ملامح شخصية السيد الشهيد تتجلى في منهجته

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقالة تليدة عند نقاد الادب هي (الاسلوب هو الرجل) ومعناها ببساطة عندهم، انك اذا اردت معرفة شخصية اي انسان فادرس اسلوبه تعرفه. والآن بنظرة على إرث السيد الشهيد (رضي الله عنه) نتعرف ملامح شخصيته.

تتردد كلمة على السنتنا بقول: السيد الشهيد عظيم، فمن اين جاءته العظمة.. فلننظر الى تراثه ولنستنطقه حتى لقرن سر عظمته.

اسس البناء في منهج السيد الشهيد (رضي الله عنه)

الشمولية، الهدفية، الرسالية، الموضوعية.. هذه هي سمات اتسم بها منهج السيد الشهيد (رضي الله عنه) فلاتكاد تجد كتاباً او موضوعاً او بحثاً او رسالة الى صديق إلاّ وتجد السيد الشهيد فيها هادفاً حاملاً رسالة مبلغاً اياها وموضوعياً جدّاً.

ما ان تفتح كتاباً من كتبه حتى ترى هذه السمات واضحة في كل الكتاب ابتداءً من عنوانه وانتهاءً بفهرسته.

برنامج عمله:

فدك في التاريخ ـ كما قيل ـ هو باكورة اعماله، وفيها حاول ان يرسم منهجته والطريقة التي يتبعها في كتاباته ـ وبما ان الكتاب يدرس حدثاً تاريخياً، فان السيد الشهيد وضع تصوره عن منهج دراسة التاريخ «اذا كان التجرد عن المرتكزات ـ والاناة في الحكم ـ والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ـ وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية.. فهي أهم الشروط الاساسية لاقامة بناء تاريخي محكم» «على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور، لامن عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات، وينشئه التعبد والتقليد، ولامن خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف الى الذروة ويبني عليها ماشاء من تحقيق ونتائج، ولامن قيود لم يستطيع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له اساليب البحث العلمي النزيه».

«فاذا كنت تريد ان تكون حراً في تفكيرك ومؤرخاً لدنيا الناس.. فضع عواطفك جانباً.. واستثنِ تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك».[1]

لقد وضع السيد الشهيد في عباراته هذه معالم المنهج التاريخي قراءة وكتابة، ثم التزم بهذا المنهج في كل كتاباته في شتى الموضوعات.

ملامح منهج السيد الشهيد (رضي الله عنه)

1ـ العنوان والتوقيع:

كان السيد الشهيد هادفاً رسالياً موضوعاً من اختياره عنوان كتابه، فقد بدأ مدرسة يربي ويثقف عليها في كل شيء يفعله.

فيه رسالة هي الرسالة العظيمة وهدفاً هو هداية الناس.

ان التواضع عنوان العظمة، فجاء غلاف كتبه متواضعاً وعظيماً قائلاً ان العظيم يُكتفى بذكر اسمه ولايحتاج الى سلسلة من الالقاب، انهارسالة وتربية وشموخ نتعلمها من غلاف الكتاب قبل ان نقرأه لذا أدعو من يحقق كتب السيد الشهيد ان لايزيد على الغلاف شيئاً من الالقاب والاوصاف له لأن ذلك اخلال بالرسالة التي أرادها رضوان اللّه عليه.

2ـ اسلوب الانبياء في الجدل بالحسنى:

قبل ان ابدأ كتابة هذا البحث كان لدي بحث عن ابراهيم (عليه السلام) فوجدته (عليه السلام) في دعوته يبدأ بالخصم فيهدم فكرته ركناً ركناً، حتى اذا لم يترك له شيئاً وابقاه حائراً ابتدأ هو ببناء فكرته ـ فلم يبق للآخر الا الاذعان او العناد والمكابرة.

(ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * اذ قال لابيه وقومه ماهذه التماثيل التي انتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياابراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون * فرجعوا الى انفسهم فقالوا إنكم انتم الظالمون * ثم نُكِسوا على رؤوسهم لقد علمت ماهؤلاء ينطقون * قال اتعبدون من دون اللّه مالاينفعكم شيئاً ولايضركم * أُف لكم ولما تعبدون من دون اللّه أفلا تعقلون * قالوا حرقوه..) الانبياء 51 ـ 68.

وهكذا تجد السيد الشهيد مقتدياً بالرسل متبعاً نهجهم، وهذا واضح في كل كتاباته خصوصاً في فدك في التاريخ وفلسفتنا واقتصادنا والاسس المنطقية والمهدي المنتظر ودروس في علم الاصول.

3ـ التسلسل والترابط:

يضطر القارئ ان يقرأ أيَّ كتاب للسيد الشهيد باكمله لانه يبني لبنة فوق اختها ولاتكتمل عند القارئ فكرة إلاّ بالتي بعدها، ولاتتوضح إلاّ بالتي قبلها، فاذا قرأ جزءً من الكتاب من أوله بقيت الفكرة مبتورة لان اكتمالها في الفصل الاخير بل بالفقرة الاخيرة، وان قرأ قسماً من آخرها لم يفهم المراد ولم تتضح الفكرة لتعلقها بسابقتها وهكذا لابد ن قراءة الكتاب كله لانه مبني على وحدة الموضوع ووحدة الهدف.

4ـ الشمولية والتأسيس:

شمولية السيد الشهيد في مجالين، في عرضه لاي موضوع فانه يستغرقه ويستوفيه ولايترك منه شيئاً حتى لايدع للمراء باباً وحتى يغلق باب الجدل، فتراه يغوص ويبحث عن ادق الاحتمالات التي قد ينفذ منها ذلك فيسدها.

وفي كتابته في كل المجالات، لانه يريد بناء المجتمع، وكلمة مجتمع عنده تشمل كل جوانب الحياة، وماالاقتصاد والسياسة والعلم والثقافة والتربية وغيرها الا من قوائم هذا المجتمع، فلا بد من الكتابة فيها كلها.

والملاحظة البارزة هنا ان السيد الشهيد كان يتوقع قصر عمره وكان يحس بان عمره لايكفي لاكمال كتابة مايريد حسب مايريد وحسب ماهو مبرمج في مخيلته لان ذلك يستغرق زمناً قد لايدركه، فاضطر لان يكتب في كل هذه المجالات.

كان السيد الشهيد في كتاباته مؤسساً، ولانستطيع ان نقول انه استوفى كل شيء ـ ولكن نستطيع ان نقول انه اسس لكل مجال ـ وما على الباحث من بعده إلاّ ان يأتي الى هذه الاسس وهذه القواعد المرفوعة ليكمل البناء، كل حسب اختصاصه فاكمال مااسسه الشهيد (رضي الله عنه) يحتاج الى امة متظافرة من الباحثين، اما الجهود الفردية، فانها وان كانت نافعة، إلاّ انها تبقى عاجزة.. فالطريق الصحيح لاكمال مااستثناه السيد الشهيد هو عمل المؤسسة.

5ـ الرسالية:

السيد الشهيد حامل رسالة للمجتمع بل للبشرية، وتبدأ رسالته من وسطه من الحوزة، من التقليد السائد فيها وتنفح رساليته من غلاف كتبه ـ كما قلنا ـ ثم انه يرى وحدة الرسالة مع اختلاف في الاسلوب وتعاقب للادوار، فكل الانبياء رسالتهم واحدة حتى تكتمل بالرسالة الخاتمة، والرسول والمعصومون رسالتهم واحدة وكل يمثل حلقة من سلسلة الرسالة المترابطة المتكاملة.

النبي عالم عامل فهو عالم لديه رسالة ولابد ان يعمل لايصال هذه الرسالة من المرسل الى البشرية، فهذه الاركان المترابطه المرسل والرسول والرسالة والمرسل اليهم وهم كل البشرية وكل الناس. ولايستثني السيد الشهيد احداً من هذه الرسالية فمن المرجع والحاكم الى آخر الناس في التسلسل الوظيفي والاجتماعي كلهم رساليون، لذا نراه اول مابدأ بنفسه فجعل من محمد باقر الصدر رسالياً بسلوكه وفكره وقلمه ومرجعيته.

6ـ الهدوء العنيف:

عندما يناقش فكرة يعرضها بهدوء حتى لتخاله من مريديها، بعد ذلك يبدأ هدمها بهدوء ايضاً ولكن باتقان وامعان، حتى اذا اكتمل الهدم بنى محلها مايريد بهدوء وبرصانة، هذا الاسلوب الهادئ هو في حقيقته عنيف اذ انه لايبقي للمقابل حراكاً ولامتنفساً.

7ـ الهدفية:

يحدد السيد الشهيد الهدف قبل ان يسير، ثم يرسم خط السير الواصل الى ذلك الهدف ثم يتوكل على اللّه ويتحرك وهو على بصيرة من امره.

فالسيد الشهيد في كل كتاباته هادف، فلم يضع علمه للمباراة العلمية، ولامن أجل افراغ مخزونه العلمي، بل هناك غاية وهدف يروم الوصول اليها.

8ـ الموضوعية:

الموضوعية خط عام واضح جداً في فكر الشهيد (رضي الله عنه) مع عدم الاغماض في الذاتية بل اعطائها دورها الايجابي منبهاً على مافيها من سلبية ـ ولاتكاد تدخل موضوعاً من موضوعاته الا وتجد محوره من الواقع وميدانه الانسان، ولم يغلق السيد الشهيد عليه حجرة ويحلق في عالم الخيال ومنه يصنع افكاره، فاقتصادنا دراسة موضوعية تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية، وفلسفتنا دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية، والأسس المنطقية هي دراسة جديدة للاستقراء تستهدف اكتشاف الاساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللايمان باللّه.. وهكذا في كل كتاباته نجده موضوعياً، وهناك في المرجعية الموضوعية والحوزة الموضوعية.. الى آخر موضوعاته.

9ـ روح التدين:

ميزة يمتاز بها السيد الشهيد حتى في كتاباته العلمية الصرفة، فانك تعيش في جو روحي تستشعر منه نفس الايمان واضحاً بين سطوره وفي جملة وعباراته.

حتى في كتاباته التنظيمية او السياسية ـ وحتى عندما يكتب نشرة داخلية للدعوة نجد فيها روح الايمان والتدين هي السائدة، وكأنه لينفث فيها من رصينه وتعلقه باللّه تعالى.

10ـ الاحتفال بالموضوع:

يعطي السيد الشهيد بحثه كل كيانه حتى يخرج عصارةً من ذاته، وهنا نجد امراً مهماً عنده رضوان اللّه عليه انه ليس عنده موضوع قليل الاهمية. صحيح اننا احتفلنا كثيراً ومازلنا بكتبه الثلاثة فلسفتنا واقتصادنا والاسس المنطقية للاستقراء. لكن السيد الشهيد غير ذلك، فاننا نجده في رسائله ومحاضراته وكتاباته ومقدماته لكتب غيره واحداً ـ نعم اننا نجد الصدر نفسه في كل ماكتب، فهو يعطي مقدمة الصحيفة السجادية مايعطيه من نفسه للاسس المنطقية، ويعطي فدك في التاريخ مايعطيه لاقتصادنا، واعطى بحوث المهدي المنتظر مااعطاه لفلسفتنا، واحتفل في الفتاوى الواضحة احتفاله بدروس علم الاصول، ونهض ببحث حول الولاية نهوضه بالاسلام يقود الحياة، وافرغ في المدرسة القرآنية مااضافه في المدرسة الاسلامية، واليك نموذجاً من مقدمته للصحيفة السجادية «وهكذا نعرف ان الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم، كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الامام، اضافة الى كونها تراثاً ربانياً فريداً يظل على مر الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة اخلاق وتهذيب، وتظل الانسانية بحاجة الى هذا التراث المحمدي العلوي وتزداد حاجة كلما ازداد الشيطان اغراءً والدنيا فتنة».

11ـ التجديد:

وهذا امر واضح في كل نتاج السيد الشهيد وقد كتب الكثير في هذا المجال وقيل الكثير، ولكن مازال هناك الكثير للقول.

ولابد من جهود كثيرة متظافرة منظمة تبذل من اجل اكمال مسيرة السيد الشهيد في منهجيته بناءً على اسسها هذه التي ذكرناها، وهي ـ كما قلنا ـ يمكن ان يكون اي كتاب من كتبه مصداقاً لها كلها مجتمعة، ولنأخذ نموذجاً على ذلك هو الجزء الأول من:

الفتاوى الواضحة

كنت بصدد الكتابة عن كتب السيد الشهيد مجتمعة باعتبارها مصاديق يمكن جمعها لتصبح مصداقاً واحداً وصورة واحدة لشخصية السيد الشهيد الا انني ارتأيت ان اتخذ نموذجاً واحداً فقط وبالتحديد الفتاوى الواضحة لنرى مافيها من المنهجية والتجديد.

تعودنا ان نتعامل مع الفتاوى الواضحة على انها رسالة عملية فيها مجموعة من المسائل الشرعية التي قد تجدها في اية رسالة اخرى ولكنا عندما ندخل الرسالة العملية للسيد الشهيد ومن اول صفحة من صفحاتها نجد شيئاً آخر لم نعهده، نجد رسالة عملية علمية ثقافية تربوية عبادية رسالية.

يبدأ السيد الشهيد رسالته المقدمة على غير المعهود يضمنها مايراه مفيداً مقدمة لمن يريد ان يعرف شيئاً عن فقه أهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم، موضحاً على طريقته الموضوعية معاني الاجتهاد والتقليد، مؤرخاً لنشأة الحاجة الى الاجتهاد ونشأة الحاجة الى التقليد، متدرجاً تدرجاً منطقياً في الاخذ بيد القارئ ليقتنع بان مبدأي الاجتهاد والتقليد انما هما التخصص والاعتماد على جهود المتخصصين «فالاجتهاد هو التخصص والتقليد هو الاعتماد على جهود المتخصصين»[2].

ويسير السيد الشهيد واضعاً مفاهيم مهمة بين يدي المقلد من أهمها بيانه حرمة التقليد في أصول الدين، واستمرارية وديمومة الاجتهاد والتقليد باعتبارهما مبدأين مستمرين، مع التركيز على العلماء في الشريعة[3]، مبيناً مبدأي الاجتهاد والتقليد لهما رسالة يؤديانها هي الرسالة الدينية المستمرة الى ان يرث اللّه الارض ومن عليها، ثم رسم دور العلماء ومنزلتهم مستشهداً بالقرآن والسنة.

بعد ذلك يستعرض اهمية الرسالة العملية بادلة منطقية موضوعية مقنعة دون ادخال القارئ في وسائل الاستنباط، مبدياً ملاحظاته على ماموجود فعلاً من رسائل عملية لـ «ان هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجة الفنية في تقييم الاحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الابواب المختلفة»[4] ولـ «ان الرسائل العملية لم تعد ـ تدريجاً ـ بوضعها التاريخي المألوف كافية لاداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة»[5] «والمصطلحات الفقهية ابتعد عنها الناس اليوم وتضاءلت معلوماتهم الفقهية حتى اصبحت تلك المصطلحات على الاغلب غريبة تماماً»[6] ثم ان تطور وسائل المدنية الحديثة والوقائع المتزايدة المتجددة كلها تستدعي تطوير وتجديد الرسالة العملية.

ويذكر السيد الشهيد الدافع الذي دعاه لان يكتب رسالته العملية فبدأ «في وضع رسالة عملية تتقيد بمنهج سليم في العرض من الناحية الفنية وتلتزم بلغة مبسطة حديثة وتبدأ في العرض من الصفر وتحاول ان تعرض الاحكام من خلال صور حية وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة وتتجه الى بيان الحكم الشرعي لما يستجد من وقائع»[7].

ثم يؤكد ان مصادر الفتوى تنحصر في مصدرين فقط هما الكتاب والسنة، وغيرهما اما مرفوض كالاستحسان، او راجع الى الكتاب والسنة «وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة»[8].

ثم يعرض تقسيمه للرسالة على اساس جديد وعلى اساس عدم تثبيت المسائل والموضوعات، وعليه فقد قسمت الفتاوى الواضحة أربعة اقسام:[9]

1ـ العبادات.

2ـ الاموال: أ ـ الاموال العامة. ب ـ الاموال الخاصة.

3ـ السلوك الخاص.

4ـ السلوك العام (الحكومة).

مسائل الرسالة

التقليد والاجتهاد

وهنا لاتجد نفسك امام مسائل جامدة تأخذها كالآلية وتنفذها بالتزام، وانما تجد نفسك في وسط بحث رسالي هادف ـ راسماً لك طرقاً ثلاثاً لطاعة اللّه، وهي الاجتهاد والتقليد والاحتياط[10].

ولم يترك السيد قارئه حائراً، بل يأخذ بيده فيشرح له معاني هذه الطرق واحدة واحدة، مبيناً حكم من ترك هذه الطرق كلها، كل ذلك باسلوب علمي اقناعي مستنداً الى الموضوعية[11].

الجديد في المسائل

بعد ذلك يدخل السيد في عرض مسائل الرسالة متبعاً منهجته الخاصة المستمدة من الواقع، وكل باب من ابواب الفقه وكل مصطلح فقهي يشرحه شرحاً وافياً بادئاً بمعناه اللغوي الحقيقي في كتب المعاجم ومعناه العبادي بحيث لايبقى هناك شيء غامض[12]، شارحاً كل مسألة بلغة عصرية مبسطة مفهومة لكل انسان.

في كثير من الاحيان يتوقع سؤلاً من مكلف، فيصوغه هو ثم يجيب عنه بوضوح وكأنه خبير بما يدور في فكر المكلفين[13].

ناحية مهمة في مسائله (رضوان اللّه عليه) هي انه لم يعرضها عرضاً جافاً، بل يعرضها عرضاً روحياً ففي كل مسألة يؤكد الناحية العبادية والاخلاص في النية والاتصال باللّه بخشوع فهو مربٍّ حين يعرض فتاواه[14]. كما يستشهد عليها بالكتاب أو السنة[15].

نظرة عامة في العبادات

يختم السيد الشهيد رضوان اللّه عليه ـ على غير المعهود ـ رسالته ببحث قيم فيه مفاهيم عالية حول العبادات مؤكداً ان العبادة حاجة انسانية وهي ارتباط الانسان بربه مترفعاً عن الارتباط في الطبيعة.

وان الانسان يشعر بالحاجة الى (الارتباط بالمطلق) و«نظام العبادات طريقة في تنظيم المظهر العملي لعلاقة الانسان بربه»[16].

ثم يبين (رضي الله عنه) ان الحاجة الى المطلق اصبحت مشكلة وهذه المشكلة ذات حدين:[17]

أ ـ «مشكلة الضياع واللاانتماء وهذا يمثل الجانب السلبي (الالحاد)».

ب ـ «مشكلة الغلو في الانتماء والانتماء بتحويل الحقائق النسبية التي ينتمي اليها الى مطلق ـ وهذا يمثل الجانب الايجابي من المشكلة «الوثنية والشرك».

«ونضال الاسلام المستمر ضد الالحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية ضد المشكلتين معاً بكامل بعديهما التاريخيين»[18].

الشيء الملفت في نظر السيد الشهيد هو ان الانسان في حاجة الى هذا المطلق ـ ولابد من اشباع هذه الحاجة باية طريقة من الطرق فالالحاد والشرك هما طريقان لاشباع هذه الحاجة، «فلابد للمسيرة الانسانية من مطلق»[19] ولكن هل هو اي مطلق ؟ لا، بل «لابد ان يكون هذا المطلق حقيقياً» «وبهذا تعالج المشكلة بقطبيها معاً»[20].

ثم يتحول السيد الشهيد كله بكلمة «الايمان باللّه» فهو وحده العلاج، ولابد لهذا العلاج من تعبير عملي في الحياة فكانت «العبادات هي التعبير العملي»[21] عن هذا الايمان «العلاج» اي الارتباط بالمطلق الحقيقي، و «على هذا الضوء نعرف ان العبادة ضرورة ثابتة في حياته الانسان ومسيرته الحضارية»[22].

وتتجلى منهجة السيد الشهيد واضحة عندما يبني العبادة على اساس «الموضوعية في القصد وتجاوز الذات»[23] «والعبادات تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية ـ لانها اعمال يقوم بها الانسان من اجل اللّه سبحانه وتعالى ولاتصح اذا اداها العابد من اجل مصلحة من مصالحه الخاصة»[24].

ثم يستمر السيد في مسيرته الرسالية الهادفة مرسخاً الارتباط بالمطلق عن طريق «الشعور الداخلي بالمسؤولية»[25] فهذه المسؤليه ليست فرضاً من الخارج أو اعمالاً ميكانيكية آلية يقوم بها الفرد كما يؤدي اي عمل اجتماعي آخر مما لو خلي بينه وبين نفسه لتخلى عنه[26].

والسيد الشهيد دائماً مبدع ودائماً محلل يغور في اعماق الفكر محللاً مستنتجاً، حتى يضع امامنا «ملامح عامة للعبادات» ويقصد بها العبادات التي ذكر مسائلها في رسالته العملية، مستخلصاً تلك الملامح من ابواب الفقه التي نراها في اية رسالة عملية ونتعبد بها دون ان نلتفت الى تلك الملامح، اما السيد الشهيد فينقلنا نقلة الى «الغيبة في تفاصيل العبادة» رابطاً بينها وبين تقدم العلم الحديث ومع ذلك تبقى هناك نقاط غيبية في العبادة.

ثم يرسم لنا شمولية العبادية[27]، فهي تشمل جوانب حسية وعقلية وغيبية واجتماعية ونفسية واخلاقية.

فالفتاوى الواضحة ليست مجموعة مسائل، بل كتاب علمي اخلاقي تربوي اصولي تعبدي لغوي باسلوب واضح وبادلة علمية منطقية مقنعة جعلت المكلف يعرف بان العبادة حاجة والتقليد والاجتهاد حاجتان ايضاً ولابد للفرد من اشباع هذه الحاجات…

فالسيد الشهيد (رضي الله عنه) قد طبع جميع ملامح ومعالم منهجته في رسالته العملية من موضوعية، وشمولية وادى رسالته من خلالها ايضا هداية وتبليغاً، ثم هو ابدع في تبويبها وفي صوغ مسائلها، وفوق ذلك جعل روح التدين تتسع في كل فقرة من فقراتها، فتراه يكرر عبارة «لابد للعبادة من قصد القربة الى اللّه» وقد لبست هذه الرسالة ثوب البساطة والتواضع فكانت عظيمة كصاحبها.

«من کتاب الفتاوى الواضحة»

السيد علي علي خان

 

[1] فدك في التاريخ ص 45 ـ 46 تحقيق الدكتور عبد الجبار شرارة ط1 1415 هـ ـ 1994 م.

[2] ص 9.

[3] ص 12.

[4] ص 12.

[5] ص 13.

[6] ص 14.

[7] ص 15.

[8] ص 16.

[9] ص 19.

[10] ص 20.

[11] كما في قوله «وللاقامة في اللغة العديد من المعاني منها:

الرواج، يُقال: أقام في السوق، اذا جعلها رائجة.

ومنها: الظهور، يُقال أقام في الدين، أي نصره واظهره على اعدائه…

والمراد بالاقامة هنا (في الشريعة) أذكار معينة تُقال قبل الصلاة مباشرة ص 282.

[12] مثالاً على ذلك قوله (في حالات موت المرجع) «اذا مات المرجع في التقليد فما هو تكليف من كان مقتدياً به ومقلداً له ؟

الجواب: عن هذا السؤال يستدعي التفصيل كالآتي…» ص 25.

[13] مثالاً على ذلك قوله «والوضوة عبادة بمعنى لايصح ولايحقق طهارةً شرعاً إلاّ مع نية القربة، ونية القربة ان تأتي بالفعل من أجل اللّه سبحانه وتعالى» ص 77.

[14] مثالاً على ذلك قوله في حديثه عن شروط التكليف «ثالثاً: القدرة، قال اللّه سبحانه وتعالى:( لايكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها) البقرة 284» ص 41.

[15] ص 582.

[16] ص 582.

[17] ص 583.

[18] ص 584.

[19] ص 585.

[20] ص 587.

[21] ص 589.

[22] ص 590.

[23] ص 591.

[24] ص 593.

[25] ص 594.

[26] ص 596.

[27] ص 598.