الامام الصدر في الحركة السياسية والدولة الاسلامية

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة
من اجل وضع نهاية للمأساة المستمرة للانسان المعاصر في ظل محيط اجتماعي واقتصادي ظالمين، يرسم السيد محمد باقر الصدر معالم حركة سياسية تهدف قيادة المستضعفين نحو النصر النهائي.
فالمستضعفون ـ في منظار الصدر ـ هم الشريحة الاجتماعية القادرة على احداث التغيير داخل النظام الاجتماعي الفرعوني، وهو النظام السائد اليوم في العالم الاسلامي.
ان المستضعفين هم امل التغيير والتطور في هذا النظام السياسي وهم مصدره. ولهذا فان الامام الصدر يهدف في مخططه الى توظيف الطاقات والقابليات لهؤلاء المستضعفين وقيادتهم وتوجيههم نحو انتصارهم النهائي على قوى الاستكبار.
ان القانون التأريخي الحاسم الذي يقرر حتمية انتصار المستضعفين على المستكبرين، يعتمد على العزم والتصميم الذي يبديه المستضعفون وكفاحهم الدؤوب للوصول الى الهدف، ولذا كان لزاما عليهم ان يجاهدوا في مسيرة طويلة وشاقة للوصول الى شاطىء النصر، وهذه المسيرة قد تمتد لسنوات طويلة من الصراع والمعاناة وتحمل الوان الاضطهاد من قبل اعدائهم.
برنامج سياسي
ان الشرط الاساسي لنهضة الامة، اي امة، حسب رأي السيد الصدر هو ان يتوفر لتلك الامة المبدأ الصالح الذي يحدد للامة اهدافها وغاياتها ويضع لها مثلها العليا، ويرسم اتجاهها في الحياة.
ويحدد السيد الصدر ثلاثة عناصر في تعريف المبدأ الصالح:
1ـ طبيعة المبدأ نفسه.
2ـ فهم الامة له.
3ـ وايمانها به.
وبالاضافة الى ان فكرة المطلق تحتل موقعا مركزيا في العقيدة الاسلامية فان المبدأ الاسلامي له كل الخصائص الضرورية والقادرة على تحريك المؤمنين ودفعهم للمساهمة في الصراع السياسي ـ التأريخي لتحقيق خلافة الانسان لله في الارض. وقبل كل شيء فان الاسلام باعتباره عقيدة ربانية، تضفي على تعاليمه وممارساته طابعا تقديسيا لدى معتنقيه، وهذا الامر يميزه عن غيره من المبادىء والنظريات الفلسفية التي لا يصل الايمان بها لدى اتباعها الى مستوى اليقين الذي يمثله الدين في قلوب المؤمنين به.
فالدين لدى المؤمنين به، هو المذهب الحق الذي جاء من عند الله، المتصف بالعلم والمعرفة المطلقين، وهذا هو الفارق بينه وبين سائر المذاهب التي لا تصل في عقيدة اصحابها الى درجة الدين. فمثلا قد يظن من يؤمن بالماركسية بان كارل ماركس نفسه ربما كان مخطئا في فهم بعض الشروط التأريخية، كما حصل مع لينين، الذي ادرك سذاجة فهم ماركس في ان الطبقة العاملة ستنظم نفسها لقيادة ثورة البروليتاريا. ولذا وجد لينين انه بحاجة الى تشكيل الحزب الشيوعي حيث يتولى المثقفون قيادة الطبقة العاملة نحو هدفها النهائي. في حين لا يخطر ببال من يؤمن بالدين بان الله سبحانه وتعالى او نبيه المرسل يمكن ان يخطأ في هداية الانسان. ان التعاليم الدينية هي الحقيقة المطلقة والابدية.
ويعطي الاسلام ايضا الامل بان النصر حليف المؤمنين، وهذا الامل هو بصيص النور الذي لا تستغني عنه كل الدعوات. وحين يفقد المذهب السياسي الامل في تحقيق النصر والنجاح فانه يفقد قيمته ويخسر وجوده .
ان الوعد الالهي الذي قطعه الله ـ سبحانه ـ لعباده المؤمنين، بأن النصر والغلبة ستكون الى جانبهم بغض النظر عن الظروف التأريخية المحيطة بهم يشكل مصدرا كبيرا للامل عند المؤمنين. وكان لهذا الامل دور فعال في تحريك المسلمين في الايام الاولى للرسالة الاسلامية، لمواجهة الظروف الصعبة والتحديات الخطيرة التي واجهتهم، ودفعهم الى تحطيم عروش الظلم وتحرير المستضعفين من سطوة الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطينية .
ولا زالت حتى الآن الرسالة الاسلامية ـ كما كانت ـ قادرة على بعث الامل في نفوس الدعاة بل هي تبعثه فعلا بما يشع من نصوصها القرانية والنبوية من وعد بالنصر اذا خلصت النية واحكمت الخطة على اساس الاسلام .
والميزة الثالثة للعقيدة الاسلامية هي قدرتها على تسخير الدوافع الذاتية والمثالية معا لصالح الرسالة الاسلامية . ان اي مذهب اجتماعي يسعى الى اعادة صياغة المجتمع وفقا للصورة التي يراها، كما عليه ان يلزم اتباعه بافكاره ومثله. وهذه المثل يجب ان تكون قادرة على تحريك الاتباع ودفعهم للتضحية من اجل تحقيق الاهداف الموعودة. وما لم يجد الانسان بعض المنفعة الشخصية في مقابل تضحياته، فان دوافعه نحو التضحية سوف تخمد مع مرور الزمن. والاسلام يدفع المؤمنين لتحقيق المثل والمبادىء من خلال فكرة الثواب والاجر، فالتضحية من قبل المؤمن من اجل مبادىء الرسالة تعوض بمنافع شخصية، حيث الوعد الالهي للمؤمنين بالجنة.
ان الفكرة الاسلامية التي تسعى الى تحقيق اهداف اجتماعية تأريخية، هي في نفس الوقت، تحقق للمؤمن مكاسب شخصية بغض النظر عن نتائج الصراع الذي يخوضه المومنون.
ان عدم معرفة الامة للاسلام معرفة حقيقة هو السبب وراء تأخرها ومعاناتها.
ويطرح الامام الصدر تساؤلا شاملا وهو: كيف ان امتنا الاسلامية التي لا تفهم من الاسلام الا صورة باهتة لمبادئه وتعاليمه، لا تزال تؤمن به ايمانا عميقا؟ ويجيب على هذا التساؤل بالقول، بان الامة الاسلامية منذ منيت بالمؤامرة الدنيئة المستترة تارة والسافرة اخرى من ابناء الصليبيين المستعمرين اعداء الاسلام التاريخيين، الذين لم يكن لهم هم بعد القضاء على كيان الاسلام الدولي الا ان يباعدوا بين الامة ومبدئها. ولكن لما كان ايمان الامة بالاسلام اقوى من تلك المؤامرات والمخططات الاستعمارية جميعا استطاع ان يثبت وينتصر في المعركة. فظلت الامة محتفظة بايمانها.. باسلامها العظيم.
واما فهم الامة للمبدأ ومفاهيمه وحقائقه فقد كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية الفصل بين الامة والمبدأ. فقد استعمل الغزاة الآثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الاسلام في ذهنية الامة. وهكذا اصبحت الامة بعد ان نفذ اعداؤها فيها مخططهم الفظيع وهي لا تعرف من الاسلام شيئا واضحا. وبهذه الطريقة وجد التناقض العجيب في كيانها فاصبحت لا تفهم الاسلام فهما صحيحا كاملا بالرغم من انها ظلت باقية على ايمانها به .
ويهمل السيد الصدر كلية العوامل الداخلية التي يمكن ان تكون سببا للمشكلات التي يواجهها المجتمع الاسلامي، كقصور المسلمين في فهمهم لعقيدتهم، ويرجع هذه المشكلات الى عوامل خارجية.
ويبدو ان السيد الصدر في هذه الحالة (غير موضوعي) في تقديره لكل وجوه المشكلة، مشكلة عدم ادراك الرسالة من قبل ابناء الامة. ربما عمل الاستعمار الغربي على ابعاد الامة عن عقيدتها، ولكنه بالتأكيد لم يكن السبب الوحيد عن هذا الابتعاد .
في تحليله للقسم السابق والذي طرحه السيد الصدر في بحثه عن دور اهل البيت عليهم السلام، اشار الى مشكلة توقف عملية تربية الامة من قبل القيادة المعصومة. حيث ان قصر المدة التي تربت الامة فيها على الاسلام ادى الى ابتعاد الامة عن فهمها لمبادئ الاسلام مع مرور الزمن. ثم جاء الغزو الاستعماري الغربي ليشكل الضربة الاخيرة التي وجهت الى الامة، عبر عملية تأريخية طويلة. أدت الى فصل الامة المسلمة عن الاسلام.
واعتمادا على هذا التحليل، فان السيد الصدر اراد ان يعيد للامة فهمها لأسلامها، ودفع المسلمين لاعادة اكتشاف دينهم ووعي ابعاده.
وكان مشروعه السياسي يهدف الى كشف النقاب عن كنوز الامة التي لا تنضب، حيث يحقق الاسلام للامة تطلعاتها وأمانيها، ويصبح القوة المحركة لها، وسبيلا لتحررها وانعتاقها الكاملين .
هذا التخطيط يفسر لنا رغبة السيد الصدر في كتابة بحوث اتسمت بالعمق والتفصيل، تناولت دراسة ونقد كبرى المدارس الفلسفية والمذاهب الاجتماعية الغربية، وعرض الاسلام باعتباره المبدأ الحق، والسبيل الوحيد القادر على معالجة مشكلات الانسان المعاصر.
ويعتبر كتاباه الكبيران فلسفتنا واقتصادنا الخطوة الرائدة في محاولته لتحقيق هذا الهدف.
اراد السيد الصدر أن يبين للمسلمين بان الحل لمشكلاتهم الاجتماعية ولتخلفهم عن باقي الأمم، لا يكمن في افكار الغرب ونماذجه الحضارية، وانما في الاسلام. كما سعى الى بناء كتلة من المؤمنين، الذين لا يكتفون بانهم اصحاب ايمان راسخ بالاسلام، بل ومستعدون ايضاً للتناغم والتفاعل مع تعاليم دينهم، واعتماد الاسلام طريقاً للحياة وليس مجرد مجموعة طقوس وعبادات. ان ما يرسخ في الاذهان يجب ان يجسد كأهداف وممارسات، لان المشاعر والعواطف ما هي الا نعكاسات للافكار والمفاهيم، وهي لابد ان تكون متطابقة مع مبادىء الاسلام.
والاسلام، كدين، يريد للافكار ان تتولى صياغة المشاعر الانسانية والتي بدورها تنعكس في سلوك الانسان وممارساته في الحياة .
ان العلاقات الاجتماعية والسلوك الشخصي للمسلم يجب ان تتطابق مع مبادىء الاسلام وقيمه. وبهذه الطريقة فان المسلم يجد الانسجام والتناسق في داخه، لان مشاعره منسجمة مع افكاره، ولا يجد تناقضاً، او تضاداً بين سلوكه وايمانه، فهو انسان واثق من نفسه، بعكس اولئك الذين يعيشون الصراع الدائم بين ما يعتقدون وما يمارسون في حياتهم اليومية.
الهدف السياسي
يرى السيد الصدر ان ثلاثة عوامل تحدد شخصية الانسان وهي:
1ـ الافكار: وهي التي تحدد الرؤية الفلسفية حول قضايا الوجود والحياة.
2ـ العواطف: وتشمل كل العناصر النفسية المنبعثة من الافكار والتي تؤثر في سلوك الانسان في حياته، كالحب والكراهية والتعاطف والرفض والشرف والعار.
3ـ السلوك: والذي يتضمن كل الافعال والممارسات والمواقف الايجابية والسلبية، والتي هي محصلة افكار الانسان وعواطفه . فالفرد الذي يعي بشكل كامل ما يحمل من افكار ومعتقدات ويتصرف على ضوء هذا الاعتقاد، يطلق عليه السيد الصدر بالشخصية الملتزمة.
وفي المقابل، فان اولئك الذين لا تحدد معتقداتهم سلوكهم الشخصي، هم شخصيات غير ملتزمة . لذا فان الشخصية الاسلامية لا يصح اطلاقها على اولئك الذين يتلفظون بقول «لا اله الا الله وان محمداً رسول الله» ولكنا لا نجد لتعاليم الاسلام وتشريعاته اي دور في سلوكهم وممارساتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
انها بالتأكيد تشمل اولئك الذين يضعون مصالح الاسلام فوق مصالحهم، ويرتبطون بالله من خلال التزامهم وسلوكهم، ويسعون لان يكونوا في مجتمعاتهم نماذج تجسد الاسلام وتحتذى في سلوكها داخل المجتمعات التي يعيشون فيها .
ويرى السيد الصدر، ان هذا النوع من المؤمنين هم الذين يمثلون العناصر الاساسية في معركة تحرير الامة وانعتاقها، ونهضة الاسلام كي يعود ثانية الى موقع القيادة والتوجيه في حياة المسلمين، بعد ان نحي جانباً من قبل القوى الاستعمارية الغربية خلال القرنين الماضيين. وكلما ازداد عدد الافراد الملتزمين بالاسلام في اوساط الامة، ازدادت الآمال لتحقيق الهدف. ان عملية الصراع بما تستلزمه من معاناة ومصاعب، تتطلب ارتباطاً حقيقياً بالله سبحانه، والتزاماً عميقاً لتحقيق الاهداف. وما لم يتوفر جيش احتياطي من هؤلاء الافراد الملتزمين فان مسيرة الجهاد في سبيل الله سيعرقلها الطواغيت، وسيطول انتظار فجر الانتصار.
ان هذا الجيش من الافراد الملتزمين هو الذي يحقق انتصار الحركة الاسلامية في المدى البعيد.وحول هذه القضية يقول السيد الصدر:
ان هدفنا ـ ايها الاخوة ـ في هذه المرحلة التاريخية هو تعبئة اكبر قدر ممكن من الافراد الملتزمين الذين يجسدون الاسلام في واقع حياتهم، والذين سيغيرون ـ بمشيئة الله ـ مسار التاريخ البشري، وسيعيدون للانسانية شرفها وقيمتها، وسيرتقون بها الى اعلى درجات الرقي الحضاري الذي يمكن للانسان ان يراه اليوم.
واضافة الى التزام هؤلاء الافراد بعقيدتهم، فانهم يتحملون مسؤولية العمل والمعاناة من اجل تحقيق الهدف الاجتماعي التاريخي. وهذه المعاناة هي التي تميزهم عن غيرهم من المسلمين الملتزمين بالاسلام، الذين لا يحملون هم الدعوة الى الاسلام والعمل على تطبيقه في حياة الناس..
فهذا الصنف الثاني من المسلمين، ربما كانوا يملكون ايماناً عميقاً بدينهم وفهماً جيداً لتشريعاته والتزاماً كبيراً باحكامه، ولكنهم ـ مع ذلك ـ يعيشون على هامش التاريخ، فليس لهم دور اجتماعي يؤدونه في الحياة. ولذا لم يكن لهم موقع في العوامل المؤثرة في العملية التاريخية للتطور الانساني. ان الهدفية هي التي تعطي معنى للحياة، لان قيمة حياة الانسان تساوي الفكرة التي يؤمن يها ويسعى الى تحقيقها.
فالانسان الهادف يجاهد من اجل ايجاد افضل الاجواء المناسبة لعقيدته، وهذا يتحقق عبر ثلاث طرق:
1ـ اعطاء عقيدته الدور القيادي في الحياة الاجتماعية.
2ـ بتعزيز قواعدها وابراز تفوقها على غيرها من المبادىء والافكار.
3ـ ومن خلال نشر رسالتنا بين الناس وزيادة تأثيرها في الحياة.
وفى نفس الوقت، فان الحركة الاسلامية يجب ان لا تقتصر على تكثير عدد الافراد الملتزمين بالاسلام، وانما ايضاً تعمل على اكتشاف العناصر الواعية من بينهم، لانهم يمثلون قادة الامة الحقيقيين في المستقبل، والذين تعتمد عليهم في تحقيق تطلعاتها في استرجاع سيادتها وعزتها وهيبتها العالمية .
ان تشخيص العناصر الواعية والهادفة عن غيرها عملية حيوية في الصراع الذي تخوضه الحركة.
الوسائل السياسية
ولأجل تحقيق الهدف الاساسي المتمثل في جعل الاسلام المبدأ الاجتماعي الحاكم في المجتمع، الذي يحدد قواعد السلوك للحاكم والمحكومين، فانه لا بد من انشطة سياسية مخططة تنظم الفعاليات للعناصر الاسلامية الهادفة ضمن برنامج سياسي واحد ومحدد.
ان الانشطة العشوائية وغير المنظمة التي يمارسها المسلمون الملتزمون رغم انها قد تنطلق من قناعات مخلصة والتزام صادق، الا انها تظل عاجزة عن تحقيق نتائج مهمة في الحياة السياسية للمجتمع باتجاه الهدف النهائي، لانها تفتقر الى الخطة القادرة على توظيف الجهود والطاقات المتعددة صوب ذلك الهدف.
ان المهمة الاساسية التي تصدى لها السيد الصدر، لم تكن اصلاح الواقع الاجتماعي للمسلمين، وانما نهج اسلوباً تغييراً يرمي الى ازالة الانظمة السياسية الحاكمة والتي لا تستند الى الاسلام واستبدالها بانظمة اسلامية.
وقد اطلق السيد الصدر على خطته السياسية «بالانقلابية» والتي تختلف عن الحركة الاصلاحية، لأن الأخيرة تسعى الى اصلاح الاوضاع السياسية في بعض مظاهرها .
فالحركة الانقلابية تهدف الى تغيير الواقع الاجتماعي القائم على اسس تتناقض مع العقيدة الاسلامية، وتسعى الى ايجاد اوضاع جديدة مكانها تعتمد على المبادىء التي تؤمن بها، وتعمل على بناء الحياة الاجتماعية على ضوء تلك المبادئ .
النظام السياسي الحالي، والذي هو من مخلفات العهد الاستعماري يتناقض تماماً مع قواعد الاسلام والقيم الثقافية للمسلمين.
لقد كلف الاستعمار الغربي امتنا الاسلامية غالياً، فالأمة لم تفقد كيانها السياسي فقط، وانما عمل المستعمرون على احداث انقلاب كلي في حياة الامة، فأقصيت العقيدة الاسلامية عن موقعها من القاعدة الرئيسية لكيان الامة ووضعت الامة في اطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها لقد تنازلت الامة عن رسالتها في الحياة وخضعت لاعدائها وكتب عليها ان تستجدي افكارها ومفاهيمها من اعدائها .
يقول السيد الصدر:
ان قضية الاسلام في مثل هذا الظرف ليست قضية اصلاح بل قضية انقلاب، والدعوات الاصلاحية التي قامت بانشاء المدارس الدينية تارة واصدار الكتب والمجلات الاسلامية تارة اخرى، وتأسيس لجان الوعظ والارشاد مرة ثالثة، ونحو ذلك من الوان الخدمة، ان هذه الدعوات وان قدمت للاسلام خدمات جلّى تذكر فتشكر، ولكنها لا تعدو جميعاً ان تكون اعمالا جانبية وليست من صميم المعترك، فإن المعركة الرئيسية التي يخوضها الاسلام اليوم مع اعدائه انما تستهدف قبل كل شيء استرداد القاعدة للاسلام وجعل العقيدة الاسلامية في موضعها الرئيس من حياة الامة.
الامر ايها الاخوة ليس امر شبيبة تفسدها المدارس ولا أمر جماعة تحتاج الى وعظ وتوجيه، ولا أمر بيئة يجب ان تهذب وتنظف من الدعارة والفساد، بل امر امة يجب ان تقام على اساس الاسلام لتسعد في الدنيا والآخرة . ان الحل لهذه الاوضاع لا يأتي من اصلاح بعض مظاهر المجتمع وانما من التغيير الشامل للبناء الاجتماعي. والحركات الاصلاحية كانت نافعة يوم كانت الاسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي اسساً اسلامية، رغم وجود بعض عناصر الانحراف داخل ذلك النظام. ويضيف السيد الصدر قائلا: اما في حالة النظام الذي يتناقض كلياً مع الاسلام ويقوم على اسس غير اسلامية، فان الاصلاح في مثل هذه الحالة لا يكون مجدياً، ويظل الانقلاب هو السبيل الوحيد لاعادة الاسلام كقوة حاكمة في المجتمع.
ان اعادة بناء المجتمع على اساس الاسلام لا يمكن تحقيقه الا من خلال تنظيم النشاطات الاسلامية وتركيز الجهود المبعثرة وتوجيهها نحو هدف واحد.
الانشطة والفعاليات المختلفة للعاملين الاسلاميين يجب ان لا تبتعد عن تحقيق الهدف المركزي للحركة الاسلامية ككل. ولا يرفض السيد الصدر تنوع الاساليب والوسائل لتحقيق ذلك الهدف، ولكنه يشدد على ضرورة ادراك الهدف وتشخيصه، والمتمثل في اقامة نظام سياسي اسلامي.
فحين يتم الاتفاق بين العاملين الاسلاميين على الهدف الذي يسعون لتحقيقه، يصبح من الممكن توجيه الاساليب او تغييرها اذا ما تبين صعوبة او استحالة تحقيق الهدف من خلالها .
لقد خطط السيد الصدر لما اعتبره الاساليب الفعالة لتحقيق الهدف التغييري، وكان يرى ان افضل السبل الممكنة لتنسيق الانشطة المختلفة وتوحيدها لتكون قوة فعالة موحدة، هو تعبئة طاقات ابناء الامة الملتزمين من خلال تنظيم سياسي (الحزب)، فهذا التنظيم يمثل اسلوباً متطوراً على الاساليب التي كانت سائدة في الساحة الاسلامية. فالحزب لا يقتصر دوره على تنظيم الجماهير وتوجيهها نحو هدف محدد، وانما يتولى الحزب توعية اعضائه وتربيتهم كي يكونوا مؤهلين لحمل مهمة الدعوة الى الاسلام في اوساط الامة وقد برهنت التجارب التاريخية للحركات السياسية المختلفة في العالم، ان التنظيم هو الاسلوب الناجح في تغيير المجتمع سواء باتجاه الخير او الشر .
نعم ان هنالك فرقاً بين العمل التنظيمي للاسلام وبين العمل التنظيمي لأي مبدأ آخر، وهذا الفرق ينبع من طبيعة الاسلام وطبيعة المبادىء الاخرى. فالعاملون في التنظيم الاسلامي يعملون لرسالة الله وليس لرسالة الانسان، ويطيعون احكام الله ولا يطيعون بشراً، ويأخذون جزاءهم من الله وليس من البشر .
اضافة الى ان الافضلية في التنظيم الاسلامي ـ حسب رؤية السيد الصدر ـ لا تأتي حسب المرتبة او الموقع في التنظيم، كما هي الحال في التنظيمات غير الاسلامية، وانما هي الافضلية عند الله. وهذا يعني ان الاعضاء في التنظيم الاسلامي يطيعون اوامر الله فقط وليس اوامر اولئك الذين هم اعلى مرتبة منهم في التنظيم. الا ان هذه الافضلية الروحية تؤدي الى الفوضى والارتباك داخل الحزب، في حين ان الحزب انما انشئ على اساس الطاعة من قبل اعضائه لتعليمات وأوامر القيادة. ولمعالجة هذه المشكلة فان السيد الصدر يوضح بان اطاعة الاوامر في التنظيم الاسلامي هي اما ان تكون طاعة لاحكام شرعية او تكون التزاماً بمصلحة شرعية قدرتها الدعوة.
ان الصفة الشرعية الالزامية للانضباط في الدعوة تنبع من:
1ـ العهد الشرعي او القسم الذي يقطعه العضو على نفسه بالانضباط وفق ما تفرضه مصلحة الدعوة الى الاسلام.
2ـ من توقف تحقيق الاهداف الاسلامية المقدسة في الحياة على العمل الجماعي المنظم والمخطط له بحكمة، وتوقف فعالية أي عمل منظم على توفر الانضباط التنظيمي بين عناصره، خاصة مع فهم طبيعة القوى الكافرة في عصرنا الحاضر التي تستخدم سلاح التنظيم في محاربتها لدين الله والداعين له .
3ـ من اعمال الفقيه لولايته الشرعية في وجوب اطاعة التنظيم . ويرى السيد الصدر، ان تشكيل الحزب الاسلامي ينسجم مع احكام الاسلام، وان اطاعة اوامر الحزب تعتبر التزاماً دينياً.
وفضلا عن ذلك فان السيد الصدر يؤكد بان الشريعة الاسلامية لم تأمر باتباع اسلوب محدد في التبليغ والتغيير، ولذا جاز شرعاً انتهاج أية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الاسلام واحكامه وتغيير المجتمع بها ما دامت طريقة لا تتضمن محرماً من المحرمات الشرعية.
وحيث ان الحزب السياسي هو اسلوب فعال لتحقيق الاهداف الاسلامية، وليس فيه مخالفة لاحكام الاسلام، لذا فان من الجائز اعتماده لاهداف اسلامية.
ويؤكد السيد الصدر على خطأ الفكرة القائلة برفض اي اسلوب غربي او غير اسلامي بدعوى انه اسلوب خاطىء ومناف للاسلام. فالاسلوب الذي يعتمده مبدأ من المبادىء، وليس من الضروري ان يكون مرتبطاً بشكل مباشر او غير مباشر بذلك المبدأ، وانما يمكن توظيفه بالشكل الذي لا يتعارض مع اسس المبدأ او العقيدة . فاذا كان التنظيم الحزبي هو الاسلوب الشائع في الانشطة السياسية في الغرب، فان ذلك لا يعني عدم امكانية اعتماد هذا الاسلوب من قبل المسلمين، بل ان السيد الصدر يؤكد ان هذا الاسلوب ليس غريباً عن التراث الاسلامي.
فلو ان الرسول (ص) كان في عصرنا لاستعمل بمقتضى حكمته الاساليب الاعلامية والتبليغية المعاصرة والملائمة، والحق ان اسلوبه (ص) في الدعوة ما كان عن التنظيم الحلقي ببعيد .
اضافة الى ان الرسول (ص) قبل بعثته، كان قد انضم الى مجموعة اجتماعية سميت بحلف الفضول، والذي كان هدفه حماية حقوق الضعفاء الغرباء في مكة. ولقد اشار (ص) حين كان في مكة وواجه قضية مشابهة حيث تعرض الغرباء الى المضايقة من قبل اهل المدينة، فقال (ص) لو ان لي حلفاً كحلف الفضول .
ويرى السيد الصدر ان التنظيم الاسلامي ليس مجرد امر جائز بل هو امر واجب في العصر الحاضر. لان من خلاله يمكن تجميع جهود العاملين وتنسيقها لتحقيق هدفهم في اقامة الدولة الاسلامية.
كما ان المسلمين الذين ينتظمون في الحزب عليهم تنسيق نشاطاتهم مع خطط الحزب وعدم الانحراف عن برنامجه العام.
وفي الحقيقة فان العضو في التنظيم عليه دائماً العودة الى الحزب للتشاور معه وللتأكد من ان نشاطه منسجم مع الهدف العام للحزب، كي تكون كل الانشطة السياسية متجهة صوب هدف واحد .
في نفس الوقت، فان اعضاء الحزب يجب عليهم تنفيذ الخطط والمسؤوليات التي تعهد اليهم من قبل الحزب، وان يكون تكثير الاعضاء القضية ذات الاولوية في نشاطاتهم.
وفي هذه الحالة فان السيد الصدر يعتقد بان النشاط السياسي للحزب يتحمله الرجال المخلصون الذين يسخرون كل وجودهم من اجل تحقيق هدفهم في الحياة .
ويحدد السيد الصدر المراحل التي يحتاج الحزب السياسي المرور بها قبل الوصول الى تحقيق هدفه النهائي في بناء النظام السياسي الاسلامي، آخذاً بنظر الاعتبار الظروف التأريخية التي يعيشها العالم الاسلامي بشكل عام والعراق بوجه خاص. فعلى اساس فهمه السياسي للواقع الذي يعيشه المسلمون، فان الصدر يحدد أربع مراحل:
1ـ مرحلة النباء.
2ـ المرحلة السياسية.
3ـ مرحلة الحكم.
4ـ مرحلة خدمة وحماية المصالح الاسلامية للامة .
في البدء، لابد للحركة الاسلامية ان تضمن عددا كافيا من الاعضاء الملتزمين، لضمان استمرارية الحركة عند مواجهتها لظروف سياسية غير متوقعة لذا فان السيد الصدر يرى ان في المرحلة الاولى تقوم الحركة الاسلامية بالتركيز على الجانب الفكري، حيث يكون نشاط الحركة الاساسي هو نشر الفكر التغييري في اوساط الامة، وتوعية وتربية الطلائع الثورية .
والمرحلة الفكرية هي ليست فقط مرحلة الاعداد بالنسبة للحركة، وانما ايضا لها بعد اجتماعي. فالحركة وخلال نشاطها لتعبئة المسلمين باتجاه هدفها، تهدف ايضا الى ان يكون لها دور مؤثر في اوساط المجتمع كي يشكل المجتمع غطاءا يحميها من الاضطهاد والقمع السياسي، وكذا تستفيد من احتياطيها من المسلمين الواعين للتأثير على اوضاع المجتمع وسلوكه، وتقوية ارتباطه بالاسلام والتزامه بتعاليمه .
فمن خلال سلوك واهداف وكلمات هؤلاء الواعين (او كما يحلو للينين ان يسميه بالطبقة المثقفة) يمكن التأثير على السلوك العام ونمط التفكير للامة.
ورغم ان السيد الصدر يرى ان المرحلة الفكرية يجب ان تستمر الى ان يحين الظرف السياسي المناسب الذي يسمح بنشاط سياسي مباشر ضد النظام الحالي. فانه يعتقد بامكانية التبدل في الجو السياسي الدولي والذي ينعكس اثره بشكل كبير على الاوضاع الداخلية للنظام.
تصاعد الضغط العالمي على النظام بسبب انتهاكاته لحقوق الانسان، مثلا يمكن ان يخفف بعض الاجراءات القمعية التي يمارسها النظام، والذي بدوره يمكن ان يسمح بوجود نظام يتيح حرية المعارضة بالكلمة. وحول هذا الموضوع يقول السيد الصدر:
حين نعيش في بلد ديمقراطي والذي يحترم شعبه وآراءهم، فان السلطات في هذه البلد لا تواجه الشعب بالمذابح والقمع، والتي لا تملك اي مبرر قانوني، وفي هذه الحالة فانه يمكن افتراض ان اي حزب يمكن ان يبدأ نشاطه السري لبناء نفسه، ثم ينتقل الى ممارسة معارضته السياسية بهدف كسب تأييد الامة الى جانبه والالتزام بمواقفه السياسية. الا ان الظروف في بلد كالعراق ليست بهذه الصورة. ففي اي وقت تشعر فيه السلطات الغاشمة بوجود تنظيم اسلامي، يعمل على ضوء مراحله كي يصل الى تحقيق الحكم الاسلامي، فان هذه السلطة تبدأ بممارسة القتل والابعاد والسجن والتعذيب لاعضاء هذا التنظيم، وتمنع كل انشطته في داخل البلد، قبل ان يحقق هذا التنظيم هدفه في جعل الامة تتعاطف معه، وتنصره، ما لم يحصل اي تغيير في الساحة الدولية، يؤدي الى زعزعة استقرار النظام الداخلي، فانه لا توجد امكانية امام الحزب الاسلامي للانتقال من المرحلة الاولى الى المرحلة التي تليها .
ولم يطرح السيد الصدر تفاصيل ملامح ومواصفات المرحلة السياسية، على الاقل في اعماله المنشورة باستثناء بعض تعليقاته حول بناء الدولة الاسلامية والتي نشرت بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران وتأسيس الجمهورية الاسلامية .
ففي عمله الاخير هذا، ركز على دور المرجعية والامة في بناء الدولة، والتي يمكن اعتبارها تصورات للمرحلة الثالثة وجزئيات للمرحلة الرابعة. ويكفي القول بان السيد الصدر اعطى دورا مهما للمرجعية في قيادة الصراع السياسي والدولة الاسلامية.
فالمرجع يمكن ان يأخذ دور المعلم والمرشد الذي بقي فارغا بعد غيبة الامام المعصوم، اي الامام المهدي (عج)، في حين يتولى الحزب دور الامة في مخطط الصدر السياسي.
المرجعية
ان دور المرجعية في نظرية السيد الصدر، ينبع من رؤيته لخلافة الانسان لله في الارض، وحاجته الدائمة الى نوع من التدخل الرباني لحمايته من الفساد وتوجيهه نحو اهداف الخلافة. وبدون هذا التدخل فان الانسان يظل دوما عرضة لتأثيرات الغرائز والشهوات التي تؤدي الى اضعاف اندفاعه نحو التقدم .
وعلى هذا الاساس فان الله سبحانه قد وضع دور (الشاهد)، وهو الفرد الذي يتحمل مسؤولية نقل الرعاية الربانية الى البشر. الانبياء كانوا اول الافراد الذين اختارهم الله ليمارسوا دور الشاهد ولان دور الشاهد دور حيوي لممارسة الخلافة، وبما ان النبوة تتحدد مهماتها في نقل الرسالة الالهية الى البشر، فان رجالا غير الانبياء لا بد ان يختاروا لمواصلة دور هداية الناس ومنعهم من الانحراف.
(انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون) (المائدة ـ آية 44).
ويرى الشهيد الصدر، ان القرآن الكريم قد اختار الائمة ثم الفقهاء لخلافة الانبياء في ممارسة دور الشاهد. ولأن الائمة هم الحكام الشرعيون يدركون القوانين الالهية واحكام الشريعة، فانهم يتحملون مسؤولية حماية رسالة الله وايصالها الى الناس، ويمارسون دورا فعالا في هداية الانسان لانجاز مهمته التأريخية التي اوكلها الله تعالى اليه .
فالشهيد في نظر الصدر مرجع فكري وتشريعي من الناحية الايديولوجية، ويشرف على سير الجماعة وانسجامها ايديولوجيا مع الرسالة الربانية التي يحملها، ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة او اعادتها الى طريقها الصحيح اذا واجهت انحرافا في مجال التطبيق .
الفرق الوحيد بين الاصناف الثلاثة من هؤلاء الذين يمارسون دور الشاهد هو ان الانبياء هم الرسل الذي يتلقون الوحي ويطبقون الرسالة الالهية. بينما الائمة هم الادلاء والمرشدون الذين اصطفاهم الله لتطبيق شرائعه وترجمتها في واقع الحياة، والمرجع حسب ما يراه الصدر:
«هو الانسان الذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الامد استيعابا حيا وشاملا ومتحركا للاسلام ومصادره وورعا معمقا يروض نفسه عليه حتى يصبح قوة تتحكم من كل وجوده وسلوكه، ووعيا اسلاميا رشيدا على الواقع وما يزخر به من ظروف وملابسات ليكون شهيدا عليه» .
فالمرجع اذا يخلف الانبياء والائمة في اداء دور الهداية، ويكون مركزا للقيادة. والشخص الذي تتوفر فيه الشروط المحددة (معرفة بالشريعة «الاعلمية»، والسيطرة على نوازع النفس او ما يسمى بالعدالة) يتصدى لمسؤولية الشاهد في الامة.
الا ان المرجعية لا تتحدد بشخص معين كما هو الحال في الانبياء والائمة، وانما هي مواصفات لمن يريد ان يحتل هذا الموقع الهام والخطير، ان الفهم الخاطئ لدور الشاهد يقع حينما يتوهم بانه مرتبط بشخص المرجع وليس بمهمة المرجعية نفسها.
ان المرجع هو الوريث الشرعي للامام المعصوم بما يمتاز به من علم وعدالة، الا ان هنالك بعض المسؤوليات والاهداف المرتبطة بدور الشاهد والتي يجب انجازها وتحقيقها. والمرجعية عند الشيعة الامامية تستلزم اختيار مرجع معين، ولكنها جعلت ممارسة المرجع لدور الشاهد نتيجة لقدراته او لدوره في الظروف السياسية.
الا ان التناقض في ممارسات المراجع ادى الى الفشل في تحقيق الاهداف التي كان يجب ان تتحقق، مما ادى الى اضعاف دور الشهادة. وما لم تلتزم المرجعية باهداف محددة فان الامة ستجد صعوبة في تحقيق رسالتها الاجتماعية .
وفى صدد تشخيصه لهذه العلة المزمنة، فان السيد الصدر طرح فكرة المرجعية (الموضوعية)، والتي تحل مكان المرجعية (الذاتية). ولتحقيق الهدف العام في دور الشهادة (حماية الرسالة الالهية وهداية الناس في دورهم التاريخي) فان الامام الصدر حدد اهداف المرجعية بما يلي:
1ـ نشر احكام الاسلام على اوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الاحكام في سلوكه الشخصي.
2ـ ايجاد تيار فكري واسع في الامة يشتمل على المفاهيم الاسلامية الواعية من قبيل المفهوم السياسي الذي يؤكد ان الاسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة واتخاذ ما يمكن من اساليب لتركيز هذه المفاهيم.
3ـ اشباع الحاجات الفكرية الاسلامية للعمل الاسلامي وذلك عن طريق ايجاد تلك البحوث الاسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الاسلام وبقية المذاهب الاجتماعية. وتوسيع نطاق الفقه الاسلامي على نحو يجعله قادرا على مد كل جوانب الحياة بالتشريع وتصعيد المؤسسة الدينية (الحوزة) ككل الى مستوى هذه المهام الكبيرة.
4ـ القيمومة على العمل الاسلامي والاشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الاسلام في مختلف انحاء العالم الاسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو صالح منها واسناده وتصحيح ما هو خطأ.
5ـ اعطاء مراكز (العالمية) من المراجع الى ادنى مراتب العلماء الصفة القيادية للامة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الاسلام .
وهذه الاهداف في نفسها تميّز المرجعية الصالحة عن تلك التي تدير نشاطاتها الاجتماعية بشكل عفوي، مما يجعلها في نفسها غير هادفة. ان عملية المرجعية في وضعها الراهن تتركز حول المرجع نفسه، وليس لها قدرة الاستمرارية بعده مطلقا. فكل مرجع ينشئ سلطته ويبدأ نشاطه من نقطة البدء، وليس له اية علاقة بالمرجع الذي سبقه.
فالمرجعية مرتبطة بالمرجع نفسه، وتبدأ حين يبني رصيده العلمي داخل الحوزة وفي اوساط الامة، وتنتهي بموته. والعلة المزمنة الاخرى التي تلازم المرجعية التقليدية، انها عفوية في اختيارها للافراد الذين يتصدون لموقع المرجعية. فليس هناك مواصفات محددة لاحتلال هذا الموقع باستثناء العلم والعدالة. ولو ان هاتين الصفتين يمكن اعتبارهما على انهما صفتان اساسيتان في تحقيق الهدف الاول لدور الشاهد (حماية الرسالة الالهية من الضياع والانحراف)، الا ان مواصفات المسؤولية الثانية وهي قيادة الامة في رسالتها التأريخية تظل مفقودة. ان هذه المهمة الاجتماعية تحتاج بالاضافة للمواصفات التي تحقق اهليتها لانجاز المهمة الاولى من مهمات الشاهد، الى خبرات ومهارات تتجاوز المعرفة الدينية والسلوك القويم.
فهي تتطلب وعيا للظروف الاجتماعية، وما تستلزمه من اجل تغييرها بما يحفظ الدين ويهدي الامة.
لهذه الاسباب فان السيد الصدر كان يفكر في احداث تحول في الطريقة التي تمارس فيها المرجعية نشاطاتها، ولذا فهو اقترح ما اسماه «القاعدة الاجتماعية» التي تجعل دور المرجع في القضايا الاجتماعية اكثر اثرا واطول دواما. وهذه القاعدة هي التي تساعد المرجعية في تحقيق اهدافها .
ومعالجة السيد الصدر لهذه المشكلة تقوم على اساس انشاء (مؤسسة) يكون فيها المرجع مكان المركز، ويكون بناؤها ودورها ونشاطاتها محددة وواضحة.
وبالتحديد اراد الصدر تحويل المرجعية من اسلوبها التقليدي الفردي العشوائي الى مرجعية حديثة مؤسساتية وهادفة.؟
ومخططه السياسي يركز على ما يسميه:
1ـ تطوير عمل المرجعية. 2 ـ مراحل المرجعية.
فلايجاد الاستقرار والثبات لعمل المرجعية، فان المرجعية نفسها يجب ان تعمل ضمن اطار مؤسساتي واضح، حيث تكون الاعمال والأهداف مشخصة بدقة ومحسوبة. وحول هذه المسألة فان السيد الصدر تصور وجود دائرتين تكونان المرجعية:
جهاز المرجعية والذي يعمل كدائرة مركزية، ودائرة الوكلاء الذين يشكلون الاذرع الاجتماعية للمرجعية.
والجهاز المركزي يتكون في البداية من ست دوائر اجتماعية ـ سياسية تتولى تخطيط وتنفيذ نشاطات المرجعية، ويعمل فيها اشخاص يتمتعون بالكفاءة والتخصص وتقسيم العمل، وتكون مهمة كل لجنة محددة بما يلبي حاجات المرجعية ويمكنها من تحمل مسؤولياتها وتحقيق اهدافها .
ويمكن للمرجعية في مراحل اخرى تطوير هذه اللجان بما يناسب توسع الاعمال وتنوعها، كي تشمل كل قضايا الامة.
وهذا الجهاز المركزي يقوم بالعمل بدلا من (الحاشية) والتي تعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من اشخاص جمعتهم الصدفة والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئية وبدون اهداف محددة واضحة .
ويحدد السيد الصدر بعض مهمات هذه الدوائر او اللجان بما يلي:
1ـ لجنة لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية، وهي تمارس تنظيم مناهج الدراسة وتضع الكتب الدراسية وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق اهداف المرجعية الصالحة وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافية للطلبة وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
2ـ لجنة البحث العلمي ووظائفها ايجاد دوائر علمية لممارسة البحوث ومتابعة سيرها والاشراف على الانتاج الحوزوي الصالح وتشجيعه ومتابعة الفكر العالمي بما يتصل بالاسلام والتوافر على اصدار شيء كمجلة وغيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة الى الحوزة او التعاون معها اذا كانت في الخارج.
3ـ لجنة مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة بالمرجعية وضبط اسمائهم واماكنهم ووكالاتهم وتتبع سيرتهم وسلوكهم واتصالاتهم والاطلاع على النقائص والحاجات والفراغات وكتابة تقرير اجمالي دوري او عند طلب المرجع.
4ـ لجنة الاتصالات وهي تسعى لايجاد صلات للمرجعية في المناطق التي لم تتصل مع المركز، ويدخل في مسؤوليتها احصاء المناطق ودراسة امكانات الاتصال بها وايجاد سفرة تفقدية اما على مستوى تمثيل المرجع او على مستوى آخر وترشيح المناطق التي اصبحت مستعدة لتقبل العالم (الممثل) وتتولى متابعة السير بعد ذلك.
ويدخل في صلاحيتها الاتصال في المجالات المتاحة مع المفكرين والعلماء في مختلف انحاء العالم الاسلامي وتزويدهم بالكتب والاستفادة من المناسبات العامة كفرصة الحج ونحوها.
5ـ لجنة رعاية العمل الاسلامي والتعرف على مصاديقه في العالم الاسلامي وتكوين فكرة عن كل مصداق وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.
6ـ اللجنة المالية التي تعنى بتسجيل المال وضبط موارده وايجاد وكلاء ماليين والسعي في تنمية الموارد الطبيعية لبيت المال، وتسديد المصارف للازمة لعمل المرجعية .
النص السابق الذي اوردناه عن السيد الصدر والذي شرح فيه تفاصيل اللجان التابعة للجهاز المركزي للمرجعية، يبرهن على عزم السيد الصدر على تطوير المرجعية الى مستوى يجعلها مؤسسة قادرة على النهوض بمهماتها وتحقيق اهدافها الاجتماعية.
كما اراد السيد الصدر ايجاد زعامة دينية يكون المرجع في قمة هرمها. اضافة الى امتلاكه لجهاز مركزي فان المرجع وكما كان دوما له وكلاء في اوساط الامة في مختلف بقاع العالم، الذين يلبون الحاجات الدينية للمسلمين ويمثلون دائرة حلقة الارتباط للمرجع بالامة من خلال قيامهم بمهمة نقل فتاواه او جمع الحقوق الشرعية.
وبالرغم من انتساب كل علماء الشيعة تقريبا الى المرجع، الا انه يلاحظ انه في اكثر الاحيان يكون انتسابا نظريا وشكليا لا يحقق المحور المطلوب .
ان بناءً أكثر مركزية يصبح ضروريا في الظروف التي يتصدى فيها المرجع لتحقيق هدف سياسي او القيام بتغييرات اساسية في المجتمع.
والعلاج الذي يطرحه السيد الصدر هو من خلال جعل الوكلاء اكثر فعالية في مسؤوليات المرجعية. ويقترح ان يمارس المرجع عمله في مسؤوليات المرجعية من خلال مجلس يتولى تقديم الاقتراحات والتصورات للمرجع حول القضايا التي يحتاجها العمل المرجعي. وهذا المجلس يضم اضافة الى اعضاء اللجان الست للجهاز المركزي، علماء الشيعة والقوى الممثلة له دينيا. وبهذه الطريقة تمارس المؤسسة المرجعية بكاملها دورها في تحمل مسؤوليات العمل المرجعي وتنفيذ سياسة المرجعية الصالحة.
وهذا الاسلوب يصون المرجعية من التأثر باجواء الانفعالات الشخصية .
ولئن كان في اسلوب الممارسة الفردية للعمل المرجعي بعض المزايا كسرعة التحرك وضمان درجة اكبر من الضبط والحفظ وعدم تسرب عناصر غير واعية الى مستوى التخطيط للعمل المرجعي، فان الاسلوب المقترح يؤدي الى نتائج اكثر اهمية .
ان تشكيل الجهاز المركزي ومجلس المرجعية يضمن استمرارية دور المرجع حتى بعد وفاته. اذ يوفر البناء المؤسساتي الخبرة والقدرة على التخطيط طويل الامد لتحقيق الاهداف. فالمرجع الجديد لا يجد نفسه محتاجا للبدء من نقطة الصفر، وانما يستفيد من مؤسسة كاملة في تحمل المسؤوليات التي كان ينهض بها المرجع الذي سبقه.
اضافة الى ان تنظيم المرجعية يكون ميدانا للاعداد والاختيار للمرجع المستقبلي. فحين تنجح هذه المؤسسة في كسب الثقة داخل الحوزة وفي اوساط الامة، فانها تستطيع التأثير في اختيار المرجع الجديد .
ولتحقيق هذا النمط من المرجعية الموضوعية التي تهدف تغيير المرجعية الفردية، فانه من الضروري المرور بعدة مراحل.
في المرحلة الاولى يبدأ فيها المرجع بناء كيانه وتثبيت مصداقيته داخل اوساط الحوزة والامة.
وفي هذه المرحلة، تكون ممارسة المرجع ممارسة اقرب الى الفردية ولكن يضع في نفس الوقت بذور التطوير عن طريق تكوين اجهزة استشارية محدودة، ونوع من التخصص في بعض الاعمال المرجعية .
في المرحلة الثانية والتي تبدأ عادة حين يقوم المرجع بطبع (رسالته العملية)، يؤكد السيد الصدر ان على المرجع ان لا يعجل في تطوير الشكل الذاتي الى الشكل الموضوعي، لان هذا قد يؤدي الى بروز ردود فعل ومقاومة من القطاعات التقليدية في الحوزة العلمية وفي اوساط الامة، الذين لا يدركون اهداف هذه المرجعية .
ان عملية بناء المؤسسة المرجعية يجب ان تكون تدريجية، لكي تبرز بشكل طبيعي. وعلى المرجع توعية الامة الى المستوى الذي تصبح فيه مدركة لاهداف وفوائد المرجعية الموضوعية. وبهذا الاسلوب فان المرجعية تتطور كجزء طبيعي من ثقافة الامة، وتصل الى رشدها. وعند ذلك فقط فان المرجعية الموضوعية تكون قد دخلت مرحلتها النهائية، وتصبح سلطة دينية ذات قدرة على توجيه الامة نحو الحالة التي يكون فيها الاسلام هو الحاكم في المجتمع.
الدولة الاسلامية
يرى السيد الصدر ان الدولة الاسلامية تتكون من طرفين هما الامة والمرجع، ولكل منهما دور مختلف يؤديه. فالامة تمارس دور خلافة الله في الارض، اما المرجع فبالاضافة الى كونه جزء من الامة يمتلك السلطة السياسية. ومن هذا المنطلق فان الصدر في آخر بحث له (والذي يحمل عنوان لمحة تمهيدية حول دستور الجمهورية الاسلامية في ايران) وضح آراءه حول العناصر الثلاثة للسياسة الاسلامية، وهي شرعية السلطات، ودور الامة، وبناء الدولة.
شرعية السلطات
من التحليل الذي يقدمه السيد الصدر للمرجعية، يستطيع المرء ان يستنتج بان المرجع يلعب دورا هاما في النظام السياسي الاسلامي. فالسيد الصدر يرى ان المرجع هو الوريث الشرعي للسلطات السياسية التي كانت تمتلكها الدولة الاسلامية الاولى التي اسسها الرسول الاعظم (ص) والائمة (ع).
فهو الشاهد الذي يخلف الانبياء والائمة لهداية الامة وحماية الشريعة. وسياسيا يعني انه الحاكم الرئيسي، او المستشار الاعظم، او رئيس القضاة الذي له الكلمة الفصل في قضايا الامة الرئيسية.
وعلى كل حال فما هي الدولة الاسلامية؟ انها قيادة المسلمين ضمن قوانين وتعاليم الاسلام. ومن هو اقدر على معرفة اهداف الاسلام من العلماء؟ وفي الحقيقة فان السيد الصدر يفترض في المرجع ان يكون الاعلم من بين المجتهدين . وهو يختار لقدراته العلمية البارزة من قبل الحوزة العلمية والتي تمثل المركز الاسلامي للدراسات الفقهية. فاعلميته في الدراسات الدينية الاسلامية هي التي تؤهله ليكون في مقدمة الجميع.
وفي ضوء هذه الحقيقة، يكون المرجع بحسب رؤية السيد الصدر للدولة الاسلامية، يمثل اعلى سلطة تمتلك السلطات الشرعية.
وهو لم يجر اختياره شخصيا (مباشرة) من قبل الله ـ كما هو الحال مع النبي (ص) او الامام المعصوم (ع)، والذي يشخصه هو صفاته. فالشريعة تحدد المواصفات التي يجب ان يمتلكها المرجع ليكون مؤهلا ليتبوأ دور الشاهد في عصر غيبة الامام المهدي (عج)، وتركت للامة بعد ذلك مهمة البحث عن الشخص الذي تنطبق عليه تلك المواصفات لتعهد اليه بالسلطات . ولذا حين وجد السيد الصدر ان المرجعية تعاني من ضعف اداري، حاول تجاوز ذلك النقص من خلال تنظيم فعاليات المرجعية، في نفس الوقت الذي حافظ فيه على دور المرجع باعتباره مصدر الشريعة في الامة . ولان المرجع هو الوحيد الذي يمتلك السلطة الشرعية داخل الامة، وبالنتيجة في الدولة الاسلامية.
ان المرجع هو مساعد (الخليفة) وهو نائب الامام، وهذا النائب هو المجتهد المطلق، المدرك والواعي لمهمة الخلافة . الا ان هناك فرقا بين النبي (ص) او الامام (ع) وبين المرجع. فالنبي (ص) والائمة (ع) معصومون من الخطأ ويمثلون الرسالة الالهية تمثيلا كاملا في اقوالهم وسلوكهم. في حين ان المرجع ليس معصوما ويعتمد على معرفته وادراكه للاسلام في استنتاج آرائه وممارسة شؤونه. ولذا فان دور الشاهد قد خوّل من قبل الله الى المرجع كموقع وليس الى الشخص ذاته . فالمرجع كفرد يجب ان يمتلك المواصفات المحددة في الشريعة لكي يستطيع النهوض بدور الشاهد. وهذه التربية الروحية ومواصلة الدراسة من قبل المرجع هي التي ترفعه الى مستوى السلطة الشرعية. وطبقا لما ورد عن الامام الحادي عشر الامام الحسن العسكري (ع) كما جاء في الحديث المروي عنه انه قال:
«فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه، فللعوام ان يقلدوّه» .
ويواصل السيد الصدر توضيح صفات اخرى تجعل المرجع مع عدم امتلاكه للعصمة، مؤهلا لقيادة الامة والتصدي لمهمات الشاهد فيها. فهو يجب ان يمتلك الكفاءة التي يحتاجها هذا الموقع.
واذا كانت صفات الاعلمية والعدالة واضحة، فان الكفاءة تظل صفة غامضة. فالكفاءة كما يصفها السيد الصدر هي التحلي بـ: الحكمة والعقل والجدية والشجاعة وهي القدرات التي ارادها الله سبحانه وتعالى من عباده الصالحين التحلي بها لمواجهة المشكلات الاجتماعية، والمحن والعقبات التي يواجهونها في سبيل الله، والتي هي مرتبطة بمنزلة الشاهد، حيث يقول القرآن الكريم:
(ان يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين). (آل عمران ـ آية 140) .
دور الامة الانسان رغم كونه خليفة الله، الا انه قد لا يمتلك القدرة على تحمل المسؤوليات التي يفرضها هذا الدور اذا ما تعرّض للاضطهاد من قبل نظام ظالم، او انحدرت به شهواته.
في هذه الحالة يبقى الانسان الشاهد هو الوحيد الذي يمكن اعتباره خليفة لله. ان وعي الامة والذي سيؤدي الى اقامة الحكم الاسلامي، سيعيد لها حقوقها المقدسة. عندها سيتحمل كل فرد من افراد الامة مسؤوليته في تطبيق الشريعة الاسلامية واحكامها في حياته، والمشاركة في المهمة التأريخية للتقدم باتجاه المطلق. ويعزز السيد الصدر هذه الفكرة بشاهد من الآية القرانية التالية:
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) .
والاسلام ـ في هذه الحالة ـ يفترض المساواة بين المؤمنين، رجالا ونساء، في تحمل مسؤولياتهم السياسية والمشاركة في القضايا الاجتماعية للامة.
ويدعو الله المؤمنين الى ادارة حياتهم الاجتماعية من خلال التشاور، وفي الواقع فان فكرة الشورى في الاسلام انتزعت من الآية التالية:
(والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم) (الشورى ـ آية 38) .
وفي هذه الناحية، فان السيد الصدر يرى ان الاسلام يفترض ضرورة اتباع آراء الجماعة في القضايا التي لم تحدد الشريعة اي حكم او اتجاه بشأنها. ولذا فان الباب ترك مفتوحا للناس لممارسة شؤونهم باسلوب يراعي رغبة الاكثرية. وبلغة سياسية فان الامة كما يرى السيد الصدر عليها ان تمارس دورها في السلطات القضائية والتنفيذية للدولة. والامر يعود الى الامة في تقرير اية سياسة او ممارسة اي نشاط شريطة ان لا يتعارض مع القواعد الاساسية للتعاليم الاسلامية.
ودور المرجع هو مراقبة نشاط الناس والتزامهم باحكام الله، وتقديم النصح لهم، وارشادهم الى الطريق الصحيح في حالة انحرافهم عنه. ولا نحتاج الى القول بان السيد الصدر يحاول ربط فكرة الشورى بنظريته حول دور الخلافة لله في الارض. فما دام الانسان له حقوق وعليه مسؤوليات والتي اذا استخدمنا مصطلحات السياسة، فان الامة في النظام السياسي الاسلامي ككل تمتلك هذه الحقوق وتتحمل هذه المسؤوليات، الا ان السيد الصدر لم يقدم اي قاعدة عقلية او شرعية انتزع منها هذا الفهم. فان العملية السياسية في النظام الذي يتصوره السيد الشهيد عملية (ديمقراطية)، لانها تستند الى حكم الاكثرية.
ومن ناحية اخرى، اذا اعتبرنا ان كل انسان هو خليفة لله، فان مبدأ حكم الاكثرية يعني ان بعض خلفاء الله سيفقدون حقهم ويجبرون على الانصياع لحكم الاكثرية.
ما هو الاساس النظري او الشرعي الذي يبيح سيطرة الاكثرية؟ اي دين يدعي ان الاكثرية لها حق فرض ارادتها على الآخرين الذين لديهم نفس الحق في المشاركة في تقرير السياسات داخل الدولة الاسلامية؟
هذه الاسئلة ظلت دون جواب من قبل السيد الصدر .
هيكلية الدولة الاسلامية
الدولة الاسلامية التي يطرحها السيد الصدر، هي قطعاً، ليست دولة مثالية، لان الدولة المثالية هي تلك التي يقودها المعصوم (ع). انما هي افضل صيغة ممكنة في مرحلة غياب المعصوم (ع).
وفي الحقيقة، فان السيد الصدر يصنف الدولة الاسلامية الى ثلاثة انواع:
في النوع الاول تكون القوانين مستقاة من القواعد الفكرية للاسلام، وتكون الشؤون التشريعية والتنفيذية فيها منسجمة مع قوانين الاسلام واحكامه .
وهذه الدولة هي دولة المعصوم والتي يمكن تحققها فقط بزعامة المعصوم (ع) نفسه. واطاعته ملزمة لكل فرد.
والنوع الثاني هي الدولة الكافرة وهي التي تقوم تشريعاتها وقوانينها على اسس مناهضة للاسلام. والحاكم في هذه الحالة يفقد شرعيته. ولذا فان الامة عليها ان تسعى للقضاء عليه. ولكن ماذا لو لم تكن الامة قادرة على التصدي لهذه السلطة؟ يقول السيد الصدر، ان مسؤولية المسلمين الامتناع عن اطاعة قوانين تلك الدولة الا ما كان يحقق مصالح اسلامية .
النوع الثالث هي الدولة غير المعصومة، والتي قد تنحرف ـ خطأً ـ عن خط الاسلام بسبب الجهل. وهذه الدولة هي التي يخطط السيد الصدر لاقامتها، والتي يمتلك فيها الحاكم بعض المعرفة بالاسلام، الا انه قد يخطأ احيانا فيشرع قوانين تتعارض مع الاسلام. ان مسؤولية الامة هي طاعة السلطة وتطبيق القوانين. وعلى اولئك المطلعين على انحراف الحكومة تقديم النصح والارشاد.
واذا اصرت الحكومة على ممارسة الاخطاء، فان على الجميع الالتزام والطاعة في القضايا التي ترتبط بالوحدة، كالجهاد والضرائب.
والا فان المطلعين على خطأ الحكومة وحدهم لهم الحق في التصدي للقوانين الفاسدة . ولكن حين يكون الحاكم مرجعا اي يمتلك مؤهلات الاجتهاد (العلم والعدالة)، فان الخلاف هنا يعود الى اختلاف وجهات النظر الاسلامية. وحكم المجتهد قانونيا ملزم حتى لغيره من المجتهدين، الذين عليهم طاعة المجتهد المتصدي للسلطة .
فالمرجع هو المثل الشرعي للاسلام، والنائب العام للامام (ع). ولذا وطبقا لما يراه السيد الصدر فللمجتهد الحق في الامور التالية :
1ـ ان يكون رئيسا للدولة وقائدا عاما للقوات المسلحة.
2ـ ان يرشح الشخص المؤهل لانتخابات الرئاسة، مما يعطي شرعية للانتخابات.
3ـ يحدد الاطار الشرعي للدستور.
4ـ يضفي شرعية للانتخابات.
5ـ يضفي شرعية التشريعات
6ـ تشكيل المحكمة العليا الدستورية.
7ـ تشكيل محاكم في كل البلاد لمراقبة الانتهاكات التي قد تقوم بها الحكومة .
الا ان هذه السلطات التي يمتلكها المرجع، ليست حكما دكتاتوريا وانما هي قيادة محكومة بقوانين الاسلام واحكام الدستور.
وفي قضايا صنع القرار، فان المرجع عليه ان يتشاور مع «مجلس المرجعية» والذي يتألف ـ كما يقترحه السيد الصدر ـ من مائة شخصية من علماء الدين والخبراء والمثقفين وعلى عدد من المجتهدين لا يقل عن عشرة .
ومن خلال هذا المجلس يمارس المرجع صنع القرارات السياسية وتحديد سياسات الدولة.
من جانب اخر، لما كان الانسان خليفة الله في الارض، فان عليه مسؤولية الالتزام بما يريده الله اثناء ممارسته لنشاطاته الاجتماعية. والامة يجب ان تمتلك الحق في تحمل مسؤوليتها الشرعية وممارسة دورها في تشكيل المؤسسات التنفيذية والدستورية الفرعية للحكومة.
وافراد الامة متساوون في حقوقهم في حدود القانون، لممارسة دور الخلافة، وبعبارة اخرى فان لكل فرد الحق في ابداء وجهات النظر والآراء في قضايا الامة، وممارسة الانشطة السياسية بمختلف الوسائل، فضلاعن حقوقه الدينية والمذهبية .
ويرى السيد الصدر ان للامة الحق في:
1ـ انتخاب رئيس الحكومة الذي يقوم بدوره باختيار اعضاء حكومته.
2ـ التصويت خلال الانتخاب المباشر لاعضاء المجلس التشريعي (البرلمان) الذي له الصلاحيات التالية:
أ ـ اقرار تشكيلة الحكومة.
ب ـ اختيار افضل السياسات من بين الخيارات المتاحة والتي لا تتعارض مع الشريعة الاسلامية.
3ـ تشريع قوانين جديدة في المساحات التي لا توجد فيها تشريعات محددة من قبل الاسلام.
4ـ له القدرة على فرض تطبيق القانون على الجهاز التنفيذي .
وهكذا فان القضايا السياسية في حكومة (الصدر) الاسلامية يتم صياغتها ودعمها من قبل الشعب. والمرجع ـ نظريا ـ يتحدد دوره بدور الشاهد، اي مراقبة تطبيق الاسلام من قبل الامة، وصيانة الشريعة من الفساد الذي يمارسه اعداؤها .
والامة ومن خلال ممارستها لنشاطاتها السياسية، عليها ان تعي رسالتها كخليفة لله في الارض، وان تتحمل كامل المسؤولية تجاه سلوكها. لان الامة ليس فقط هي مصدر السلطات، وانما هي مسؤولة ايضا امام الله، جل وعلا، لتحمل الامانة وتطبيق استحقاقاتها .
ان اقامة الدولة الاسلامية هي احدى الوسائل التي من خلالها تتحقق خلافة الانسان لله في الارض. والدولة يجب ان تبنى لتحقيق هذه المسؤولية، واعطاء الانسان الفرصة لانجاز رسالته في الارض.
* مقدمة
* برنامج سياسي
* الهدف السياسي
* الوسائل السياسية
* المرجعية
* الدولة الاسلامية
* شرعية السلطات
* دور الامة
* هيكلية الدولة الاسلامية
د. طالب عزيز الحمداني
* مواليد السماوة ـ العراق 1956.
* متخصص في الشؤون السياسية للعراق.
* حصل على شهادة ماجستير آداب قسم العلوم السياسية من جامعة آكرونة – ولاية أوهايو الاميركية.
* حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أوتاوا الاميركية في الشرق الاوسط دراسة علمية سياسية.
* نشرت له عدة بحوث ومقالات باللغتين العربية والانكليزية منها:
– النظرية السياسية للشهيد الصدر.
– دور الامام الصدر في النشاط الشيعي السياسي في العراق من عام 1958 ـ 1980.
– الاقتصاد السياسي من منظور الشهيد الصدر.
– العقد الاجتماعي في العراق.
– استراتيجية شيعة العراق في النظام الدولي الجديد.
* يعيش حاليا في لوس انجلس ـ امريكا.

د. طالب عزيز الحمداني
(نقله الى العربية: سامي العسكري)