الأُمة التي تستحق النجاح والوجود المتميز بالمنظور الالهي ووفق الحسابات الانسانية هي الامة التي تعمل باستمرار من أجل تحقيق الأهداف الكبرى وتجسيدها في الواقع العملي والسلوكي. والجدير بالذكر أنّ لكل أُمة قادة يعدّون بعدد أصابع اليد الواحدة يجسّدون تلك المبادىء والأهداف بما يملكونه من وعي وإخلاص. والشهيد الصدر (ره) أحد أو لئك القادة الرساليين الذين وقفوا بوجه الظلم، واستطاع من خلال صيحته الرافضة أنْ يزيح كابوس الخوف المخيّم آنذاك على النفوس.
لقد تحمّل شهيد الاسلام المظلوم المسؤولية في عراق المقدسات من خلال ما قدّمه من فكر وتضحيات. أما العظمة المتمثلة في شخصية الامام الشهيد الصدر فنجدها من زأو ية أن فكره أصيل مبدع، لم ينبع إلاّ من أصله الصحيح البعيد عن الانحراف أو الشطط. فهوبحق المصداق الحقيقي لخلافة النبي (ص) وأهل بيته (ع) من خلال جهوده المضنية ومواقفه في التصدّي للظلم والطغيان الذي مارسه النظام الطاغوتي العفلقي لتغيير الهوية الاسلامية ومنع الشعب العراقي المسلم عن التمسّك بشعائره ومقدساته الاسلامية.
الصدر الرحب:
نشأ منذ صغره متواضعاً، عطوفاً على مَنْ هوأصغر منه، مؤدّباً أمام من يكبره سنّاً. فهوالقلب الواسع الذي استوعب الجميع، بل حمل هموم الجميع، وقدم الخدمات الكثيرة من خلال تفقده الواسع للجميع. وهذا ما نجده واضحاً ومجسداً في فكره وكتاباته وخطاباته المختلفة: (أخي السني… وأخي الشيعي… وأخي الكردي…وأخي التركماني…) بعيداً عن الحساسية المذهبية والطائفية.
فالتواضع والشمولية في الاستيعاب في حياته (ره) شعلة مقتبسة من ضياء الخُلُق القرآني ونور التربية الإلهية. فقد كان يعطي قسطاً كبيراً من وقته الثمين لكل أصناف الناس، حتى للصغار. وأما الذين يزورونه فكانوا أو ل ما يعجبون بتواضعه وبشاشته، وخَفض جناحه للجميع. وشوهد يوماً وهويتحدث إلى صبي لم يتجأو ز (الثالثة عشرة) من عمره أكثر من ساعتين في (مسجد الهاشمي) حيث كان (ره) يقدّم له النصائح في برّ الوالدين ويحثّه على الاستقامة([1]). كما كان (ره) إذا دخل مجلساً فإنه يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويصغي إلي محدثّيه وكأنه في موقع الإصغاء تلميذاً، وليس استاذاً أو معلّماً. ومن طرائف ما يذكر ـ هناـ ان فرداً ما التبست عليه الأمور، يسأل السيد الشهيد (ره) أمام مجموعة في مجلس عام: «سيدنا… هل أنت مجتهد أم طالب؟!!» فيجيبه بكل تواضع: (مازلت طالباً)([2]).
وكان كثيراً ما يقابل الاساءة بالاحسان، ويحأو ل التحلّم في أكثر مواطن الاثارة والغضب ولا يسيء الظن بأحد، ويلتمس الاغدار لأكثر المنأو ئين له، ويصفح عن الجميع ويتجأو ز عنهم. وبخصوص نكرانه لذاته تصريحه الشهير أنه مستعد أن يكون وكيلا صغيراً للامام الخمينى (ره) وفي أية قرية يختارها له (ره) باعتباره الرجل الذي جسّد حلم الأنبياء في ثورته الاسلامية وإقامته أو ل حكومة إسلامية بعد قرون من الغياب أو التغييب. كما أو صى السيد الشهيد كل محبّيه ومريديه أن يذوبوا في الامام الخميني بقدر ما ذاب في الاسلام([3]). لقد واجه (ره) الكثير من المصاعب وتحمّل الكثير من المعاناة، سواء على الصعيد الحوزوي أو الاجتماعي أو السياسي يقلب ملؤه الرحمة والسعة، ومقابلة الاساءة بالاحسان والدعاء لجميع المسيئين. وقد أطلّ يوماً من النافذة على آسريه من بيته عند الحصار (المفروض عليه من قبل النظام العفلقي البعثي) فيراهم في حرّ الهجير قد أضرّ بهم الظمأ الشديد، فلا يملك نفسه من التأثّر العميق، ويرّق لهم الصدر الرحيم ويأمر باعطائهم الماء البارد إغاثةً لهم وتعريفاً بالخُلُق الاسلامي الرفيع، وأنّ من يحاصرونه ليس إلاّ الأب الرؤوف والقائد العطوف، شأنه في ذلك شأن أجداده الطاهرين([4]).
الإيثار:
كان (ره) يمتلك كل الوسائل الموصلة إلي حياة الترف والتزوّد من متع الدنيا، إلا أنه أعرض عن كل ذلك وآثر الباقيات على الزائلات الفانيات. لقد هزأ(ره) بالتوافه ووظّف كلّ شيء في حياته من أجل الوصول إلى الغاية العظمى، حيث اكتفى باليسير من الحياة الدنيا. وعندما أهدى أحد التجار العراقيين للسيد الشهيد (قده) في أحد الأيام عباءة ثمينة، كان في المجلس حينئذ أحد الطلبة، وبخروج التاجر قدّم السيد الشهيد العباءة الى ذلك الطالب. ويُنقل عن آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري([5]) قوله: «إنه كان يدرّسنا في (مقبرة آل ياسين) في حرّ الصيف، ولم تكن توجد وسيلة تبريد في تلك المقبره، ولم يكن (قده) يمتلك وسيلة تبريد في بيته، وكان المتعارف وقتئذ في النجف الاشرف عدم وجود عطلة صيفية لطلاب الحوزة العلمية، فكان الطلبة يدرسون حتى في قلب الحرّ الشديد». وفيما يتعلق بأثاث بيته، فلم يكن يملك غير فرش بسيطة على الارض. وكان يقول لأو لاده:(أبنائي هذا المال ليس لي، هذه أموال صاحب الزمان (عج)، هذه أموال المسلمين أمانة بيدي، أو لادي المال ليس مهماً، وهذه الدنيا لا قيمة لها، إننا نريد الآخرة والآخرة خير لنا وأبقى([6])». والجدير بالاشارة، أنه رغم تحسّن وضعه المالي في السنوات الأخيرة قبل استشهاده، بقي حال منزله من ناحية التأثيث وما فيه من لوازم منزلية على حاله. أمّا ملبسه، فقد اقتصر فيه على المقدار الذي تسمح به الظروف الاجتماعية، وكان يوزع جميع الهدايا والأقمشة التي تصل إليه على الطلبة([7]). لقد جسّد الشهيد المظلوم مفهوم الايثار بالشكل العملي والواقعي، فكان بامكانه أن يتمتع بكل ماطاب ولذّ، ومن حلال طيب. إلاّ أنّه رغم هذا ابتعد عن كل شيء من متع الحياة الدنيا، وكان يستهدف (قده) وبالدرجة الأو لى تربية وتطهير النفس والتأسي بالرسول الأكرم والامام علي والائمة عليه السلام.
سخّر(ره) كل طاقاته ونشاطاته العلمية وجعلها ذائبة في بودقة المبادئ بعيداً عن الظهور بالعنأو ين البراقة وطلب المكانة والشهرة. وقد أشار سماحة آية الله السيد كاظم الحائري إلى هذه الحقيقة: «حدثني ذات يوم: أنه حينما كتب كتاب فلسفتنا» أراد طبعه باسم (جماعة العلماء في النجف الاشرف) بعد عرضه عليهم متنازلا عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب. إلا أن الذي منعه عن ذلك أنّ (جماعة العلماء) أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي استاذنا الشهيد، ولم يكن يقبل باجرائها فيه، فاضطرّ أن يطبعه باسمه([8])». ومن هنا يتضح أنّ أخلاق الشهيد الصدر (قده) تعتبر مثلا حيّاً للتربية الاسلامية والقرآنية. فهولم يستحوذ على القلوب بعلمه وعبقريته، بل كان استحواذه على القلوب والنفوس من خلال سلوكه وتقواه ونزاهته.
لذا يتعّين على أتباعه ومريديه الاستفادة من سيرته وحياته في التعامل الاجتماعي والسياسي لرأب الصدع وتوحيد الكلمة وتناسي جميع الخلافات.
الطموح العلمي:
كان الهدف الذي سعى (ره) جاهداً من أجل تحقيقه هوالالتحاق بالحوزة العلمية وتذليل كل الصعوبات التي تواجهه، ورفض جميع المغريات التي تحول دون تحقيق هدفه المنشود. وقبل تفرّغه للدراسة الحوزوية تعلم القراءة والكتابه، وتلقى جانباً من الدراسات الحديثة في مدارس منتدى النشر الابتدائية في مدينة الكاظمية، فكان وهوصغير السن موضع اعجاب الاساتذة والطلاب معاً. ويشير أحد معلميه إلى جوانب من ذكائه ونبوغه بقوله: «كان طفلا يحمل أحلام الرجال ويتحلى بوقار الشيوخ، وجدت فيه نبوغاً عجيباً وذكاءاً مفرطاً، وكان كلّ ما يدرس في هذه المدرسة من كافة العلوم دون مستواه العقلي والفكري. كان شغوفاً بالقراءة.. لا تقع عيناه على كتاب الأو قرأه وفقِه محتواه، وما طرق سمعه اسم كتاب في أدب وعلم أو اقتصاد أو تاريخ إلا وسعى إلى طلبه([9])». والجدير بالاشارة أنّ دراسته في المدرسة. كانت أمراً ثانوياً بالنسبة له، فقد كان في قدراته على التلقّي والاستيعاب يفوق بكثير مستوى المناهج الدراسية لمدارس منتدى النشر، وما دخوله فيها إلا بحكم ما جرت عليه العادة بالنسبة لمن هوبمثله في العمر.
وذكرت أخته الشهيدة بنت الهدى (ره): «كنت مع أخي في تلك الفترة نجمع ما نحصل عليه من مال قليل فيشتري السيد به كتاباً فنطالعه ونستوعبه، ثم يبيع الكتاب ليشتري بثمنه كتاباً آخر، وهكذا استمر الحال بعد هجرتنا إلى النجف الاشرف([10])». وجاء يوماً الى أحد معلميه وقد اجتاحته رغبة عارمة في سبر غور الماركسية، يقرأ نظرياتها ونظرتها للانسان والطبيعة والكون. ويتردد المعلم يخشى على هذا الصبي من مزالقها أن تهوي به الى الحضيض، وبعد إلحاح وإصرار وجد المعلم نفسه أمام إرادة عجيبة، فراح يهيّئي له كتباً ومجلات كانت في تلك الحقبة مثل الكبريت الأحمر. وراح الصبي يغوص في الحجج العميقة ويطلب المزيد. وظن المعلم بعد أن جلب له أمهات الكتب التي تشرح نظرياتها، أنّ هذا الصبي سوف يقف أمامها حائراً لايفقه منها شيئاً، فهونفسه وقف عاجزاً عن فهم دقائقها. وإذا بالصبي يعيد له الكتب بعد اسبوع، ولعل المعلم قد ظن للوهلة الأولى أن الصبي قد اصطدم بجدار صخري أصمّ، فأعاد الكتب،فإذا به قد أحاط بها علماً، وراح يشرح ما خَفِي على معلمه منها. ووقف المعلم ـ ربّ لأول مرة ـ أمامه مذهولا([11]).
البداية الأولى:
بدأت رحلته (ره) العلمية الأو لى عندما هاجر إلى النجف الاشرف عام 1365 هـ مع أخيه الأكبر المرحوم آية ا… السيد اسماعيل الصدر (ره) حيث كان همّه الوحيد هضم واستيعاب المناهج الدراسية والعلمية وبذل الجهد الكبير للوصول نحوالكمال. وقد كان عمره في تلك الحُقبة (الحادية عشرة)، حيث درس علم المنطق، وكتب بحثاً اعترض فيه باعتراضات على بعض الكتب المنطقية، وعند بلغ (الثانية عشرة) من عمره، درس كتاب «معالم الاصول» على يد أخيه المرحوم السيد اسماعيل الصدر (ره)، فكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم باعتراضات وردت في كتاب «كفاية الاصول» للخراساني.
منها: أنه ورد في بحث (الضدّ) في كتاب «معالم الاصول» الاستدلال على حرمة الضدّ بأنّ ترك أحدهما مقدمة للآخر. فاعترض عليه الشهيد الصدر بقوله: «إذاً يلزم الدور» فقال له المرحوم السيد اسماعيل الصدر (ره): «هذا ما اعترض به صاحب الكفاية على صاحب المعالم([12])».
وقد حضر (ره) لدى ثلّة من أعلام وأساتذة الحوزة العلمية في النجف الاشرف. وعندما كان (الشيخ آل ياسين) يبحث مسألة أن الحيوان هل يتنجّس بعين النجس ويطهر بزوال العين التي نجّسته، أو لا يتنجّس بعين النجس؟ فذكر (ره) أن الشيخ الانصاري أشار في كتاب الطهارة الى ثمرة الفرق بين القولين، وأن هذه الثمرة تظهر من خلال التأمّل بين القولين.
وقال الشهيد الصدر (قده): (إن استاذنا المرحوم السيد اسماعيل الصدر حينما انتهى بحثه الى هذه المسألة طلب من تلاميذه أن يكتشفوا ثمرة الفرق بين القولين في اليوم التالي). وحينما حضر الطلاب في اليوم الآتي طالبهم الشيخ بالثمرة، فلم يتكلم منهم أحد باستثناء الشهيد الصدر (ره) الذي انبرى يسرد لاستاذه الثمرة بين القولين على الرغم من صغر سنه ـ مما أثار اعجاب الحاضرين وعُرف من ذلك الوقت بالعلم والفضيلة والعبقرية. ويمكن الاشارة الى مسألة لها علاقه بنبوغ السيد الشهيد العلمي وذكائه، أنّه لم يقلّد أحداً منذ بلوغه سن الرشد امتدت دراسته في النجف الاشرف مدة (سبع عشرة سنة) حيث كان يستشمر من يومه (ست عشرة ساعة) في الدراسة والبحث والتحقيق([13]).
وقد كانت رحلته العلمية إبداعاً واكتشافاً، حيث كان يفجّر ينابيع المعرفة ليستثمرها في خدمة الانسانية.
العمق العلمي والوعي الكامل للتحديات:
كانت آماله (ره) منعقدة على تربية واعداد جيل من علماء الدين من مختلف الجامعات الاسلامية، متميز في الثقافة الاسلامية والوعي السياسي. لأنه يرى أن التحديّات التي تواجه الاسلام والمسلمين تفرض على العاملين الذين يتسلّمون مهمة القيادة الفكرية والروحية للأمة، أن يكونوا في مستوى التحديّات، فيما يمثلونه من علم واسع عميق في نطاق اختصاصاتهم.
وقد أشار آية ا… السيد كاظم الحسيني الحائري ـ فيما يتعلق بالعمق العلمي للسيد الشهيد الى المميزات العامة لابحاثه (ره) قائلا([14]): «تتميز الأبحاث العلمية لأستاذنا الشهيد عن سائر الابحاث العلمية المألوفة بالدقة الفائقة والعمق الذي يقلّ نظيره من ناحية، وبالسعة والشمول لكل جوانب المسألة المبحوث عنها من ناحية أخرى، حتى أنّ الباحث الجديد لها قلّ ما يحصل على منفذ للتوسّع أو التعمّق الزائدين على ما أتى به الاستاذ.
إضافة الى كل هذا نرى من مميزات استاذنا العلمية أن أبحاثه لم تقتصر على ما تعارفت عليه ابحاث العلماء في النجف الاشرف وقئتذ من الفقه والأصول، بل شملت سائر المرافق الفكرية الاسلامية، كالفلسفة والاقتصاد والمنطق والاخلاق والتاريخ، وفي كل مجال من هذه المجالات ترى بحثه مشتملا على نفس الامتيازين الملحوظين في أبحاثه الأصولية والفقهية من العمق والشمول.
ففي علم الأصول نستطيع أنْ نعتبر المرحلة التي وصل اليها مستوى البحث الاصولي على يد الاستاذ عصراً رابعاً من أعصر العلم وتطوراته التي مرّ بها علم الاصول على حدّ مصطلحات استاذنا في كتاب «المعالم الجديدة للاصول» حيث قسّم (ره) الاعصر التي مرّبها علم الاصول من المراحل التي بلغ التمايز النوعي فيما بينها إلى ما ينبغي جعله حداً فاصلا بين عصرين قسّمهما الى ثلاثة أعصر.
1ـ العصر التمهيدي 2ـ عصر العلم 3ـ عصر الكمال العلمي. ولا تقل ابداعاته الفقهية عن ابداعاتة في علم الاصول، وقد طبع من أبحاثه الفقهية أربعة مجلدات باسم «بحوث في شرح العروة الوثقى» فيها من التحقيقات الرشيقة التي لم يسبقه بها أحد منها…».
والجدير بالاشارة ـ هنا ـ أنّ السيد الشهيد (ره) رائد اسلوب تجديدي وإبداعي ـ إنْ صحّ التعبيرـ في الدرسات الاصولية والفقهية، ففى كتابه «دروس في علم الاصول» أعطى الكثير من الموضوعات الاصولية عنأو ين جديدة مستقلة.
كما كان يعمل على تبويب الفقه في أبواب جديدة تختلف عن الأبواب المعروفة في الفهرسة الفقهية السابقة لعلم الفقه، تَبَعاً لتجدّد الحاجات الحياتية.
البعد الفلسفي في شخصية الشهيد الصدر (ره):
واجه السيد الشهيد (قده) الفكر الماركسي من موقع الفكر الاسلامي العميق الممتد. هذا في الوقت الذي كانت تقتصر المواجهة على المسائل السطحية.
ومن هنا استطاع السيد الشهيد (ره) التأكيد على أن الاسلام يمتلك الفكر الفلسفي والاقتصادي الذي يستطيع من خلاله مواجهة أفكار الآخرين من موقع الحوار الفكري بعيداً عن الخوض في الجوانب السطحية من زأو ية الشعارات العاطفية أو الأساليب الانفعالية الساذجة.
وذكر سماحة آية ا… السيد كاظم الحائرى ([15]) (أنّ كتاب «فلسفتنا» الذي ألّفه السيد الشهيد الصدر (ره)، قارع فيه الفلسفات المادية والمدارس الفلسفية الحديثة الملحدة وبالأخص الديالكتيكية الماركسية باسلوب بديع وبراهين قويمة، ومناهج رائعة. وقد أصدره بجهود تظافرت مدة عشرة أشهر. كما أشار سماحة السيد الحائري الى أنه (ره) كتب اقتصادنا لنقد المذاهب الاقتصادية الماركسية والرأسمالية، وتوضيح خطوط تفصيلية عن الاقتصاد الاسلامي ولا أقول انه لم يوجد قبله فحسب كتب في الاقتصاد الاسلامي بهذا المستوى، بل اقول: لم يوجد حتى يومنا هذا ـ الذي مضى على تأليف كتاب اقتصادنا حوالي ربع قرن ـ من كتب بمستواه).
ومما يجدر ذكره ـ هناـ أنه نُقل عن الفيلسوف المسلم (روجيه غارودي) إعجابه بكتاب «فلسفتنا» عند ما أطلعه عليه أحد اصدقائه.. نظراً لما يتميز به من عمق وأصالة. كما نُقل عن الدكتور زكي نجيب محمود أنه أبدى اهتمامه واعجابه بكتب السيد الشهيد، لا سيّما كتاب «الاسس المنطقية للاستقراء» الذي قال عنه: إنه من الكتب التي ينبغي أن تترجم إلى اللغة الانكليزية، لتعرف أو روبا أن لدينا فلاسفة أصيلين يملكون العمق الفلسفي في الفكر المستقل.
ولا يزال المثقفون في سائر أقطار العالم الاسلامي يقبلون على دراسة «فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«الاسس المنطقية للاستقراء» كمصادر أصيلة للفكر الاسلامي التي لا بديل عنها فيما ألّفه المؤلفون في مواضيعها.
فانفراد الشهيد الصدر (ره) بهذه الخصوصية لتأكيد الموقع الاسلامي المتميز والمستقل في مواجهته لمشاكل الحياة بحلول واقعية عملية أصلية. ومن هنا كان نقده للماركسية لا يمثل تأييداً للرأسمالية، بل كان يثير نقاط الضعف هنا بنفس القوة التي يثير بها نقاط الضعف هناك، من أجل إيضاح الحل الاسلامي الافضل. وبذلك البعد (ره) عن الوقوع في حبائل الاساليب التي تعتمدها المخابرات المركزية الاميركية من توظيف نقد الماركسية الى دعم للرأسمالية باعتبارها تمثل النظام الحرّ.
فالعمق والعبقرية التي امتاز بهما الشهيد الصدر (قده) وعرف بهما، استطاع من خلالهما الامتداد لتلبية حاجات الامة الاسلامية بمختلف مذاهبها واتجاهاتها، ولم يقتصر هذا الامتداد على العالم الاسلامي فحسب، بل تجأو زه إلى أو روبا والغرب.
البعد العبادي والتضحوي في شخصية الشهيد الصدر(ره)
كان (ره) ينقطع في جميع عباداته الى الله تعالى انقطاعاً تاماً.
وعندما سُئل عن سبب صمته وتفكيره قبل أدائه لصلاة الفريضة، أجاب قائلا: (إني آليت على نفسي منذ الصغر أن لا أُصلي إلا بحضور قلب وانقطاع، فأضطر في بعض الأحيان إلى الانتظار حتى أتمكّن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع وعندها أقوم للصلاة([16])).
فالشهيد الصدر (قده) أعرف الناس بالله فكان أخشاهم له وأو سعهم علماً بدينه وفروض ربّه. فكان أنصبهم عباده له، وأجهدهم لأركانه في عبادته.
كما أنّ له من آبائه الأكرمين سجيّة العشق الإلهي، وخصيصة الهيام بالباري، فكان، معشوقه دائم الحضور في قلبه، واصب الشخوص أمام عينيه وعلى لسانه لا يفتُر في ذكره مسبّحاً له أو تالياً لكتابه، أو هادياً إليه ومبيّناً لأحكامه، أو ناشراً لشرائعه وفروضة.
وكان (ره) يقرأ القرآن في أيام وليالي شهر رمضان بصوت حزين وشجي ودموع جارية يخشع القلب لسماعه وهوفي حالة عجيبة من الانقطاع والذوبان مع معاني القرآن. وكأن الله هوالذي يتحدث إليه بكلماته ويردّد الآيات كأنها تهبط نوراً من علياء السماء. ومما يجدر ذكره هنا أنه (ره) كان يتقرّب إلى الله القربات، فكانت صلاة الليل وربيع حياته، يتضرّع فيها إلى الباري تعالى بنفس قد تفجّرت خشوعاً إلى الخالق. وإن أقدس واسمى ألوان العبادة في حياته الطاهرة تتمثل بعبادة الرفض والمواجهة الصارمة للظالمين الطغاة; لأنه كان يركع لله ولم يركع لاعدائه. وكا معتمصاً بالعروة الوثقى مستمسكاً بها([17]).
لقد جسّد شهيدنا المظلوم مفهوم الحبّ الإلهي أفضل تجسيد، فلم يهن أو يضعف عن مواصلة الدرب واقتحام المصاعب وتحمّل كل صنوف المتاعب والآلام لتحقيق رضى الخالق. فهوذلك الوفي المخلص مع تلامذته وأبنائه وأمته، حيث أخلص لهم في كل شيء وقدّم لهم النصح. فالشهيد الصدر(ره) من أو لئك الأفذاذ النادرين الذين يشكل مرورهم بالحياة تحوّلات جديدة من خلال ما يقدّمونه من عطاء وعلى مختلف المستويات، أو من خلال ما يرسمونه من خطوط عملية في طريق الهدف. فهو(ره) لم يكن مجرد إنسان مفكّر يعيش في نطاق التنظير للآخرين بعيداً عن حركة الحياة التغييرية. وإن تأييده للثورة الاسلامية في إيران لم يكن مجرد كلمات تقال، وانما من معاناة فكرية وعملية تمثّلت في رسائله الفكرية الصغيرة، وفي مواقفه الصادقة والتضحوية أمام الضغط والارهاب الذي كان يواجهه، حتى أدى الى وضعه في الاقامة الجبرية في منزله مدة ثمانية أشهر أو تزيد، حيث تفرّغ فيها للتأمّل والتفكير في أكثر من موضوع اسلامي فكري، ممّا تحتاجه المكتبة الاسلامية والجيل المسلم الصاعد. ولمّا أفرج عنه بقي في بيته ضمن اعتقال غير رسمي، لا يدخل عليه إلا القليلين من تلامذته ومقلّديه، ممّن كانوا يغامرون في زياراته.
وفي نهاية المطاف، كانت مأساة اعتقاله ونقله إلى جهة مجهولة وإعدامه مع شقيقته المجاهدة، التي عاشت مع أخيها من أجل الاسلام، وماتت معه شهيدة الحق والفكر والاسلام.
ويبقى الشهيد الصدر شعلة من فكر وعطاء وجهاد تضيء الدرب للسائرين في طريق الحق والفضيلة.
كاظم النصيرى «الواسطي»
[1]. السيد فاضل النوري / سبحات روحية في سيرة الامام الشهيد الصدر/ ص 50.
[2]. المصدر السابق/ ص 150.
[3]. الشيخ محمّد رضا النعماني / السيد الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار/ ص 125 ـ 126.
[4]. السيد فاضل النوري/ مصدر سابق/ ص 59.
[5]. أحد أبرز تلامذه الشهيد السيد محمّد باقر الصدر (قده).
[6]. الشيخ النعماني / مصدر سابق/ ص 117.
[7]. المصدر السابق/ ص 113.
[8]. آية ا… السيد كاظم الحائري/ مباحث الاصول / مصدر سابق / ص 45.
[9]. كمال السيد / الحسين يولد من جديد / ص 19.
[10]. الشيخ محمّد رضا النعماني/ الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار / ص 44.
[11]. كمال السيد / مصدر سابق / ص 20.
[12]. الشيخ محمّد رضا النعماني / مصدر سابق/ ص 46.
[13]. المصدر السابق/ ص 46 ـ 48.
[14]. آية ا… السيد كاظم الحائري/ مباحث الاصول/ ج /1 ق/2 ص 57.
[15]. آية ا… السيد كاظم الحائري / مباحث الاصول / ج 1 ق 2 / ص 57 وما بعدها.
[16]. الشيخ النعماني / مصدر سابق/ ص 121.
[17]. السيد فاضل النوري / مصدر سابق/ ص 34.