في كل مناسبة يجري من خلالها الاحتفال التأبيني بالذكرى السنوية لاستشهاد المرجع الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (رض)، لا يجد المعنيون بتلك المناسبة بداً من اللجوء الى الوسائل التقليدية المعتمدة في احياء ذكرى الأعلام من المفكرين والمبدعين وهي وسائل عادة ما تكون قائمة على استرجاع الصور المشرقة في حياتهم واخضاع انجازاتهم ومآثرهم للبحث والدراسة مسلطين بذلك الضوء على جوانب متعددة من شخصيتهم وعبقريتهم وقدرتهم على تبوء مكانتهم في ذاكرة التأريخ والجماهير.
وفي ضوء هذه الحقائق لا نجد ونحن نستذكر سنوية استشهاد المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (رض) بدأ من اعتماد ذات الوسائل في تسليط الضوء على الجوانب المشرقة في شخصيته الفذة والتذكير بمواقفه وانجازاته العظيمة وصولاً الى تحقيق الغاية وأداء الواجب الحضاري المناط بالشعوب ازاء افذاذها وعظمائها. ولا شك ان عملية الاستذكار هذه ستقود الى محصلة متميزة تؤكد على تفرد مكانة هذا الانسان والقائد والمفكر لأسباب عديدة في مقدمتها السبب المتمثل في التطابق والانسجام في جوانب شخصيته الى الدرجة التي تجعلها تسمو كثيراً على الميول والتوجهات التقليدية وتؤهلها للاقتران بالعديد من الصفات الكبيرة والمتميزة لعل من اهمها الصدق مع النفس والمبادئ وهي الصفة التي اهلته ليتبوأ مكانته بين الشهداء والصدّيقين ولاشك ان مثل ذلك التوافق والتطابق بين القول والفعل والفكر والموقف كفيل بجعل شهيدنا الكبير (رض) يمثل خزيناً في العطاء الفكري والانساني لا يلبث قادراً على الاستمرار والتجدد حتى يقيم علاقة دائمة وعميقة مع المستقبل والاجيال الاسلامية القادمة ضارباً مثلاً رائعاً على خلود الفكر والموقف.
لقد اثبت (رض) شجاعته واقدامه في تعامله الانساني على الاصعدة المتعددة فعلى الصعيد الفكري كانت مواجهته الرائعة مع الفكر الشيوعي والماركسي تمثل نموذجاً متقدماً في هذا الاتجاه لأسباب عديدة يمكن ايجازها بما يلي:
1ـ ان الموجة الفكرية الالحادية جاءت في فترة شهدت بروزاً واضحاً للتيارات العلمانية وقيام اتباعها وادعيائها بتزييف المفاهيم والحقائق محملين الاسلام والالتزام الديني مسؤولية الانحدار والتدهور السائدين في الاوضاع الاسلامية ذلك الحين وقد جاء كتاباه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) بما يشتملان عليه من لغة علمية دقيقة ورصينة ليؤكدان على قدرة الخطاب الاسلامي على تفنيد ادعاءات اولئك العلمانيين واتهامهم ذلك الخطاب بالتخلف والعجز عن مجاراة النظريات الفكرية المعاصرة.
2ـ اكد (رض) على اهلية الاسلام كفكر سياسي مؤهل لخوض غمار الحياة مفنداً الدعاوى العلمانية القائلة بفصل الدين عن السياسة خاصة وان الفكر الاشتراكي كما هو معروف احدى النظريتين العظيمتين ذلك الحين بينما اثبت الواقع عجز الكثير من الايديولوجيات السياسية المعروفة على مواجهة ذلك الفكر الاشتراكي وانطفائها في دوائر النقص والفشل ازائه وبذلك يكون الشهيد المفكر الصدر الاول (رض) قد اوجد الارضية المناسبة لتعبئة الجيل الشبابي الواعي في مواجهة النظام الطاغوتي العلماني الحاكم في بغداد وبالفعل فقد تحول (رض) الى بيرق ومحور تدور حوله الشريحة المثقفة الواعية في ميادينها ومواقعها المعروفة كالجامعات والمعاهد فضلاً عن الساحة الثقافية العامة بما تشتمل عليه من تسميات عديدة وقد وجد اولئك المتعلمون الملتزمون في النهج الخطابي الاسلامي الجديد الاداة الفكرية الفاعلة في مواجهة الخصم ومحاججته وبذلك وجد الكتاب الاسلامي طريقه الى يد الطالب والاستاذ الجامعي وأصبح بالنسبة الى المهندس والطبيب والصحفي والاديب يمثل الحجة التي يتوجب الاخذ بها والتعامل معها وهكذا فقد اوجدت حركته الفكرية والتوعوية جيلاً اسلامياً واعياً وملتزماً منتشراً على امتداد خارطة المجتمع الثقافية وبالطريقة التي تؤكد على حضور اسلامي سياسي واضح.
وأمام هذه الحقائق لم يجد النظام الحاكم في بغداد بداً من استخدام وسائله الترغيبية والترهيبية للاحاطة بذلك التيار الاسلامي الجارف والحيلولة بينه وبين الامتداد الى اشواط بعيدة لا تقف دون اسقاطه والقضاء عليه. ولذا فقد عمد الى اسلوب الصفقات والعروض المغرية في محاولة لحمل المرجع الثائر على المهادنة والمساومة حيث تحدثنا الشواهد والوقائع ان ذلك النظام دأب على ارسال مبعوثيه وممثليه للالتقاء به (رض) وايصال رسائل الطاغية اليه فماذا كان موقفه من تلك المحاولات وماهو الرد المعتمد من قبله حيال الدعوات المتواصلة له بالمهادنة والمساومة.
وقبل الشروع بالاجابة المعروفة على هذا السؤال التقليدي نجد من الضروري الاشارة الى عمق الصلة والارتباط بين مكانته الفكرية والمرجعية (رض) وبين قضية استشهاده التي هي في واقع الامر فصلاً مكملاً لمسيرته وحركته وليس موقفاً فائضاً يمكن التغافل عنه والقفز عليه كما يتوقع البعض.
هذه الحقائق يمكن معرفتها من خلال القيام بمقارنة بسيطة بين الممارسة الاجرامية والاهاربية عندما تستهدف مواطناً عادياً تجري عملية اعتقاله واعدامه بشكل يومي بصمت وسكون مطبقين وبين ان تكون تلك الممارسة مستهدفة مرجعاً ومفكراً كبيراً اطبقت شهرته مختلف ارجاء المعمورة كالمرجع والمفكر الكبير السيد محمد باقر الصدر (رض).. لقد كان سماحته على دراية دقيقة وعميقة بالأبعاد السياسية المستقبلية التي ينطوي عليها قراره الاستشهادي المعتمد من قبله باصرار دون تراجع او تردد ولذا نجده (رض) يؤكد على ان المرحلة بحاجة الى دم كدم الامام الحسين (ع) ولاشك ان دمه وهو المرجع الكبير والمفكر الفذ يمكن ان تتجسد فيه مثل تلك المقارنة اكثر من اي دم آخر ومن هنا فان موقفه الاستشهادي لم يكن موقفاً عابراً يفتقد الى مدياته المستقبلية والتأريخية وانما هو موقف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتصورات وتفاعلات صاحبه الفكرية وذلك ما يقود الى القول ان عطائه الاستشهادي (رض) يمثل قيمة مستقبلية عظيمة تماماً كعطائه الفكري الذي يؤكد الكثير من المتخصصين انه سيرفد العطاء الانساني بالمزيد من الاستمرارية والخلود.
وبناءًا على ذلك فان دم الشهيد الصدر (رض) سيكون كما اراد له فاعلاً ومؤثراً كدم سيد الشهداء (ع) وسيكون التأريخ القائم في حركته على مناصرة اصحاب المواقف العظيمة هو الكفيل بتحديد معالم الثورة الجماهيرية العارمة التي سقى شجرتها (رض) بدمائه الطاهرة.
هاتف الظاهر