وصايا القائد لشعبه

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

إن القائد الإسلامي الحقيقي الذي تذوب ذاته في الله وفي رسالته لا يرى مصلحة حقيقية يتوجه إليها ويرفض كل شيء في سبيلها إلا مصلحة الرسالة والانتصار لها.

وعلى سيرة جده رسول الله(ص) سار شهيدنا الصدر فلم يترك الأمة من بعده لا تعرف طريق الجهاد والنصر ولا تعرف تكليفها الشرعي الذي يجب أن تتحمله وتعيش بكل وجودها له.

وعلى سيرة جده الحسين سار شهيدنا الصدر فلم يبخل بدمه يسقي به غرس الإسلام العظيم الذي بات يهد عروش الظالمين وينذر الاستعمار وعملاءه بالرحيل وإلى الأبد من دياره وإدارة شعبه.

وهكذا بذل دمه رخيصاً في سبيل الله والإسلام والأمة المجاهدة، فكان نبراساً ينير الدرب للسالكين درب الإسلام وطريق النصر.

وكان أهم ما حدده من معالم الثورة الإسلامية، في العراق وما خطه لها من منهج وأساليب ما ورد في وصيته وهو محجور عليه في بيته في النجف الأشرف في العشرين من رجب لعام 1399 هجرية حيث ثبت فيها إيمانه بالشعب وقدرته على تحقيق النصر الإسلامي وارتباطه الرسالي الكبير بقيادته الإسلامية المجاهدة المتمثلة بالمرجعية الرشيدة فقال مخاطباً شعبه العراقي المسلم: ـ

((إني أخاطبك أيها الشعب الحر الأبي الكريم وأنا أشد الناس إيماناً بك وبروحك الكبيرة وبتأريخك المجيد وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية إذ تدفقوا إلى أبيهم يؤكدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملها الغيرة والحمية والتقوى، يطلبون مني أن أظل إلى جانبهم أواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب لأنها آلامي، وإني أود أن أؤكد لك يا شعب آبائي وأجدادي إني معك وفي أعماقك ولن أتخلى في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك)).

ثم يطرح الشهيد العظيم السيد الصدر إحدى كبريات الحقائق التي سرت سنة في التأريخ، وخصوصاً تأريخ الشعوب، تأريخ الرسالات، تأريخ الثورات الأصيلة تلك الحقيقة الكبيرة هي أهم أن الظلم لن يدوم، والحكم لن يدوم على أساس القوة والقمع ومصادرة الحريات الإنسانية، وإن أي تجاوز لهذه الحقيقة لا يلغي قيمتها الموضوعية في الواقع فهي سنة لا بد وأن تقع، سواء أغمض الظالم الجاهل عينيه عنها، أم رآها بملء بصره القاصر، فكانت وصيته في ذلك قانوناً يستهديه الشعب العراقي وأبطاله المجاهدون: ((وأود أن أؤكد المسؤولين أن هذا الحكم الذي فرض بالحديد والنار على الشعب العراقي وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته في ممارسة شعائره الدينية لا يمكن أن يستمر ولا يمكن أن يعالج دائماً بالقوة والقمع، إن القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً إلا للفراعنة والجبابرة)).

ثم يوجه خطابه إلى الجلاوزة من حكام بغداد العملاء، ويعدد ممارساتهم الإجرامية في الكيد لرسالة الإسلام والاستخفاف بالشعب العراقي المسلم، فلم يتركوا شعيرة من شعائر الإسلام ولا مؤسسة من مؤسساته، إلا وعملوا على ضربها وإزالتها أو شل فعاليتها في الأمة فكانت كلماته (قده) معاول هزت عروش الظالمين: ((أسقطوا الآذان الشريف من الإذاعة فصبرنا، أسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا، وطوقوا شعائر الإمام الحسين ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا، وحاصروا المساجد وملأوها أمناً وعيوناً فصبرنا، وقالوا إنها فترة انتقال يجب تجهيد الشعب فيها فصبرنا، ولكن إلى متى؟؟ إلى تستمر فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجو المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه متى وتستمر فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم أيها المسؤولون اقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلا عن طريق الإكراه فماذا تأملون؟ وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجتنب أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع عما يريدون))

ثم يتحول السيد الشهيد ليطالب باسم الشعب العراقي المجاهد، ناطقاً عنه، معبراً عن أحاسيسه وآماله، بشجاعة، المجاهد، وحكمة القائد، متقدماً شعبه هذا المقارعة الطغاة الفاسدين، مترجماً له سلوك الأباة وطريق الرسالة والتضحيات ولا يترك قضية اهتزت لها الأمة وتنادي لها المجاهدون، إلا وجعلها مطلباً حدياً لا يتهاون به، حتى شمل بمطاليبه الكف عن الممارسات اللصوصية والابتزاز السياسي الذي يمارسه حزب البعث العميل، في إكراه أبناء الشعب المستضعف في العراق للانتماء إليه، وهو يعلم أن ذلك سيكلفه حياته، التي هي الجهاد وهي العطاء، الذي يمد العاملين بالحيوية والاتقاد، ولكنه وكما شاء الله رأى أن الدم أمضى والشهادة أولى:

((فإني أطالب باسمكم جميعاً، أطالب بإطلاق حرية ممارسة الشعائر الدينية وشعائر أبي عبد الله الحسين(ع) كما أطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان الشريف وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة، وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث العميل على كل المستويات، وأطالب باسم كرامة الإنسان بالافراج عن المعتقلين بصورة تعسفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً وباسم القوى التي تمثلونها بفسح المجال للشعب في ممارسة صورته الحقة لتسيير شؤون البلاد وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلاً صادقاً، وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً وقد تكلفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد ولكن هذه الطلبات إرادة أمة وطلبات أمة ومشاعر أمة ولا يمكن أن تغلب أمة تعيش في أعماقها روح محمد وعلي وآل محمد وأصحابه وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات فإني أدعو أبناء الشعب العراقي الأبي إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلفه ذلك من ثمن لأن هذا دفاع عن النفس وعن الكرامة وعن الإسلام رسالة الله الخالدة والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته))

إن الاستعمار العالمي وقوى الكفر الكبرى عندما تصطنع لها صنيعة تمرر من خلالها مخططاتها لاستعباد الشعوب وتطويعها لاستكبارها المقيت وامتصاصها لثرواتها وجهودها فإنها في ممارساتها هذه لا تميز بين عربي أو كردي بين سني أو شيعي، لا تختص بمذهب دون آخر، ولا بقومية دون أخرى، إلا بمقدار ما يخدم أهدافها الخبيثة ولصوصيتها السافرة، ولهذا حدد السيد الشهيد الصدر هذه الحقيقة، وانطلق منها في قيادة الشعب العراقي البطل وتوحيد قواه، تحت راية لا إله إلا الله، وامتزج بمشاعره وأفكاره وآماله معهم جميعاً، وأفاض لهم بروحه الأبوية وأخلاقه الإسلامية ليخرج بهم قوة إسلامية شعبية شاملة لها هدف واحد هو إسقاط الطاغوت المتفرعن في العراق، المتمثل بصدام الكافر ونظامه الفاسد، وليخرج بهم أيضاً كقوة إسلامية شعبية شاملة لها طريقتها الموحدة في ممارسة الجهاد اللاحب حتى اسقاط النظام العميل، وتتمثل هذه الطريقة بإعلان الجهاد بالكلمة الصادقة وبالبندقية الهادفة طريقاً لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، ثم كشف الإمام القائد الشهيد الصدر لعبة الاستعمار وعملائه المتسلطين على رقاب أبناء العراق الأباة، كشف لعبتهم في بذر الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، بين قومياته وبين مذاهبه المتعددة، وسد عليهم طريق الانجليز القديم في تمزيق الشعوب للهيمنة عليها (فرق تسد):

((بسم الله الرحمن الرحيم: يا شعبي العراقي؛ أيها الشعب العظيم إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية لكل فئاتك وطوائفك بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر ولا قومية دون أخرى، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب والتلاحم النضالي هو واقع كل الشعب العراقي، وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء ومن أجل العربي والكردي على السواء حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخاص وهدف الجميع، فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملونه من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذل والاضطهاد إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة إن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر أن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني إن الحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي(ع) السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول (أبي بكر) وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي، إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن تقريباً بوجوب الجهاد من أجله خرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام))

ولبيان الحقيقة الكاملة للشعب العراقي المجاهد وكشف طبيعة الحكم المتسلط عليه، وزيف وبطلان دعواته، وخداع أساليبه، أزاح الشهيد السيد الصدر، الوهم الذي خلقته هذه الأساليب والوسائل الكاذبة في اعتبار أن الصراع المعاصر في العراق، إنما هو صراع بين السنة والشيعة صراع بين القيادات الشيعية والحكم السني، وبين السيد الشهيد(قده) إن الشعب وحدة واحدة يجمعها الإسلام، ويفجر طاقاتها لتحطيم هدف واحد، وعدو واحد، هو الحكم الكافر في العراق ومن ورائه الأسياد واللصوص، كما عرّى طبيعة الحكم عن كل دعوى بالانتساب إلى التسنن، فهل يعقل الشعب المسلم في العراق أن يمثل التسنن رجال مارسوا الفساد وتوغلوا في وسائل المجون، وامتهنوا سفك الدماء وهتك الأعراض، وأنشؤوا حقول الخنازير بدل المزارع الإنتاجية وأشبعوا بالخمرة حتى نسوا الله والشعب، نسوا كل شيء إلا الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، إن الصوت الهادر للإمام الشهيد السيد الصدر وحقائقه الدامغة، كانا ضربة قويد أخرجت الطغاة عن توازنهم، إن كان لهم توازن فليهتزوا حتى الموت فالسيد الشهيد حي لن يموت:

((إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً وإن كانت الفئة المتسلطة تنتسب تأريخياً إلى التسنن، إن الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيين، بل يعني حكم ـ أبي بكر وعمر ـ الذي تحداه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم وينتهكون حرمة الإسلام وحرمة علي وعمر معاً في كل يوم وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية، ألا ترون يا أولادي وأخوتي انهم أسقطوا الشعائر الدينية التي دافع عنها علي وعمر معاً؟ ألا ترون انهم ملؤوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها علي وعمر معاً؟ ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب؟ ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب وتفننا في امتهان كرامته والانفصام عنه والاعتصام ضده في قصورهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات بينما كان علي وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفي وسط الناس مع آلامهم وآمالهم ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائرياً يضفون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟ وسدّ هؤلاء أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم بالذل والخنوع وباعوا كرامتهم وتحولوا إلى عبيد أذلاء، إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من عقائدي إلى عصابة تفرض الانضمام إليها والانتساب إليها بالقوة والإكراه وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوة؟؟ إنهم أحسوا بالخوف حتى من حزب البعث العربي الإشتراكي نفسه الذي يدعون تمثيله، أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيه ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده وتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد أي مضمون حقيقي له)).

ثم اندمج القائد العظيم بجنوده البواسل والأب الحنون بأبنائه الأبرار، في خطاب المسيرة الجهادية، وعاهدهم على الجهاد حتى النصر أو الشهادة، حتى تحكيم عدالة الله في الأرض، تحت شعار وحدة كل قوى الخير والحق، كل قوى الإسلام من أجل انقاذ العراق الجريح:

((يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء كربلاء وبغداد والنجف من أبناء سامراء والكاظمية، من أبناء العمارة والكوت والسليمانية، من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً، وإنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام ومن أجل انقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة وبناء عراق حر كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان ويشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم أخوة يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم وتحقيق مثلهم الإسلامية العليا المستمدة من رسالتنا الإسلامية وفجر تأريخنا العظيم.))

-«نقل من نداءات الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر للشعب العراقي عندما كان محتجراً في بيته بالنجف الأشرف قبل استشهاده عام 1339 هجرية على يد جلاوزة البعث.»

فؤاد كاظم

 

[1] مستل من كتاب (أرقام وآراء حول نظام البعث في العراق) بقلم فؤاد كاظم / إصدار المركز الإسلامي للأبحاث السياسية ـ قم المقدسة / ص: 265 ـ 272.