منذ بداية عام 1979م كانت الاحداث في العراق تسير نحو التصعيد وكأنها على موعد مع الانفجار. فالحركة الاسلامية وصلت الى مرحلة من القوة بحيث شكلت احد مظاهر الحياة السياسية في العراق. وقد شعرت السلطة بالتوسع الاسلامي وقدرت اخطاره المستقبلية، ثم جاء انتصار الثورة الاسلامية في ايران ليزيد من حجم مخاوف النظام على اعتبار ان ما حدث في الدولة المجاورة من شأنه ان ينعكس على العراق نتيجة لتصاعد الحس الاسلامي.
وكانت طريقة التفكير البعثية تفهم الاحداث بصورة مضخمة، اذ تصور النظام ان ايران ستقدم دعمها للحركة الاسلامية وستكون نقطة الانطلاق الثورية ضده. ولعل التصريحات والمواقف الارتجالية التي كانت تصدر من بعض المسؤولين الايرانيين انذاك هي التي عززت هذه القناعة عند النظام.
وللتاريخ، فان ابناء الحركة الاسلامية نظروا الى الثورة الاسلامية على انها عمقهم الاستراتيجي، وان قيادتها المتمثلة بالامام الخميني قدس سره هي القيادة الشرعية الواجبة الطاعة. ولقد عبر الامام الشهيد الصدر قدس سره عن هذه المشاعر بأصدق تعبير في مناسبات مختلفة. ففي اليوم الاول لانتصار الثورة اعلن الامام الشهيد الصدر في درسه على طلابه في مسجد الطوسي في النجف الاشرف انه سقطت اليوم آخر قلعة للطاغوت بين يدي الامام الخميني، وبهذه المناسبة اعلن تعطيل الدرس.
وعلى هذا فان النظام كان مصيباً في تشخصيه لقوة ارتباط الحركة الاسلامية بالقيادة الاسلامية في ايران، لكنه لم يكن على نفس المستوى في تقديره لحجم الدعم الايراني للحركة الاسلامية.
في تلك الظروف واجه النظام ازمة داخلية حادة حيث ظهرت الصراعات بين مراكز القوى، وكان صدام يحاول ابعاد كل منافسيه عن السلطة. وفي نفس الوقت كانت محاولة ضرب التحرك الاسلامي تتطلب من وجهة النظر الغربية اجراء تعديل اساسي في هيكلية النظام ورموزه.
في تموز 1979م اعلن بشكل مفاجىء عن تعديلات في تشكيلات النظام، فقد تخلى احمد حسن البكر ـ قهراً ـ لصدام عن كل مناصبه كرئيس للجمهورية ورئيس لمجلس قيادة الثورة وامين عام مساعد لحزب البعث. واعقب ذلك حملة تصفيات شملت فيها احكام الاعدام العديد من رجال النظام البارزين من وزراء واعضاء في القيادتين القطرية والقومية للحزب ومجلس قيادة الثورة. واتذكر انني كنت مع الشهيد الشيخ حسين معن استمع، في محل اختفائنا في النجف الاشرف الى خطاب البكر وهو يتنازل لصدام عن الحكم، فعلق الشهيد حسين معن بقوله: ان العراق مقبل على مرحلة دموية.
لقد اراد صدام ان يتخلص من جميع المنافسين، وان يقضي على كل رجل لا يخضع لارادته. واستطاع ان يمسك بيده كل مراكز القوة ومؤسسات النظام الامنية والمخابراتية، وان يتحول الى الحاكم المطلق دون ادنى منازع.
بعد ان استكمل صدام ترتيبات الجهاز الحاكم بدأ المهمة الحقيقية في حكمه وهي القضاء على الحركة الاسلامية ومواجهة المرجعية الدينية في العراق. ومن هذه النقطة بدأت مواجهة شرسة ظالمة استخدم فيها النظام كل اساليبه وامكاناته الارهابية. وفي مقابل ذلك، جاهد ابناء الحركة الاسلامية جهاداً بطولياً نادراً دفاعاً عن الاسلام. وكان صمودهم في غمرة الصراع الدامي يمثل اعلى درجات الصبر والتحدي.
كان الوجود الاسلامي في العراق يتألف في حقيقته من جزئين مترابطين عضوياً هما:
أولاً: المرجعية الدينية.
ثانياً: الحركة الاسلامية.
اولاً: المرجعية الدينية
كانت زعامة المرجعية لآية الله الامام السيد ابو القاسم الخوئي ثم يليه السيد الامام الشهيد الصدر قدس سره. ولم يكن السيد الخوئي يتدخل في الشؤون السياسية فقد كان مهتماً بالحفاظ على الحوزة العلمية وحمايتها من هجمات السلطة التي تحاول دائماً اضعاف الحوزة وتحجيم دورها في حياة الامة. ويحظى السيد الخوئي بقاعدة واسعة من المقلدين من ابناء الشيعة في داخل العراق وخارجه.
اما السيد الصدر فقد كان يرى ان العمل السياسي الاسلامي واجب على المسلمين وان الحفاظ على الاسلام لا يكون الا من خلال تحكيمه في الحياة.، بمعنى انه كان يرى وجوب اقامة الدولة الاسلامية. ورغم ان السيد الصدر كان يلي السيد الخوئي من حيث عدد مقلديه في العراق الا ان نوعية المقلدين كانت مختلفة في معظمها عن مقلدي السيد الخوئي. فمقلدي السيد الصدر كانوا من الشباب الحركيين الذين يؤمنون بفكره ونهجه، بحيث يمكن القول ان غالبية ابناء الحركة الاسلامية هم من مقلدي السيد الصدر.
كانت سلطة البعث تعرف بدقة موقع السيد الشهيد الصدر رحمه الله ودوره في التحرك الاسلامي، فهو مؤسس الحركة وراسم معالمها واسسها. وكانت السلطة تحاول بقوة التعرف على موقعه وعلاقته المباشرة بالحركة الاسلامية. فخلال فترة الاعتقال كان السؤال الاكثر اهمية الذي يواجهنا في دوائر التحقيق في السبعينات هو: ما علاقتكم بمحمد باقر الصدر؟
والسيد الصدر، وان لم يستمر في قيادة الحركة وفي اطارها التنظيمي الا انه ظل يواكب مسيرتها ويرعاها عن قرب. وقد تعمقت صلته بها بعد ان تصاعدت الاحداث.
حاولت سلطة صدام في البداية ان تعزل السيد الصدر عن الحركة الاسلامية باعتباره الرمز القيادي الذي طرحته للامة. وقد فاوضته من اجل اصدار فتوى تحرم العمل في حزب الدعوة الاسلامية، لكنه، رضوان الله عليه، رفض ذلك باصرار رغم تحول المفاوضات الى الضغط والتهديد. وعلى العكس من ذلك، لقد عمق السيد الشهيد صلته بالحركة، وكانت الاتصالات تجري بين الطرفين. واتذكر ان السيد الشهيد طلب في تلك الايام تعيين عضو ارتباط رسمي بينه وبين الحركة الاسلامية.
كما اصدرت الدعوة الاسلامية تعاليمها لكافة افرادها باعتبار ان ما يصدر عن السيد الصدر من قرارات وبيانات وتعليمات بمثابة اوامر صادرة عن قيادة التنظيم يجب الالتزام بها وتنفيذها دون الرجوع الى التنظيم.
واصبحت المواجهة مسألة حتمية، فالسلطة لن تتخلى عن قرارها في ضرب الحركة الاسلامية، والحركة لا يمكنها ان تتراجع عن قرار الثورة لان الثورة باتت الخيار الوحيد المطروح في الساحة.
وخلال ذلك قررت الحركة الاسلامية الاقدام على خطوة جماهيرية واسعة تهدف الى تعزيز الموقع القيادي العام للسيد الصدر (قدس سره) واظهار دوره الحقيقي في مسيرات شعبية فكانت وفود البيعة تنطلق من مختلف مدن العراق وتنتهي عند منزل السيد الشهيد الصدر في النجف الاشرف حيث تعلن عن ولائها له وانضوائها تحت قيادته.
في رجب 1399 هـ (1979 م) كانت وفود البيعة تتواصل على مدينة النجف الاشرف بعزم ثوري صادق فتحولت المدينة الى مهبط الجماهير وملتقى المجاهدين، واصبح منزل السيد الشهيد مهوى قلوب السائرين في خط الجهاد والثورة. فكانت المواكب الجماهيرية الحاشدة تقف بين يديه (قدس سره) وهي تهتف بحياته وتعلن صراحة انضوائها تحت لوائه واستعدادها للامتثال لامره واشارته.
كنت في تلك الفترة وكيلاً للمرجع السيد الشهيد الصدر في منطقة «جديدة الشط»، واتذكر هنا تلك المواقف الثورية الشجاعة التي قام بها ابناء العراق في تحدي السلطة وكسر هيبتها.
ففي الساعة السادسة مساءً ونحن متوجهون لاداء فريضتي المغرب والعشاء في المسجد الكبير في جديدة الشط التقيت اثنين من الاخوة حملا اليّ نبأ الاتفاق حول ارسال الوفود الى الشهيد الصدر (رض) بغية معاهدته والسير تحت لوائه بعد سماع نبأ برقية الامام الخميني (رض) التي اذيعت من راديو طهران. وجديدة الشط مدينة صغيرة جميلة تغفو على ضفاف دجلة، وهي اقرب الى بغداد منها الى بعقوبة، تقابلها في الضفة الاخرى منطقة الطارمية شمال بغداد. وجديدة الشط تضم ثلاث قرى هي: جماعة، وامام حسن، والبو عبدي، واهلها يتحلون بصفاء الفطرة والنجدة والطيبة والشهامة.
بعد صلاة المغرب تحدثت كالعادة حديثاً عاماً وقلت في ختام الحديث اننا سنتوجه صباح غد انشاء الله في موكب عام الى النجف الاشرف للمثول بين يدي الامام الصدر ومعاهدته ومبايعته على الولاء والطاعة باعتباره قائدنا الذي نقلده في امور ديننا ودنيانا. وبعد صلاة العشاء عقدت جلسة خاصة مع بعض الاخوة الشباب الذين اعتمد عليهم عملياً في المنطقة، واستمعت الى ملاحظاتهم المفيدة. وهكذا كان، ففي صباح اليوم التالي تحركت عدة سيارات كبيرة تحمل ابناء مدينة جديدة الشط الى النجف الاشرف لمبايعة الامام السيد الشهيد الصدر.
ولا زلت اتذكر اننا حينما اجتزنا مدينة الحلة كتبت ابياتاً من الشعر اخذنا بترديدها ونحن متوجهون الى منزل السيد الشهيد. وما زال بعض تلك الابيات عالقاً في ذاكرتي رغم طول المدة ومرارة المحنة، وهي:
يا فقيه العصر يا سيدنا
يا أبا جعفر يا قائدنا
نحن جند لك دوماً امنا
وستبقى عبقرياً رائداً
وفي حوالي الساعة التاسعة صباحاً لاحت لنا منائر قبة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، بعد قليل دخلنا المدينة وتجمعنا في مسجد الجواهري لننطلق من هناك الى حيث كان يسكن السيد الصدر (رض). كان الوفد يردد بحماس:
يا فقيه العصر يا سيدنا
يا ابا جعفر يا قائدنا
حتى وصلنا الى رأس الزقاق المؤدي الى بيت السيد الصدر وهناك واجهنا الجموع الجماهيرية الضخمة تحتشد من والى مقر السيد الشهيد.. وبصعوبة بالغة شق الوفد طريقه الى محل السيد الشهيد… وكان كعادته يفيض حباً ورعاية وهو يوزع نظراته وكلماته وتوجيهاته الى كل الوافدين والزائرين.. فاستقبلنا استقبال الاب الحاني لابنائه والقائد لجنده.. ولشدة الموقف والزحام اكتفيت بكلمتي بالتعريف بوفد جديدة الشط واعلان البيعة والمعاهدة على مواصلة الطريق الصعب من اجل الاسلام والمسلمين. ولا انسى الشهداء الابطال الذين كانوا معنا في ذلك الموقف. وخرجنا من السيد الشهيد ونحن اكثر عزماً وقوة واملاً…
وكان لجديدة الشط موقف بطولي رائع آخر ذلك في انتفاضة 17 رجب التي التهبت اثر اعتقال السيد الشهيد الصدر (رض) فخرجت تظاهرة غاضبة ضد السلطة البعثية وقطعت التظاهرة الطرق المؤدية الى المدينة وهزم افراد الامن والشرطة. واراد المسؤول الحزبي للمنطقة المدعو «محمد حميد برهم» ان يقف بوجه التظاهرة الهادرة التي انطلقت من المسجد في قلب المدينة الا ان الجماهير الغاضبة اسقطته ارضاً هو وجلاوزته وديس بالاقدام ونقل بعدها الى مستشفى بعقوبة حيث لقي حتفه بعد يومين.
وهنا جن جنون السلطة في بغداد فوجهت قوات خاصة كبيرة لتطويق المدينة ومحاصرة ابنائها الثائرين، وبعد الحصار الذي استمر ثلاثة ايام بدأ الهجوم الوحشي على الناس العزل حيث كان الجلاوزة يضربون الاطفال والنساء والشيوخ بالاسلحة الخفيفة والهراوات والعصي الكهربائية ويعتقلون من تبقى من الشباب الثائر، ويبحثون عن الشخص الذي افلت من ايديهم بعد ان اجج نار الثورة بوجه السلطة.
بلغ عدد المعتقلين في اليوم الاول اكثر من 400 معتقل، وتوالت الايام وابناء هذه المدينة وغيرها يزجون في اقبية السجون ليلاقوا صنوف التعذيب الوحشي. وسطر التاريخ مشاهد بطولية لاولئك الشباب المؤمن وهم يواجهون العذاب بصبر وارادة من اجل عقيدتهم وشعبهم المظلوم.
كما سود التاريخ صحائف البعث عندما شكل محكمة صورية للحكم على ابناء هذه المدينة البطلة بالاعدام وعلى كثيرين بالسجن المؤبد.
وبقيت جديدة الشط رغم قساوة البعث ووحشية النظام شامخة صامدة بوجه فرعون بغداد واساليبه القمعية الخبيثة.
فسلام على شهداء جديدة الشط الابطال وكل الشهداء وسلام على شهيد المسيرة ورائدها في العراق الامام محمد باقر الصدر (رض) ورحمة الله وبركاته.
واني اذ اذكر هذه الاحداث التي لا تبرح الذاكرة فانما احاول ان استعرض نموذجاً واحداً من مظاهر جماهيرية عمت العراق في رجب الدامي من عام 1399 هـ (1979م).
لقد ذعرت السلطة وهي ترى التحدي الشعبي يعم العراق فأقدمت على خطوتها الظالمة باعتقال السيد الصدر (رض) من منزله في النجف الاشرف في 17 رجب 1399 هـ بعدما شعرت بخطورة دوره والتفاف الجماهير حوله.
غير ان الخطوة لم تمر بصمت اذ خرجت تظاهرة جماهيرية في النجف تندد بالسلطة وتهتف بحياة قائدها الصدر. كما خرجت تظاهرات مشابهة في بعض مدن ومناطق العراق[1].
لقد شعرت السلطة بأن أمامها ايام سود تنذر بالخطر فصعدت اساليبها الارهابية الى الذروة وشنت حملة اعتقالات واسعة ليس لها نظير في التاريخ السياسي المعاصر للعراق، وفرضت الاقامة الاجبارية على الامام السيد الشهيد واحاطته بقوات الامن والاستخبارات التي كان افرادها يراقبون منزله ليل نهار وهم بكامل تجهيزاتهم العسكرية واجهزة الاتصال.
لكن السلطة لم يرضها هذا الاجراء، وكانت الاحداث الساخنة التي تجري في الساحة العراقية تزيدها قلقاً واضطراباً. كما ان بعض الاجهزة الاعلامية في ايران كانت تصدر عنها تصريحات واحاديث غير مدروسة اربكت الوضع وتسببت في زيادة خوف السلطة من السيد الشهيد الصدر والتعجيل في القضاء عليه.
لقد اصبح نظام الحكم في العراق يعيش حالة من الخوف والهلع بحيث انه كان يواجه اي فعل بردة فعل فوري من البطش والارهاب. وعلى هذا فان مصير السيد الشهيد (رض) كان يتضح مع تصاعد المواجهة في الداخل، وتزايد المواقف اللامسؤولة في الخارج.
وقبل اقدام النظام على قتل الامام السيد الصدر (رض) اصدر ابشع قرار في تاريخ العراق وذلك في 31/ 3/ 1980م والذي يقضي باعدام كل من ينتمي الى حزب الدعوة الاسلامية وكل من يحمل افكاره ويروجها او يتعاطف معها، وتسري احكام القرار بأثر رجعي، وهو القرار الجائر المعروف بقرار اعدام الدعاة[2].
ثم اقدمت السلطة على جريمتها النكراء باعدامه رضوان الله عليه في 8 نيسان 1980م مع اخته العالمة الفاضلة الشهيدة بنت الهدى رضوان الله عليها.
وبذلك خسرت الحركة الاسلامية قائدها ورمزها ومرشدها، وخسرت الامة الاسلامية فكره العملاق وعطاءه الفذ وهديه العظيم. لقد كانت شهادته بحق هي الفاجعة الكبرى.
ثانياً: الحركة الاسلامية
كانت الحركة الاسلامية منذ انطلاقتها اواخر الخمسينات وهي تعيش هم الاسلام ـ تعيش هموم المرجعية الدينية وتسعى لاعطائها دورها المؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق. وكان لوجود الامام السيد محمد باقر الصدر والثلة الواعية من العلماء على رأس الحركة الاثر العملي في جعل الحركة الاسلامية ذراع المرجعية. وبذلك اكتسبت المرجعية قوة حركية فاعلة في الامة.
كانت الحركة الاسلامية تحظى برعاية المرجع الاعلى السيد محسن الحكيم قدس سره. وبعد وفاته كانت تحظى برعاية وتوجيه السيد الشهيد الصدر، وهي الفترة التي حصل فيها التلاحم التاريخي بين الحركة والمرجعية نتيجة تفهم الاولى لموقع المرجعية وتفهم الاخيرة لدور الحركة.
ان هذا التلاحم مكن التحرك الاسلامي من الانطلاق والعمل بقوة ووفر له شرعية الاسلوب والممارسة فيما يحتاجه من غطاء في ظروف العمل السياسي المعقد.
لقد شخصت سلطة البعث ابعاد هذا التلاحم بين المرجع الصدر قدس سره وبين الحركة الاسلامية، وحاولت احداث شرخ بين الاثنين حيث انها كانت تعتبر ان وجود الشرخ الفاصل بينهما سيضعهما جميعاً اذ ستفقد المرجعية اداة التحرك ووسائل الاتصال بالامة، وتفقد الحركة عنصر القيادة الرمز والمرجعية التي تحتمي في ظلها.
وعندما تصاعدت الاحداث عام 1979م وبدأت السلطة هجمتها على التحرك الاسلامي قررت الحركة الاسلامية دخول مرحلة الصراع السياسي ضد السلطة وتجنيد كافة طاقاتها للعمل الجهادي والكفاح المسلح. كان عام 1979م يشهد مواجهة ساخنة بين الطرفين، وساد العراق جو متوتر من الخوف والقلق والترقب.
وكانت الاوساط الشعبية تعيش حالة من الاضطراب لم تمر بها من قبل. فقد جهد نظام الحكم طوال السنوات السابقة ان يفرض سلطته الارهابية على الجماهير العراقية، وان يزرع الشعور بالخوف عند كل فرد يواجه اجهزته الامنية والمخابراتية. كان رجل الامن يعني رجل الموت، وكانت مديرية الامن العامة تساوي النهاية المحتومة. ورغم سياسة النظام الدموية التي احاطت الشعب بجدران من الخوف الا ان الاوساط الشعبية كانت تتعاطف مع الحركة الاسلامية، وتنظر الى ابنائها على انهم الابطال الذين تحدوا جبروت السلطة وبذلوا حياتهم من اجل انقاذ العراق من الحكم الدكتاتوري.
وفي حالات عديدة كان التعاطف يتحول الى موقف ثوري متضامن مع الحركة الاسلامية. فلقد كشفت التحقيقات في الشعبة الخامسة لمديرية الامن العامة ان هناك العديد من المجاهدين الذين يقومون بعمليات مسلحة ضد السلطة ليسوا اعضاء في تنظيم الحركة الاسلامية، لكنهم كانوا يقدمون خدماتهم للامة بدافع التعاطف والتأثر بنهج الحركة الثوري. وقد عشت ظروفاً صعبة في تلك الفترة وشهدت تفاصيل احداثها المؤلمة حيث كنت على صلة قوية مع عدة مجاميع جهادية كان لها دور نشط في مواجهة مراكز السلطة ورجال الامن.
كما كشفت التحقيقات عن تشكيل مجاميع ثورية جديدة صغيرة الحجم تقوم بعمليات جهادية معارضة وتتخذ اسماء مختلفة وكان ذلك بتأثير التفاعل مع الحركة الاسلامية ومع نشاطاتها واعمالها الكبيرة.
ان من الضروري القول ان بعض تلك المجاميع كانت تنطلق من حماس ثوري ملتهب فلم تقدر الامور بدقة فكانت تقدم على اعمال ارتجالية سبب بعضها مشاكل للحركة الاسلامية ولابنائها العاملين. وقد نجم عن تلك الاعمال الكثير من الخسائر. فالعمل الثوري يحتاج الى استيعاب الظروف والاجواء وتقدير كل المداخلات والمعادلات المتحركة في الساحة. كما ان الثورة ليست عملية انفعالية تتم في جو حماسي وانما هي من الخطورة والحساسية بمكان بحيث ان الخطأ البسيط قد يتسبب في خسائر جسيمة، وربما يكون خطأ قاتلاً.
ومع ذلك فان هذه الاعمال كانت تشكل ضربات جهادية ضد السلطة تضاف الى ما تقوم به الحركة الاسلامية من عمليات كبيرة في مواجهتها الشاملة مع نظام البعث.
لقد وجد النظام نفسه يواجه حالة ثورية متزايدة يصعب تحجيمها والقضاء عليها. وحتى قراره الغاشم باعدام ابناء الحركة الاسلامية وبأثر رجعي كان محاولة فاشلة لاعطاء النزعة الدموية صفة القانونية لانه يعكس مدى رعب النظام من الحركة الاسلامية فهو لم يتخذ قراراً مماثلاً ضد بقية خصومه السياسيين على الاطلاق.
وكان اول من طبق عليه احكام القرار الظالم هو الامام الشهيد الصدر ثم اصبحت الاعدامات تجري بصورة جماعية كل يوم، وخلال تلك الفترة كانت مشاهد الاعتقالات والملاحقة تتم بطريقة وحشية، فالجامعات العراقية تحولت الى اماكن كئيبة حيث يقتحم ازلام النظام القاعات الدراسية ليلقون القبض على ابناء الحركة الاسلامية او المتهمين بالتعاون معها، ولم تعد البيوت آمنة اذ غدت معرضة لمداهمة رجال الامن في الليل والنهار، ولم يعد في العراق مكان آمن، فقد وصلت اجهزة الارهاب البعثية واساليبها الهمجية الى القرى النائية.
كانت الاعتقالات تجري بصورة عشوائية وصار الجميع موضع الاتهام، ويكفي ان يدان الفرد بتهمة الانتماء للحركة الاسلامية او التعاطف معها حتى يساق الى السجن. ومن يدخل السجن ينقطع عن العالم ويصبح بينه وبين الموت زفرة او شهقة.
غير ان المأساة الدامية لم تقتل في نفوس المجاهدين روح الثورة والجهاد، فكانوا يسطرون في كل يوم وليلة ملاحم البطولة ضد ازلام النظام ومؤسساته التسلطية، حتى تحول العراق الى ساحة مواجهة ساخنة. وطارد الموت رأس النظام فكان على شفا حفرة منه لاكثر من مرة في عدة عمليات جريئة نفذها المجاهدون لاغتياله[3].
كانت المشكلة الكبيرة التي واجهتها الحركة الاسلامية في تلك الفترة عدم تفاعل الجماهير معها لدرجة التلاحم بحيث تعبر عن موقفها الرافض للسلطة بنفس الاسلوب الذي مارسه المجاهدون. كانت تعيش حالة الرفض عاطفياً وتقدم لابناء الحركة الاسلامية خدمات مختلفة من قبيل التستر والايواء وما الى ذلك. ولكن لم يصل هذا الى مستوى الاشتراك الجماهيري العام في خط المعارضة والممارسة السياسية والجهادية. وكان السبب الاهم في خلق هذه الحالة هو خوف عامة الناس من بطش النظام وانتقامه فكانوا يحذرون من الكلمة تخرج من افواههم لئلا يفهم منها تعاطفهم مع المعارضة الاسلامية فيلحق بهم الاذى الكبير لا سيما وان الاعتقال كان يقوم على التهم الكاذبة. لقد استطاع النظام ان يصنع حاجزاً كبيراً من الخوف بينه وبين الجماهير، وهو الحاجز الذي حال دون اقدام الامة على فعل ثوري شامل ضد النظام يصطلح عليه تسمية «الثورة».
حاولت الحركة الاسلامية العمل على تقليل شعور الخوف عند الجماهير كخطوة من اجل دفعها الى تجاوز عقدة الخوف والتردد، وذلك عن طريق تصعيد العمل الجهادي والقيام بمجموعة من العمليات الكبيرة طال بعضها شخص صدام ـ كما مر
ورغم ان العمل الجهادي يمثل طبيعة المرحلة الجديدة الا ان اهدافه الجانبية كانت تعالج واقع الامة في هذه الناحية. فهي عندما ترى ان ابناء الحركة الاسلامية ما يزالون يمارسون جهاده البطولي وسط جو ارهابي خانق فانها ستخرج ولو جزئياً من دائرة الخوف، وتتصدع عندها مصداقية النظام. ولقد كشفت الاحداث فيما بعد ان حاجز الخوف كان يتحطم تدريجياً وان روح الثورة كانت تتعاظم في النفوس.
السيد حسين الشامي
(من كتاب أزمة العراق)
[1] ان تلك الاحداث من وفود البيعة واعتقال السيد الشهيد الصدر وخروج التظاهرات يطلق عليها في ادبيات الحركة الاسلامية اسم انتفاضة 17 رجب.
[2] نص قرار اعدام اعضاء حزب الدعوة الاسلامية
(( استناداً الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 31/ 3/ 80م ما يلي:
لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد اثبتت بأدلة قاطعة ان حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالاجنبي وخائن لتربة الوطن ولاهداف ومصالح الامة العربية، ويسعى بكل الوسائل الى تقويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة (17) تموز مجابهة مسلحة، لذلك قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق احكام المادة (156) من قانون العقوبات بحق المنتسبين الى الحزب المذكور مباشرة او العاملين لتحقيق اهدافه العميلة تحت واجهات او مسميات اخرى.
ينفذ هذا القرار على الجرائم المرتكبة قبل صدوره التي لم يصدر قرار باحالتها على المحكمة المختصة)).
صدام حسين
رئيس مجلس قيادة الثورة
ويذكر ان المادة (156) من قانون العقوبات تنص على ما يلي:
(( يعاقب بالاعدام من ارتكب عمداً فعلاً بقصد المساس باستقلال البلاد او وحدتها او سلامة اراضيها وكان الفعل من شأنه ان يؤدي الى ذلك)).
[3] منها عملية جيزان الجول في بعقوبة وعملية الدجيل الشهيرة وعمليات الفاو والموصل وغيرها.