تقييم ومقارنة
من اجل كشف نقاط قوة حركة الإمام الصدر (قده) ندرس في هذا البحث طبيعة بعضِ الحركات الإسلامية التي لعبت دوراً سياسياً وثقافياً هاماً في مراكز تواجدها، ونقيّم تلك الحركات، ثم نذكر مميزات حركة الإمام الصدر.
وحيث أن حركة الأخوان المسلمين بقيادة حسن البنا في مصر، وحركة الجماعة الإسلامية في باكستان من أهم الحركات الإسلامية السياسية، بل وتعد الأولى بمثابة الأم لجميع الحركات الإسلامية التي نشأت بعدها في منطقة واسعة من العالم الإسلامي فلابد من تناولهما بشكل يضع في أيدينا الإطار العام لحركة الإمام الصدر مع نقاط القوة فيها في ضوء المقارنة مع تلك الحركات. ولنبدأ بحركة الأخوان المسلمين في مصر.
حركة الأخوان المسلمين في مصر:
بداية الحركة:
نشأت حركة الأخوان على يد مؤسسها الشيخ حسن البنا الذي ظل مرشدها الرئيسي إلى سنة شهادته، ومن الضروري إلقاء حنوء خاطف على هذه الشخصية الإسلامية، فقد ولد الشيخ حسن البنا في عام (1906 م) ودخل مدرسة حفاظ القرآن، وحفظ شطراً من القرآن الكريم، ولكنه لم يواصل الدرس في الكتاتيب بل التحق بالمدرسة الابتدائية حيث شكل مع مجموعة من الطلاب (جمعية الأخلاق الأدبية) ثم (جمعية منع المحرمات)[1]، أو (جماعة السلوك الاجتماعي) ثم (جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وفي مرحلة مبكرة من عمره التحق بجماعات الذكر التي تعقد هناك مع زميله احمد السكري حيث مارس بعض الطقوس الصوفية، ولكنه أسس مع احمد السكري جماعة أخرى هي (جمعية الحصافية) التي اتجهت نحو تربية الشخصية الإسلامية، وبعد إكماله الدراسة الابتدائية انتقل إلى (دارالمعلمين في دمنهور وأخيراً إلى دارالعلوم في القاهرة عام 1923 حيث تخرج معلماً في مدينة الإسماعيلية، وخلال وجوده في القاهرة لمس حجم التيارات الفكرية التي تدفع بمصر بعيداً عن الإسلام باتجاه الغرب بفضل نفوذ الاستعمار البريطاني في مصر، فقرر مواجهة هذه التيارات من خلال صياغة الشخصية الإسلامية القادرة على الصمود أمام تلك الاتجاهات المنحرفة، واستقرت هذه الفكرة في ذهنه وكيانه.
وعندما تخرج وعين معلماً في الإسماعيلية قسم وقته بين التدريس في النهار وبين إلقاء المحاضرات الإسلامية بعد فراغه من عمله في المدرسة.
ومن الضروري القول ان الذي دفع بشخصية البنا في هذا الاتجاه هو تربيته الأولية على يد أبيه احمد عبد الرحمن البنا الساعاتي الذي كان خريجاً أزهرياً وعالماً في منطققه، وكذلك انضمامه الى حلقات الذكر الصوفية، وهو في مطلع حياته الاجتماعية. وفي الإسماعيلية اتفق مع مجموعة من العمال وعددهم ستة أشخاص على تشكيل تنظيم يدافع عن الإسلام على أن يكون الشيخ مرشداً لهذه الحركة وموجهاً لها وذلك في عام 1928 وأطلق اسم (الأخوان المسلمين) على هذه الحركة لتشمل القاهرة وذلك عام 1932 م أي بعد خمس سنوات من تأسيس الخلية الأولى[2].
تطور الحركة:
وبعد ذلك نقل مركز الحركة إلى القاهرة، حيث توسع نشاطها في العاصمة إضافة إلى جولاته العديدة والمستمرة في القرى والأرياف حيث كان يوعظ ويرشد، واستطاع بهذه الجولات والنشاطات أن يوسع علاقاته مع مختلف طبقات المجتمع وخصوصاً العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين، وأرتفع عدد أعضاء الحركة بشكل كبير، وقد نجح الشيخ بأخلاقه الفذة ونشاطه الواسع في توسيع رقعة انتشار الأخوان في العاصمة وضواحيها وفي بعض المدن الأخرى.
وفي عام 1932 م صدرت أول مجلة للإخوان وهي مجلة (الأخوان المسلمون) التي أخذت تصدر يومياً في عام 1948 م ثم تلاها اصرار مجلة النذير فمجلة الشهاب الاسبوعية عام 1947[3] وبكلمة فان حركة الأخوان تطورت بشكل سريع جداً، وتشعبت لتضم في صفوفها أفراداً من جميع فئات المجتمع المصري، ولقد وضع الشيخ ثلاثة أهداف أساسية لحركته هي:
1ـ التعريف بالإسلام.
2ـ تكوين الجماعة المؤمنة.
3ـ الجهاد.
ويبدو أن الشيخ رحمه اللّه نجح بشكل كبير في تحقيق الهدفين الأوليين، وفيما يلي شرح لهذه الأهداف:
أولاً: الأهداف التربوية:
لقد استهدفت حركة الأخوان تربية الشخصية الإسلامية بصورة أساسية، فمنذ الوهلة الأولى لقيام الحركة كانت قضية (تربية الفرد) على السلوك الإسلامي، وتزكية النفس تأخذ الجانب الأكبر من اهتمام الشيخ رحمه اللّه ولعل السر في ذلك هو:
1ـ شيوع الفساد والتغريب الثقافي والسلوكي في المجتمع المصري في تلك الفترة.
2ـ انتماءه إلى بعض الجمعيات الصوفية، حيث إن هدف الطرق الصوفية تزكية النفس والفناء في اللّه.
3ـ مجال عمله، وهو حقل التعليم الرسمي الذي نحا به اتجاهاً تربوياً.
4ـ محدودية تجاربه السياسية مما يفرض عليه الابتعاد في بداية العمل عن المنحنيات والتجارب السياسية المباشرة.
وظلت فكرة التعليم والتربية مهيمنة على مشاعر الشيخ رحمه اللّه حتى دفعته إلى تأسيس المدارس والمعاهد التربوية الكثيرة الخاصة بالإخوان والتي غطت القاهرة وبعض المدن الأخرى. ولم يكتف بالتربية السلوكية العامة، أنما مزج معها تربية تنظيمية صارمة، فالفرد يتربى ويتدرج في مراتب الجماعة من خلال التزامه بالمنهج التربوي الكثيف الذي وضعه البنا بنفسه لكل فرد من أفراد الأخوان. فالعبادة والأخلاق والطاعة هي محور تأكيدات البنا في رسائله ومواعظه التربوية.
فلقد كان الشيخ يستهدف بناء الشخصية الإسلامية بعيداً عن التيارات السياسية والثقافية العلمانية التي نشطت في الساحة المصرية يوم ذاك، كما كان يستهدف بناء تجمع إسلامي يفكر بالإسلام ويتمسك بأخلاقية الإسلام، ومن الواضح أن بناء الشخصية والجماعة يكون من خلال تنمية السلوك الأخلاقي في العلاقات والمعاملات الاجتماعية.
إن الفرد الذي يعيش في أجواء وظروف سياسية وثقافية منحرفة لا يمكن نقله إلى طراز آخر من السلوك والثقافة ألا بالتركيز على الجوانب التربوية في الشخصية والتأكيد على الطابع السلوكي فيها… هكذا كان يعتقد الشيخ (رحمه اللّه).
والذي يبدو انه لم يهتم في بداية الانطلاق بإعلان العداء والحرب ضد التيارات الأخرى الا من اجل تركيز خط التربية الذي خاضه بحزم وعمق، بيد أن ذلك لا يعني انه ترك الميدان السياسي بصورة مطلقة. وفي الواقع لقد قسم الشيخ رحمه اللّه عمله على أساس فواصل زمنية تبدأ بالتعريف بالإسلام، وتمر بتكوين الجماعة لتصل أخيراً إلى المرحلة الأخيرة وهي الجهاد، وقد قطع شوطاً طويلاً في إعداد فئة واعية نتيجة جهوده الكبيرة على امتداد سنوات عديدة من بداية تشكيل الحركة. بل انه أجرى تعديلاً على القانون الأساسي للحركة في عام 1940 م بما يخدم أهدافه التربوية حيث أضاف فقره أخرى الى المادة الرابعة من الباب الثاني وهي:
(يؤثر الأخوان دائما التدرج والعمل المنتج والتعاون مع كل محب للخير والحق ولا يريدون بأحد سوء مهما كان دينه ومنبته ومذهبه)[4].
فالشيخ تجنب الدخول في مشاغل جانبية تصرفه عن حقل التربية والأعداد الروحي الذي خاضه خلال سنوات عديدة.
ثانياً: الأهداف السياسية:
ولابد هنا من تناول البحث ضمن ثلاثة أقسام هي:
أـ الفكر السياسي للإخوان المسلمين.
ب ـ عملية التغيير.
ج ـ الموقف من النظام الملكي.
أـ الفكر السياسي للإخوان المسلمين:
طرح الاخوان في الساحة المصرية أفكاراً إسلامية سياسية متقدمة، فقد أعلنوا أن الإسلام دين ودولة، وانه لا ثنائية بين الإسلام بوصفه دين، وبين الدولة بوصفها هيئة دستورية وتنفيذية لإدارة البلاد، بل أن الدولة لا تصلح الا بالإسلام، وان جهاز الدولة ورئيسها يجب أن يلتزم بالإسلام في سلوكه الشخصي وفي إدارته للبلاد وفي تشريع القوانين. ويعتقد الأخوان إن تعدد الأحزاب السياسية في البلاد يفكك وحدة الشعب، ويمزق تلاحمها، فلابد من حل جميع الأحزاب وبقاء حركة الأخوان كتيار إسلاِمي سياسي يدير العمل السياسي.
إذ (أن الأخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب ويعتقدون إنها مسكّن لا علاج وسرعان ما ينفض المؤتلفون فتعود الحرب (و في هذا يقول البنا): العلاج الحاسم أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها، وانتهت الظروف التي أوجدتها ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون)[5].
ويعتقد الأخوان أن الشورى في الحكم من القواعد الأساسية للنظام السياسي في الإسلام تطبيقاً لفكرة الشورى فانهم أوجدوا مؤسسات شورى داخل جهاز التنظيم منها (مكتب الإرشاد) الذي يمثل مجلس شورى الحركة و(الهيئة التأسيسية للأخوان) وهي مؤسسة تجمع الكادر المتقدم من الأخوان وتعقد جلسات سنوية لتحديد القضايا المركزية واتجاه الحركة منها.
ب ـ عملية التغيير:
آمن الأخوان بضرورة قيادة الإسلام للحياة، وان المشاكل القائمة لا تعالج ألا بالإسلام، ولكن ما هو أسلوب عملهم في مجال تغيير المجتمع وقواعده السياسية والفكرية؟. جاء في المادة الثالثة في بيان أساليب تحقيق الأهداف المذكورة مايلي:
(يعتمد الأخوان المسلمون في تحقيق هذه الأغراض على الوسائل الآتية وعلى كل وسيلة مشروعة:
أـ الدعوة بطريق النشر والإذاعة.
ب ـ التربية.
ج ـ بوضع المناهج الصالحة في كل شؤون المجتمع.
د ـ العمل بإنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية وعلمية وبتأسيس المساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ)[6].
وفي بيان الأهداف المتوخاة من تشكيل اللجان الكشفية جاء في النظام الأساسي تحديداً لتلك الأهداف مايلي:
(1ـ محاربة الضعف والخنوثة.
2ـ تجديد نشاط الفكر والجسم.
3ـ إعداد الرجل القوي لأعباء الجهاد لا للبطش الجاهل ولا للمظاهرات السياسية المصطنعة المغرضة.
4ـ محاربة الكسل والضعف والر كود.
5ـ خدمة البيئة وتقوية أواصر المودة.
6ـ أن يصطبغ المسلم بالصبغة الإسلامية التي هي صبغة اللّه ومن احسن من اللّه صبغة فيكون مسلماً بعاداته وتقاليده وتفكيره وسلوكه ويكون مسلماً بعقله وقلبه وجوارحه)[7].
هذه النقاط تشير إلى أن أسلوب الأخوان في عملية البناء السياسي والفكري للامة تقوم على أساس التربية الفردية والاجتماعية، وذلك عبر التركيز على إيجاد الفرد الفاضل المؤسسات الصالحة. ومن هذا المنطلق دخل الأخوان المجتمع حيث أسسوا المدارس، والمعاهد والمصانع وشكلوا الفرق الكشفيه والجوالة بهدف واحد هو تغيير الفرد والمجتمع بنحو يتطابق مع الفكر والسلوك الإسلامي المستقيم. وقد نجح الأخوان في هذا الاتجاه نجاحاً كبيراً جداً حيث برزت ظاهرة الأخوان الإسلامية في الحياة المصرية وعاشت في وسط المجتمع كظاهرة اجتماعية تهدف تربية المجتمع على الإسلام، وتفتح عقله على نور الإسلام.
ج ـ الموقف من النظام الملكي:
لابد من إبراز كلمات ومواقف الشيخ البنا رحمه اللّه التي تحدد موقفه من السلطة، ومن النظام الملكي بشكل خاص، ثم نحاول تحديد اتجاهات موقفه السياسي من النظام. يقول في رسالة المؤتمر الخامس وهو يحدد موقف حركة الأخوان من مسألة السلطة:
(فالمصلح الإسلامي أن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الأحكام ويرقب التعاليم، و ترك أهل التنفيذ يشرعون للامة ما لم يأذن به اللّه فان النتيجة الطبيعية:
أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة فيواد ونفخة في رماد)[8].
ويقول أيضا: (الثورة لا يفكر فيها الأخوان المسلمونو لا يعتمدون عليهاو لا يؤمنون بنفعهاو نتائجهاو ان كانوا يصارحون في مصر بان الحال إذا دامت على هذا المنوالو لم يفكر أولوا الأمر في إصلاح عاجلو علاج سريع لهذه المشاكل فسيؤدي ذلك حتماً إلى ثورة ليست من عمل الأخوان المسلمين ولا من دعوتهم ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال وإهمال مرافق الإصلاح)[9].
(فالأخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فان وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه)[10].
ومن مجموع هذه المقاطع والكلمات، ومن ملاحظة مسار حركة الأخوان نستطيع القول أن البنا كان لا يعتقد بأسلوب القوة للوصول إلى السلطة. وبما أن النظام الملكي لم يلتزم بالإسلام، فان البنا مطالب بتحديد موقفه من النظام المذكور… والذي يبدو انه لم يتخذ موقفاً حاسماً عن النظام رغم تقاطعه معه على مستوى الفكر والمنهج، فهو تارة يرجو عودة أركان النظام إلى الإسلام، وأخرى يأمل إعداد القوة اللازمة وكتائب الجهاد الخاصة بحرِكته، و ثالثة ينتظر حصول تغييرات فكرية عامة في وسط المصريين.
إن من أهم أسباب عدم اتخاذ موقف حاسم من النظام هو حرص الشيخ رحمه اللّه على بقاء تشكيلات الحركة ومؤسساتها الاجتماعية العديدة في الساحة من اجل استمرارها في تربية الفرد والشعب المصري وربط الحركة بالحياة العامة، وإبعادها عن ضربات النظام وبطشه، وهذا ما دفع به إلى الابتعاد عملياً عن استخدام العنف، والدعوة إلى إسقاط الحكم الملكي لان إشارة واحدة إلى ذلك كفيلة بتصفية الحركة، ومؤسساتها… وهذا ما لا يريده الشيخ.
وبعض الباحثين في حركة الأخوان يشير إلى أن البنا أسس في عام 1940 م جهازاً عسكرياً خاصاً غير فرق الكشفية والجوالة[11] وكان هذا الجهاز سرياً حتى عن كبار قادة الحركة… ولكن لا توجد أدلة كافية على وجود جهاز من هذا القبيل، رغم إننا لا نقطع بعدم وجود هذا الجهاز.
وعلى هذا الأساس فان الشيخ اتجه إلى عملية البناء الفكري والروحي والسياسي، وعلق مسأله معالجة النظام الحاكم على مجموعة أمور هي:
1ـ تهيئة الأجواء الشعبية العامة لاستقبال الانقلاب العسكري أو الشعبي.
2ـ إعداد القوة اللازمة للوصول إلى السلطة.
3ـ إصرار النظام على عدم الالتزام بمنهاج الحكم الإسلامي.
إن الشيخ لم يهتم بإعداد قوة عسكرية قادره على إسقاط النظام وتولي الحكم إنما كان يعمل على بناء المجتمع الإسلامي ومؤسساته بعيداً عن إثارة الملك وأجهزته التي تراقب الساحة السياسية بدقة، فحين تكون قوالب المجتمع ومؤسساته قد تغلغلت في الحياة، وحين يصر الملك على الانحراف عن الإسلام، فان الثورة ستأتي لا محالة ولكن من مقتضى الظروف والأحوال وليست بعمل الأخوان… هذا ما كان يؤمن به الشيخ.
ولعل هذا التفكير هو الذي يفسر السر في عدم امتداد خطوط تنظيم الأخوان الى صفوف الجيش و خصوصاً الضباط الاحرار الذين قادوا انقلاب يوليو عام 1952 م واكتفى البنا بإيجاد رابطة مع حركة الضباط الأحرار بواسطة أنور السادات أولاً ثم بواسطة عبد المنعم عبد الرؤوف الذي التحق أخيراً بصفوف تنظيم الأخوان ثانياً. ويعلق أحد الكتاب على منهج البنا في عدم استخدام العنف للوصول إلى السلطة:
(إن مدرسة الأخوان كانت وسيلة لتنفيذ منهاج الدولة الإسلامية لا بالعنف والثورة وإراقة الدماء بقدر ما هي بالتربية والجهاد والالتزام فانه كان يعلم أن القانون الإلهي يمنعه من استخدام العنف في بناء الدولة ما دام قد اتخذ القرآن له دستوراً)[12].
وهذا بالذات ما يفسر لنا سبب ما يقال عن إقدام الشيخ رحمه اللّه على ترشيح نفسه لنيلِ عضوية البرلمان المصري عام 1942 م في دائرة الإسماعيلية ولكنه سحب ترشيحه، وكذلك ترشيح نفسه مع خمسة من أعضاء الجماعة لعضوية البرلمان[13].
فهذا النمط من السلوك السياسي يدل على أن البنا اختار أسلوب التغيير السلمي، وتجنب سلوك القوه في إسقاط الملك ونظامه رغم امتلاكه لها، إذ أن عدد أعضاء الحركة ناهز المليون ونصف المليون وهو عدد هائل خصوصاً وان هذا العدد يخضع لهيكلية تنظيمية دقيقة وان الكثير منهم رهن إشارته لو أراد القيام بعمل عسكري أو سياسي ضد النظام… إذ بلغ عدد شُعب الأخوان عام 1948 م ألفين شُعبة منتشرة في أرجاء مصر[14].
و هكذا سارت الأمور بالحركة إلى أن اغتيل الشيخ البنا رحمه اللّه في 25 فبراير عام 1949 م أمام المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين في القاهرة بتدبير مباشر من أركان النظام، وقد سبق ذلك صدور قرار بحل الجماعة ومصادرة أملاكها، وملاحقة أعضاء الحركة و قمعها بشدة، ومن المفيد معرفة أن عمليات القمع والتصفية التي شنت على الحركة جاءت بعد مذكرة أمريكية ـ فرنسية ـ بريطانية مشتركة أرسلت إلى رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي تأمر فيها رئيس الوزراء بحل حركة الأخوان بعد مشاركة كتائب الأخوان في حرب عام 1947 م ضد الوجود الصهيوني الوليد في فلسطين حيث قاموا بدور كبير في تلك المعارك مما فتح عيون الحكومات المذكورة على قوة الأخوان وإمكاناتهم التنظيمية[15].
تقييم حركة جماعة الأخوان:
ولابد من تقييم حركة الأخوان لنخرج برؤى واضحة في فهم مسارها وذلك ضمن النقاط التالية:
أولاً: لا شك أن جماعة الأخوان شكلت منعطفاً هاماً في وعي الجماهير، وفي فهم الإسلام والتعامل معه، والجماعة بهذا الوصف قدمت فهماً حركياً واعياً للإسلام.
ثانياً: أحدثت جماعة الأخوان نمطاً من السلوك الفردي، والمظاهر الاجتماعية العامة والتي تدل على قدرة الإسلام وحيويته في التنظيم والتوجيه.
ولكن مع هذا توجد عدة ملاحظات أخرى هي:
ثالثاً: إن جماعة الأخوان لم تنجح في كسب تعاطف عموم الجماهير معها، فقد كشفت الأحداث التي أعقبت الحل عام 1948 م والأحداث التي أعقبت عمليات التصفية بعد انقلاب يوليو عام 1952 م والتصفيات التي حدثت في منتصف الستينات أن ثمة فاصلة بين الجماعة وبين عموم الجماهير بمعنى ليس هناك فهماً واعياً وتعاطفاً من الجماهير نحو الجماعة بمستوى يدفع الجماعة إلى توظيف طاقات الجماهير باتجاه تحقيق أهدافها، وبمستوى دفاع الجماهير عن الجماعة لو تعرضت لخطر القمع والتصفية.
رابعاً: اهتمام البنا بإنشإ المصانع والمؤسسات الأخرى الذي يشير إلى انه حاول أن يوجد دولة إسلامية في مؤسساتها وتشكيلاتها في أحشاء الدولة الملكية، ويسعى لتطوير أجهزة الدولة إلى أن يأتي اليوم الذي يصبح بالإمكان التخلص من أجهزة دولة الملك!.
و بالطبع أن تشكيل تلك المصانع والمؤسسات وان كان له إيجابيات كثيرة لأنه يمثل نمطاً من السلوك الإسلامي العام، ولكنه في نفس الوقت دفع بقيادة الجماعة إلى التسامح مع النظام الحاكم وذلك خوفاً من أن تتعرض تلك التشكيلات لخطر التصفيات والمصادرة والذي لم تستطع الجماعة الإفلات منه فيما بعد!.
و مع أن جماعة الأخوان اتجهت بتلك المؤسسات إلى نهاية الخط لكنها لم توظفها في الميدان السياسي، إذ المفروض أن تؤدي تلك البنى وظيفة معينة في الصراع بين الإسلام، وبين النظام الملكي العميل للاستعمار البريطاني، لا أن تتحول إلى أهداف مستقلة في إطار ثنائية القوة بين النظام الذي يستحوذ على الدولة وبين جماعة الأخوان التي تتحرك بصورة بطيئة في توظيف تلك المؤسسات في صراعها السياسي.
خامساً: نلاحظ تردد الأخوان من اتخاذ موقف حاسم من النظام الحاكم، فبعد أن تبين أن النظام الملكي لا ينفك عن علاقانة مع الاستعمار البريطاني، وانه لا يسير وفق منهج الحكم الإسلامي، كان يجب توظيف الطاقات والإمكانات الهائلة التي حققها الأخوان على امتداد عشرين سنة من العمل والأعداد (لضرب النظام مباشرة) ومداهنة النظام في هذا الغرض لا معنى له، بل ولا نتيجة له الا الفشل الذي منيت به الحركة أخيراً في أعقاب قرار الحل عام 1948 م.
و لو اتخذت جماعة الاخوان هذا الموقف العملي ضد النظام لاستطاعت أن تنجز أهدافها السياسية، ولأعطت درساً لأفرادها في محاربة النظام الذي لا يحكم بمنهاج الإسلام… وهو أمرٌ طالما ركزت عليه في نشراتها وكتبها.
و إذا كانت جماعة الأخوان فشلت في توظيف قدراتها لإسقاط النظام الملكي، فان جماعة الضباط الأحرار نجحوا في إسقاط النظام الملكي وأقاموا نظامهم الاشتراكي رغم حداثة عملهم السياسي، ورغم ضعف إمكاناتهم، ورغم عدم وجود صلة تربطهم مع الجماهير كصلة الأخوان في عملهم الاجتماعي والتربوي.
إن بعض الكّتاب يرى أن البنا (رحمه اللّه) لا يؤيد العنف وإراقة الدماء… ولكن نسأل هل يمكن للملك، والمنتفعين به من الاستعمار والإقطاعيين تسليم السلطة للجماعة الإسلامية لمجرد إنها لا تريد إراقة الدماء، أو لا تريد العنف؟!.
بالطبع أن الملك الذي ارتبط مصيره بمصير نظامه سوف لن يتردد في البطش بالأخوان المسلمين وقياداتهم حين يشعر انهم مصدر خطر على نظامه[16]، وهذا ما حصل بالضبط حيث لم يتردد في اغتيال البنا نفسه حين شعر بحجم قوته في الساحة المصرية.
إن حركة الأخوان لو عالجت مسألة السلطة، ومنذ بداية نشاطها لنجحت في عملها، وكذلك لغيرت بعض أساليب عملها الذي طرحته في الساحة. وحين نقول يجب وضع مسألة السلطة نصب الاهتمام لا يعني أن الحركة مطالبة برفع السلاح ضد النظام، إنما نعني أن الإعداد التربوي والعسكري يجب أن ينتهي إلى عملية ناجحة ضد النظام يسير جنباً إلى جنب مع اتخاذ المواقف السياسية الحاسمة ضد النظام، فمع وجود القوة اللازمة، وفشل جميع المعالجات السليمة لتحكيم الإسلام فلا يظل ألا أسلوب القوة الجماهيرية لحسم مصير النظام الذي يحكم بغير ما انزل اللّه.
سادساً: رغم ما يقال من أن البنا قد وضع بصره على الجيش منذ عام 1940 م، ولكن الذي يبدو انه لم يهتم كثيراً في مد شبكته التنظيمية داخل صفوف الجيش، ولا نعلم لذلك سبباً الا اعتماده على تشكيلاته الميدانية من أمثال فرق الجوالة، أو الكشافة فلعله ظن انه يستطيع تحويل تلك التشكيلات إلى قوات عسكرية جاهزة للعمل… أو لعله أعتمد على حركة الضباط الأحرار والذي كان على اتصال معهم… وان كنا نستبعد ذلك. وهذا في تقديري أحد أسباب الفشل السياسي الذي منيت به الجماعة إذ لو استطاعت الجماعة كسب ولاء الجيش لاستطاعت أن تسحب أهم ركيزة قوة يعتمد عليهاِ النظام الملكي وتضيفها إلى قوتها، وتوظفها في الوقت المناسب وهذا لم يحصل بل أكتفى الشيخ رحمه اللّه بعلاقاته الهامشية مع حركة الضباط دون أن يعمد هو إلى تشكيل خط عسكري يعمل في صفوف الجيش لحساب الحركة.
سابعاً: إن العمل التنظيمي وبشروطه ومواصفاته الخاصة جعل بين حركة الأخوان وجماهير الشعب حاجزاً غير منظور، رغم حرص الحركة على أن تطرح نفسها على الجماهير، بل ورغم انضمام الكثير من قطاعات المجتمع إلى صفوف الحركة بما فيهم النساء.
ولكن مع كل ذلك فان النظام الخاص بالأفراد جعل الحركة حزباً سياسياً يعتمد على الشباب، والمثقفين والعمال وبقية القطاعات ولكن ضمن فئات وعناصر خاصة… إذ ليس كل أفراد تلك الشرائح قادرة على ممارسة البرنامج التنظيمي للجماعة… أن ذلك التمحور وضع بيد السلطة فرصة للقضاء على الحركة من خلال فتوى الأزهر وبعض العلماء من وعاظ السلاطين في وقت قصير جداً وانهارت جلّ الجهود العظيمة التي بذلها الشيخ (رحمه اللّه) وجماعته على امتداد عشرين عام على طريق تشييد مؤسسات الحركة، ونظامها الداخلي ومصادرة أموالها ومصادر تمويلها!!!.
حركة الجماعة الإسلامية في باكستان
تختلف الجماعة الإسلامية في باكستان عن حركة الأخوان في مصر في أن الأولى شاركت في صياغة حدث سياسي مهم هو انفصال باكستان عن الهند، وظهور دولة باكستان الإسلامية الجديدة في أغسطس عام 1947 م. ومؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان هو (أبو الأعلى المودودي) وهو من الشخصيات الإسلامية المتميزة التي جمعت الثقافة الإسلامية والروح العصرية والنشاط في العمل.
وسوف نقسم بحثنا حول هذه الحركة إلى:
أـ فكر الجماعة.
ب ـ أهداف الجماعة.
ج ـ موقفهم من عملية التغيير السياسي.
د ـ تقييم عمل الجماعة.
أـ فكر الجماعة الإسلامية في باكستان:
وهذه الجماعة كحركة الأخوان تبنت الفكر الإسلامي وشيدت تركيبها الثقافي والروحي على أساس الإسلام، فالإسلام هو:
(الانقياد والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض)[17].
وهو (دين الإنسان المفطور عليه وهو لا يختص بأمة دون أمة ولا بقطر ولا بزمن دون زمن، يدين به كل من عرف اللّه وأتبع قانونه وسلك صراطه المستقيم، في أي زمن أو أمة أو قطر سواء أسمى دينه بالإسلام أو بغيره من الألفاظ بلسان قومه)[18].
و (الإسلام في الحقيقة هو عبارة عن الحركة التي تريد بناء صرح الإنسانية بأسره على حاكمية اللّه الواحد الأحد وهذه الحركة جارية على سنن منذ اقدم عصور التاريخ)[19].
والإسلام (هو عبارة عن الصورة المتكاملة المتشابكة التي تقررها الشريعة للحياة الإنسانية)[20].
وعلى هذا فان داء الأمة إنما يكمن في فصل الدين عن الدولة[21]، وقد حمل المودودي لواء الدعوة والفكر الإسلامي قبل استقلال باكستان بسنين طويلة، واستطاع أن يوقظ الحس الإسلامي والفكرة الإسلامية بمحاضراته، وكتبه العديدة التي تجسد رؤية واقعية للإسلام بغض النظر عن الثغرات التي لا تخلو منها حركة ولا يسلم منها مفكر.
ب ـ أهداف الجماعة الإسلامية:
طرحت الجماعة هدفاً رئيسياً هو إصلاح المجتمع وتزكية النفوس، بيد أن هذا الهدف يستدعي إنجاز عدة أهداف مرحلية أهمها (قيام الدولة الإسلامية) والبدء بعملية التطبيق لإحكام الإسلام فالدولة هدف مرحلي لأنه يوفر الإمكانات الكبيرة لإنجاز الهدف الأساسي، ألا أن ذلك لا يعني الانشغال والارتباط بفكرة قيام الدولة الإسلامية والانصراف عن الهدف الأساسي وهو التربية والإصلاح إذ انتظار قيام تلك الدولة والكسل عن العمل والإصلاح خطأ كبير كما يقول المودودي:
(فالمسألة أمامنا الآن: انه إذا كان لابد لنا في مثل هذه الدول القومية أيضاً من سعي وكفاح لتغيير أسس الحياة الاجتماعية وتشكيلها من جديد، وإذا كان علينا أن نسعى وراء هذه الغاية ونواصل جهادنا في هذا السبيل باذلين مهجنا وأرواحنا من غير معونة من الدولة أو على الرغم من اضطهادها وصدها عن سبيل اللّه فما الذي يمنعنا من انتهاج هذا المسلك والجري على هذه الخطة منذ اليوم وما لنا نضيع الأوقات سدى في انتظار الدولة القومية المرجوة المتسمة بالإسلام كذباً وزوراً؟!)[22].
فالدولة التي تقوم على أساس قومي، حتى لو اتخذت الإسلام شعاراً لها سوف تكون عقبة في طريق الهداف الاساسي وهو اصلاح الامة والفرد عن طريق إقامة النظام الإسلامي.
وفي كتاب آخر يوضح المودودي أهداف الحركة بشكل موسع فيقول:
(لا نريد أن نحيي حضارة المسلمين وثقافتهم القومية القديمة، وإنما نريد أن نحيي الإسلام ونقيم نظامه، ولا نخالف العلوم الحديثة وما أتت به من مخترعات ومستحدثات في مختلف شُعب الحياة والكون، وإنما نحارب النظام الثقافي المدني الذي ولدته الفلسفة الغربية للحياة والأخلاق، و لا نريد أن نحشر الغوغاء ونجعل منهم كتلة صناعية كما يفعل المشعوذون السياسيون، بل نريد أن نستخلص من جسد الأمة جوهره ونلتقط أجزاءه الخالصة فنجعل من هذا وذاك جماعة متراصة تستعد لمحاربة الجامدين والجاحدين معاً في سبيل إعلاء كلمة الإسلام الحقيقي الذي جاء به الكتاب والسنة لنجعل منه النظام الغالب للحياة في هذه البلاد، ولا نكتفي بان نُصبغ بصبغة الإسلام ناحية، أو بعض نواح من الحياة بل نصر إصراراً شديداً على أن نجعل الإسلام هو المهيمن على الحياة الإنسانية بحذافيرها مهيمناً على الطباع الفردية والعشرة البيتية ومسيطراً على العلوم والفنون والآداب ومعاهد التعليم والتربية ومستولياً على محاكم القانون وميادين السياسة، ودواوين الحكومة وادارتها، وإنتاج الثروة توزيعها. فبسلطة الإسلام الشاملة المهيمنة هذه وحدها يمكن أن تتجرد باكستان للغاية المنشودة وتتمتع بالمنابع الروحية والخلقية والمادية التي هي نتيجة لازمة فطرية لاتباع ما انزل اللّه وهدى رسوله الكريم (ص))[23].
فالهدف الأساسي هو إصلاح المجتمع وذلك عن طريق تغيير علاقات، وأفكار المجتمع، وتقع على الدولة الإسلامية مسؤولية جانب كبير من عملية التغيير.
ج ـ عملية التغيير:
لقد طرح العلامة المودودي (رحمه اللّه) من اجل تغيير المجتمع برنامجاً شبيهاً ببرنامج الأخوان الذي درسناه في الصفحات السابقة، إن المودودي كان يعتقد بإمكان الوصول إلى السلطة بأسلوب سلمي مع ضرورة بذل الجهد اللازم من اجل ذلك.
فعملية التغيير تبدأ من الفكر، ومن السلوك، لتجمع صفوة الرجال في تشكيلة إسلامية، وظاهرة سياسية تشق طريقها في وسط المجتمع لتغييره بالتي هي احسن. يقول المودودي في بيان هذه الفكرة:
(فاذا استعرضنا العمل الذي قام به جميع الأنبياء عليهم السلام ونظرنا فيه جملة، رأينا أن نوعية هذا العمل حسب ما يأتي:
أولاً: إن يحدث الانقلاب الفكري والنظري في عامة بني آدم ويشربوا في قلوبهم وجهة نظر الإسلام وأسلوبه الفكري وسلوكه الخلقي بحيث يعودون في طريق تفكيرهم ومقصد حياتهم ومنهج عملهم وميزانهم لتقييم الأشياء وأقدارها متطبعين بطابع الإسلام.
ثانياً: إن تؤلف جماعة محكمة التركيب ممن يخضعون لتأثير هذا التعليم والتربية ويبذل الجهد المستطاع لانتزاع السلطة والحكم من أيدي الجاهلية، ويستخدم في هذا الجهد والسعي كل ما يوجد في المدنية الرائجة من الوسائل.
ثالثاً: إن يقام نظام الحكم الإسلامي، فتنظم شعب المدينة بأجمعها على الأسس الإسلامية الخالصة، ثم يتخذ من التدابير ما يوسع به نطاق الانقلاب الإسلامي في أقطار الأرض، وان يربي كل داخل في الجماعة الإسلامية من طريق الدعوة تربية عقلية وخلقية على الطراز الإسلامي)[24].
وعملية التغيير الاجتماعية يقوم بها الطليعة والأفراد الذين تربوا على الفِكَر الإسلامية، وكرسوا جهودهم لتحقيقها في الميدان الاجتماعي.
وبعبارة أخرى لابد من فرز فئة من الناس يتمتعون بمواصفات خاصة يشكلون القاطرة الأمامية لقيادة المجتمع وهم الطليعة. وفي هذا المجال كتب المودودي:
(إن إعلاء كلمة اللّه والدعوة إلى القيام بها تحتاج إلى رجال ذوي صلاح، يتقون اللّه في السر والعلن، ممن لا يلهيهم عن العمل بالشريعة والاستمساك بعروتها شئ من مطامع الدنيا ولاتصرفهم عن ذلك العقبات والشدائد، ولا يهم الدعوة بعد ذلك هل برز للعمل أمثال هؤلاء الرجال من الذين ورثوا الإسلام عن آبائهم أو ممن قبلوا هذه الفكرة بأنفسهم)[25].
أما أسلوب التغيير السياسي فان المودودي عالج هذه المسألة بنحو يختلف عن أسلوب الأخوان المسلمين في مصر، فالمودودي يرى أن قيام دولة إسلامية مسالة خاضعة للقوانين الاجتماعية الصارمة كما تتحكم قوانين العلة والمعلول في ميدان الطبيعة فكما أن شجرة الرمان لاتعطي التفاح كذلك يرى أن الجهود التربوية للمجتمع علة لقيام الحكم الإسلامي، أي أن قيام الدولة الإسلامية تابع ـ كتبعية المعلول للعلة ـ لحجم التغيير التربوي، وبعبارة موجزة أن قيام الدولة الإسلامية نتيجة لتغييرات فكرية وأخلاقية في عمق المجتمع، ومن دون حصول هذه التغييرات لا يمكن قيام دولة إسلامية وفي هذا كتب المودودي:
(الحقيقة انهم لايعرفون أن القانون في كل بلد له علاقة وثيقة بنظامه الخلقي والاجتماعي الاقتصادي والسياسي، فما دام لا يتغير نظام الحياة في ذلك البلد بكل شُعبه ونواحيه فمن المحال قطعاً أن يتغير نظامه القانوني)[26].
فعملية التغيير تبدأ بالطليعة من الدعاة، وتتصل بالمجتمع لتنتهي إلى إقامة الحكم الإسلامي الذي هو نتيجة طبيعية وعفوية لحركة التربية والتوجيه التي سبقت مرحلة استلام السلطة.
(إذا عرفت ما ذكرت من وضعية الدولة الإسلامية، فتعال نفكر فيما عسى أن يكون من سبيل لتحقيقها والوصول إليها، فالدولة لاتتكون إلا وفق ما يتهيأ لها من العوامل الفكرية الخلقية والمدنية في المجتمع، فكما لا يمكن أن تكون الشجرة منذ أول أمرها إلى أن يتم نماؤها شجرة كمثرى أو ليمون مثلاً، ثم إذا آن أوان أثمارها انقلبت شجرة تفاح أو رمان، كذلك الدولة الإسلامية، فأنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة بل لابد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولاً حركة شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام وتوائم طبيعته، يقوم بأمرها رجال يظهرون استعدادهم التام للاصطباغ بهذه الصبغة المخصوصة من الإنسانية، ويسعون لنشر العقلية الإسلامية ويبذلون جهودهم في بث روح الإسلام الخلقية في المجتمع.
ثم يقوم على هذا الأساس نظام للتعليم والثقافة يهيئ رجالاً مطبوعين بطابع الإسلام الخاص، ويتخرج بفضله المؤرخون المسلمون والفلاسفة المسلمون، والمسلمون الحاذقون في العلوم الطبيعية والاقتصادية والمالية، والذين لهم حظ وافر في القانون والسياسة وفي كل فرع من العلوم والفنون من الذين امتزجت الفكرة الإسلامية بلحومهم ودمائهم، والذين تثقفت أذهانهم واتسعت مداركهم اتساعاً يؤهلهم لتدوين نظام للأفكار والنظريات ومنهاج كامل للحياة العملية مبني على مبادئ الإسلام وقواعده، والذين آتاهم اللّه من الموهبة والمقدرة ما يمكنهم أن يقارعوا به أئمة الفكر ممن لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ويجاذبوهم بحبل حتى يبسطوا سلطان سموهم الفكري على عقولهم وأذهانهم ويرغموهم على الاستسلام لزعامتهم الفكرية والعقلية. ثم تأخذ هذه الحركة تنمو صُعداً مع ما لها من السيادة الفكرية والعقلية، مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع الإنساني، لأنه في مثل هذا الكفاح والمقاومة يُمتحن القائمون بالدعوة وحاملوا لوائها بأنواع من المصائب والشدائد فيقاسون الآلام والأهوال ضرباً وقتلاً وإجلاء عن الوطن، ويبذلون مهجهم وأرواحهم بكل صبر وجلد وإخلاص وعزم قوي، ويبتلون بالشدائد ويفتنون، فيخرجون منها كالتبر المسبوك، وانهم خلال هذا الكفاح، وطوال مدة هذا النضال والصراع يمثلون ـ بكل ما يقولون وبكل ما يعملون ـ النظرية التي قاموا بالدعوة إليها، ويظهر من ما يصدر عنهم من قول أو عمل أن الدولة الفكرية التي يدعو إليها أمثال هؤلاء الرجال الذين قد استولوا على الأمد في الصدق والعفاف وصفاء السريرة والإخلاص في العمل والاستمساك بالمبادئ والتجرد عن الأغراض والشهوات ـ لابد أن يكون فيها سعادة للبشر وسلام ودعةٌ للإنسانية المعذبة، فهناك تنجذب إلى هذه الدعوة أفئدة الذين يوجد فيهم شي من الخير والصلاح، وأما أصحاب الطباع الفاسدة والذين في قلوبهم مرض ممن يتبعون الأهواء والشهوات فسوف تختفي أصواتهم ويضمحل نفوذهم شيئاً فشيئاً بازاء تيار الحركة الجارف وسيرها الحثيث، وهكذا يحدث انقلاب عظيم في أفكار العامة وتتعطش الحياة الاجتماعية إلى هذا النظام المخصوص من الحكم وهناك لا يستطيع أن يحيى في هذا المجتمع الثائر المتبدل نظام آخر غير الذي أعدت له المعدات، وتهيأت له العوامل. ولعمر الحق أن هذا النظام الجديد إذا قام وتشكلت هيأته مرة فلا يعوزه رجال أكفاء للمناصب العديدة المتشعبة في إدارة الحكومة من الموظفين إلى النظار (المديرين) والوزراء والقواد وذلك بفضل منهاج التعليم والثقافة الذي أجملت الإشارة إليه آنفاً)[27].
وسارت الجماعة الإسلامية وأميرها في ميدان التربية بنشاط وحيوية، فقد حاضر المودودي في القانون الإسلامي وطرق تنفيذه، ثم كتب (الدستور الإسلامي) عام 1952م وعقدت اجتماعات بين كبار علماء الدين في باكستان عام 1951م تم الاتفاق فيها على البنود الأساسية للدستور الإسلامي بحضور (31) عالم من كبار علماء الفريقين[28]. والمودودي (رحمه اللّه) يعترف بوجود صراع بين جماعته، وبين قوى الباطل، ولكن يرى أن حسم الصراع يتم بأسلوبين:
الأول: أسلوب التزام الأخلاق والنظام في مواجهة الجماعات والقوى السياسية الأخرى يقول المودودي في ذلك:
(ما انتم إلا جماعة قليلة قد برزتم إلى الميدان بيسير من الوسائل مع أن المهمة التي تواجهكم هي أن تغيروا نظام الحياة الحاضر لا بصورته الظاهرة فحسب بل بروحه الباطنة أيضاً متحدّين قوى الفسق والجاهلية التي تزيد عن قوتكم بآلاف المرات ووسائلها أضعاف مضاعفة من وسائلكم انظروا انه لا نسبة بينكم وبينها من جهة العدد ولا من جهة العتاد فأذن أي قوة غير قوة الأخلاق والنظام يمكن على أساسها أن ترجوا الغلبة على هذه القوى الباطلة، ورجحان كفتكم على كفتها؟ أن الناس إذا اعترفوا لكم بعلو في الأمانة باستقامة أخلاقكم ونزاهة تصرفاتكم في جانب، وفي الجانب الآخر إذا كنتم متمتعين بنظام محكم بحيث يمكن للمسؤولين في الجماعة أن يحشدوا قوتها على أي ثغرة من ثغور الجهاد بلمحة من البصر وبأدنى من الإشارة فانه من الممكن أن تتوقعوا النجاح)[29].
الثاني: الأسلوب الديمقراطي الكفيل بدعوة الناس إلى اختيار النظام الإسلامي ورجاله إذ أن الجماهير المسلمة التي تربت على الفكر والسلوك الإسلامي على يد الجماعة لا يمكن أن تختار غير النظام الإسلامي وشخصياته، والذي يبدو إن المودودي لم يشك في أن قانون العلة والمعلول الذي يجري في الظواهر الطبيعية قد لايجري في الميدان الاجتماعي بذات الصرامة التي يجري فيها في الحقل الطبيعي.
وينطلق المودودي في موقفه السلمي في الصراع السياسي من اعتقاده بان الثورة والعنف ترافقها مفاسد حتمية ناشئة من ظروف الثورة ونتائجها، في حين أن الإصلاح السلمي عملية هادئة حكيمة تتناول المفاسد وتعالجها بدقة، دون أن تخلف مفسدة أخرى كما هو الحال في أسلوب الثورة.
فقد كتب في بيان ذلك.
(إن الإصلاح والثورة يقصد من ورائهما جميعاً إصلاح حالة فاسدة، ولكنه يكون هناك فرق جوهري بين محركاتهما ومناهج عملهما. فالإصلاح يكون ابتداؤه من التروي والتفكير وذلك أن المرء يدرس الأوضاع القائمة بقلب هادئ وبروية وإمعان نظر، ويفكر في أسباب الفساد ويقيس حدوده ويبحث عن تدابير إزالته وإذا تصدى لمحوه فلا يستخدم قوة الهدم والتخريب إلا إلى الحد الأدنى الذي لابد منه وأما الثورة بخلاف ذلك فيكون ابتداؤها من السخط والغضب واضطرام الحقد والإلحاح على النقمة، فيؤتى بفساد آخر في رد فساد أول، ويقاوم التطرف الذي أدى إلى ذلك الفساد بتطرف آخر يأتي فيقضي على الحسنات أيضاً مع السيئات. ولا شك في انه يضطر المصلح في كثير من الأحيان أن يصنع مثل ما يصنعه الثوري. فكلاهما يأخذ مبضع التشريح ويعمد إلى الموضع المريض من الجسم. ولكن الفرق بين الاثنين هو أن المصلح يقدر من ذي قبل أين الفساد في الجسم وكم هو؟ فيستعمل مبضعه بقدر لابد منه لإزالة الفساد ويهيئ بجانب عمل مشرحه بلسماً شافياً لكي يضعه على الجرح من الفور، ولكن الثوري ـ بخلاف ذلك ـ يعمل مبضعه في الجسم في فورة الغضب بدون حيطة أو حذر، ويروح يقطع أجزاءه بدون تمييز بين الصالح منها والفاسد، ولا يخطر بباله أن يستعمل البلسم وان خطر فبعد أن يكون أثخن في القطع والبتر ويتنبه لخطئه في العمل عقب ما يضيّع جزءاً كبيراً من الجسم)[30].
وفي الواقع أن الظرف السياسي الناشي من انفصال الباكستان عن الهند فرض إيحاءاته على الجماعة الإسلامية، وأميرها الذي طالب بدخول الدولة إلى الإسلام كمرحلة أولى ثم نقل السلطة إلى رجالات الإسلام، ثم البدء بتغيير المجتمع أو إكمال عملية التغيير. فهو قسم عملية أسلمة الدولة إلى ثلاثة مراحل، على أن تتم هذه المراحل بشكل طبيعي، وسلمي نتيجة الجهود التربوية الإسلامية التي سبقت عملية تشكيل دولة باكستان.
هذه كانت أهداف حركة الجماعة الإسلامية في باكستان بشكل مختصر.
د ـ تقييم عمل الجماعة:
يمكن تقييم هذه الحركة عبر النقاط التالية:
أولاً: هذه الحركة شبيهة بحركة الأخوان المسلمين في مصر في خطها الإصلاحي والتربوي الإيجابي، وفي فكرها السياسي الإسلامي الذي يتركز على صلاحية الإسلام لقيادة الدولة والمجتمع. ولكن الجماعة الإسلامية في باكستان اتجهت وجهة سليمة محضة، في حين أن الأخوان المسلمين لوحوا باستعمال القوة لحسم الصراع السياسي مع السلطة إذا لم نقل انهم ساروا خطوات في هذا الميدان، فالحركة الإسلامية في باكستان بقيادة المودودي أنجزت أهدافاً فكرية هامة حيث طرحت الإسلام طرحاً حضارياً، كما أنها ساعدت في تحقيق استقلال باكستان عن حكومة الهند عام 1947م، إذ أن الأساس الوحيد الذي انفصلت بموجبه جمهورية باكستان عن الهند هو الهوية الإسلامية للشعب الباكستاني المغايرة للهوية الهندو كية للشعب الهندي، ولكن مع ذلك يمكن تسجيل الملاحظات التالية.
ثانياً: رغم أن دولة باكستان الجديدة قامت أساساً بفعل المطاليب الجماهيرية الإسلامية في باكستان، إلا أن الدولة المذكورة اتجهت اتجاهاً مغايراً لرغبة الجماهير حيث راحت تخدع الجماهير يقول المودودي نفسه:
(إن الزعماء الذين ما نالوا في الهند المتحدة أصوات جمهور المسلمين ولا كسبوا ثقتهم وتأييدهم إلا باسم الإسلام، وعلى الوعد بتنفيذ أحكام شريعته لما تسلموا زمام الأمر وتبوئوا مناصب الحكم في باكستان بعد قيامها أرادوا أن يقنعوا الجمهور بالإقلاع عن فكرة تنفيذ الشريعة في العصر الحديث عصر العلم والحضارة والنور وبصحة أن يبقى النظام القانوني لدولتهم الجديدة قائماً على نفس الأسس التي كان يقوم عليها في العهد البريطاني وهم لهذا الغرض بذلوا المحاولات تلو المحاولات للفرار من الشريعة الإسلامية ورميها بكل نقيصة حتى يشككوا الجمهور في صلاحيتها لتلبية حاجات الناس ومطالبهم في دولة عصرية جديدة)[31].
فالحركة الإسلامية في باكستان نجحت في تعبئة الجماهير لإنجاز الاستقلال… بيد أن الذي استلم السلطة فئة من المسلمين لم يستوعبوا الإسلام كحركة سياسية، وحضارية كما طرحته الجماعة الإسلامية، بل حاولوا الاحتفاظ بالأصول القانونية التي تعود إلى ما قبل الانفصال ولا نعرف بالضبط كيف تسلمت هذه الفئة السلطة، وسلكت منهجاً يغاير منهج الجماهير حيث المفروض أن الجماعة الإسلامية خاضت عمليات الإعداد والتربية الإسلامية الطويلة والتي سبقت الاستقلال!.
ثالثاً: ركزت الحركة على جانب التربية الفكرية والسلوكية، واعتبرته قطب التغييرات العفوية، والأساسية في المجتمع، ولم تعط الأهمية ذاتها للجانب السياسي العملي، رغم أنها طرحت نظريات الإسلام السياسية، وكتبت مشروع الدستور الإسلامي الذي تضمن مواداً و أفكاراً متطورة بعد تشكيل دولة باكستان المستقلة.
و هذا الفصل بين التربية، وبين العملية السياسية أوجد ثغرة تسلل منها بعض الأشخاص للعمل السياسي وقيادة الدولة حيث اكتفت بالمظاهر الإسلامية لاحتواء الموجة الجماهيرية. ومن الواضح أن العملية التربوية الإسلامية لا تأخذ حجمها وأبعادها بمعزل عن سلطة الدولة وإمكاناتها في التربية والتوجيه، كما أن تطبيق الإسلام في المجتمع من دون المرور بالدولة وسلطتها عملية صعبة إذا لم نقل مستحيلة، فعملية تطبيق الإسلام ينبغي أن لا تنفصل عن التصدي للعمل السياسي، وقيادة الجماهير باتجاه تحقيق حاكمية الإسلام.
رابعاً: تصورت الجماعة الإسلامية أن الظفر بالسلطة قضية خاضعة لحجم التطور التربوي الإسلامي للمجتمع فإذا خاضت الجماعة ميدان التربية ونجحت في إعداد الكفاءات والطاقات المسلمة فان ذلك كفيل بوضع السلطة تحت تصرف المسلمين المخلصين.
و في الواقع أن أهمية عملية التربية والإعداد لا يمكن التقليل منها بيد أن مسالة السلطة ليست ظاهرة طبيعية يجب التعامل معها على أساس قوانين العلة والمعلول، صحيح أن قيام الدولة وسقوطها ظاهرة اجتماعية ولها سننها الخاصة بها، إلا أن من الصحيح أيضاً أن عمل الإنسان الواعي النشط يقع في صدر تلك السنن أضافة إلى دور عملية التغيير الاجتماعي… إذ من الممكن أن يبادر فئة من الناس من خارج الأفراد الذين عاشوا العملية التربوية، ويستولوا على السلطة ثم يقوموا بتربية المجتمع على نمط فكري مغاير للنمط المطروح سابقاً كما يمكن لفئة من المسلمين قيادة السلطة، وتربية المجتمع على القيم الإسلامية وتركيزها في الحياة. وهذا ما حصل في مصر من قبل حيث أدى التردد في حسم الصراع السياسي لصالح الإسلام إلى ضياع فرصة ثمينة أمام الشعب المصري لتطبيق الإسلام لا تتوفر إلا بعد تجارب مريرة أخرى، وكذلك حصل جزئياً في الباكستان.
إذ رغم أن دولة الباكستان الجديدة انفصلت باسم الإسلام، ورغم إرادة الجماهير الباكستانية، وتعلقها بالإسلام، وأحكامه إلا أن مجموعة من أصحاب القدرة استطاعت التسلل إلى قيادة الدولة، وأبعدت الجماهير عن أهدافها الأساسية. من هنا نقول أن عملية الثورة وممارسة العنف إذا توفرت شروطه وظروفه السياسية لحسم الصراع السياسي لصالح حركة الإسلام أمر لا مفر منه.
و هذا لا يعني أننا نؤمن بفتح الصراع السياسي وبجميع أشكاله في الساحة، أنما نعني ضرورة الإيمان بالفكرة والقيادة الثورية في حسم الصراع السياسي مع النظام الطاغوتي، وهذا ما فعلته الثورة الإسلامية في إيران، ونجحت حيث قادت الجماهير الإسلامية في حركة شعبية رائعة، وأسقطت النظام المستبد وأقامت الحكم الإسلامي في إيران، وهذا ما سار عليه الإمام الصدر في مراحل متقدمة من الثورة الإسلامية في العراق.
ركائز حركة الإمام الصدر (قده)
بعد أن القينا ضوءاً خاطفاً على معالم حركتين إسلاميتين مشهورتين، نحاول إبراز أهم خصائص حركة الإمام الصدر التي ميزتها عن تلكما الحركتين، ورغم أننا أشرنا إلى تلك الخصوصيات في إطار أعماله ونشاطاته ومواقفه سواء في داخل الحوزة، أو في الساحة العامة، إلا انه من الضروري هنا بحث أهم تلك الخصوصيات بصيغة مباشرة ليتاح للقارئ معرفة نقاط القوة في منهجه العملي في إطار مقارنة مع الحركة الإسلامية في باكستان وفي مصر. وفي الواقع يمكن معرفة تلك الخصوصيات ضمن النقاط التالية:
أولاً: القيادة المرجعية:
ترتكز حركة الإمام الصدر على الإيمان بدور المرجع الديني في قيادة الحركة السياسية، وقيادة نشاطات المجتمع. وهذه الفكرة تميز بها المذهب الشيعي الذي ينتمي إلى خط أهل البيت (ع). والمرجع الديني هو الشخص الذي عاش في أحضان الحوزة، وتخرج في مدارسها، وبلغ الذروة في الكمال الروحي والسلوكي، وكسب مرتبة الاجتهاد في الأحكام الإسلامية.
وهكذا حين يكون الفقيه مجتهداً فان ذلك يعني انه صار محل اعتماد المسلمين في معرفة الحكم الشرعي، وفي معرفة الفكرة الإسلامية الصحيحة، وفي معرفة السلوك الشرعي، وفي تصريف أمور المسلمين وفقاً للحكم الشرعي ومصلحة المسلمين. فالمرجع ـ على هذا الأساس ـ مسؤول عن بيان الأحكام الشرعية في جميع حقول ومجالات الحياة، بما فيها الجانب السياسي… أي مسؤول عن بيان حكم الإسلام في وظيفة المسلمين في ظل النظام الطاغوتي، وهل انهم مكلفون بالثورة، أم مكلفون بالتقية، أو بعمل آخر. كما انه مسؤول عن بيان حكم الإسلام في شروط عقد البيع الصحيح ـ مثلاً ـ أو في بيان شروط الإجارة الصحيحة… وهكذا.
فالمرجع لاتختص مسؤولياته في جانب واحد من جوانب الحياة، على أن تتولى السلطة، أو جهة أخرى مل الفراغ في الجوانب الأخرى إنما هو مسؤول في التصدي لكل تلك الجوانب. وهكذا يتضح موقع المرجع في الأمة، فهو موقع القلب النابض في جسد الأمة، فهو الفقيه الذي يبين أحكام اللّه ـ بما فيها الجوانب السياسية ـ وهو السياسي الذي يشخص مصالح الأمة ويحدد انحرافها وينبهها عليه[32]. وهو الأب لجميع أفراد المجتمع يراعي مصالحهم ويكمل نواقصهم. وهذا ما نطلق عليه بـ (القيادة المرجعية) ومن الواضح أن الشيعة آمنوا بفكرة القيادة المرجعية منذ فجر الغيبة الكبرى، بل منذ الغيبة الصغرى حيث كان أفراد الأمة يتصلون بفقهاء محددين شخصهم الإمام (عج) وأمر بالرجوع إليهم في معرفة الأحكام وقيادة الممارسات الإسلامية، وكانت فئات الأمة على امتداد هذه القرون يتصلون بالعلماء المراجع بوصفهم القيادة الرسالية التي أمر الإسلام بإتباعها واخذ معالم الدين منها. وترسخ هذا السلوك في وعي الأمة واخذ المرجع موقعه الأسمى بوصفه نائب الإمام، فهو الشخص الذي تحترمه فئات المجتمع، وتطيعه في كل أوامره، ونواهيه لأنها أوامر ونواهي الإسلام، فمخالفته مخالفة للّه وطاعته طاعة للّه:
(أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[33].
و قيادة الإمام الصدر هي من نوع القيادات المرجعية التي تستند على تاريخ عريق امتد في عمق الماضي، وتستند على طاعة اللّه وطاعة الرسول، وطاعة صاحب الزمان (عج) الذي أمر الأمة بإتباع الفقيه العالم المتجرد عن النزوات والأهواء، فهي قيادة متميزة، مقدسة.
إن هذا اللون من القيادة الرسالية هو الطريق الكفيل بحماية الشريعة، ورعاية مصالح المسلمين في جميع الأمور، وذلك لان المجتهد هو الشخص العارف بالإسلام، الأمين على مصالح الأمة، المخلص في سعيه الجاد في عمله فلا شك في أن قيادته للامة هي القيادة الموصلة لحفظ الإسلام، وتطبيق أحكامه ورعاية مصالح الأمة دون أن تؤثر فيه نزوة نفسية أو رغبة عاطفية فهو دائماً ينطلق من رضى اللّه ومن التكليف الشرعي في كل واقعة ولن يتراجع عن ذلك حتى لو دفع ثمناً غالياً[34].
ولقد أثبتت الوقائع والأحداث ـ وعلى امتداد التاريخ ـ براعة وقدرة المرجعية الرشيدة في قيادة حركة الإسلام، وفي قيادة حركة الأمة، فعلى امتداد التاريخ السياسي للامة ـ وخصوصاً في العراق وإيران ولبنان والبحرين وغيرها من الدول ـ اثبت المرجع كفاءته وقدرته على صيانة الأمة من الانحراف، وعلى قيادة حركة الأمة على الطريق المستقيم باتجاه الأهداف التي أمر الإسلام بتحقيقها في الحياة، وعلى سبيل المثال لا الحصر نلاحظ دور شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي[35] في حفظ تراث الأمة، وفي تركيز قيمها، وفي إنشاء مدرسة النجف الكبرى، ونلاحظ دور المحقق الحلي (قده)[36] في تطوير الاتجاه الفقهي في إثراء مدرسة أهل البيت بالتفريعات الدقيقة. ومن بعده العلامة الحلي (قده)[37] الذي ارفد الفكر الإسلامي بألوان متعددة من العلوم والأفكار. وهكذا توالت في هذا الاتجاه أسماء عديدة برز منها: الشهيدان، الكركي، الجواهري، الأنصاري، المجدد الشيرازي، الخراساني، شرف الدين، الحكيم، الإمام الخميني، والشهيد الصدر، حيث تولت هذه القيادات مسؤوليات ثقيلة في حفظ الاسلام ورعاية مصالح الأمة، وأدت ذلك بنجاح منقطع النظير.
وفي الواقع أن ثمة خصوصيات في القيادة المرجعية لا توجد في سائر القيادات الإسلامية غير المرجعية[38] ومن أبرزها:
1ـ القدرة على معرفة حكم الإسلام في الوقائع المستجدة في الساحة الإسلامية من خلال باب الاجتهاد الذي فتحه الإسلام لعلماء الأمة فلا تستعصي على الفقيه مشكلة أو حالة لا يعرف حكمها الشرعي إطلاقاً.
إن هذه الخصوصيات تتيح له تشخيص تكليفه الشرعي بوصفه قائداً للامة وتشخيص موقف الأمة من الأوضاع، وموقف الأفراد في شؤون حياتهم التفصيلية.
2ـ إن قيادة الفقيه: إنما هي قيادة رسالية لجميع الأمة، ولكل المسلمين، بل ولجميع المحرومين والمستضعفين في العالم، فهي تحتضن جميع تلك الحركات الإسلامية الهادفة إلى مقاومة الطاغوت، وتحكيم الإسلام في الحياة، من دون أن تكون قيادة رسمية مختصة لهذه الحركة أو لتلك، بل توجه بشكل مباشر أو غير مباشر جميع الحركات والنشاطات الإسلامية الفردية و الاجتماعية التي تستهدف تحقيق غايات الإسلام.
إلا انه ينبغي التأكيد على أن الإمام الصدر أجرى تغييرات مهمة في عمل المرجعية، حيث كتب في هذا المجال بحثاً مهماً سماه (المرجعية الصالحة، طرح فيه أفكاره عن ضرورة إجراء تغييرات أساسية في عمل المرجعية، وفي جهازها العام الذي تعتمد عليها بالشكل الذي يسمح لها بممارسة المسؤوليات الجديدة التي تختلف عن المسؤوليات التي حمل أعبائها المراجع في الأزمنة السابقة تبعاً لتغيير الظروف، وتبعاً لاختلاف التحديات التي يواجهها الإسلام)[39].
ثانياً: الاتصال المباشر بالجماهير:
ثمة خصوصية فريدة تتجلى بها قيادة الفقيه وهي الاتصال المباشر بأفراد الجماهير، والإطلاع الكامل والتفصيلي بشؤونها ومشاكلها وآمالها.
و في الواقع أن القيادة المرجعية امتازت بدقتها وبراعتها في الاتصال مع الجماهير والتعامل معها، وتوجهها الوجهة الإسلامية، وقد اكتسبت هذه البراعة نتيجة التجربة الطويلة التي خاضها جهاز القيادات الفقهية على امتداد تاريخه، حيث تتناقل تلك التجارب وتستثمرها في علاقتها مع الجماهير.
و في ضوء ذلك نستطيع أن نقول: إن ثمة خصوصية تُميّز قيادة الفقيه هي: قدرة قيادة الفقيه على الاتصال بالناس والتأثير المباشر بهم. وقد برع الإمام الصدر في هذا المجال، فقد كانت اتصالاته الجماهيرية عامرة بالحب، مليئة بالحيوية التي يفيضها على جلسائه من العمال، والفلاحين، والطلبة، والموظفين، والجنود في غرفته الصغيرة. أن هذا الخلق الرفيع دفع بالجماهير إلى القيام بتظاهرات جماهيرية ضخمة طافت شوارع النجف الاشرف حين سمعت عن اقتراحه بمغادرة العراق إلى إيران نتيجة الضغوط الرهيبة التي سلطها عليه حزب البعث، فقد اندفعت تلك الجماهير، ولم تترك النجف إلى أن خرج الإمام الصدر بنفسه وحدث هذه الحشود الجماهيرية، ووعدها بأنه سوف يبقى إلى جانبها في محنتها ولن يترك العراق ولو كلفه ذلك حياته!.
ثالثاً: عملية التغيير:
رغم أن بعض الأهداف التي رفعتها الحركات السياسية الإسلامية سابقاً كان هو تغيير محتوى الإنسان والمجتمع، وان ذات الهدف حمله الإمام الصدر، إلا انه ثمة فرق بين مسار الحركات المذكورة، ومساره في تحديد خطوات التغيير، وفي عمق هذا التغيير. فالتغيير الفردي والاجتماعي عند الإمام الصدر عملية ذات جانبين: جانب مهم يتصل بالرسالة، وهذا الجانب ذو صفة ربانية لا يخضع لعنصر الإرادة الفردية، وجانب يتصل بقوة إرادة الفئة المؤمنة، وحجم المقاومة الفردية والاجتماعية، وقوة التحدي التي تواجه عملية التربية من قبل الأمم الأخرى.
(و عملية التغيير في هذا الجانب عملية بشرية يكون المسلمون اناساً كسائر الناس تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات، وفي بقية الفئات على مرّ الزمن)[40].
فعملية التغيير ليست عملية غيبية محضة لايوجد للفعل الإنساني فيها دور، وليست عملية بشرية محضة ليس فيها للفعل والتخطيط الإلهي دور، بل هي مزيج من هذين الفعلين. وذلك على خلاف حركة الجماعة الإسلامية، التي اعتقدت أن عملية التغيير السياسي للامة عملية عفوية تحدث بنفسها بعد الفراغ من عملية التربية كما أن عملية التغيير الفردي يقترن معها عند الإمام الصدر ـ تغيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، إذ أن التغيير الفردي المنقطع عن التغيير الاجتماعي، سوف يواجه ضغوط المؤسسات الاجتماعية الفاسدة، وبالتالي ستهبط قوة تأثيرها في العلاقات والنشاطات الاجتماعية كما أن عملية تغيير المؤسسات الاجتماعية لا تنفصل عن عملية التغيير السياسي، وهكذا ينبغي اقتران عملية التغيير الفردي مع التغيير الاجتماعي وهما معاً مع التغيير السياسي. صحيح انه يمكن العمل في دائرة التغيير الفردي بحرية اكبر في ظل أوضاع سياسية خانقة، إلا أن هذه الحرية لاتجعلنا نعتقد بصواب الفصل بين الدوائر الثلات لعمليات التغيير.
و في الواقع أن الفصل بين هذه الدوائر خطأ كبير وقعت فيه حركة الأخوان في مصر، وحركة الجماعة الإسلامية في باكستان في مفهومها عن عملية التغيير وفي هذا المجال يكتب الإمام الصدر:
(فمن الضروري لإصلاح الحياة الإنسانية وتهذيبها أن يتناول الإصلاح الإنسان نفسه، وان يعاد تكوينه من الداخل على نحو يجعله متجاوباً ومنسجماً مع فطرته، ومع أهدافه العليا،مع واقعه، ومن الضروري أيضاً لإصلاح الحياة الإنسانية وتهذيبها أن يتناول الإصلاح المؤسسات الاجتماعية التي يمارس الإنسان حياته في اطرها، وان تطور هذه المؤسسات نحو الأحسن والأفضل، نحو المستوى الذي يتيح للإنسان أقصى قدر مستطاع من السعادة في هذه الحياة الدنيا، وحين يتم هذا وذاك نضمن إلا ينحرف الانسان بالمؤسسات الاجتماعية نحو الشر والفساد ونظم الا تسهم المؤسسات الاجتماعية في إفساد الإنسان وبعثه إلى صنع الشر وممارسته)[41].
إن المؤسسات الاجتماعية والسياسية تعمل بصورة متفاعلة متشابكة في التأثير على الإنسان وعلى أوضاعه المعيشية، فلايمكن الفصل بينها في ميدان البحث والنظر. بل أن الفصل بينها يؤدي إلى حصول تأثيرات سلبية على عمل كل منهما وفي هذا المجال كتب الإمام الصدر حين قدم أطروحة البنك اللاربوي في الإسلام قائلاً:
(إن الشخص الذي يتاح له الموقف الأول ـ أي أن يكون البنك في إطار الحكم والمجتمع الإسلامي القائم على أسس الإسلام ـ يمكنه أن يصوغ أطروحة البنك اللاربوي بشكل ينطبق على أحكام الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً ويساهم في تحقيق الأهداف الرئيسية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي في توازن اجتماعي، وعدالة في التوزيع، وغير ذلك ولايمنى بتناقض بين أطروحة البنك اللاربوي وباقي جوانب المجتمع، وذلك لان الموقف الأول يعني أن تنظيم كل جوانب المجتمع على أساس الإسلام ومع وحدة الأساس للتنظيم الاجتماعي في كل المجالات لا يبقى مجال للتنافر أو نشوء المضاعفات إلا تلك المضاعفات التي قد تنشأ من ضغوط المجتمعات الأخرى الربوية التي تعايش المجتمع الإسلامي)[42].
و هناك جانب مهم في نظرية التغيير عند الإمام الصدر وذلك هو: عمق التغيير الذي يستهدف إيجاده في الفرد والمجتمع. فالتغيير الفردي ينبغي أن يكون عميقاً، ويتناول جميع جوانب الشخصية الفردية، بحيث يتناول عاطفة الإنسان وفكره وسلوكه، أي يتناول ظاهر الإنسان كما يتناول باطنه وفي ذلك كتب:
(إن العقيدة الإسلامية كما يجب أن تكون قاعدة فكرية للشخصية الإسلامية وحجر الزواية في تفكيرنا ومفاهيمنا كذلك يجب أن تكون قاعدة للعواطف الفكرية أي العواطف التي ترتكز على مفاهيم فكرية معينة)[43].
و كتب أيضاً:
إن (العناصر الثلاث: الروح، والعقل، والخُلق عناصر أساسية في الشخصية الإسلامية ولايمكن أن توجد شخصية إسلامية خالية من هذه العناصر أو بعضها فلابد من عقل حي متفتح، ولابد من خُلق عال نموذجي، ولابد من روح شفاف نظيف لأجل أن توجد الشخصية الإنسانية النموذجية)[44]. كما أن عمق التغيير ينبغي أن يتناول مؤسسات المجتمع، والأفكار الأساسية التي تتناول بناء تلك المؤسسات على أساس الإسلام، من هنا نلحظ عمق الدراسات التي كتبها الإمام الصدر لبناء الفكر الإسلامي والمؤسسات الإسلامية، وفي هذا المجال كتب يقول وهو يّقدم لكتاب اقتصادنا: (إن هذا الكتاب ـ أي اقتصادنا ـ لا يتناول السطح الظاهري للاقتصاد الإسلامي فحسب ولا يعني بصبه في قالب أدبي حاشد بالكلمات الضخمة والتعميمات الجوفاء، وإنما هو محاولة للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام، وصبها في قالب فكري ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي ثري بفلسفته وأفكاره الأساسية، واضح في طابعه ومعالمه واتجاهاته العامة، محدد في علاقته وموقفه من سائر المذاهب الاقتصادية الكبرى، مرتبط بالتركيب العضوي الكامل للإسلام)[45].
رابعاً: موقف الإمام الشهيد من العمل العسكري:
ينظر الإمام الصدر إلى العمل العسكري ضد النظام الطاغوتي نظرة عميقة، فهو يؤكد على ضرورة تسلم زمام السلطة والإدارة من قبل الإسلام، ويستحسن الطرق السلمية،التربوية، ولكنه لايستبعد العمل العسكري إذا توفرت الظروف والشروط التي تقتضي القيام بعمل عسكري.
بيد انه يرى لزوم توفر قاعدة شعبية تسند العمل العسكري وتمنحه الوسائل والإطارات الضرورية لتسلم الحكم، فالانقلابات الفردية والفئوية التي لاتستند على قاعدة جماهيرية لاتحضى بدعم الإمام الصدر. لأنها تعبر عن مغامرة للحصول على السلطة بأي ثمن ويبين نظرته هذه بالقول:
(قد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال وهو أن إيجابية الأئمة (ع) هل كانت تصل إلى مستوى العمل لتسلم زمام الحكم من الزعامات المنحرفة، أو تقصر على حماية الإسلام والرسالة الإسلامية، ومصالح الأمة من التردي إلى الهاوية وتفاقم الانحراف؟ وجواب ذلك:
إن الفكرة الأساسية للجواب المستخلص من بعض النصوص والأحاديث المتعددة أن الأئمة (ع) لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلح آنياً كافياً لإقامة دعائم الحكم على يد الإمام. أن إقامة هذا الحكم وترسيخه لايتوقفان في نظرهم على مجرد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً، ويعيش أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحرس ما يحققه للامة من مصالح، وكلكم تعرفون قصة الخراساني الذي جاء إلى الإمام الصادق (ع) يعرض عليه تبني حركة الثوار الخراسانيين، فاجل جوابه ثم أمره بدخول النار فرفض، فجاء أبو بصير فأمره بذلك فسارع إلى الامتثال فالتفت الإمام إلى ثوار خراسان وقال: لو كان بينكم أربعون مثل هذا لخرجت لهم، وعلى هذا الأساس تسلم أمير المؤمنين زمام الحكم في وقت توفر ذاك الجيش العقائدي متمثلاً في الصفوة المختارة من المهاجرين والأنصار والتابعين)[46].
و إذا كان الإمام الصدر لا يضع الاعتراضات أمام الأسلوب الثوري لإسقاط النظام الطاغوتي، فانه لا يقدم عليه حتى مع توفر الجيش العقائدي إلا إذا انعدمت البدائل الأخرى، وبقي الخيار العسكري الوسيلة الوحيدة أمام القيادة الإسلامية، والجماهير المظلومة لتحقيق أهدافها الإسلامية، وتحديد هذا الأمر أنما يخضع لدراسة الظروف والأحوال القائمة في البلد.
فهو لا يطرق باب السلاح والعمل العسكرى عند بداية المواجهة، ولا يتراجع عن مواقفه السياسية، إنما يمارس الوسائل الأخرى لتحقيق حاكمية الإسلام حتى إذا واجه الخيار العسكري كوسيلة وحيدة لإقامة حكم اللّه، فانه لن يتردد في ممارسة، وفي هذا المجال كتب:
(و على هذا الأساس نستطيع أن نقول أن الفكرة الإسلامية فكرة انقلابية ثورية لأنها تضع للإنسان قواعده الرئيسية التي تتبلور طبقاً لها شخصيتة الروحية والفكرية من نظرة عامة نحو الحياة و الكونا ومقياس عملي اعلى في الحياة وطريقة عقلية عامة في التفكير، ثم تقيم المجتمع على أساس تلك الأسس التي كونت منها شخصية الإنسان الكاملة، فالمسألة في نظر الإسلام هي صنع أنسانية الإنسان بخصائصها الروحية والفكرية التي تتيح لها القيام بأعبائها ورسالتها في العالم وليست ترميماً وإصلاحاً لجانب اجتماعي فقط.
هذا من ناحية الفكرة التي يتبناها الإسلام وأما من ناحية الطريقة التي
يجب أن تنفذ الفكرة وفقاً لها، فلم يضع لها خطوطها المحددة وتفاصيلها الثابتة في كل الأحوال كما صنعت الماركسية حيث أن الانقلاب الثوري هو الطريق الوحيد لتطبيق مفاهيمها.
فالإسلام من ناحية الطريقة لا يجد من الضروري أن يكون انقلاباً ثورياً كما كان في فكرته، و إنما يفسح المجال للانقلابية الثورية في حدود الشروط الصارمة التي تفرضها عليه مثله وقيمه العليا ويسمح باستعمال مختلف الأساليب والألوان التي تتفق مع تلك المثل والقيم. و هكذا نعرف أن الإسلام انقلابي ثوري في فكرته ومرن في طريقته التي يجب أن تحدد على ضوء الملابسات والظروف ومقتضيات الأحكام الشرعية العامة في باب الجهاد، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وباب التبليغ والتعليم وباب التقية وغيرها من الأبواب)[47].
و بهذه الركائز تتميز أفكار الإمام الصدر ونهجه التغيري عن أفكار وأساليب الحركات الإسلامية في مصر وباكستان، وتكتسب تلك الأفكار أبعاداً واسعة قادرة على رؤية موقعها في كل الظروف والأحوال، وقادرة على الفعل المؤثر في الساحة الاجتماعية مهما تعاظمت الضغوط السياسية عليها.
شَيْخ نوري حَاتم
[1]. الفكر الاسلامي المعاصر/ غازي التوبه/ ص 198.
[2]. راجع الفكر الاسلامي المعاصر/ ص 198 وما بعدها.
[3]. حسن البنا… متى… وكيف… ولماذا؟ لجودت سعيد/ ص 74ـ80.
[4]. راجع كتاب حسن البنا/ نقلاً عن رسالة دكتوراه للسيد محمد عشماوي/ ص 205.
[5]. راجع كتاب الشيخ حسن البنا ومدرسة الاخوان المسلمون/ ص 460.
[6]. راجع كتاب الشيخ حسن البنا ومدرسة الاخوان المسلمون/ فصل النظام الاساسي للاخوان.
[7]. راجع كتاب الشيخ حسن البنا ومدرسة الاخوان المسلمون/ فصل النظام الاساسي للاخوان.
[8]. كيف يفكر الاخوان المسلمون/ ص 87.
[9]. الشيخ حسن البنا ومدرسة الاخوان/ ص 124.
[10]. كيف يفكر الاخوان المسلمون/ ص 88.
[11]. ومنهم صاحب كتاب: كيف يفكر الاخوان المسلمون وصاحب كتاب حسن البنا كيف… ولماذا…و متى؟.
[12]. الشيخ حسن البنا ومدرسة الاخوان المسلمون / ص 123.
[13]. راجع كتاب حسن البنا/ للدكتور سعيد جودت.
[14]. حسن البنا / ص 80.
[15]. حسن البنا/ ص 150.
[16]. رغم ان الحركة الاسلامية في الجزائر خاضت الانتخابات البرلمانية ونجحت في ذلك وكانت قاب قوسين او ادنى من الوصول للحكم، الا ان السلطات الحاكمة الغت نتائج الانتخابات واعتقلت قيادة الحركة الاسلامية وشنت حرب تصفيات ضد الاسلاميين على امتداد الجزائر… ولا تزال.
[17]. مبادئ الاسلام/ ص 4/ ابو الاعلى المودودي.
[18]. مبادئ الاسلام/ ص 21/ ابو الاعلى المودودي.
[19]. منهاج الانقلاب الاسلامي/ ص 35.
[20]. نظرية الاسلام وهديه/ ص 160.
[21]. نحن والحضارة الغربية/ ابو الاعلى المودودي ص 317.
[22]. منهاج الانقلاب الاسلامي/ ص 34.
[23]. واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم/ ص 203.
[24]. موجز تاريخ تجديد الدين واحيائه/ ص 42.
[25]. منهاج الانقلاب الاسلامي/ ص 28، وراجع كتاب واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم/ ص 206.
[26]. القانون الاسلامي وطرق تنفيذه/ مؤلف ص 49.
[27]. منهاج الانقلاب الاسلامي/ ابو الاعلى المودودي/ ص 21 ـ 23.
[28]. راجع اللائحة كاملة في ص 369 من كتاب نظرية الاسلام وهديه.
[29]. تذكرة دعاة الاسلام/ ص 74.
[30]. نحن والحضارة الغربية / ابو الا على المودودي/ ص 194ـ 195.
[31]. القانون الاسلامي وطرق تنفيذه/ من المقدمة ص 4.
[32]. وهذا لا يعني ان كل فقيه قادر على الفعل والقيادة السياسية انما نحن بصدد ملامح القائد… لا مطلق الفقيه.
[33]. النساء/59.
[34]. لقد دفع الامام الصدر (قده) حياته ثمناً للفتوى التي افتى بها بحرمة الانتماء لحزب البعث، ولقد اصر على التمسك بها رغم الخيار الصعب الذي وضع امامه حيث خير بين سحب الفتوى او الموت، فاختار الشهادة على ان يكتم حكماً شرعياً واحداً.
[35]. ولد في عام 385 هـ وتوفي عام 460 هـ .
[36]. ولد في عام 602 هـ وتوفي عام 676 هـ .
[37]. ولد في عام 648 هـ وتوفي عام 738 هـ .
[38]. ولو فرض عدم وجود المرجع المؤهل لقيادة الامة سياسياً فانه يمكن للمجتهد الجامع للصفات تولي مسؤوليات القيادة.
[39]. يراجع فكرة المرجعية الصالحة في بحثنا عن نشاطات الإمام الصدر كما يراجع الى كراس (المرجعية الصالحة) لمعرفة المزيد عن نظريته في هذا المجال الحيوي.
[40]. راجع المدرسة القرآنية / ص 47 ـ 49.
[41]. رسالتنا/ الشهيد الصدر ص 63.
[42]. البنك اللاربوي في الاسلام / للسيد الشهيد الصدر/ ص 6.
[43]. رسالتنا / الشهيد الصدر / ص 13.
[44]. رسالتنا / الشهيد الصدر / ص 94.
[45]. اقتصادنا / الشهيد الصدر / ص 35.
[46]. اهل البيت تنوع ادوا ووحدة هدف / ص 144.
[47]. رسالتنا / ص 63.