والتي تفرض عليه ولاءات متعارضة، فتعيد اليه وحدته الحقيقية وانسجامه الكامل[52].

2ـ وضوح التجربة والارتباط العاطفي بتاريخها: فالدعوة الى البناء تقدم مثالاً واقعياً يشكل اهم دافع للانسان الى البذل والعطاء، ويندمج هذا المثال مع اعمق المشاعر النبيلة والعواطف الانسانية، ويستمد وجوده من اشرف مراحل تاريخه وانقاها، الامر الذي يدفع الفرد المسلم في اطار التعبئة الحضارية ان يكون مطمئناً الى طريقه، واثقاً بهدفه، قادراً على تمييز خط المسير، بامتلاكه المثل الاعلى «المقياس الموضوعي» مما يؤدي الى تهيئة «الجوالنفسي في هذا السبيل، لا بوصفه آلة تسير وفقاً للخطة، بل بوصفه واعياً على الخطة، مدركاً معالمها ومثلها الاعلى في واقع الحياة»[53].

3ـ نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالمستعمرين: اذ ان للامة الاسلامية شعوراً نفسياً خاصاً تجاه الاستعمار، نتيجةً للمعاناة المريرة التي لاقتها على يديه، ويتّسم هذا الشعور بالانكماش والقلق والحساسية ازاءه، وازاء الانظمة المستمدة من أوضاعه الاجتماعية.

ان المنهج الاسلامي يتمتع بنظافة مطلقة، لانه لايرتبط في ذهن الامة بتاريخ أعدائها، بل بتاريخ أمجادها الذاتية، ويعبِّر عن أصالتها، بحيثُ يولد شعوراً يعتبر عاملا ضخماً لانفتاح الامة على عملية البناء الحضاري الذي يتبناه الاسلام، وان هذه العملية الحضارية لن تبدأ من الصغر؛ لانها ليست غريبة عن الامة، وانما لها جذورها التاريخية والنفسية ومرتكزاتها الفكرية[54].

4ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد: فمن المحتم ان تصطدم حركة التجديد بالاعراف والتقاليد والاخلاق والسنن الاجتماعية السائدة التي اكتسبت بمرور الزمن درجة من القداسة، ولكي تتمكن حركة التجديد ان تواجه التوتر النفسي الناشئ عن ذلك فانها ستكون بين خيارين : اما ان تحاول استئصال الجذور النفسية لهذا التحفز الرافض باجتثاث العقيدة الدينية التي تعتبر أساساً تقليدياً لمشاعر المحافظين ومحفزاً لتمسكهم بالتقاليد السائدة، واما ان تحاول ان تنزه الدين عن هذه التقاليد، وتعمل على توعية الجمهور على حقيقة الدين ودوره في الحياة.

ان الدولة الاسلامية، ومن خلال مسؤوليات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان باللّه ستكون قادرة، في حركتها التجديدية، على امتصاص الجزء الاعظم من المحافظين لمصلحة البناء والتجديد، وذلك عبر الادراك العميق للاسلام والوعي الثوري له، بما يمكن الدولة من القدرة على اقناع الامة والمحافظين فيها بالتفسير الصحيح للاسلام، وفصله عن الاوضاع المتخلفة[55].

5ـ التطلع الى السماء ودوره في البناء: بخلاف الانسان الاوربي المنشد الى الارض، يتطلع الانسان الشرقي الى الغيب والسماء ـ نتيجةً للتاريخ الديني ـ، وسبب هذه الغيبية العميقة لدى الانسان الشرقي المسلم فان الفكر لديه يتجه نحوالجوانب العقلية من المعرفة البشرية دون الجوانب المرتبطة بالواقع المحسوس، بحيث يحدّ ذلك من قوة اغراء المادة لديه، ويكون عندئذ امام واحد من ثلاثة مواقف هي: الزهد، اوالقناعة، اوالكسل.

وينتج ذلك عن انفصال الارض عن السماء، «اما اذا أُلِبسَت الارضُ اطارَ السماء، وأُعْطِيَ العملُ مع الطبيعة صفةَ الواجب ومفهوم العبادة»؛ فان النظرة الغيبية ستتحول الى طاقة محرِّكة، وقوة دافعة. ان ذلك هوماتنهض به دولة الاسلام، باعطاء المعنى الصحيح للغيب والسماء، وباضفاء الوجوب والصفة الشرعية على العمل في الارض مظهراً من مظاهر الخلافة على الارض[56].

بقلم: المحامي عقيل سعيد

[1] ريتشارد هرير دكمجيان ـ الاصولية في العالم العربي ـ ترجمة وتعليق : عبد الوارث سعيد ـ ص 186.

[2] صدرت في كراس بعنوان (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية في ايران).

[3] د. كمجيان، المصدر السابق ـ ص 188.

[4] الامام الشهيد الصدر ـ أسس الدولة الاسلامية ـ منشور في : مقالات اسلامية ـ ص 130.

[5] أندريه هوريوـ القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ـ الجزء الاول ـ تعريب : علي مقلد، وشفيق حداد، وعبد الحسن سعد ـ ص 106.

[6] للتوسع : الدكتور علي غالب العاني والدكتور نوري لطيف ـ القانون الدستوري ـ ملازم بالرونيوـ ص 76 ومابعدها.

[7] هوريوـ المصدر السابق ـ ص 106.

[8] الدكتور منذر الشاوي ـ القانون الدستوري ـ الجزء الاول ـ ص 56 وص 58 ومابعدها.

[9] الامام الشهيد الصدر ـ المدرسة القرآنية ص 123، وكذلك انظر : اقتصادنا ص 31 ومابعدها.

[10] الامام الشهيد الصدر ـ الاسلام يقود الحياة ـ ص 9 ومابعدها.

[11] المصدر السابق ـ ص 24.

[12] المصدر السابق ص 10 ومابعدها.

[13] للتوسع راجع : عقيل سعيد ـ ممارسة السلطة في الدولة الاسلامية : الصدر والمودودي نموذجاً ـ منشور في : الفكر الجديد (لندن) ـ العدد 7 ـ السنة 2 ـ رجب 1414 هـ / تشرين الثاني 1992 م ـ ص 169 ومابعدها.

[14] المصدر السابق ص 11 ومابعدها.

[15] المصدر السابق ص 12.

[16] عقيل سعيد ـ نظرية الدولة عند الامام الشهيد الصدر ـ منشور في : الفكر الجديد (لندن) ـ العدد 6 ـ السنة 2 ـ محرم 1414 هـ / تموز (يوليو) 1993 م ـ ص 175.

[17] الامام الشهيد الصدر ـ الاسلام يقوم الحياة ـ المصدر السابق ص 16

[18] المصدر السابق ـ ص 14.

[19] المصدر السابق ص 12 ومابعدها.

[20] عقيل سعيد ـ المصدر السابق ص 176.

[21] الامام الشهيد الصدر ـ الاسلام يقود الحياة ـ ص 16.

[22] المصدر السابق ـ ص 144 ومابعدها، وكذلك ص 169 ومابعدها.

[23] المصدر السابق ـ ص 170.

[24] المصدر السابق ـ ص 13 ومابعدها.

[25] المصدر السابق ـ ص 170 ومابعدها.

[26] المصدر السابق ـ ص 171.

[27] المصدر السابق ـ ص 172.

[28] المصدر السابق ـ ص 172.

[29] للاستزادة، راجع : د. ثروت بدوي ـ اصول الفكر السياسي ـ ص 29.

[30] السيد محمد حسين الطباطبائي ـ الميزان في تفسير القرآن ـ الجزء الثاني ـ ص 117 ومابعدها.

[31] المصدر السابق ـ ص 124.

[32] الاسلام يقود الحياة ـ ص 3 ومابعدها.

[33] المصدر السابق ـ ص 17 وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) : «كانت بنو اسرائيل تسوسهم الانبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي» صحيح مسلم / الحديث 1842.

[34] المصدر السابق ـ ص 4 ومابعدها.

[35] المصدر السابق ـ ص 175.

[36] الامام الشهيد الصدر ـ المدرسة الاسلامية ـ ص 96، وكذلك ص 98.

[37] المصدر السابق ـ ص 89.

[38] الامام الخميني ـ الحكومة الاسلامية ـ ص 53.

[39] الاسلام يقود الحياة ـ ص 15.

[40] المصدر السابق ـ ص 197.

[41] انظر : محمد عبد الجبار ـ رؤية السيد الصدر للمشروع الحضاري ـ منشور في مجلة المنطلق (بيروت) ـ العدد 62 ـ كانون الثاني 1990 ـ ص 96

[42] الامام الشهيد الصدر ـ أهل البيت : تنوع ادوار ووحدة هدف ـ ص 128 ومابعدها.

[43] انظر : عقيل سعيد ـ المصدر السابق ـ ص 167 ومابعدها.

[44] الاسلام يقود الحياة ـ ص 177.

[45] المصدر السابق ـ ص 178 ومابعدها.

[46] المصدر السابق ـ ص 179 ومابعدها.

[47] المصدر السابق ـ ص 180 ومابعدها.

[48] المصدر السابق ـ ص 185 ومابعدها وكذلك راجع الاهداف التي ترمي اليها الدولة الاسلامية على الصعيدين الداخلي والخارجي في : المصدر نفسه ـ ص 14 ومابعدها.

[49] المصدر السابق ـ ص 192

[50] المصدر السابق ـ ص 194.

[51] المصدر السابق ـ ص 194 ومابعدها.

[52] المصدر السابق ـ ص 196 ومابعدها.

[53] المصدر السابق ـ ص 199.

[54] المصدر السابق ـ ص 199 ومابعدها.

[55] المصدر السابق ـ ص 201 ومابعدها.

[56] المصدر السابق ـ ص 204 ومابعدها.