السيد الصدر بين قلق الإبداع وبناء المستقبل

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

من الناس من إذا ذكرته بدأت تلاحق ماضيه كيفما كان وتحدق في بعض حاضره، ومن الناس من إذا درسته فإنك تظل تلاحق المستقبل لأنه يمثل تطلع المستقبل في كل إبداع جديد، وفي كل حركة جديدة، وفي كل انطلاقة في مدى الإنسان في الزمن.

ومن هنا، فإنك عندما تلتقي بهذا الإنسان، وتلتقي بمجرم يقف بهذا الإنسان في موقع معيّن يمنعه من أن ينطلق ويسمو، فإنك تشعر أن الجريمة ليست أنها أثكلت الحاضر بقيادة فكرية، ولكنها هزمت الكثير من المستقبل. وإذا كان لنا أن نعذر بعض الناس ـ ولن نعذرهم ـ أنهم يثكلون الحاضر، فكيف يمكن لنا أن نعذر من يسرق أحلامنا وتطلعاتنا للمستقبل؟ وأن نغفر لمن يسرق الفكر من أطفالنا الذين ينطلقون ليكونوا جيل المستقبل؟

إطلالة على الراحل الكبير

من هؤلاء الناس شهيدنا السيد محمد باقر الصدر، ذاك العظيم الذي عايشناه منذ الطفولة، ورأيناه أنه ما كان يترك فكراً أو قضية أو واقعاً إلاّ أعطاه شيئاً جديداً في الشكل والمضمون.

هذا الإنسان الذي كان يعيش قلق الإبداع، لم يعش المعرفة استهلاكاً، كما يحاول الكثيرون منا أن يستهلكوا المعرفة ليتحول فكرهم إلى مكتبة لا فرق بينها وبين المكتبة الموجودة في خزاناتهم، فهم يجمّعون أفكار الآخرين، ولكنه كان يريد أن يصنع مكتبة جديدة تظل تعطي وتنطلق، مكتبة يضيفها الآخرون إلى كتبهم لتصنع من كل كتاب أكثر من كتاب. كان الإنسان الذي يعيش إسلامه حركة، لم يفكر منذ أن انفتح على الإسلام أن يكون الإسلام جامداً يتجمد في قوالب جامدة يستهلكها الناس، أو يقف عند زوايا مغلقة يختنقون فيها، أو يتحول إلى سدٍ يجعل الناس يفقدون رؤيتهم وأحلامهم للحياة من حولهم ليغيبوا في ما بعد الموت، وليموتوا قبل أن يأتيهم الموت، كالكثيرين الذين تثقلهم الحياة، ولذلك فإنهم يعملون على أن يعطوا حياتهم شيئاً من الموت.

قلق المعرفة

كان هذا الرجل حياةً كله، حياة في المعرفة، يعتبر أن المعرفة لا بد أن تولد وتستمر باستمرار الإنسان لأنها قد تموت، وعندما تموت ينساها الناس، وتتبدّل حركة الحياة مع طرق وأساليب المعرفة الإحيائية، وما نجده الآن أن علاقتنا بمن هم سبقونا علاقة الحي بالميت، الحي الذي يحاكي الميت ويستنطقه دون أن يحصل منه على جواب يفيده في حركته المستقبلية، لأن تجارب الماضين كانت تنسجم مع ظروفهم، وكذلك هي نتائجها التي لا تنفك عنها، فيما الأفكار تتبادل مع التجربة عملية الكسب والعطاء، لذلك تولد الفكرة تماماً كما يولد الإنسان، وكما أننا لو تركنا الإنسان يموت ولم نشارك في صنع إنسان جديد فإنه ينتهي من الحياة وهكذا الفكر، لأننا نعرف أن هناك فكراً هو فكر الحياة، وأن هناك فكراً هو فكر المرحلة، فكر المرحلة لا يمكن أن يفرض نفسه على مرحلة أخرى، وفكر الحياة لا بد أن نجدِّد له شكله إذا كانت الحياة تحتفظ له بمضمونه. كان فقيدنا يعيش المعرفة حياة، ولذلك فهو يعتبر مشاركته في كل مفردات المعرفة مشاركة في صنع الحياة. وهكذا رأينا أن الحياة الفكرية قبل السيد محمد باقر الصدر كانت شيئاً وأنها بعد السيد محمد باقر الصدر أصبحت شيئاً آخر، لأن الكثير من الأشياء التي أعطاها هي أشياء جيدة استطاعت أن تفتح للإنسان الباحث والقلق آفاقاً جديدة.

كان الاقتصاد الإسلامي قبل السيد محمد باقر الصدر مجرد مفردات في أحكام شرعية متناثرة لا تجد فيها طبيعة المذهب، وإذا بنا مع السيد محمد باقر الصدر نجد أن الاقتصاد الإسلامي مذهب اقتصادي إسلامي جديد على مستوى القاعدة وعلى مستوى الامتداد، وأنه يقف ليتحدث مع الاقتصاد الاشتراكي بلغة العلم، وليتحدث مع الاقتصاد الرأسمالي بلغة العلم، وليقول لكل هذه التيارات إن علينا إذا أردنا أن نُخلص لإنساننا ولحياتنا أن لا نحوّل العلم إلى شعار نتراشق به، وأن لا نحوّل المذاهب الفكرية والاقتصادية إلى مجرد كلمات طائرة في الهواء نسيِّسها دون أن نتعمَّق فيها. وتلك هي مشكلة الفكر عندما يتحوّل إلى شعار، إننا نقتله، لأنه عندما نعطي الفكر العميق خصائص السطح فإنه يفقد نفسه، ولذلك نجد الكثيرين ممن يطلقون شعارات هذا المذهب الاقتصادي أو هذا المذهب السياسي أو ذاك المذهب الآخر، فكم واحد منهم يفهم قواعد المذهب الذي ينتسب إليه؟ كم من الاشتراكيين من يفهم القاعدة العلمية في الاشتراكية؟ وكم من الرأسماليين من يفهم القاعدة العلمية للرأسمالية؟ كلمات متناثرة نُطلقها، نسجّل فيها نقاطاً على بعضنا البعض، وقد قتلتنا عملية تسجيل النقاط، لأن القضية هي أن نُبدع النقاط لا أن نسجّلها، لأن قضية أن تُوثق النقاط هي قضية أن توثق التخلف، أما أن تصنعها فإنك تصنع الإبداع.

السيد أعطى الحوار معنى العلم

وهكذا رأيناه في الفلسفة، فقد عشنا مرحلة هامة منذ أن انطلق الاستعمار ومنذ أن انطلقت المذاهب السياسية التي تنطلق من مواقع فكرية، فعندما انطلقت الماركسية والقومية، وانطلقت الكثير من المذاهب التي تتحرك لمواجهتها، انطلقنا فيها على طريقة المخابرات الأميركية، نرجم الماركسية دون أن نفهمها، ونكفّر القومية دون أن نعيها، ونتحدث هنا وهناك عن الليبرالية وعن غيرها ونحن لا ندري ماذا هناك، لكن قيل لنا قولوا ذلك فقلنا ذلك، قلنا ذلك إيجاباً من دون وعي، وقلنا ذلك سلباً من دون فهم، وكان السيد الصدر هو الذي أعطى للحوار الماركسي ـ الإسلامي معنى العلم فيه، ومعنى الفكر فيه، فالقضية كانت هي أن للغرب فلسفاته كما للشرق فلسفاته، وليست الفلسفة شرقية أو غربية، ولكنه الاصطلاح، لأننا لا نفهم أن الفلسفة تأخذ بُعدها من منطقة جغرافية، أو أن الفكر يأخذ مضمونه من واقع محلي، لأن الفكر لا وطن له والفلسفة لا أرض لها، إن القضية الفلسفية هي الفكر الذي يحلِّق دون حدود، ولذلك كنا نقول إن الحكاية عن مبادئ مستوردة هي لغة المخابرات، ما معنى أن تستورد مبدأً؟ هل المبادئ تدخل في حسابات وزارات الاقتصاد لتنطلق على أساس الاستيراد والتصدير؟ تماماً كما نسمع في كثير من الدعايات الأميركية والأوروبية عن تصدير الثورة، الثورة التي هي قلقنا، ألمنا، أحلامنا، حركتنا، كل الواقع الاهتزازي فينا، كل واقع التمرد فينا، هل يمكن ـ وأنا الإنسان الذي لا أملك حساً ثورياً ـ أن تأتيني الثورة من خلال مرسوم اقتصادي من هذه الدولة أو تلك لتتحدث عن الاستيراد وعن التصدير؟‍ كلمات نستهلكها، ولكننا إذا أردنا أن نحترم أنفسنا فإننا نفكر أن علينا أن لا نقولها.

كان هناك حديث عن فلسفة شرقية أو غربية، وكان السيد الصدر يرفض أن نتحدث عن فلسفة إسلامية، بمعنى أن نفرض الفكر الفلسفي من مفكرين مسلمين على الإسلام. إن إسلامية الفلسفة ليست من خلال أن هناك مضموناً فلسفياً يتمثل في فكر هؤلاء، ولكن الإسلام مفاهيم يمكن أن تفلسفها، فقد يبلغ هؤلاء مداها وقد لا يبلغون، وفي كل حال، هي فلسفة المسلمين وليست فلسفة الإسلام بحيث تفرضها كحقيقة إسلامية إذا أنكرتها فإنك أنكرت الإسلام.

وبدأ هذا الرجل الذي لم يدرس الفلسفة الحديثة في دراساته، ولكنه قرأها ووعى جذورها، وانطلق يناقش الفلسفات في الغرب، حيث واجه الماركسية مواجهة علمية عقلانية موضوعية ينطلق فيها على أساس أنه يحترم الفكر الآخر.

إننا إذا رفضنا فكراً فليس معنى ذلك أننا لا نحترمه، إن أبسط شرط من شروط الحوار هو أن تحترم فكر الإنسان الذي تحاوره، لأنك إذا لم تحترم فكره فإنك لا تستطيع أن تفهمه فهماً موضوعياً، ولا تستطيع أن تنفذ إلى أعماقه، كان السيد الصدر يرفض الماركسية ولكنه كان يحترم الفكر فيها، حتى رأى أن هذا الفكر خطأ، خطأ من موقع العلم وليس خطأً من موقع الشعار، أي لا يكون الشعار هو الرد الفعلي للخطأ الفكري.

انفتاحه على قضايا الأمة

وهكذا رأيناه فتح في الساحة الإسلامية مسألة الحوار على أساس الفكر لا على أساس التراشق بالكلمات اللامسؤولة، ولعلّ مشكلتنا في كل شرقنا هذا أو في عالمنا الثالث، أننا قوم لا نصبر على أفكارنا ولذلك فإننا لا نتقنها، ولا نصبر على خلافاتنا ولذلك فإننا لا نعرف كيف نديرها وكيف نحركها.

ومن موقع الفكر الفلسفي والاقتصادي والفقهي والأصولي، كان الإنسان الذي ينفتح على قضايا الأمة، لأنه لا يفهم معنى أن يكون الإنسان علماً يطل على الناس من الأبراج العاجية، لأننا نفهم وفي كل مراحلنا، أن هناك في الأمة منظّرين يعملون على أن يقرأوا واقع الأمة من خلال الذين كتبوا عن واقعها، ولا ينزلون إلى الواقع ليفهموه في الساحة الميدانية، وهذا ما لاحظناه من كثير من المفكرين، سواء كانوا إسلاميين أو قوميين أو اشتراكيين أو ماركسيين أو ما إلى ذلك، ممن إذا قرأت أبحاثهم رأيت التجريد الذي يريد أن يحوّل الواقع إلى شي تجريديّ، حتى إذا ازدحمت الساحة وانطلقت التحديات، بدأوا يفلسفون لك التحديات، ويحدثونك عن الواقعية التي تفرض عليك الاعتدال، بحيث لا تكون قومياً متطرفاً، وأن لا تكون إسلامياً متطرفاً، حتى لو وصل القوم إلى غرف نومك، حاول أن تكون الإنسان المعتدل الذي يرتّب غرفة النوم على الطريقة الواقعية التي يرغب فيها المحتلون. أليس بعضنا يفعل ذلك؟ القدس عروس عروبتكم فأين هي؟

لذلك انطلق الشهيد السيد من أجل أن يجعل علمه علم الحياة وعلم الإنسان، من خلال وعيه للمسألة الاقتصادية، فعندما يبحث الاحتكار لا يبحثه فقهياً ليكتب حكم الاحتكار في الإسلام، ولكنه تحرك ليواجه كل المحتكرين الذين يحتكرون قوت الأمة، والذين يحتكرون قوت العالم، لذلك فقد بحث السيد الشهيد الاحتكار في الفقه من خلال وعيه لقضية الاحتكار في العالم، وعليه، فقد فهم ما معنى الاستعمار الذي يتحرك من أجل أن يحتكر كل ثرواتنا لمصلحة رخائه، حتى يوحي إلينا بأن ثرواتنا هي ثرواته. وعندما كان يفلسف ـ وهو يناقش الماركسية ـ قصة الاستكبار والاستعمار وما إلى ذلك، وهو ينطلق مع القرآن الذي يتحدث عن المستكبرين وعن المستضعفين، ويتحدث مع المستضعفين أن الضعف ليس عذراً وليس مبرراً، كان ينطلق من ذلك ليقول للضعفاء كونوا أقوياء، وليقول لمن يملك القوة: حاول أن تزداد قوة، ولمن يحاول أن يستضعف نفسه أن يدله على مواقع القوة في شخصيته، لأن مشكلتنا في إعلامنا وفي سياساتنا وفي كل حركة المخابرات الدولية فينا، أن هناك خطة لإنتاج الضعف الذي يُسقط فكرنا فلا نؤمن بفكرنا، ويُسقط روحنا فلا نؤمن بروحنا، ويُسقط حركتنا في الحياة فنجمد حتى لو كنا في الصحراء اللاهبة، لأن القضية ليست أن تتجمد من خلال الطبيعة، ولكن أن تتجمّد من خلال هذا الثلج الروحي الفكري في شخصيتك.

السيد الصدر… ومأساة شعبه

ولذلك انطلق والأخطار من حوله، عاش مشكلة شعبه ووعى قضية الطغيان هناك، ورأى أن الطاغية أراد أن يُسكت كل صوت، وأراد أن يقتل كل روح، وأراد أن يُشغل الناس بخلافاتهم، وأراد أن يكون الحديث في العراق عن سنّة يتعقّدون من الشيعة، وعن شيعة يتعقّدون من السنّة، وعن حديث استهلاكي في مسألة الأكثرية والأقلية وما إلى ذلك، فأرسل صوته: أيها العراقيون توحّدوا، أيها السنة ليس هذا الحكم سنياً وإن كان الطاغية ينتمي إلى السنّة، ولكنه حكم يختزن في داخله كل قيم الكفر، ولذلك قال للشيعة: لا تتعقّدوا من هذا الحكم الذي يظلمكم على أساس أنّ السنّة يظلمونكم، لأنّه يظلم السنّة والشيعة والمسلمين والمسيحيين، لذلك لا بد من أن يتوحّد الجميع ضده.

هذه كانت دعوته التي انطلق فيها، وقد يستغرب بعض الناس كيف بإنسان داعية إسلامي يعيش في داخل موقع مذهبي معيّن أن ينفتح هذا الانفتاح على الإنسان كله، إنه كان يعمل على أن يُبدع في الوعي الإسلامي، وأن يكون الوعي الإسلامي منفتحاً على الناس كلهم، لأن هناك حقيقة إنسانية سياسية واحدة، هي أن قضية الحرية لا تتجزأ، فإذا انتصرت الحرية في موقع فإنها تعطي القوة لموقع آخر من المواقع التي تتحرك من أجل الحرية.

لذلك لن يستطيع الشيعة في العراق أن ينتصروا بعيداً عن السنّة، ولن يستطيع السنّة في العراق أن ينتصروا بعيداً عن الشيعة، إن المسألة هي أن العراق ينتصر عندما ينطلق العراقيون من خلال وحدتهم. وعندما ندرسه، فإننا لا نراه يعيش في داخل العراق لتتعلّب شخصيته في المسألة العراقية، كان العراق عنده نموذجاً لمسألة الحرية، ولذلك كان يطل على كل العالم الإسلامي، وكانت قضية فلسطين في قلبه، وفي وعيه، لأنه يعرف كما يعرف كل الإسلاميين وكل الأحرار، أن القضية الفلسطينية تختصر كل قضايا الحياة في نصف القرن الأخير الذي مررنا به، وأنها تختصر كل معاركنا، سواء المعارك التي عشناها في داخل تمزقاتنا التي أريد لها أن تُسقط جهادنا عندما نتحول إلى مزق متناثرة، أو في خارج مناطقنا عندما انطلق الاستكبار العالمي من أجل أن يزرع إسرائيل في قلب الوطن العربي، وفي قلب الساحة الإسلامية، من أجل أن يعمل على أساس أن يحوّلها إلى منطقة لنفوذه من خلال الاستراتيجية الأميركية ـ الأوروبية ـ اليهودية في المنطقة.

الحديث عن جنس الملائكة:

وقد كان فكره السياسيّ فكراً منفتحاً على كل المسلمين وعلى كل المستضعفين، وعندما نقرأ نتاجه وبعض ما تحدث به، فإننا نرى ذلك كله. قصة العراق لا تزال تنـزف، ولا يزال الشعب العراقي يعيش الجوع والتشريد والقهر، وبدأ يعيش الضياع، حتى الذين كانوا يحدقون بالواقع في إرادتهم الصلبة بدأوا يضيعون، والكرة الآن في ملعب المعارضة العراقية، فيما لا تزال المعارضة العراقية تتحدث عن جنس الملائكة، واعذروني في ذلك، فالمعارضة اللبنانية كذلك، أنا لا أتحدث بشكل إقليمي في هذه المسألة، ومعارضات كثير في العالم العربي والإسلامي كذلك، نحن دائماً لا نحب أن نتحدث عن مشاكل البشر، ولذلك نتحدث عن مشاكل الملائكة، ذلك اننا قبل أن نفهم حقيقة البشر نريد أن نفهم حقيقة الملائكة كما لو كانت مشكلة من مشاكلنا، ونحن أيضاً مولعون جداً في أن نثير الخلافات والنزاعات بين الأنبياء، هل هذا النبي أفضل من ذلك النبي؟ هل أن هذا الإنسان افضل من ذلك الإنسان؟ ونستغرق في تقييم الآخرين وننسى تقييم واقعنا. لذلك ليست المسألة مسألة فواصل نتنازع أين نضعها، وراء هذه الكلمة أو تلك الكلمة، القصة هي أن هناك حكماً طاغوتياً أسقطوه، ثم تحدثوا عن كيفية إقامة حكم آخر، أنا لا أبسِّط المسألة، أنا لا أقول إن مسألة البرنامج في أيِّ وطن هي مسألة لا بد أن نتحدث عنها بطريقة سطحية، ولكن أيها المهندسون، قبل أن تتحدثوا عن خريطة غربية أو شرقية حاولوا أن تأخذوا الأرض، أن تعرفوا الأرض جيداً، كيف هي، كيف نقيم عليها، لا الأرض في المسألة الجغرافية، ولكن الأرض في المسألة الإنسانية، أرض الإنسان.

احذروا حديث المستكبرين

هناك حديث يتداوله المستكبرون وهم يريدون أن يغسلوا أيديهم من دم هذا الصدّيق، ليقولوا إن مشكلتنا هي عدم وجود البديل، لأنكم كمعارضة إذا دخلتم العراق فسوف تهتز وتصبح الدماء أنهاراً وبحاراً، لذلك علينا أن نُبقي هذا لأنه لا بديل عنه. هذا حديث ليس دقيقاً فيما نفهم ولكنهم يتحدثون به، لماذا نشجعهم على أن يستمروا بهذا الحديث. إننا نقول: إن هناك معارضة أصيلة أعطت الدماء ووقفت أمام الأخطار وشُرِّدت في أنحاء الأرض. إن أميركا تريد أن تصنع لنفسها معارضة عراقية ولا نريد أن ندخل في اتهامات أحد، إن هناك الكثير ممن يقولون إنه لا مجال للحل إلاّ من خلال أميركا، كما كان السادات يقول ذلك، وقد عرفنا الحل الأميركي في مصر كيف هو، ونعرف الحل الأميركي في كل مكان، ونعرف الحل الأميركي في فلسطين الآن، فالحلُّ الأميركي هو اتفاق غزة ـ أريحا من دون وطن للفلسطينيين، ومن دون دولة للفلسطينيين، ومن منطق يحاول أن يساوي بين مجزرة الحرم الإبراهيمي وبين موقع جهادي يدافع فيه المجاهدون عن أرضهم.

إنهم يتحدثون عن أبرياء ذُبحوا في الحرم الإبراهيمي وعن أبرياء ذبحوا في عملية الباص، ولكن هل هناك يهودي في فلسطين يمكن أن تسميه بريئاً؟! في مسألة العدو هو هل أن من يحمل السلاح هو فقط العدو؟! بل من أخذ أرض الفلسطينيين هو إنسان عدوّ، ومن سكن بيت الفلسطينيين هو عدوّ، ومن بنى المستوطنة فوق أرض الفلسطينيين فهو عدو، ولكن أمريكا تريد أن تقول لنا إن هؤلاء أبرياء، لنقتنع بذلك.

الأمة لا تسقط

المسألة ليست عراقاً وحده، ولا فلسطين وحدها، المسألة أن أمريكا تريد أن تجعل المنطقة منطقة أمريكية بكل ثرواتها وبكل إنسانيتها وبكل أرضها وبكل سياستها واقتصادها. إنها تريد أن تلغي شيئاً اسمه العالم العربي، ألا تستمعون إلى كلمة الشرق الأوسط تتردد في حياة الناس وفي كلماتنا السياسية؟ إنهم يريدون إسقاطنا كأمة عربية أو كأمة إسلامية أو كإنسان يريد أن يتحرر. أيها الناس، كل الناس، أنتم الذين تحركون السياسة في كل حياتكم، وتنطلقون من أجل أن تحملوا الشعارات الكبيرة في حياتكم: إن هناك أمة لا تعملوا على إسقاطها، ليس هناك أحد يستطيع أن يُسقط الأمة، ولكن بعض الناس قد يعملون على أن يربكوا خطوات الأمة، وأن يصادروا بعض أوضاعها وبعض قضاياها. لذلك لا تزال هناك في الساحة الكثير من عناصر القوة، فعلينا أن نلتقطها وأن ننمّيها، ولا تزال في الساحة الكثير من آفاق الشروق، فعلينا أن نزيدها شروقاً، وإذا ضاق بكم الحاضر فلا تقولوا لنكن واقعيين ونستسلم للأمر الواقع، لأن المستقبل يتسع للأكثر مما لا يتسع له الحاضر، ونحن لا بد أن نزرع المستقبل في أرض حاضرنا، أن نزرعه بكل هؤلاء المجاهدين. قد يتحدث الناس عن المجاهدين في فلسطين ماذا يفعلون والنظام العالمي ضدهم، ويتحدث الناس عن المجاهدين في لبنان ماذا يفعلون والناس كلهم ليسوا معهم، ولكن المجاهدين يقولون وهم في قمة شبابهم، وهم في قمة وعيهم، وهم في قمة عطائهم، إنهم يقولون للأمة، لا يغرنكم الحديث عن الظلام، فمن شروق كل مجاهد في الضفة الغربية وغزة وفي داخل فلسطين الأولى تنطلق شمس، ومن كل مجاهد في جبل عامل وفي البقاع الغربي ينطلق مستقبل.

لنحضن من يصنع المستقبل

تعالوا لنرافق هؤلاء الذين يصنعون الشمس في دمائهم، وهؤلاء الذين يصنعون المستقبل في خطواتهم، تعالوا لنكون معهم بالكلمة والموقف والدم. إن أمة تتفرج على الشهداء وهم يسقطون، إن أمة تحاول أن تُربك خطوات الشهداء وهم يجاهدون، هي أمة يبتعد عنها المستقبل، ونريد أن نكون أمة تحتضن المستقبل، مستقبل الحرية والعدالة، مستقبل الإسلام الذي ينفتح على الفكر كله وعلى الإنسان كله وعلى الحياة كلها، الإسلام الذي انطلق به محمد باقر الصدر، إسلاماً ينطلق ليكون قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

والحمد لله ربِّ العالمين

السيد محمد حسين فضل الله