الإمام الصدر أُفقٌ رحيب

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

(محاضرة ألقيت في 3 صفر 1423هـ)

أين يتجلى هذا الأفق، ومتى نستطيع أن نتلمسه في تراث السيد الصدر ؟

نجده في جل تراثه الفكري..

نجده في فقه النظرية و في الخروج من مأزق معالجة “مشكلات الاستقراء”..

نجده في جرأته على الخوض فيما هو خطير من مشكلات الفكر المعاصر، أخص موقفه في الجدل الخصيب للمادية التاريخية ومعالجته لإشكاليات “فائض القيمة “.

نجده في ثنايا دراساته في علم أصول الفقه، خاصةً في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.

و لكي نقترب من مفهومنا عن الأفق الرحيب الذي نتحدث عنه، نقف عند أمثلة من النماذج التي أشرنا إليها، فنتحدث عن قاعدة التعريف بالمثال أساساً للاقتراب من هذا الأفق الرحيب:

في فقه النظرية، حيث محاولته لصياغة نظرية اقتصادية إسلامية انطلاقاً من فقه الأحكام أي فتاوى الفقه الإسلامي التي تناولت العملية الاقتصادية.

نحن نعرف أن الفقه الإسلامي بغناه وتنوعه حدد أحكاماً لمشكلة الأرض والثروات العامة وساهم في تحديد العلاقة بين أطراف عمليات الإنتاج والتبادل والتوزيع ووضع قوانيناً لنظرية إعادة التوزيع عبر الضرائب الثابتة، وأتاح لولي الأمر دوراً في التدخل لإعادة التوازن….

حينما يضع الباحث نفسه في سياق وأفق هذه الأحكام يجد نفسه أمام أجوبة محددة لاستفتاءات جزئية. ففقه الأحكام ليس معنياً إلا بطرح الاستفتاء على الأدلة ليرى الموقف من الواقعة الجزئية في ضوء أدلة الفقه من كتاب وسنة.

ولكن حينما يطرح السؤال على الفكر الإسلامي:

ما هو مذهب الإسلام في الاقتصاد ؟

يجد الباحث أمامه في مصادر الفكر الإسلامي عمومات تشكل سوراً من المفاهيم، ويجد أمامه فقهاً حدد أحكام المزارعة والمساقاة والبيع والإجارة والضمان وملكية الأراضي ومنابع الثروات الطبيعية… وما إلى ذلك.

يجد الباحث فقهاً للأحكام لا مناص من الاتكاء على هذا الفقه.

لكن هذه الأحكام حتى في إطارها الفقهي العام  – أي حينما توضع في إطار قواعد – وبعد أن تكون قواعد للقانون المدني – حتى مع هذا الصعود لا يمكن أن نسميها مذهباً في الاقتصاد.

إذا بقي الفقيه والباحث عامة مع هذه الأحكام، وبقي يطمح إلى صياغة مذهب في الاقتصاد الإسلامي من خلال أفق هذه الأحكام، أي ينظر إلى الاقتصاد في أفق فقه الأحكام سوف لا يستطيع أن يقدم معالجة مذهبية للمشكلة الاقتصادية.

إن أغلب الدارسين لمشكلة الاقتصاد الإسلامي أدركوا هذا المنعطف، ومن ثم حاولوا فتح كوة لأفق يتقدمون في ضوئه بطرح ٍ للاقتصاد الإسلامي.

وقد ساهم كلٌ حسب طبيعة الأفق الذي استبصره وارتقى إليه.  إلا أن الحق والتاريخ يقتضينا أن نقرر الحقيقة التي تجلت في تاريخ الفكر الاقتصادي الإسلامي، بل الفكر الإسلامي عامة، ألا وهي أن السيد الصدر في اقتصادنا قدم نظرية اقتصادية في إطار ما أطلق عليه ” فقه النظرية ” بل هو سيد هذا الحقل المعرفي، والسر في ذلك هو أن الخروج من منعطف اختلاف الأفقين (أفق فقه الأحكام وفقه النظرية) يستدعي وثبةً، تجربةً متعالية، يتطلب درجة من الخيال الخصب، الذي يفتح الكوى أمام الأفق الرحيب.

إن هناك حقيقة مسلمة لدى الباحثين في نظرية الاحتمال وهي قياس درجة احتمال الحوادث بشكلٍ سليم يتطلب أن يتصيد الباحث ( الفضاء النموذجي) للمجموعة التي يُراد تحديد درجات احتمال أطرافها.

وأعتقد أن فكرة الفضاء النموذجي تعادل مفهوم الأفق الرحيب.

من لا يستطيع أن يتحرر من قيود إيقاع المعرفة الشرطية، قيود الواقع المشروط لا يستطيع أن يحدد الفضاء النموذجي أي أن مَن لا يمتلك أفقاً رحيباً لا يستطيع أن يتلمس الفضاء النموذجي الذي يستبصر في ضوئه معالجات متقدمة لإشكاليات المعرفة واستحقاقات الواقع.

حينما يتبلد الأفق ويغلظ الذهن فهذا نذير كارثة في حياة الأمم والشعوب، واندحار لروح التقدم التي تنشدها القوى الحية. لنعاف الحديث عن بشائر الشؤم، مبتعدين عن واقع يحاصرنا ولنسكر بالأمل، دعونا نتحدث عن الأمل عن السيد محمد باقر الصدر.

كان أملاً ينفخ في شبابنا المطلع روح الحياة ومعانقة جدوى الحياة.

إن جيل الشباب يلذ أي لذة بالأفق الرحيب الذي يرسم له تباشير الأمل.

وحينما يفقد الأمل فسوف يعانق الشقاء.

قد كان لي أربٌ طاح الزمان به ** فيا شقاء فتى يحيى بلا أربِ

في الأسس المنطقية للاستقراء يتجلى الأفق الرحيب وتظهر بجلاء جرأة الفرسان في خوض غمار معركة معرفية مهيبة.

هيبة أرسطوطاليس الحكيم وجلجلة الأسماء الكبيرة من نوابغ المعرفة في الغرب الحديث، نظير راسل وكينز.

لنتحدث قليلاً عن رحابة الأفق في تجربة الأسس المنطقية للاستقراء:

خلص الأسس المنطقية للاستقراء إلى القول أن مشكلة الاستقراء لا تعالج بكبرى القياس الأرسطي، وإنّ المعرفة التجريبية معرفةٌ أجل معرفة لا على أساس نظرية البرهان الأرسطية، والاستقراء أساس المعرفة الإنسانية التي هي تجريبية في مآلها.

لكننا نعرف أن الحكماء ومناطقة المسلمين أجمعوا على اتخاذ النموذج الأرسطي في المنطق مثالاً لا يحتذى فقط، بل يمرق من يخلع رداء طاعته. ولم يقتصر الأمر على مزامير المنطق الأرسطي وكتب أحبار الحكمة، بل تعداه إلى قلب علم أصول الاستنباط الفقهي ؛ فنظرية البحث في علم أصول الفقه اتكأت في كثير من أبوابها على المعالجة الأرسطية لمشكلة الاستقراء.

ونحن نعرف أن السيد محمد باقر الصدر نشأ وتعلم في محيط يبتدأ بحاشية الملا عبد الله ويعبر الشمسية إلى  منطق الإشارات والشفاء، ثم يعكف على الدرس الأصولي يكرر مقولاته ما لا يعد من المرات ومعالجة مشكلة الاستقراء بالطريقة التي تعلمها السيد الصدر معالجة شبه مقدسة، وقد تناقلها أسلافه عبر أكثر من ألف عام.

من يستطع التحرر من قيود التلقين المعرفي والإرث الراسخ في أرجاء المعرفة المنطقية والفلسفية والأصولية ؟

أقول لكم أن النبوغ والذكاء ن شرط الإبداع،لكنه ليس الشرط الكافي، بل لابد من الأفق الفسيح الذي يتمتع به المبدعون. الإبداع والتأسيس المعرفي لا يفارق الأفق الرحيب المتحرر من تكبيل القيود التي يحلو لبعض طلاب المدنية أن يحاصروا الإبداع بها.

قد يستطيعون لبرهة من الزمان، ولكن خابت آمالهم وستبقى الأجيال تطعنهم، بل لا يحصدون سوى لعنة التاريخ، هذا إذا استحقوا ذكراً في سيله الجارف.

أجللت فيك من الميزات خالدة ***حرية الرأي والإبداعَ والأدبا

أعطف الحديث على (أصول الفقه) ونحاول معاً تلمس الأفق الرحيب، الذي يمثل قاعدة الإبداع وسر التجديد في فكر الصدر الأصولي.

أشرت في مطلع حديثي إلى معالجة الصدر لإشكالية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، حيث أقام هذه المعالجة على أساس مبدأ ” التزاحم الحفظي”.

إن اكتشاف مبدأ التزاحم الحفظي لا يتاح أبداً، ما لم يتمتع المكتشف بأفق فسيح يسمح له أن يرى ما لا يراه حينما ينساق مع المألوف المطروح من معالجات لإشكالية البحث في السياق  العام لمعالجات متأخري جهابذة علم أصول الفقه.

وهنا أحاول معكم أن أطرح نموذجاً أوضح، رغم أنه لم يأت بحجم مبدأ التزاحم الحفظي، بل جاء في سياق معالجة تبنى السيد فيها ما تبناه العقليون من علماء الكلام.

نموذجنا هنا مقولته التي طرحها في سياق درسه للعقل العملي في أبحاث الحجية، المقولة التي تقرر:

إن القاعدة المشهورة {العدل حسن والظلم قبيح} تمثل قضية تكرارية، وبتعبير المنطق الأرسطي قضية بشرط المحمول وحيث إن قولنا العدل حسن أو الظلم قبيح لا يعني تحسيناً أو تقبيحاً جمالياً أو سايكولوجياً، بل هو حكم من أحكام الواجب، ومن ثم فمرده إلى القول: إن العدل ينبغي فعله والظلم لا ينبغي فعله.

والعدل عند التحليل يتضمن في داخله مفهوم الواجب، وهذا يفضي بنا إلى أن نقرر أن العدل ينبغي فعله يعادل قولنا ما ينبغي فعله ينبغي فعله.

وهذا هو معنى قوله: إن العدل ينبغي فعله قضية بشرط المحمول، أي أنها تعادل قولنا: العدل ينبغي فعله ما دام يتصف بأنه ينبغي فعله أو  ما دام ذاته مما ينبغي فعله.

إذن فالقضية المشهورة “العدل حسن” أو العدل واجب لا تقرر شيئاً لنا، و من ثم لا تمثل هذه القاعدة مرجعية أو ما نسميه مبدأ متعالياً لأحكام الواجب ومبادئ الحسن والقبح العقلية.

حقاً حينما يلتفت القارئ إلى رسوخ هذه القاعدة في الأذهان، حيث أصبحت ورداً لا مناص من تلاوته لدى دارسي علم الكلام في مدرسة العقل الكلامية، وقاعدة نصية لا تقبل التأويل لدى علماء أصول الفقه عبر أجيال أساطين هذا العلم.

حينما يلتفت المتأمل إلى ذلك لا يجد في خروج باحث مؤسس ينطلق في ما يقول من أساس، ويعتمد الحجة فيما يجدد فيه وما يدلي عنده برأي، لا يجد المتأمل في هذا الخروج إلا نقلة إلى الأفق الرحيب الذي كان يتمتع به السيد محمد باقر الصدر، الأفق المؤسَسَ الجسور الواثق.

اسمحوا لي هنا أن أتناول مفصلاً خطيراً فيما يتعلق بالتجديد.

أولاً: التجديد ضرورة، بل هو واقع تكويني، نحن صائرون في قبضة تحدياته، ومن يقف أمام التجديد يفعل عبثاً.

ثانياً: هناك من يحاول أن يلبس حلة هذا الثوب الاخاذ الذي تتطلع إليه القوى الحية في مجتمعاتنا، يحاول أن يلبسه في إطار لعبة الدعاية والإعلام لتحقيق طموحات بيولوجية في السلطة والسطوة والمال.

ذلك أنه ينطلق في ما يقول من جديد، ينطلق من القاعدة التي أُسميها (التنفس في الهواء الطلق)، وهذا اللون من الجديد لا يحتاج إلى أفق رحيب، بل هو أضيق أفقاً من اتجاه السلفية والتمسك بالقديم لقدمه، بل لعله يفضي إلى السطحية والتجهيل والضياع مما ينذر بأزمة تطال الخطاب والكتاب.

ثالثاً: التجديد كما أفهمه في إطار مدرسة الاجتهاد الجعفري وفقه كشف الغطاء ومفتاح الكرامة ومستمسك العروة ومدرسة سيدنا وأستاذنا الخوئي والإمام الخميني.

في إطار هذا التيار الاجتهادي أفهم التجديد بوصفه المعادل الحيوي لفكرة فتح باب الاجتهاد، أي لا حياة للاجتهاد بدون تجديد.

لكنه التجديدُ المؤسَسُ، القائم على أساس النقد المعرفي، على أساس استيعاب الموروث المعرفي ونقده. وهنا التوأمية بين التجديد والأفق الرحيب الذي نحاول استبصاره لدى معلمنا، ومن كان مطمحاً ومثالاً. هذا المطمح والمثال يدعونا لاكتشافه حقاً.

إن جل المحاولات أنصبت على استخدامه وتوظيفه، على تحويله من جوهر إلى عرض من جوهرة ثمينة بيد أغنياء النفوس إلى أداة لتحصيل الفلوس.

هذه شقشقات، بل استنشاقات.

نعم نحاول أن نستنشق شيئاً من الهواء في ظل الخنق والتغيب المتعمد وفي ظل الخيبة حيث القوى الحية في مجتمعنا لم يأن لها أن تمارس حياتها الطبيعية بعد، رغم ما ألمسه في الأفق من تعافي الجرحى، وإلى أن تندمل الجراح سيكون لنا لقاء.

اسمحوا لي أن ألاحظ على ما قدمته من نص،أن أنقده بما تلوته على مسامعكم من جمل.لاحظت على لغتي أنها كررت مصطلح الحياة من خلال استخدام ألفاظ نظير: القوى الحية والحيوية والحياة…

أليس ذلك تكراراً معيباً، وقد سعيت إلى تجنبه في ما كتبته من نصوص؟!

كيف يكون معيباً، أيحق لك أن تعيب الغريق حينما لا يجد سوى تكرار صيحة ” أنقذوني ” أتعيب على الصحفي الجريح برصاص الاحتلال اليهودي حينما تغيب عنه كل المفردات سوى صيحاته التي فتت الأكباد الحية، صيحات إسعاف.. إسعاف…

أخي نحن نتطلع إلى الحياة، نحن محاصرون، نريد حركة القوى الحية، نحن مهاجمون من قبل قوى الاستكبار الغاشم، ونريد لأبناء جلدتنا أن لا ينساقوا مع قوة الشر، نريد لهم عودة الحياة عودة الوعي.

أنا لا أطالب الآن بالحياة العقلية الراقية أنا أقبل وأرحب فعلاً بالحياة البيولوجية، بالحياة الغريزية بالوعي الغريزي.

إن مَنْ  يتمتع بالوعي الغريزي يدافع عن مصالحه.

طمع ألقى عن الحرب اللثاما *** فاستفق يا شرق وأحذر أن تناما

في الأفق الرحيب انظر إلى المشكلة في إطارها المحلي والعالمي اترك الحديث عن الإطار المحلي وأشير إلى إطارها العالمي أُشير بإيجاز لذوي العقول معرفة ما يجول في الصدور. نظام عالمي جديد يراد فرضه على العالم بيد قوى بيولوجية، أي قوى تحيا بلا قيم  بلا مبادئ أي أنها لا تمتلك الحياة بمفهومها العقلي القيمي، لكنها تحيا حياتها البيولوجية فتدرك مصالحها  أما أدواتها فهي قوى لا تعيش حتى حياتها البيولوجية، أي لا تدرك مصالحها.

ولا سبيل أمام شعوبنا إلا التمسك بالعلم والتترس بالمعرفة بوعي على أمل امتلاك أسباب النصر في معركة التحرير..

ها نحن مع الأفق الرحيب لسيدنا الذي حاولنا الاقتراب منه عبر الأمثلة التي تقدمت، لنرى من خلال هذا الأفق أزمة الخطاب الإسلامي المعاصر لنرى طبيعة هذه الأزمة في ظل أفق رحيب  ولنرى سبيل تجاوزها في ظل الأفق نفسه:

لم يعد أمر الخطاب الإسلامي سراً يتطلب مزيداً من التحليل والتفسير، ريثما يكتسب الباحث في ضوء بيانات هذا التحليل الحق في وسم هذا الخطاب بأنه خطاب يعاني أزمة، أجل إنّ أنينه الحنون لماضٍ قريب أخذ يطرق أسماع الأجيال التي لم تدرك هذا الماضي الذي تألق فيه الخطاب الإسلامي، متحدياً في طرحه وفي مواكبته لعصره، موصلاً، غنياً في ارتباطه بتراثه.

اسمحوا لي أن أنقل لكم واقعة هنا:

من المسلم أن المثقف في العراق كاد أن يمثله الماركسيون في التيار العلماني إبان النصف الثاني من القرن الميلادي المنصرم.كان الماركسيون مثقفين، بل هم طليعة المثقفين العراقيين، وفي عام 72- 1973 وفي مجلة ” الثقافة ” الماركسية، التي يصدرها الدكتور صلاح خالص، تصدى مهدي النجار لمناقشة ونقد كتاب ” فلسفتنا “.

أهتم المرحوم السيد الصدر بهذا الموضوع، وعن طريق علاقات المرحوم الشيخ ماجد البدراوي حاول الضغط على إدارة تحرير المجلة لكي توافق على نشر رد على هذا النقد، وفور موافقتهم، كتب السيد رداً على ما جاء في مقال مهدي النجار، ثم أرسله بيد السيد محمود الهاشمي إليّ لإعادة صياغته ونشره باسمي، فقمت بذلك وأعطيته عنوان، “ماذا جاء حول فلسفتنا”، ونشر فعلاً في المجلة نفسها.

الشاهد أن هيئة التحرير بعد أن استلمت الرد ندبت حظ مهدي النجار، وقال أحد مسؤوليها باللهجة العراقية: ((ويامن بلش)).

لقد أدرك كثير من المثقفين الإسلاميين في العراق آنذاك أن الإسلاميين يمتلكون فكراً وطرحاً.

أما اليوم فكثير من المثقفين الإسلاميين أصبحوا يدركون بأسف أن خطابهم وطرحهم لم يعد الخطاب المأمول لا بمستوى تأثيره، ولا بمستوى مواكبته لتطورات واستحقاقات العصر الثقافية والفكرية، ولا بارتباطه المؤسس بتراثه وعطاء هذا التراث العلمي. يمكننا أن نضع اليد على أزمة الخطاب الإسلامي المعاصر، وأن نقرأ هذه الأزمة عبر ثلاث زوايا:

القدرة على التأثير.

مواكبة التطور المعرفي.

تجذر الخطاب وارتباطه بتراثه المعرفي.

نحاول قراءة أزمة الخطاب الإسلامي من هذه الزوايا المترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً على أن أؤكد أن هذه القراءة ليست دراسة ومسحاً شاملاً للخطاب الإسلامي، ولكن من المؤكد أنها تمس بشكل مباشر واضح هذا الخطاب إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية تجذر الخطاب وارتباطه بتراثه المعرفي نجد أنّ الخطاب الإسلامي أخذ يتراجع بوضوح. يتراجع في ارتباطه بمصادر مشروعيته، ومصادر غناه المعرفية.

هذه الحالة ترتبط برباط وثيق بظاهرة أضحى يأن من وطأتها المسؤولون عن تسويقها.

أعني ظاهرة السطحية في دراسة العلوم الإسلامية.

هذه الظاهرة التي أستطيع أن أقررها بيقين موضوعي، والغريب في اتفاقات الأحداث أنك تجد التحديات الثقافية عاكفة على نبش التراث وفهمه وخذ النموذجين المشهورين سروش، ونصر حامد أبو زيد، لم يغفلا الفقه وأصوله وغاصا في علم الكلام والحكمة الإسلامية، العقيدة، وذهبا في قراءتهما للعرفان والتراث الروحي مذهباً ضارباً بعمق في إعادة تطهير هذا التراث الروحي ونقده.

أدركت نهضة الحداثة أن موقف اليسار التقليدي من الدين والفكر الديني لم يكن مجدياً، بل كان خاطئاً في فهم الدور الذي تلعبه الظاهرة الدينية في حياة الشعوب، وكان خاطئاً أيضاً في تطبيق آلية التحولات، التي حكمت تطورات عصر النهضة في عالم الغرب.

لقد ذهب اليسار التقليدي، بل قوى  التحديث عامة إلى البدء بالإصلاح الديني عبر تسخيف الفكر الديني والانقضاض على المؤسسة الدينية، تيمناً بما صنعته الثورة الصناعية ونهضتها في أوربا، فحسبوا أن الإسلام يطابق المسيحية، ومن ثم حصل ما حصل من هدر مريع للطاقات و ألقى ببعض ضحاياه بعيداً يكتوون بالغربة والضياع في أصقاع دول الشتات.

أدرك الحداثيون أن القفز على الدين والظاهرة الدينية أو المواجهة بضربات اعتراضية ليسا الحل من أجل تحديث مجتمعاتنا وسوقها صوب التقدم الذي يملك ناصيته الإفرنجة في غرب المعمورة، بل قرروا الحفر في أرجاء التراث واخذ المعرفة الدينية مأخذ الجد عبر فهم معمق لمعطياتها ولمساراتها التاريخية، بل جاءت بعض المشاريع الحداثية قائمة على أساس نقد التراث بما فيه الدين والثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي المتجذر، نظير مشروع محمد عابد الجابري.

وفي غفلةٍ من التحولات كلّها الفكرية التي حصلت جوار بيوتنا غط الإسلاميون في سبات عميق لم يصحوا منه حتى اللحظة.

وهذا ينقلنا إلى النظر إلى أزمة الخطاب من زاوية مواكبة التطورات المعرفية. وأمر الخطاب الإسلامي في مواكبة التطورات المعرفية الراهنة يمكن اكتشافه في ضوء الاهتمام المنكفئ بإنجازات رواد الحداثة من أبناء عالم الإسلام.

معرفياً: ومن زاوية مفهوم ” الحجية ” في علم أصول الفقه نتساءل: هل يجوز إهمال ما يقال من أفكار وحكمة.

تطرح لدى الغير؟

على قاعدة منجزية العلم الإجمالي، وبحكم توفرنا على علم إجمالي مفاده: إن هناك معرفة تتطور في العالم الآخر.

هل يجوز إهمال فحص هذه المعرفة، والتمسك بأصالة براءة الذمة قبل الفحص، وأنتم تعرفون أن القاعدة تقول لا يجوز التمسك بالأصول المؤمنة قبل الفحص!

مصلحياً: ومن زاوية الدفاع الأيديولوجي مقابل الغزو الثقافي الأجنبي الذي يهدد الحرث والنسل ويمس العقيدة والحاضر والمستقبل.

هل من المصلحة أن لا يطلع المدافع وهو يخوض الصراع مع الثقافات الغازية، أن لا يطلع على مضمون تلك الثقافات وقواعدها المعرفية ومنطلقاتها الفكرية؟

دعوني هنا أن أشير إلى الإشكالية المطروحة، والتي تضع حوار الحضارات بديلاً لصراع الحضارات.

أشير بإيجاز إلى وجهة نظري في هذا المضمار فأقول:

هناك مستويان للنظر إلى موضوع العلاقة بين الحضارات والثقافات:

المستوى الأول: النظرة الأخلاقية إلى الموضوع أي أن ننظر إلى الموضوع من زاوية ما ينبغي وما لا ينبغي من زاوية ما يجب فعله وما ينبغي عمله إزاء ظاهرة الاختلاف الثقافي بين الحضارات والأديان.

ليس هناك مذهب أخلاقي يفتي بتحويل الاختلافات الثقافية إلى صراع ثقافي وحضاري، بل الطموح الأخلاقي أن تتحول التنوعات الثقافية والخلافات الفكرية إلى ثروة تغني المجتمع الإنساني بأسره، والشعار هو الحوار والتفاهم بين الحضارات.

وهذه دعوة ومناشدة وطلب، وليست أمراً قائماً في عالم الخارج: ((قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)).

المستوى الثاني: النظرة الواقعية إلى عالم كينونة العطاء الثقافي والحضاري، أي أن ننظر إلى الحضارات والثقافات في عالم البشر من زاوية قوانين اللعبة، عبر تاريخها الطويل، وعبر ما أفرزته من قوى تتحكم في المفاصل الرئيسية التي تمتلك القرار في مراكز السلطة والمال، وفي السياق الثقافي الضارب في أعماق التاريخ لهذه القوى، حيث يمتد إلى بابل ونبوخذ نصر وزرادشت، وبرويز وإلى فينيقيا والرومان.

إذا نظرنا إلى الكينونة الثقافية والحضارية في سياق القوانين التي تحكم لعبة الصراعات الثقافية والحضارية فأنا أعتقد أن الصدام الحضاري هو قدر التنوع القائم على أرض المعمورة. وهذا الاعتقاد لا يعني قدراً لازماً وقضاءً محتوماً، إذ التنبؤ العلمي لا يعدو الترجيح الاحتمالي.ومن هنا أنا لا أجد تعارضاً بين النزعة الأخلاقية المتفائلة في الدعوة إلى حوار الحضارات، وبين النزعة الواقعية التي طرحها صموئيل هينجنتون في القول بصدام الحضارات.

في ضوء ما تقدم يتضح حال القدرة على التأثير التي يتمتع بها الخطاب الإسلامي المعاصر، وضوح حال المعلول بحال علته. فالقدرة على التأثير تتناسب تناسباً طردياً مع حجم ارتباط الخطاب بجذوره، وقدرته على مواكبة التطورات المعرفية، التي تدخل البيوت بلا استئذان، خصوصاً مع تطور وسائل الاتصال الحديثة.

لا أريد أن استخدم معيار (الأفق الرحيب) في معالجة وجوه أزمة الخطاب المعاصر. ولا أريد البحث عن الأسباب والعلل. لأن مثل هذه المعالجة تدخلنا في حوار يشبه الحوار القائم على الساحة، المرتبط بمعالجة القضية الفلسطينية. هل يمر طريق القدس عبر إسقاط الأنظمة المتخاذلة عن نصرة القضية الفلسطينية، هل الأمر مرتبط بمنح الديمقراطية للشعوب العربية ومنحها الحريات الأساسية، هل الأمر مرتبط بإجراء تحولات اجتماعية وثقافية في قلب المجتمعات والشعوب الإسلامي….

هذه أسئلة تدخلنا في أفق لا يتجاوز ثقب الإبرة، هذه أسئلة تدخلنا في دوامة، تدخلنا في نفق مظلم… وقد فات القطار.

أنا أراهن على التحولات الكبرى التي تشارف الوقوع، بل بدأت ومن ثم انطلق من أفق رحيب لا طرح توصية وألفت النظر إلى ملاحظة، واستشرف بأفق رحيب مستقبل التحولات الكبرى التي اقرأ المشهد الثقافي ومستقبل الخطاب في ضوئها.

أما التوصية فهي تنظر في ضوء الخبرة إلى بعض المشكلات الزائفة التي اصطنعها الخطاب الإسلامي، ودفع ثمناً باهضاً جراء هذا الاصطناع ليشتري الخصوم.

اصطنعنا مشكلة مع مصطلح الديمقراطية والاشتراكية والمجتمع المدني.. بحجة أنها تعبر عن خلفيات أيديولوجية من مخالفة.

ثم أضطر الخطاب الإسلامي لاستخدام هذا المصطلح بعد استبراء. ولا يزال قطاع من الإسلاميين يرى أن هذا الاستبراء غير مبرئ للذمة.

بالأفق الرحيب نستطيع أن نجتنب هذا الاستنزاف الثقافي الذي لا يعود على أحدٍ بخير.

نعم إذا أردنا أن نطبق على الفكر ما يمارس في حقل العمل السياسي فسوف نحرم هذا الأفق الرحيب.

في العمل السياسي اتجاه يقول إن الجماعة السياسية ما لم تخلق خصوماً ولو وهميين لا يتسنى لها إدامة حياتها.

لابد من خلق خصوم على الكلمة الواحدة على الموقف القابل للمصالحة، لأن الجماعة السياسية لا تتلاحم ولا تتماسك ما لم يكن لها خصم حقيقي أو مصطنع.

وإذ تحرم الشرائع الأخلاقية هذا النهج في السياسية والفكر معاً، إلا أنه لا يؤدي على كل حال إلى تماسك الفكر وتلاحم حلقاته، بل سوف يؤدي إلى التحجر وشل المعرفة، بل هو حكم بالإعدام الفوري.

بالأفق الرحيب يتعانق الخطاب الإسلامي مع رسالته التي يعمل من أجلها – وأحياناً يعمل فيها – فسّر خلود رسالة الإسلام قدرتها على استيعاب التنوع، قدرتها على هضم الثقافات المتنوعة التي أنتجتها أعراق مختلفة.

أما ملاحظتي فهي ترتبط بقراءة واستشراف المشهد الثقافي والفكري.

يخطأ من يعتقد أن الفكر والثقافة موجودات هيولائية وأطباق طائرة، هما من جنس موجودات هذا الكون، إنهما كائنان حيان، يتأثران بالمحيط ويؤثران به، ومن ثم فهما لا [ينأيان] عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

في ضوء ما أراه واقعاً وأتمنى أن لا يقع:

أرى أن القطب الأوحد،بل الوحش الكاسر قادم بجحافله ليفرض سيطرته، سيطرة استعمارية مباشرة على عالمنا، والهم الثقافي في هذا الغزو الجديد حاضر وأساسي.

والخطاب الإسلامي أمام مفترق كما الحال إبان سقوط دولة الخلافة وسيطرة الاستعمار البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى.

اختار الخطاب الإسلامي بعد الحرب الأولى مواجهة اليسار وقوى الأممية الماركسية، و لا بد من إعادة قراءة هذا الخيار وتقويمه.من الممكن أن الخطاب الإسلامي في القرن المنصرم لم يكن أمامه خيار إلا المواجهة الشرسة مع موجة الإلحاد (التي تبناها الحرفيون الماركسيون).

لكن خريطة  المشهد الثقافي الآتي مختلفة، ولابد من العمل الدؤوب على درس الاستحقاقات القادمة، ووضع إستراتيجية موجهة لاستيعاب القوى الخيرة كلّها التي تؤمن بالإنسان وبالحرية والاستقلال.

السيد عمار أبو رغيف