الاهداء
إلى المفكر الاسلامي آية العظمى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر رضوان اللّه عليه أقدم هذه الصفحات مليئة بالحب وعرفان الجميل
المؤلف 1416 هـ
المقدّمة:
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد : لم أجد للتقديم لهذه الابحاث خيراً من هذه الكلمات التي كتبتها في جمادى الثانية عام 1401 هـ لتكون ((كلمة التحرير)) لمجلة ((الجهاد)) الشهرية التي كانت تصدر بإشرافي في طهران منذ العدد الاول الصادر في جمادى الاولى عام 1400 هـ حتى العدد السادس عشر الصادر في شعبان 1401 هـ حيث تركت الاشراف على المجلة المذكورة التي احتجبت عن الصدور بعد العدد المذكور بعد أحداث مريرة مرت بها الحركة الاسلامية العراقية في ذلك الوقت نأمل أن تحفظها ذاكرة التاريخ، فترويها للاجيال صريحة دون تعتيم أو تزييف . وما عند اللّه خبر للابرار.
أجل رأيت من الانسب أن أقدم لهذه الابحاث بكلمة التحرير التي كتبتها لمجلة ((الجهاد)) في عددها الرابع عشر في ذلك التاريخ حيث صادف صدور العدد المذكور الذكرى السنوية الاولى لشهادة الاُستاذ الامام آية اللّه العظمى السيد محمد باقر الصدر قدس اللّه نفسه الزكية.
وهذه هي الكلمات التي حملتها ((كلمة التحرير)) المذكورة: ((ان إبراهيم كان أُمة قانتاً للّه حنيفاً ولم يكُن من المشركين)).
قليل من الرجال يعيشون بين أممهم، لا كأفراد وانما يعيشون ويموتون كقضية تترك بصماتها بقوة ووضوح على مسيرة حياة شعوبهم في الفكر والعمل والتوجيهات.
ان اختراق هذا النمط من الرجال ((لحواجز الفرد)) يأتي ضمن مواصفات وشروط لا تتوفر إلاّ لقلة قليلة من الرجال.
وحتى هذه المواصفات التي تكسر حواجز ((الفردية)) وتحوّل اولئك الرجال إلى ((قضية)) تختلف فيما بينهم.
فمنهم من يبرز كبطل وطني يصعِّد قضية الصراع بين شعبه وغاصبيهم من غزاة محتلين أو طغاة محليين ويرسم لشعبه منحنى الخلاص.
ومنهم من يطرح بين يدي أمته ((اطار الخلاص)) من خلال صيغ فكرية تبلور مواقف الامة وتثري المسيرة وتوفر مبررات الانعتاق.
وقلما يشهد التاريخ نموذجاً من الرجال يقدم ((اطروحة الخلاص)) ويتحرك بمستوى المضمون على طريق القيادة لامته للوصول بها إلى ساحل الخلاص حيث يبرز في هذه الظاهرة ((المفكر القائد)) بوضوح وقوة.
لقد كان محمد باقر الصدر رضوان اللّه عليه مصداقاً حياً لظاهرة ((المفكر القائد))، وقد تحرك على مستوى هذه الظاهرة حتى توج حياته بالشهادة في سبيل اللّه تعالى.
فمحمد باقر الصدر كان عَلَماً في الفكر الاسلامي والانساني قلّما يجود الزمان بمثله.
وإذا كانت الامة الاسلامية لم يتيسر لها بعد ان تفهم هذا الرجل العملاق في فكره وعطائه وخصبه ((لظروف ذاتية وموضوعية)) فان الصدر سيتحول في القادم من أيام أمتنا الاسلامية وعلى طول الوطن الاسلامي الكبير إلى ((قضية)) ومنبع تنهل منه الاجيال . وتستلهم منه الاصالة والوضوح والقوة والشموخ.
وأحسب أن شهادة محمد باقر الصدر، ومظلوميته، وما لاقى من النعت في سبيل اللّه ستعجل في تحويله إلى ((قضية إسلامية)) تتحرك بمساحة خارطة العالم الاسلامي كله!! كما ان محمد باقر الصدر سيتحول إلى ((ثأر تأريخي)) تحمله أجيال من الامة.
وإذا كانت صيحات ((التوابين)) قد تأخرت قليلاً عن اعلان الزحف لادراك الثأر من يزيد عراق اليوم وزبانيته، فأن هذه الصيحات تنتظر ((ساعة صفر محددة)).
ويبدو ان توابي هذا العصر سيحملون راية ((المختار الثقفي)) كي لا تكرر سلبيات ((عين الوردة)) من جديد، ولكي لا يكون الزحف من أجل التكفير عن ذنب يؤنب ضمائر الرجال فقط وانما من أجل أن تتحقق أهداف الشهيد وتطهر أرض العراق من رجس الصليبية الطائفية الحاقدة، وتقوم دولة القرآن.
ان ((الحركة الاسلامية)) في العراق التي اعطاها شهيد المسيرة عصارة فكره وخصوبة وعيه.
وساهم بالكثير الكثير من أجل ارساء بنائها الشامخ لتكون كما يقول رضوان اللّه عليه.
((أمل الامة)).
ان الحركة الاسلامية في العراق تشعر بعمق ان ((قضية الصدر)) قد أضافت إلى قضيتها الاساسية ((قضية)) وأضافت إلى إصرارها إصراراً وقوّة، وهي واثقة من أن اللّه الكبير المتعال سينزل نصره على المجاهدين الصادقين في معركة الاسلام الكبرى التي يخوضها شعب الشهيد الصدر ضد جلاديه: اعداء الانسان والاسلام والحرية.
((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين)).
مجلة الجهاد / عدد 14 الصادر في جمادى الثانية 1401 هـ بطهران
السيد الصدر رائد حركة التغيير في الاُمة
مقدمة: بعد انهيار آخر حصون المسلمين أمام التيار الحضاري الأوربي المدجج بالسلاح في بداية القرن الميلادي الحالي ((هامش: بدأ الغزو الأوربي لبلاد المسلمين يحقق أولى نجاحاته منذ القرن السادس عشر الميلادي، وأتم مهمة الاجتياح لحصون المسلمين في بداية القرن الحالي)) تعالت استغاثات المخلصين من المدركين لجسامة الخطر المحدق بمسيرة الاسلام ومستقبل المسلمين.
وفي بداية المواجهة ظن ((المستغيثون)) من المسلمين أن صيحات الاستغاثة ستحقق نفس النتائج التي حققتها استغاثات مطلع القرن الحادي عشر الميلادي حين واجه المسلمون الغارة الصليبية على العالم الاسلامي ببطولات نادرة أعادت إلى التاريخ صدى صليل سيوف المسلمين الفاتحين، وأعادت إلى الذاكرة الانسانية صوت الدعوة الاسلامي الجهاد من أجل حماية بيضة الاسلام وحوزة المسلمين.
بيد أن اولئك المخلصين حين لم تحقق دعواتهم نفس الاثار أدركوا ان الظروف تبدو مختلفة وان المسلمين يغطون في نوم يشد الأجفان شدا.
وقد تفاوتت تلك الدعوات بين دعوة بقيت حبسية في اطار حماسة فرد واحد متوثب الشعور والحسن وبين دعوة تحولت إلى وثبة بلد أو قطاع من الامة استبسل في وجه الغزاة، ثم توارى عن مسرح الاحداث مظلوماً.
وقد اجاد مالك بن نبي المفكر الجزائري المسلم حين اطلق على دور رجال تلك المرحلة بدور الابطال حيث لمع في ليل تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الاُمة الاسلامية أسم جمال الدين الافغاني، والمهدي الكبير في السودان، ومحمد سعيد الحبوبي، ورجال جمعية النهضة الاسلامية في العراق، والحركة السنوسة في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب العربي ،وفضل اللّه النوري في ايران، وأمثال أولئك كثيرون لمعوا كالنجوم في ليل محنة العالم الاسلامي الكبير، ثم اختفوا لينحني التاريخ اجلالاً لبطولاتهم المجيدة.
لقد مثلت تلك البطولات ((صبابة)) الاستبسال والمقاومة في دنيا المسلمين وبداية الموجهة للغزو الأوربي الجديد ورغم كل ما قيل أو يقال، فأن تلك الحركات الباسلة، قد ولدت قناعة لعدى الواعين من ابناء الامة، وشعورها بالمسؤولية، وشخصيتها المعنوية، وما لم يتغير هذا الواقع الذي طرأ على تركيبة الامة الاسلامية، فأن أي جهد آخر مهما بدا كبيراً وهاماً، فأن آثاره الايجابية ستضعف تحت مطارق شراسة الهجمة الحضارية الجديدة وما تمتلك من أدوات ووسائل فتاكة.
ومنذ نهاية عشرينات القرن الحالي بدأ الواعون ينحون نحو تغييراً في غمرة عملية رفع الامة إلى مستوى استئناف مسيرة الحياة والنهضة مجدداً متخذين من قوله تعالى: ((ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) مناراً للهداية على هذا الطريق.
وحين نضع تحديداً زمنياً لبداية الوعي التغييري الذي بدأ ينساب في ربوع المسلمين فإنما نضعه بلحاظ الاثار التي نتجت عن هذا التوجه على صعيد الواقع، وإلاّ فأن ارهاصات الحديث عن التغيير وضرورته بدأ مبكراً، وفي كتابات جمال الدين الافغاني في العروة الوثقى آثار لهذا المنحى، وفي مؤلفات الشيخ عبد الاعلى المودودي كذلك غير ان التخطيط على مستوى متطلبات هذا الفهم لطبيعة المهمة بدأ واضحاً في حركة الاخوان المسلمين التي أسسها المرحوم حسن البنا في ذي القعدة عام 1347 هـ ((هامش: مذكرات الدعوة والداعية / حسن البنا: ص72 ط3 بيروت 1974 م))، وما خلّفته من تيار في بلدان مسلمة كثيرة .
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الوعي على ضرورة التغيير يتنامى لدى طلائع الامة، وقد نجح المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي رحمه اللّه تعالى في بلورة حيثيات النهضة منذ نهاية الاربعينات حيث ظهر كتابه: شروط النهضة باللغة الفرنسية عام 1948م وفي سلسلة مشكلات الحضارة التي دبجها يراعه العبقري حدد المرحوم ابن نبي الخطوات اللازمة لمسيرة اسلامية راشدة تستأنف صناعة المجد الاسلامي الجديد .
وقد التقى تطور الفكر الاسلامي التغييري الحديث ابتدأ بمقالات العروة الوثقى ومروراً بكتابات الشيخ المودودي وحسن البنا وانتهاءاً بنتاجات مالك بن نبي وتقي الدين النبهاني التقى هذا التطور بعبقرية شامخة شابة تمثلت بالمفكر الاسلامي آية اللّه العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فاعطى هذا التطور بعدين اثنين معاً :
1ـ تطوير الفكر التغييري، وتقديمه كمشاريع لنهضة الامة في ضوء الاسلام وواقع الامة الجديد
2ـ وبناءاً على ذلك، فليس الصدر رحمه اللّه تعالى وريثاً لعباقرة هذا القرن من المسلمين على طريق النهوض الاسلامي فحسب، وانما كان وريثاً ومجدداً وحادياً لقافلة النهضة الاسلامية في العقدين الاخيرين من هذا القرن .
محمد باقر الصدر يبلور خط التغيير
قضية التغيير لدى المرجع الشهيد (قدس سره) تشكل الهم الاكبر من بين همومه الكبيرة الكثيرة، بل ان همومه جميعاً تتفرع من ذلك الهم الاساسي .
وإذا استقرأنا ما كتبه المرجع الشهيد (قدس سره) وما تحدث حوله وما نهض به من نشاط في سياق العمل في سبيل اللّه تعالى لوجدنا الملامح الآتية بارزة على صفحات ذلك الهم .
*حدود التغيير ومساحته .
*المحور الذي ينصب عليه التغيير .
*شروط النهضة التغييرية لهذه الامة .
*مشاريع للكفاح من أجل التغيير .
التغيير: مساحته وابعاده ما هو التغيير الذي يفترضه المرجع الشهيد (رضي اللّه عنه) للامة لكي يصدق عليها القول إنها أمة مغيَّرة بالاسلام ؟ هذا التساؤل تحتاج الاجابة عليه إلى معرفة نظرة السيد الشهيد إلى حدود التخريب الحضاري الذي لحق بالامة وإلى أي مدى نجح الأوربيون الغزاة في النأي بالامة المسلمة عن الاسلام: آدابه وقوانينه واحكامه وعقائده يقول (رحمه اللّه تعالى) موضحاً مساحة التخريب الذي لحق بالامة من جرأ الغزو الأوربي للعالم الاسلامي: ((أخذ العالم الاسلامي ينفتح على حياة الانسان الأوربي ويذعن لامامته الفكري وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن ايمانه برسالته الاصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية)) ((هامش: مقدمة الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا / للسيد الشهيد الصدر (قدس سره): ص8 وما بعدها .
((وقد عبرت التبعية في العالم الاسلامي لتجربة الانسان الأوربي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً، ولا تزال هذه الاشكال الثلاثة معاصرة في اجزاء مختلفة من العالم الاسلامي : الاول: التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوربية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة .
الثاني: التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسية في البلاد المختلفة، وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الأوربي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر موادها الاولية وميلا فراغاتها برؤوس أموال اجنبية .
الثالث: التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الاسلامي((هامش: المصدر السابق: ص9)) ويوضح مساحة هذا الانهيار أمام الحضارة الأوربية بما يلي : ((فقد استعمل الغزاة الآثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الاسلام في ذهنية الامة، وحجب أضوائه وأنواره عنها بما نشروه هنا وهناك من مفاهيمهم وأفكارهم، وتشويهاتهم للاسلام المشرق العظيم، وهكذا أصبحت الامة بعد أن نفذ أعداؤها فيها مخططهم الفظيع، وهي لا تعرف من الاسلام شيئاً واضحاً محدداً أو تعرف ما زوّره المستعمرون من أفكاره وحقائقه.
((هامش: مجلة الاضواء ع1 س91 / حزيران / 1960 م النجف الاشرف (موضوع رسالتنا: ص2))).
((الطريق طويل لان ميوعة الامة التي انحدرت إليها، وغرابة المعطيات الاسلامية اليوم على أفكارها، وعقولها التي تعودت الابتعاد عن الاسلام في واقع الحياة، والاستعمار الغاشم الداهية الذي يقف للامة بالمرصاد والحضارة الغربية بكل حماتها ودعاتها، حواجز في الطريق)) ((دروس من القرآن الكريم دراسة للسيد الشهيد (ره) كتبها لمجلة الاضواء س2 ع3 ونشرته المكتبة الاسلامية الكبرى في طهران مع دراسات أخرى تحت عنوان: ((دراسات قرآنية للسيد الشهيد رضي اللّه عنه)).
فمن خلال هذه المقاطع من أحاديث السيد الشهيد رضي اللّه عنه وكتاباته تتجلى تصوراته العميقة لحجم المحنة الحضارية، وآثارها في كيان الامة المسلمة كنتيجة للغزو الأوربي الذي تهاوت أمامه السدود ويمكننا ان نسجل تصوره للمأساة بالنقاط التالية:
1ـ اذعان الانسان المسلم لامامة الانسان الأوربي وقيمومته الفكرية والحضارية على حياة الامم.
2ـ تنازل المسلم عن قيادته للبشرية وشعوره بالضعة أمام الانسان الأوربي، واستلهامه من الحضارة الغازية ((البديل)) لحضارته الالهية العظمية.
3ـ التبعية الذليلة للنفوذ الأوربي، والقبول بسياسة النهب الاستعماري لثروات المسلمين باستثمار المواد الاولية، وملء الفراغات الاقتصادية برؤوس أموال اجنبية اضافة إلى اتباع سياسة اقتصادية استهلاكية خاسرة.
4ـ غياب وعي الامة عن معرفة الاسلام، وحقائقه، وأهدافه في إثارة الحياة، وصنع المجد، وإقامة صروح الحاضرة الالهية.
5ـ غرابة المعطيات الاسلامية عن الامة، والتعود على الابتعاد عن مفاهيم الاسلام في الحياة، وقوة النفوذ الاستعماري وهيمنته في بلاد المسلمين، اضافة إلى قوة الحضارة الأوربية، وتمتعها بالحماية من الاسياد والعلماء السياسيين والمفكرين تشكل جميعها حواجز في طريق النهضة الاسلامية.
إن هذا الفهم لطبيعة المشكلة الحضارية التي تعاني منها الامة المسلمة هو الذي شكل الارضية لتصورات الشهيد (ره) عن حدود التغيير المطلوب الذي ينبغي أن يمارسه الواعون من أجل تحقيق الانعتاق لهذه الامة المغلوبة على أمرها .
والسيد الشهيد (ره) قبل أن يعكس واقع الازمة الحضارية للامة يضع أمامه تصورين عن وضع الامة المسلمة، ثم يضع لكل حالة تصوراً أيضاً:
أ ـ فمرة يفترض أن أزمة الامة مكرسة في إنحراف جزء أو أجزاء من حياة الامة المسلمة عن الاسلام كما في حالة إنحراف الحكم عن قوانين الاسلام في بعض تصرفاته أو ظهور حالات الانحراف الاجتماعي كتعاطي الخمر لدى قطاع من الامة وما إلى ذلك فحين تكون الازمة الحضارية للامة محدودة في هذا الاطار مع إحتفاظ الامة بالاسلام كقاعدة فكرية لها، ومنطلق للتشريعات الدستورية للحكم، ومنبع أساسي لمختلف ألوان النشاط الفرد والاجتماعي والاقتصادي، فأن العلاج يتطلب قيام دعوات إصلاحية تهدف إلى معالجة ظواهر الشذوذ عن الاسلام، ومنابعها.
ب ـ ومرة ((يفقد الاسلام مركزه من القاعدة الاساسية، ويستبدل بغيره من القواعد المعادية أو اللاقاعدة، فأن الدعوة الاسلامية في هذه الحالة يجب أن تكون إنقلابية، وهذا هو الواقع الذي تعيشه الامة منذ نهاية الحرب الاولى إذ قوض المستعمرون الدولة الاسلامية، ودخلوا بلاد المسلمين، وتقاسموها فيما بينهم وما أن تمت عملية الاستعباد هذه للعالم الاسلامي حتى تم بذلك إنقلاب كلي في حياة الامة، فأقصيت العقيدة الاسلامية عن موقعها من القاعدة الرئيسية لكيان الامة، ووضعت الامة في أطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها من الديمقراطية الرأسمالية في كثير من الناطق الاسلامية، ومن الاشتراكية في البلاد التي تخضع لحكم روسيا)) ((نشرة دعوتنا إلى الاسلام يجب أن تكون إنقلابية.
كتبها السيد الشهيد (ره) سنة 1960 م)).
فلهذه الحالة المأساوية يقرر الشهيد (قدس سره) ان عمل الواعين ينبغي ان يستهدف ((استبدال جميع الافكار والمفاهيم الاساسية عن الحياة والكون التي ترتكز الانظمة السابقة للحكم والمجتمع عليها)) ((هامش: نفس المصدر)).
((ان قضية الاسلام في مثل هذه الظروف ليست قضية اصلاح بل قضية انقلاب)).
((ان اللّه لا يغير ما بقوم يعني تغيير أوضاع القوم، شؤون القوم الابنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم إذن التغيير الاساسي هو تغيير ما بنفس القوم، والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم، النوعية التاريخية الاجتماعية)) ((فالمحتوى النفسٍّ والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد أو لذلك هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التأريخية كلها)) ((هامش: المدرسة القرآنية: محاضرات للمرجع الشهيد (رض) الدرس التاسع ألقاه في 17 / ج2/ 1399 هـ: ص141 ـ 142 ط.
بيروت 1980)).
((ان الصعاب التي تواجه الدعوة الاسلامية واجهت كل دعوة انقلابية في التاريخ، فلو انها كانت صعابً قاهرة لجمد التاريخ)) ((هامش: دروس من القرآن الكريم مصدر سابق)).
ورغم ان الامام الشهيد (قدس سره) يتبنى العمل الانقلابي الشامل لحياة الناس الفكرية والسلوكية والاجتماعية وسواها فأنه من جهة أُخرى يؤمن أن مسيرة الحياة قد تخضع لتطورات ليست في الحسبان، وقد تقع أحداث وأزمات توفر للعاملين في سبيل الاسلام فرصاً عظيمة لاستثمار الظروف بالشكل الذي يوفر لهم امكانية امتلاك مصادر القيادة الفكرية والسياسية في الامة وهم في بداية الطريق الانقلابي وحينئذ يمكنهم ان يستفيدوا من فرصة امتلاك هذه القدرات لاستكمال عملية التغيير الشامل في الامة من خلال هذه الامكانات التي اتيحت ((هامش: ما نرتضيه من الدعوة الاصلاحية وما نرفضه منها: نشرة كتبها السيد الشهيد (رض) عام 1961 م)).
ومن أجل هذا فأن المرجع الشهيد رضي اللّه عنه لا يسجل إفتراضاً ان الوصول إلى الحكم من قبل جهة إسلامية يعني تحقيق التغيير الاسلامي بمحتوى الامة الكامل فيقول بهذا الخصوص ما يلي: (( . . . وحتى إذا أصبح الحكم إسلامياً فأن هذا لا يعني في بعض الحالات الانقلاب الشامل وانما هو الجز الذي يختص بالحياة السياسية من الانقلاب)) ((هامش: ما نرتضيه من الدعوة الاصلاحية وما نرفضه منها: نشرة كتبها السيد الشهيد (رض) عام 1961 م)).
شروط النهضة التغييرية لهذه الامة وفي خضم تحديده لطبيعة واقع المسلمين المعاش بعد عصر الاستعمار وسيطرة الحضارة الأوربية على مقاليد الحياة في بلاد المسلمين وما ينبغي أن تنهض به طلائع الامة والحريصون على الاسلام من مهام.
في خضم هذا التحديد يتناول المفكر العظيم رضي اللّه عنه دراسة الشروط الموضوعية لقيام أية نهضة حقيقية على ظهر هذا الكوكب، ثم يحاكم هذه الشروط ويدرسها على ضوء واقع الامة المعاش، ويحدد ما تفتقر إليه هذه الامة في مشروع نهضتها المطلوبة.
ففي بحثه المعنون ((الشرط الاساسي لنهضة الامة)) الذي كتبه مفتتحاً به أوّل عدد من مجلة الاضواء النجفية المباركة الذي صدر في 9 حزيران 1960 م (أي قبل خمسة وثلاثين عاماً) يسجل المفكر الشهيد (ره) ثلاثة شروط لنهضة الامة الحقيقية هي:
*المبدأ الصالح.
*الايمان بذلك المبدأ.
*وفهمه.
وبعد دراسة هذه الشروط على ضوء الواقع المعاش للامة يخلص المرجع الشهيد قدس سره إلى أن الامة تمتلك المبدأ الصالح المتمثل بالرسالة الاسلامية في قيمها ومبادئها وقوانينها وهي تؤمن بها وتقدسها، غير أن إيمان الامة برسالة الاسلام يعتريها الضعف، والسطحية والغموض، ويوعز السيد الشهيد هذه الظواهر في طبيعة إيمان الامة برسالتها إلى سؤ فهمها لها، وعدم إدراكها لحقائقها، وغموض أهدافها لديها.
ثم ينتهي رضوان اللّه عليه إلى حقيقة ان الشرط الاساسي لنهضة هذه الامة منوط بفهمها واستيعابها لرسالة هذا الدين، وحمله مبدأ ومفتاحاً تفتح به كنوز خير الدنيا والاخرة.
((وأما فهم الامة للمبدأ ومفاهيمه وحقائقه فقد كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية العمل بين الامة والمبدأ، فقد استعمل الغزاة الآثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الاسلام في ذهنية الامة وحجب أضوائه وأنواره عنها بما نثروه هنا وهناك من مفاهيمهم وأفكارهم وتشويهاتهم للاسلام المشرق العظيم.
وهكذا أصبحت الامة بعد أن نفذ أعداؤها فيها مخططهم الفظيع وهي لا تعرف من الاسلام شيئاً واضحاً محدداً أو تعرف ما زوره المستعمرون من أفكاره وحقائقه.
وبهذه الطريقة وجد التناقض العجيب في كيانها فأصبحت لا تفهم الاسلام فهماً صحيحاً كاملاً بالرغم من أنها ظلت باقية على ايمانها به، وبطبيعة الحال ان انخفاض الوعي وحجب الصور الحقيقية الزاهية للاسلام عن الانظار كان سبباً في انخفاض الدرجة المعنوية للايمان نفسه وفقدانه لكثير من طاقاته الحرارية الجبّارة، فمسألة الامة اليوم ـ وهي تملك المبدأ الصحيح وتؤمن به ـ ان تقبل على تفهم إسلامها ووعي حقائقه واستجلاء كنوزه الخالدة ليملأ الاسلام كيان الامة، وأفكارها، ويكون محركاً حقيقياً لها، وقائداً أميناً إلى نهضة حقيقية شاملة، فالفهم العام للمبدأ الاسلامي إذن هو ضرورة الامة بالفعل التي تستكمل الامة به الشرط الاساسي لنهضتها ((هامش: ((رسالتنا)) مجلة الاضواء العدد الاول / س1 عام 1960 م)).
ويشارك المفكر الشهيد قدس سره الاستاذ المرحوم مالك بن نبي (ره) تصوره لشروط نهضة الامة في كتابه الموسوم (شروط النهضة) الذي ظهرت طبعته الاولى بالفرنسية عام 1948 م، وطبعته العربية الاولى عام 1960 م غير ان المرحوم ابن نبي يضيف للنهضة شرطين آخرين هما: العنصر الزمني والامكانات المادية التي تتاح للنهضة.
وفي نظري أن السيد الشهيد (ره) رأى أن المحنة مكرسة في عدم فهم الاسلام من قبل الامة، والامة إذا أدركت رسالتها وما ينبغي ان تنهض به من مسؤوليات وما ينبغي ان تأخذ من حقوق وما ينبغي ان يكون موقعها في الحياة، فأنها حينئذ تعرف كيف تستثمر الوقت، وتحوله إلى رصيد ضروري للنهضة وكيف تحوّل (التراب) المهمل إلى ثروات تساهم في إزدهار الحياة، وفي إسعاد البشر.
فالسيد الشهيد رضي اللّه عنه كان يحسب ان عنصر الزمن والامكانات الماديّة المتاحة لدى الامة صحيح انهما يساهمان في صنع النهضة لكنهما متوفران قائمان، ولكن الانسان المدرك لمسؤوليته، والامة الهادفة لصناعة النهضة غير موجودة، فإذا وجدت الامة المؤمنة برسالتها العارفة بمسؤوليتها التاريخية في الحياة، صار بالامكان ان تستثمر كافة الامكانات في صنع النهضة، وبناء المجد، واستئناف المسيرة من أجل إقامة الحضارة.
مستلزمات نجاح المهمة: رغم تلبد الاجواء العامة بغيوم الشك والقنوط بأي مشروع للنهضة، فأن المفكر الشهيد قدس سره لم يكتف بوضع اطروحة المسيرة نحو التغيير الاسلامي الشامل، وانما برَّر للمسلمين ـ فوق مبرر التكليف الشرعي للتحرك ـ قناعاته بفوز العاملين في سبيل الاسلام وانتصارهم رغم وعورة الطريق وشدّة المحنة، وضعف الامكانات المتاحة للعاملين يومذاك.
فالسيد الشهيد رضي اللّه عنه اعتماداً على اشاعات القرآن الكريم وتأكيدات العقيدة، وايحاءات السيرة المباركة أحد ان العاملين في سبيل الاسلام يتمتعون بعناصر القوة، وشروط النجاح في مجال الجهاد والكفاح مما لا تملكه أية رسالة أو مذهب إجتماعي سواه.
فقد كتب رضوان اللّه عليه في العدد الثاني من مجلة الاضواء الصادر في الاول من محرم من عام (1380 هـ، 1960م) مقالاً إفتتاحياً بعنوان ((رسالتنا والدعاة)) ضمّنه (ره) كافة المقومات الروحية للنجاح، وكافة مستلزمات الفوز في تحقيق النهضة الاسلامية، واستئناف المسيرة الربانية من جديد.
وقد شخّص المرجع الشهيد قدس سره تلك المقومات والمستلزمات كالاتي:
1ـ الطابع التقديسي للرسالة الاسلامية الذي يتغلغل في ذهنية وقلوب اتباعها، الامر الذي تفقده الرسالات والدعوات الارضية كافة، ومن أجل هذا حاولت الماركسية ومذاهب أخرى غيرها أن تضفي على نفسها (جلباباً) من التقديس لعلمها ان هذه الخصوصية تمنح اتباعها فاعلية داخلية لحملها في معترك الصراع الفكري والاجتماعي، ولعل مشروع ((الحتمية التاريخية)) في بعض أهدافه يرجو توفير هذه الخصوصية.
غير أن الماركسية لم تحقق هدف وصولها إلى مستوى العقيدة الدينية، لان الماركسية وأمثالها من عقائد الارض لا تخرج عن كونها إجتهاداً بشرياً قاصراً، بينما تحقق العقيدة الاسلامية في نفوس اتباعها قناعة انها فوق الاجتهاد والظن لصدورها من الكبير المتعال عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى.
وهكذا توفر هذه القناعة موجباً تقديسياً عارماً في نفوس المؤمنين بالاسلام، الامر الذي يعزز الكفاح، ويدفع نحو ميادين الجهاد من أجل التغيير والنهضة الاسلامية.
2ـ الامل بالنجاح والفوز: يكرس السيد الشهيد حديثه عن الامل الذي تشيعه الرسالة الاسلامية في نفوس اتباعها، وتقوي فيهم الرجاء بالنصر وتحقيق الاهداف من خلال حوالي خمسين ومائة كلمة، تتحرك أملاً ورجاءً بالانتصار والوصول إلى الغايات، وبدلاً من أن نسجل إنطباعاً عما يسجله الامام الشهيد رضي اللّه عنه من أفكار حول الامل وأهميته بالنسبة للعاملين في سبيل النهضة الاسلامية نترك الحديث للسيد الشهيد (ره) نفسه ليحدثنا عن هذه القضية فنختار المقاطع التالية مما دونه يراعه المسدد : ((ثانياً: الامل، فان الامل هو بصيص النور الذي لا تستغني عنه كل الدعوات، وإذا فقدت الدعوة أملها في الفوز والنجاح فقدت وجودها ومعناها الحقيقي، لان الدعوة إلى ما لا أمل في تحقيقه ضرب من العبث واللهو، ولهذا كان لا بد لمختلف الدعوات أن تفتش عن الامل وتغذيه في ضوء الظروف والاحداث، وأن تتصيده من الظروف والاحداث نفسها.
وأما الدعوة إلى الرسالة الاسلامية فهي وان كانت تعتمد في آمالها على الظروف والملابسات ولكنها تعتمد قبل ذلك على الامل الذي تزودها به طبيعة الرسالة الاسلامية نفسها، فأن هذه الرسالة تفتح بنفسها للدعاة أجواء من الامل وتقوّي من عزيمتهم ورجائهم، ولا أدل على أن الدعاة الاسلاميين يقتبسون أملهم من الرسالة نفسها قبل أن يستوحوه من الظروف والاحداث.
ان الطليعة الاسلامية التي عاصرت محنة الاسلام في مكة وهو يومئذ وليد ضعيف قد تجمعت القوى على سحقه وتألب الاعداء على خنقه كانت هذه الطليعة تهتز أملاً بل يقيناً بتهديم عروش الظلم، كل العروش، وانقاذ بلاد كسرى وقيصر من كسرى وقيصر، ولا نبالغ إذا قلنا ان هذا الامل الحي القوي من أكبر القوى المعنوية التي كان يتمتع بها اولئك المسلمون ويستعينون بها على الصبر والاستبسال في المحنة ولم يكن من الممكن ان يخلق هذا الامل في نفوس الدعاة شي سوى رسالة لها طبيعة الرسالة الاسلامية وطابعها الالهي اليقيني ومددها الروحي والمعنوي فلم يكن المسلم ليستهين أو يضعف أمام الشدائد وبيده مشعل السماء ومن ورائه الوعود الالهية بالنصر والتأييد.
ولا زالت ـ حتى الان الرسالة الاسلامية كما كانت ـ قادرة على بعث الامل في نفوس الدعاة، بل هي تبعثه فعلاً بما يشع في نصوصها القرآنية والنبوية من وعد بالنصر إذا خلصت النية وأحكمت الخطة على أساس الاسلام ((هامش: مقالة ((رسالتنا والدعاة)) للسيد الشهيد رضي اللّه عنه)).
3ـ الدافع الذاتي في العمل من أجل الرسالة والنهضة: ومما تتميز به الرسالة الالهية عن سواها قدرتها على ((تسخير الدوافع الانانية والمثالية معاً لصالحه، فان طبيعة الرسالة الاسلامية اقناع المسلم بأن الاخلاص لهذه الرسالة والدعوة إليها، والتضحية في سبيلها مكسب شخصي، بل أن يكون مكسباً مثالياً أو اجتماعياً وربح لجزأ ونعيم لا حدود له قبل أن يكون عاطفة مثالية أو اندفاعاً تحمسياً)) ((هامش: مقالة ((رسالتنا والدعاة)) للسيد الشهيد رضي اللّه عنه.
ان هذه الخصيصة لا تتوفر في أية رسالة اجتماعية على الاطلاق، الامر الذي يفسر ان كثيراً من أصحاب الدعوات الاجتماعية الوضعية ((يغرقون بعد زمن قصير أو طويل من دعوتهم أو انتصارهم في الدوافع الذاتية، وتخبو في نفوسهم تلك دوافع الذات بعد ان فقدت في نفوس الدعاة دوافعها المثالية)) ((هامش: المصدر نفسه)).
ان المرجع الشهيد (ره) حين يشخص هذه الحقيقة التي توفرها الرسالة الاسلامية للعاملين من أجل النهضة، في ضوء مبادئها انما يستلهم هذه الحقائق من الآيات الكريمة التي صدع بها الكتاب العزيز، وهو بصدد الحث على تقديم المزيد من التضحيات من أجل الرسالة المباركة، اضافة إلى تذكير المؤمنين العاملين المضحين ان جهودهم وبذلهم من أجل اللّه والرسالة بعين اللّه تعالى يوفيهم حسابهم ويجزيهم الجزاء الاوفى، فلا ضير على الانسان العامل ان يعطي ويبذل ما دام الربح مضموناً، والتجارة لن تبور.
يقول تعالى إشارة لذلك: ((ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب، ولا مخمصة في سبيل اللّه، ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلاّ كتب لهم به عمل صالح ان اللّه لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة . ولا يقطعون وادياً إلاّ كتب لهم ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون)) ((هامش: التوبة 120 ـ 121)).
مشاريع الكفاح من أجل التغيير البعض من المفكرين الاجتماعيين يقفون عند حدود التنظير للمسائل الاجتماعية، ويشيرون إلى مواطن الخلل في مسيرة الناس ويدلون على سبيل التخطي للامراض والسلبيات، والبعض من أصحاب المذاهب والمفكرين الاجتماعيين يمتلكون قابلية التنظير والتخطيط لتلك المسائل ويباشرون العمل من أجل تنفيذ تصوراتهم الاجتماعية من خلال المشاريع الفكرية والاجتماعية.
ولعل مالك بن نبي (ره) من الطراز الاول، إذ كان الرجل نموذجاً في تقديم الاطروحات الاجتماعية كما يتضح ذلك من خلال سلسلته ((مشكلات الحضارة)) إلاّ أن سيرة حياته لم تشعر بتأسيسه لمشاريع اجتماعية وسياسية هامة لتنفيذ أفكاره الكثيرة الكبيرة ((هامش: يلاحظ ذلك من خلال مذكراته ((مذكرات شاهد القرن)))) بينما نجد الامام الخميني قدس سره والشيخ أبو الاعلى المودودي والاستاذ حسن البنا مثلاً من طراز آخر، حيث جمعوا بين التنظير والعمل، بين الاطروحة والتنفيذ فقاد الامام الخميني (ره) حركة الجهاد في ايران منذ مطلع الستينات حتى توجت بالانتصار المؤزر واقامة الحكومة الاسلامية، وأسس الشيخ المودودي حركة الجماعة الاسلامية في القارة الهندية وأسس الاستاذ البنا حركة الاخوان المسلمين في مصر.
وكان السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه من الطراز الذي يحرص على تنفيذ ما يدعو إليه من مفاهيم وأطروحات اجتماعية وسياسية وثقافية، ومن هنا فأن النجف الاشرف لم تشهد في هذه الحقبة رجلاً من هذا القبيل، ومهما قيل حول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره ((هامش: توفي المرحوم الشيخ المجاهد كاشف الغطاء في 18/11/1373 هـ أنظر مقدمة كتاب جنة المأوى للمرحوم الشيخ تقديم السيد محمد علي القاضي الطباطبائي)) من ناحية الوعي والحرص على الاسلام والامة الاسلامية، فأن أفكاره ووعيه ظلا مجرد صيحة غاضبة للّه تعالى، لم يجسدها في حياته إلى مشاريع مناسبة من أجل النهضة الاسلامية.
والسيد الشهيد رضي اللّه عنه قد بذل عدة مجهودات من أجل نهضة إسلامية حقيقية في الامة، وكانت كافة المشاريع التي نفذها بنفسه أو ساهم فيها أبكر من المرحلة التي عاشها هذا الرجل العملاق، ومن جميل ما يذكر هنا ان مشاريع هذه القمة الاسلامية قد كان فيها موفقاً إلى حد بعيد كما سيتضح من خلال هذا البحث المتواضع.
ويمكننا أن ندرج مشاريعه الاجتماعية ـ السياسية ـ الفكرية على الشكل الاتي:
1ـ توفير البديل الفكري الاسلامي : قد لا تتضح عظمة هذه المهمة لابناء هذا الجيل كما اتضحت لابناء الجيل الذي عاش مرحلة الخمسينات وبداية الستينات في العراق حيث كان الفكر الماركسي والموجة القومية الناصرية تسيطر على الشارع العراقي، ولم يجد الباحث عن الاسلام غير المؤلفات الحوزوية الاختصاصية القديمة ككتب الاصول والفقه وما إليها التي ليس من شأنها أن تعرض الاسلام بشكل يساهم في اقبال الامة عليه.
وبينما يهزم الناس أمام الفكر الماركسي المعروف بشتى الاساليب والصور والتعبيرية، يتصدى فقيه واعٍ يجمع بين حرارة الايمان وحرارة الشباب، وحرارة الحرص على الاسلام مثل السيد محمد باقر الصدر رضي اللّه عنه فينازل الماركسية والاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية ويكشف زيفها للامة وتآمرها على الانسانية، ثم يقدم البديل الاسلامي لعلاج مشاكل الانسانية المعذّبة من خلال رسالة الدين الحق.
وهكذا تجبه الماركسية والرأسمالية بكتابي (فلسفتنا واقتصادنا) وسواهما، ويوفر المفكر الشهيد قدس سره بذلك أمضى سلاح للامة في معترك فكري وسياسي رهيب، لم يشعر بحقيقة أبعاده بشكل دقيق إلاّ من عاش تلك الفترة العصبية من تاريخ الامة.
وقد جاء الكتاب الاول مبرهناً على صحة النظرة الاسلامية للوجود، وتهافت النظريات الاخرى كافة، وجاء (اقتصادنا) داحضاً للنظرية الاشتراكية والرأسمالية في الاقتصاد كاشفاً عن أصالة العلاج الاسلامي لمسائل الاقتصاد على مستوى التملك والحرية الاقتصادية والمشكلة الاقتصادية والعدالة، ومشكلة التوزيع، ومسألة الارض وما إليها، إضافة إلى تفنيد المادية التأريخية كعقيدة يعتمدها الماركسيون في تبرير المنحى الاقتصادي لديهم.
وقد كان الكتابين المذكورين ـ رغم جلالة ما كتبه يراع السيد الشهيد رضي اللّه عنه من تآليف أخرى ـ الدور الأكبر في رفد المسيرة الاسلامية في العراق ومواجهة الغزو الفكري الأوربي في العراق.
ولا نقصد أن نطفف من القيمة المعنوية والحضارية لمؤلفات السيد الشهيد رضي اللّه عنه الاخرى من أمثال: البنك اللاربوي في الاسلام والمدرسة الاسلامية، والاسلام يقود الحياة، والفتاوى الواضحة، والاسس المنطقية للاستقراء وغيرها، فبعضها ما ستظهر قيمته الكبيرة في السنين القادمة ككتاب (الاسس) المذكور.
على ان مجموع ما انتجه السيد الشهيد رضي اللّه عنه من فكر إسلامي كان له اليد الطولى في تحديد الصيغة المضمونية للنهضة الاسلامية الحديثة في العراق، ولولا هذا الانتاج الفكري الاسلامي الاصيل لفقدت النهضة الاسلامية العراقية كثيراً من شروط الاصالة والعمق والرشد.
2ـ نحو وجود إسلامي سياسي يملا فراغ الساحة: كان الوجود اللاإسلامي يملأ الساحة السياسية والفكرية في العراق منذ انتكاسة ثورة العشرين حتى النصف الاول من الستينات، وقد امتد نفوذ الحركات الاسلامية إلى المدن المقدسة والحوزات العلمية في العراق، حتى إذا قامت ثورة 14 تموز عام 1958 وفسح نظام عبد الكريم قاسم المجال للتحرك السياسي العلني امتلأ الشارع العراقي بالضجيج السياسي الذي ليس للاسلام فيه نصيب، الامر الذي ضاعف من قناعات بعض المؤمنين الواعين في الحوزة وخارجها لارساء قواعد حركة إسلامية عام 1958 م لتسد فراغ الساحة من الوجود الاسلامي السياسي. وهكذا كان.
وكان السيد الشهيد رضي اللّه لولباً لهذا التحرك الاسلامي السياسي الوليد، وقد أطلق السيد الشهيد (ره) على ذلك العمل الاسلامي السري ((الدعوة الاسلامية)) وأعطاه الكثير من وقته خصوصاً في سني تأسيسه الاولى.
.
وقد باشر المفكر الشهيد رضي اللّه عنه عملية التنظير الفكري لذلك العمل في خطوطه العريضة لتكون منطلقاً في العمل، وبصيرة في التوجه والحركة.
ونسجل بعض الخطوط الفكرية العريضة التي وضعها السيد الشهيد رضي اللّه عنه لذلك الوليد كأطار عام لحركته العامة:
1ـ الصيغة الانقلابية التغييرية لفكر الناس وسلوكهم اللاإسلامي هدف مركزي لهذه الحركة ((هامش: نشرة ((دعوتنا إلى الاسلام دعوة تغييرية)) بقلم السيد الشهيد (ره) صدرت عام 1958 م ((لم تُنشر نشراً عاماً بعد)).
2ـ تبني مشروع المرحلية والتدرج في اسلوب الكفاح والمواجهة ((هامش: نشرة ((تحديد مرحلتنا الحاضرة)) صدرت عام 1959 م السيد شهيد قدس سره.
3ـ إقرار الاعمال والنشاطات الاصلاحية إذا توفرت ظروفها وكانت تقع ضمن مشروع التغيير العام ((هامش: نشرة ((دعوتنا إلى الاسلام دعوة تغييرية)) بقلم السيد الشهيد (ره) صدرت عام 1958 م)).
4ـ محاكاة الامة التي انشأها النبي الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم في فكرها وحضارتها واجتماعها وسياستها ((هامش: نشرة ((تحديد مرحلتنا الحاضرة)) السيد الشهيد رضي اللّه عنه صدرت عام 1959 م)).
3ـ مشاريع لاصلاح الحوزة العلمية فكرياً وتوجهاً : منذ منتصف العشرينات من هذا القرن اتجهت الحوزة العلمية في النجف الاشرف بعيداً عن ممارسة النشاط السياسي، وهموم الامة وصار التوجه العام فيها للدراسات الحوزوية المألوفة، دون سواها من العلوم والاهتمامات، ومنذ نعومة أظفاره لاحظ السيد الشهيد رضي اللّه عنه هذه الظاهرة السلبية، ومن أجل ذلك راح يبذل وسعه من أجل تغيير واقع الحوزة العلمية فكرياً وتوجهاً، وقد تبنى لذلك ثلاثة مشاريع:
1ـ مشروع ((الدورة)).
2ـ مشروع إصلاح المناهج.
3ـ مشروع التوجه الفكري المباشر (المحاضرات).
فمشروع ((الدورة)) وان كان قد جرى تنفيذه في ظل الامام الراحل السيد محسن الحكيم قدس سره إلاّ أنّه كان من متبنيات السيد الشهيد رضي اللّه عنه ففي ظل هذا المشروع يتوفر لطالب العلم من المعلومات والدروس ما يؤهله للحصول على وعي إسلامي وحياتي مناسب يوفر له إمكانات الانسجام مع متطلبات المرحلة التي تمر بها الامة، وكان أهم ما في هذه ((الدورة)) هو إختيار مناهج إسلامية وعلمية حديثة.
اما مشروع إصلاح المناهج، فكان من أوضح مظاهره إصلاح علم الاصول الذي بقي زمناً طويلاً يعتمد على ((كفاية الاخوند)) بأسلوبها القديم، فقد عمد المرجع الشهيد رضي اللّه عنه إلى تبني عملية تبسيط منهج الاصول بشكل يسد حاجة طالب العلم ويغنيه عن الاساليب المعقدة، وقد جاء كتابه ((دروس في عالم الاصول)) تجربة رائدة لتطوير هذا المنهج العلمي الهام في حياة طالب العلم الحوزوي.
وتمثل محاضراته التوجيهية التي كان يلقيها على طلبة العلم إنموذجاً من نماذج عمليته في بناء ذهنية طالب الحوزة بناءً جديداً، وشحنها بأُسس الوعي الاسلامي السياسي والاجتماعي، ولعل محاضرات ((المحنة)) و((السنن التأريخية في القرآن)) ومحاضراته حول أهل البيت عليهم السلام مصاديق لهذه العملية البناءة.
4ـ المساهمة في مشروع جماعة العلماء : جماعة العلماء في النجف الاشرف أسسها عدد من العلماء المجاهدين في النجف بعد شعورهم بضرورة النهوض بالمسؤولية الرسالية بعد سيطرة الشيوعيين العراقيين على الشارع العراقي ما بين عام 1958 ـ 1961، والسيد الشهيد رضي اللّه عنه وان كان صاحب فكرة المشروع، إلاّ ان الشروط الزمنية (العمر) التي وضعتها الجماعة لم تسمح بدخوله عضواً في الجماعة غير ان تأثيره على الجماعة بواسطة خاله المرحوم آية اللّه الشيخ مرتضى آل ياسين وآية اللّه السيد اسماعيل الصدر أخيه الاكبر، كان كبيراً ((هامش: انظر المقدمة التي كتبها سماحة آية اللّه السيد محمد حسين فضل اللّه للطبعة الاولى لكتاب ((رسالتنا)) ص16 / ط الدار الاسلامية 1981 م ـ بيروت))، حتى بلغ من هذا التأثير ان تكون كثير من أفكار الجماعة قد انتجها القلم العبقري للسيد الشهيد رضي اللّه عنه.
ثم ان كلمة الافتتاح لنشرة ((الاضواء)) التي كانت تصدرها الجماعة كان السيد الشهيد (ره) يكتبها حتى العدد الخامس ((هامش: المصدر نفسه)).
تحت عنوان ((رسالتنا)) ((هامش: جمعت ((افتتاحيات)) السنة الاولى للاضواء باسم ((رسالتنا)) وأصدرتها عام 1696 م مطبعة النعمان في النجف الاشرف.
5 ـ مشروع المرجعية الصالحة: في بداية السبعينات انقدحت في فكر السيد الشهيد رضي اللّه عنه ووعيه فكرة ((المرجعية الصالحة)) ويبدو ان الهدف الاساسي الذي سعى إليه العالم الصالح الشهيد رضي اللّه عنه من ورأى إطروحته في المرجعية الصالحة كان ايجاد قيادة إسلامية تحتضن نهضة الامة في العراق وتقودها نحو أهدافها لا سيما وان الجهود الصالحة المباركة قد وفرت اُطراً وأجهزةً ومناخات للنهضة ونموها في العراق: وتتجلى من خلال اُطروحة السيد الشهيد قدس سره تلك الاُمور التالية:
1ـ تهدف الاُطروحة إلى تبني المرجعية الصالحة ((للاهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الاسلام وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الاهداف فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي تتصرف دائماً على أساس تلك الاهداف بدلاً من ان تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة)) ((هامش: اطروحة المرجعية الصالحة للسيد الشهيد (ره): ص13 طبع جماعة العلماء المجاهدين في العراق)).
2ـ تحويل المرجعية إلى جهاز لا يتأثر بموت المرجع، فإذا توفي المرجع الصالح يكون بمقدور المرجع الصالح الذي يرثه ان يبدأ ((ممارسة مسؤولياتهم)) حيث انتهى المرجع العام السابق بدلاً عن أن يبدأ من الصفر ويتحمل مشاق هذه البداية وما تتطلبه من جهود جانبية، وبهذا يتاح للمرجعية الاحتفاظ بهذه الجهود للاهداف وممارسة ألوان التخطيط الطويل المدى.
ويتم ذلك عن طريق شكل المرجعية الموضوعية، إذ في إطار المرجعية الموضوعية لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات ويمارس العمل المرجعي الرشيد، والشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأما الموضوع فهو ثابت ((هامش: إطروحة المرجعية الصالحة للسيد الشهيد (ره): ص13 طبع جماعة العلماء المجاهدين في العراق)).
3ـ تعمل المرجعية الصالحة على حماية العمل الاسلامي القائم لدى الامة بواسطة ((لجنة رعاية العمل الاسلامي والتعرف على مصاديقه في العالم الاسلامي وتكوين فكرة عن كل مصداق وبذل النصح والمعونة عند الحاجة)).
لقد مثلت هذه الاطروحة طموحاً لدى السيد الشهيد رضي اللّه عنه كان حريصاً على إيجادها على صعيد الواقع، ولكنه رحل إلى ربه الاعلى شهيداً محتسباً دون ان يحقق آماله على صعيد النجف الاشرف الجريح، وان كان انتصار الامام الخميني قدس سره في إيران قد ضمد جراحه النازفة.
هذه هي المعالم الاساسية في حركة السيد الشهيد (ره) باتجاه النهضة الاسلامية في العراق والمنطقة ذكرناها إجمالاً.
ومن الجدير بالذكر ان السيد الشهيد رضوان اللّه عليه قد بذل نشاطات اُخرى داعمة لحركة النهضة في الامة كأرساله العلماء الواعين ـ كوكلاء عنه ـ إلى مناطق عديدة من العراق ليباشروا عملية التوعية الاسلامية إضافة إلى موقفه الشجاع المساند لثورة الاسلام الكبرى التي تفجرت في إيران بقيادة الامام الخميني (قدس اللّه نفسه الزكية)، ورغم ما كلفه ذلك الموقف الصريح من شنآن الطغاة وتعجيلهم بالانتقام . ((والعاقبة للمتقين)).
ظاهرة التجديد والمعاصرة في فكر السيد الصدر رضي اللّه عنه
مقدمة: من الحقائق الهامة التي ينبغي أن يُلتفت إليها جيداً أن العالم الاسلامي قد واجه خلال قرنين من الزمان ثلاثة مستويات من الغزو؛ الغزو السياسي، الغزو العسكري، والغزو الثقافي.
وإذا كان الغزو السياسي قد باشره جواسيس الغرب في بلاد المسلمين أو عملاؤه من السلاطين والولاة والضباط، والسفراء وشركات تجارية، وإذا كانت الحملات العسكرية قد اضطلعت بدور الاحتلال لبعض الثغور والاقاليم الاسلامية، فأن هذين اللونين من ألوان العدوان الغربي على بلادنا كانا يمهدان لغزو ثقافي واسع، يلغي الثقافة الاسلامية، بل والطابع الشرقي العام.
ولو قرأنا تاريخ المنطقة بتأمل بكل ما حوى من آلام وفتن على مدار قرنين من الزمان أو يزيد، لوجدنا أن أخطر ما واجهه المسلمون والشرقيون عموماً هو الغزو الثقافي الغربي لبلداننا، فلم يحقق التبشير والثقافة الغربية خطواته الاولى نحو النجاح إلاّ عندما وجد ولاة عملا أيام الحكم العثماني، من أمثال إبراهيم باشا في بلاد الشام، حيث انطلق المبشرون في عملهم في تلك البلاد في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وفي مصر أيام العميل الفرنسي محمد علي باشا الكبير ـ كما يسميه التاريخ ـ، كما لم ينتشر نفوذ الثقافة الغربية في بلاد المسلمين كذلك إلاّ تحت رعاية الغزو العسكري كما جرى ذلك في بلدان المسلمين التي سيطرت عليها الجيوش الغربية، كما هو الحال في بلاد الشام، والجزائر وغيرها.
ولا ننسى دور الحكام العلماء في توفير المناخات المناسبة لدعم حركة التغريب في بلاد المسلمين وبحركة ثقافية واسعة تملك ارصدة واقعية ضخمة كالتبشير والاستشراق، والحركة التعليمية التابعة لاهداف الغزاة بكل مظاهرها ومصادرها ومواردها من المناهج، إلى المادة التعليمية، ومن ثم الدرس والمعلم إلى البعثات الدراسية إلى أوربا.
أقول: بهذه الحركة التعليمية الواسعة المدعومة بأنظمة سياسية مدججة بالسلاح ومدعومة من قوى النفوذ العالمي، وقعت الهزيمة الفكرية والثقافية في بلاد المسلمين وانتصر الغالب على المغلوب في ثقافته وأفكاره إلى درجة خطيرة، خلافاً لما كان عليه المسلمون أيام الغزو المغولي المدمر لبلاد المسلمين، حيث ما ان توقف اندفاع المغول، حتى انتصر المغلوب على الغالب، فاعتنقت جيوش التتار دين الحق، وخلعت وثنيتها لتدخل افواجاً في دين اللّه تعالى وانصهر الغزاة في الامة الاسلامية، وساهموا في بناء الكيان العام لها.
إلاّ اننا في هذه المرة هُزمنا شر هزيمة، وبرزت آثار الهزيمة في ابناء جلدتنا واضحة يدعون للذوبان في حضارة الرجل الابيض!! لقد ظهر في بلاد الاناضول ضياء البكوك كمنظر للذوبان والتبعية الثقافية، وظهر كمال اتاتورك منفّذاً لافكاره بإصرار أهوج يشبه إصرار البعثيين وأمثالهم من أصحاب الهوس ((التقدمي الثوري!)) وظهر في مصر سلامة موسى، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وطه حسين، وعلي عبد الرزاق، وعلى الصعيد السياسي ظهر دعاة القومية الذين كان جمال عبد الناصر عصارتهم، بل حصيلة أفكار المهزومين والعملاء الفكريين الذين ذكرت بعضهم.
لقد حاول طه حسين أن يهز أركان الاعجاز القرآني بكتابه الشعر الجاهلي، ثم دعا صراحة لتغيير هوية مصر في مشروعه الثقافي اللاهث خلف الغرب: (مستقبل الثقافة في مصر)، وكان علي عبد الرزاق في عقد الثلاثينات قد شكك أن يكون في الاسلام نظام حكم وبذل جهداً من أجل تكريس هذا الاتجاه في كتابه ((نظام الحكم في الاسلام))، وتناول آخرون جوانب أُخرى وقد بلور ساطع الحصري ((البديل القومي!)) للاسلام في ضوء ثقافته الغربية وتطلعاته شطر أوربا، وشهد العراق أمثال منيف الرزاز، والياس فرح، وعفلق وعلي الوردي، وهادي العلوي، وسلم تنفيذ المشروع إلى أحمد البكر، وصدام واضرابهم.
وفي بلاد المسلمين الاخرى أمثلة حية لهذه المسيرة الذليلة الجبانة.
المسلمون في موقف الدفاع : الحديث هنا يدور حول المواقف الثقافية لا المواقف السياسية ولا البطولات العسكرية للمسلمين.
لقد تنبه المسلمون رويداً رويداً إلى المؤامرة، فهبوا في وجه العدوان الثقافي فحفروا الخنادق الدفاعية، وهكذا ظهرت مجموعة كبيرة من التآليف ونشرت كثير من الافكار الدفاعية الخجولة أو المنفعلة بالواقع، لذا، فقد شهدت الاربعينات من هذا القرن والخمسينات نمطاً من الفكر الدفاعي على المستوى العلمي أو الفكري ! فقد ظهرت كتابات تفسر آيات من القرآن الكريم تفسيراً علمياً، وفق النظريات التي تتداولها ألسنة الغربيين أو تصوراتهم، كتفسير آيات في النظرية السديمية أو في الجاذبية أو كروية الارض أو نظرية لامارك أو دارون، حتى لو البعض عنق الآيات، ففسرها بالصواريخ والذرة وما إلى ذلك، كل ذلك من أجل أن يبرهن على أن الاسلام والقرآن قد حملا ما وصل إليه العلم الحديث كذلك.
وعلى مستوى الفكر والتشريع، جرت عمليات مشابهة لكنها من نمط آخر، فقد ظهر الحديث على ألسنة المفكرين والكتّاب المسلمين عن الاشتراكية الاسلامية!! والديمقراطية في الاسلام!! كما تأثر البعض في أحاديثهم عن الاسلام بتفصيلات تلك المذاهب الاجتماعية، ولك أن تقرأ مثلاً كتاب: إشتراكية الاسلام للدكتور مصطفى السباعي، وديمقراطية القومية العربية للدكتور عبد الله العربي، والاسلام بين الانصاف والجحود للدكتور حسن عبد الغني حسن، والمجتمع الاسلامي بين النظرية والتطبيق للبهي الخولي، بل في علمائنا من ظهر على لسانه مصطلحات العروبة، والاشتراكية، والديمقراطية وما إلى ذلك.
وهكذا كان إسلوب الدفاع لدى المخلصين من أبناء الامة لعقدين من الزمان أو أكثر يدفع إلى تكييف الاسلام وقيمه حسب الموجات العلمية والفكرية التي زخر بها العالم يومذاك، وربما أدى ذلك التخبط المدافع إلى تقلبات في التفسير بمفهوم واحد غير مرة في فترات متقاربة حسب الموجات الفكرية والموضة التي تعم البلاد.
في خندق الهجوم : ومنذ منتصف الخمسينات صار مسار الحركة الثقافية يتجه من خندق الدفاع إلى خندق الهجوم، فقد ظهرت بوادر هذا التحول في أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات في كتابات الشيخ عبد الاعلى المودودي في كتاب ((الربا))، ((والدستور الاسلامي))، ((وموجز تجديد الدين وإحيائه))، وما إلى ذلك، وتأثر بهذا المشروع قلم سيد قطب، فكتب ((العدالة الاجتماعية)) وموسوعة ((في ظلال القرآن))، و((خصائص التصور الاسلامي))، و((السلام العالمي والاسلام))، وختمها ((بمعالم في الطريق))، وفي هذه المرحلة أي في أوائل الخمسينات ظهر الشيخ محمد تقي النبهاني، في ((المذهب الاقتصادي في الاسلام))، و ((نظام الحكم في الاسلام))، وغيرها.
بيد أن ظهور هذه المؤلفات والابحاث قد رافه في الجانب الاخر تصاعد الهجمة لاتباع الحضارة الأوربية بشطريها الشرقي والغربي، حيث إنتشر الفكر الماركسي، والاشتراكي، والفكر الاشتراكي الديمقراطي، وثقافة اليسار العربي، والدعوة إلى الديمقراطية وما إلى ذلك بشكل خطير، حتى إنك لا تكاد تجد في تلك المرحلة ولا تسمع غير نتاج هذه الموجة الفكرية العاتية.
لقد كان العراق في الخمسينات ومطالع الستينات من أسوأ البلدان في المنطقة من ناحية فقره للثقافة الاسلامية الحديثة التي تستجيب لطموحات المسلم المعاصر.
لقد كان الشباب في تلك المرحلة لا يكاد يجد عن الاسلام غير الابحاث الحوزوية التخصصية ذات الاسلوب التقليدي غير المنسجم مع ذوق العصر، أو الدراسات التاريخية التقليدية، وإذا وجد شيئاً، فإنه يجد بعض مؤلفات سيد قطب مثلاً.
لقد أعلن المرحوم الشيخ كاظم الحلفي المشرف التنفيذي لمجلة الاضواء التي صدرت عام 1960 م في كراس له أسمه ((اللّه وأسماؤه الحُسنى)) طبع في بداية الستينات ان بعض شباب جامعة بغداد الشيعة يتأثرون بتآليف الشيخ النبهاني ككراس ((الخلافة)) سي الصيت ـ مثلاً ـ.
ولقد أعلن المرحوم آية اللّه السيد جمال الهاشمي في مقدمة كتابه ((اُصول الدين الاسلامية)) عن عمق الصدمة التي ألمت بالاخيار من العلماء والمؤمنين فوجئوا ان المواكب الحسينية بعد ثورة تموز عام 1958 م كانت تشيد بالديمقراطية والاشتراكية.
وكانت المشكلة الرئيسية التي تعانيها الامة، خصوصاً الاجيال المتطلعة في منهج عرض الاسلام وقيمه وأحكامه لا في المضمون، فمضمون الاسلام محفوظ في القرآن والسنة وتصانيف العلماء، ولكن المنهج الذي كان يعرض المضمون لا يتناسب وروح العصر الحديث أبداً.
السيد الصدر ضرورة المرحلة: في تلك المرحلة العصبية من تاريخنا ـ أواخر عقد الخمسينات وبداية الستينات على وجه التحديد ـ، حيث النكوص والتراجع أمام الثقافة الوافدة، مما لا يدرك أبعادها إلاّ من عاش تلك الفترة الزمنية الرهيبة.
في هذه المرحلة لمع نجم المفكر العملاق السيد محمد باقر الصدر رضي اللّه عنه، الذي حمل أعبأ مواجهة المذاهب الاجتماعية الأوربية بكل أسسها ومفاهيمها مستفيداً من تجارب الماضين والمعاصرين له من المفكرين والفقهاء، ومضيفاً إلى ذلك من نتاجات عبقريته العملاقة التي تميزت بالقدرة على البلورة والعطاء وفهم خصائص العصر وأدواته.
وهكذا وفق هذا المفكر العملاق أن يهاجم المادية في رؤاها العام، ومرتكزاتها الاساسية في كتاب ((فلسفتنا))، كما فعل في هجومه على البنية التحتية للفكر الماركسي وأطروحة الديمقراطية الرأسمالية كما تجلى ذلك في كتاب ((اقتصادنا)).
وبعد تفنيد الخصائص المذهبية للمدرسة الاشتراكية وخصائص المدرسة الرأسمالية الديمقراطية، عمد إلى بلورة المذهب الاقتصادي للاسلام من خلال إحياء قضية الملكية، والارض والتوزيع ودور السلطة في عملية توزيع الثروة، والمشكلة الاقتصادية والموقف من علاجها.
وهكذا وفر المفكر الشهيد الصدر مفردات عصرية للخطاب الاسلامي، تحتفظ بأعلى درجات الاصالة، وتتسلح بأحدث وسائل المعاصرة، وقد تميزت نتاجات السيد الصدر رضي اللّه عنه بالمنهجية العلمية التي لم تتوفر عند أغلب المفكرين المسلمين المعاصرين، الذين يجنح أكثرهم إلى الاسلوب الخطابي، والاستغراق في المنجية الادبية، دون أن يعتمد نهجاً علمياً صارماً ـ كما وفق له سيدنا المفكر الكبير رضوان اللّه عليه ـ.
ان هذا الخطاب الثقافي العملاق، الذي وفره السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه للنهضة الاسلامية والثقافة الاسلامية المعاصرة في مضمونها المبلور المميز وفي أدواتها التعبيرية الكفؤة وفي منهجيتها العلمية العصرية الواثقة.
ان هذا الخطاب لم يشعر بقيمته إلاّ من عاش فترة الستينات في العراق حيث تلتهب الساحة يومذاك بصراع فكري رهيب بين أنصار الاشتراكية الماركسية والديمقراطية والقومية وقبالهم أنصار النهضة الاسلامية كل بأدواته التي يملك.
ولم يكن للاسلاميين يومذاك سلاح فاعل ومضمون مبلور قبل ظهور ((فلسفتنا واقتصادنا))، لقد كان ((اقتصادنا)) وغيره بحق سيفاً ـ وأي سيف ـ شهره الاسلاميون العاملون ببسالة واثقة في وجوه أنصار الفكر الوافد الرخيص.
ولعلي لا اُبالغ إذا قلت: ان شطر ما حققناه من نصر فكري في الستينات كان بذلك الحسام الذي جرده السيد الصدر رضي اللّه عنه من غمده.
وهكذا؛ فليس خيالاً مجنحاً، ولا اماني عريضة ان ندعي ان منهجية السيد الصدر رضي اللّه عنه في نتاجه الفكرٍّ عموماً والطريقة التي امتطاها لمواجهة الحركة الثقافية التغريبية في منحنياتها الاسلامية لم يألفها الخطاب الثقافي الاسلامي في المنطقة الاسلامية كلها.
فلقد عبرت نتاجاته الفكرية العملاقة عن عبقرية الثقافة الاسلامية وأصالتها وقدرتها على مواجهة الغزاة بطريقة لم تواجه بها ((ثقافة)) الرجل الابيض! منذ جاست جحافله خلال الديار الاسلامية المقدسة.
لقد أدرك السيد الشهيد رضي اللّه عنه مكامن الخطر، وأمسك براس الخيط الذي ينتهي بالمسلمين إلى إستئناف المسيرة، وذلك بأن يأتوا البيوت من أبوابها.
ولسنا بصدد الحديث عن مشاريع السيد الصدر المختلفة الهادفة إلى بلورة وسائل النهضة الجديدة، وانما يهمنا هنا فحسب الحديث عن حركته التجديدية في مجال الثقافة والفكر.
لقد كان المفكر الشهيد رضي اللّه عنه يسعى جاهداً أن يبرز عبقرية الثقافة الاسلامية من خلال عبقرية المنهج وعبقرية الطرح.
لقد كانت الامة ـ خصوصاً في العراق ـ لا تعاني من عقدة تجاه المضمون الحقيقي للاسلام، إلاّ انها كانت تعاني من مشكلة عدم عرض المضمون بأُسلوب عصري يفهمه الناس.
وهكذا شمّر المفكر الشهيد رضي اللّه عنه عن ساعد الجد ليعالج المشكلة من أساسها:
1ـ فبدلاً من أن يتحدث ـ كما تتحدث به المصطلحات الفقهية مثلاً ـ عن آداب التجارة، والبيع الفضولي، والخيارات، والمساقاة، والاجارة وما إليها من معاملات مالية، إتجه رضوان اللّه عليه، إلى إكتشاف المذهب الاقتصادي في هيكليته العامة، وفي أُطر هذه الهيكلية.
2ـ وبدلاً من ان يتحدث حول المعاملات المحرمة في التجارة مثلاً يتجه إلى الحديث حول الحرية في الاقتصاد الاسلامي.
3ـ وبدلاً من الحديث حول البطالة، والفقر وحرمة الكسل عن كسب الرزق يدرس المشكلة الاقتصادية وكيف يعالجها الاسلام.
4ـ وبدلاً من أن يلجأ إلى الحيل الشرعية، يطرح مشروع البنك اللاربوي في الاسلام.
5ـ هذا ويتجنب السيد الشهيد رضي اللّه عنه بشكل كامل مصطلحات المذاهب الاخرى، ويبرز المصطلح الاسلامي والمنهج الاسلامي والمضمون الاسلامي في ثوب مبارك جديد.
لقد حافظ المفكر الكبير على أصالة الشريعة بشكل كامل، مع التماس منهج تجديدي يمتطي صهوة المعاصرة بأعلى درجاتها، وأرفع مستوياتها كما يتضح ذلك من خلال مؤلفاته العملاقة جميعها.
فجزاه اللّه خير الجزاء، وحشره مع آبائه وساداته محمد وأهل بيت الطاهرين عليهم السلام.
من معالم الدور الثقافي والسياسي للشهيد الصدر رضي اللّه عنه من خلال إستقراء واع لخريطة الاحداث السياسية التي جرت على الساحة العراقية منذ مطالع هذا القرن الميلادي حتى اليوم، يتضح ان القيادة الدينية المباركة في العراق قد اتخذت ثلاثة قرارات تاريخية حاسمة شكلت إنعطافاً في تاريخ العراق المعاصر:
1ـ قرار القيادة الدينية في العراق لمواجهة الغزو والاحتلال البريطاني الغادر للعراق على مدار عشر سنوات متواصلة، وقد جُسد هذا القرار في ثلاثة مواقف تاريخية مخلدة:
أ ـ مواجهة الهجمة البريطانية أثناء دخول القوات البريطانية للعراق بداية الحرب العالمية الاولى عام 1914 م حتى سقوط بغداد، حيث قاد المواجهة السيد محمد سعيد الحبوبي، والسيد مهدي الحيدري، والشيخ مهدي الخالصي وأمثالهم من رجال العلم والجهاد، الذين قادوا جحافل الامة من أجل انقاذ العراق من جيوش الكفر التي جاست خلال الديار.
ب ـ تفجير ثورة شعبان الاولى المعروفة للّه بثورة العشرين الكبرى الظافرة من أجل طرد الغزاة وإقامة الحكم الذي تختاره الامة في العراق، حيث كانت القيادة الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية قد فجرت الثورة المذكورة وخططت لمسيرتها لعدة شهور، وعلى رأسها العلماء المجاهدين الذين مارسوا ذلك الدور المرحوم الشيخ ميرزا محمد تقي الحائري الشيرازي، وشيخ الشريعة الاصفهاني، والشيخ مهدي الخالصي وأمثالهم رضوان اللّه عليهم أجمعين.
ج ـ مواجهة الحكومة الصُورية التي شكلها المندوب السامي البريطاني في العراق برئاسة العميل عبد الرحمن النقيب والموقف السلبي منها، مما تسبب في إبعاد خيرة علماء العراق إلى إيران بواسطة حكومة المجرم عبد المحسن السعدون، وهي أو عملية نفي جماعي للعلماء من العراق في العصر الحديث.
2ـ قرار القيادة الدينية في العراق بايقاف حالة الحرب إذا صحّ التعبير، وإبرام عقد الهدنة، وما ترتب على ذلك القرار من انسحاب القيادة الاسلامية العليا ومؤسساتها عن المواجهة، والتوجه لحفظ الكيان الداخلي للامة والطائفة والحوزة الدينية خوفاً من ذوبانها في ظل مؤامرة دولية أشد خبثاً وخطراً من الغزوة الصليبية على الامة في القرن الحادي عشر الميلادي.
وكان هذا القرار يلامس قرار الامام الحسن السبط عليه السلام في مهادنة معاوية بن أبي سفيان بدرجة ما من حيث تقدير المصلحة أو من حيث مراعاة الظروف الذاتية والموضوعية.
ولا بد من قراءة واعية لوضع الامة في العراق يومذاك، ووضع المنطقة، وحتى وضع إيران التي أبعد إليها العلماء، حيث كان يحكمها رضا شاه صنيعة اليد التي أبعدت العلماء المجاهدين من العراق إلى إيران.
ومن منا يستطيع أن يحكم على تلك القيادة الاصيلة بحكم ظالم، وهي التي قادت كفاح الامة العسكري والسياسي منذ دخول الانجليز للعراق عام 1914 م حتى أواخر حزيران عام 1923، حيث تم نفيهم الجماعي إلى إيران.
3ـ القرار التاريخي الثالث: كان قرار تكييف المشروع السياسي الاسلامي للعراق والمنطقة في ضوء فقه مدرسة آل محمد صلى اللّه عليهم أجمعين وفي ضوء أجواء سياسية واجتماعية أرحب.
وقد بدأ الاعداد لهذا المشروع السياسي المبارك في نهاية الخمسينات حيث الانفراج السياسي النسبي الذي شهده العراق بعد سقوط الملكية وقيام الحكم الجمهوري في أواسط تموز من عام 1958 م.
وكانت مستلزمات بلورة المشروع السياسي الاسلامي متوفرة جداً وذلك لتوفر مفردات أساسية للبناء:
أ ـ وجود مرجعية عليا رشيدة كان قطب رحاها الامام الراحل السيد محسن الحكيم قدس اللّه نفسه الزكية، وحوله كواكب من مراجع المسلمين، قلّ نظيرهم في تاريخ العراق، ولعل هذه المرجعية المذكورة من حيث آثارها وقدراتها لا تختلف عن مرجعية بداية هذا القرن التي قادت الكفاح طوال عقد من الزمان ـ كما ذكرنا ـ .
ب ـ وجود حوزة علمية مزدهرة ومؤهلة للنهوض باعباء المسؤولية في ضوء الظروف الجديدة .
ج ـ انتشار التحسس السياسي، والثقافة العامة لدى الامة، مما يؤهل طبقات واسعة منها للالتفات حول أي مشروع سياسي تتبناه القيادة الدينية المباركة .
د ـ التغيير في المعادلة السياسية في العراق والعالم نتيجة للتغير ميزان القوى في العالم.
وفي هذه المرحلة من تاريخ العراق سطح نجم الفقيه العلوي المفكر العملاق السيد محمد باقر الصدر رضوان اللّه عليه، وقد تجلى دوره في المفاصل التالية للمشروع الاسلامي السياسي الذي استقر في رحم الحوزة العلمية وبرعاية القيادة الدينية المعاصرة في العراق.
أما أهم مفاصل مساهمات السيد الشهيد رضي اللّه عنه في هذا المشروع في ما يلي: ((علماً بأن لغيره من رجال العلم والجهاد أدواراً أُخرى)) .
1ـ توفير بديل فكري إسلامي مناسب للمرحلة: قد لا تتضح عظمة هذه المهمة لابناء هذا الجيل كما اتضحت لابناء الجيل الذي عاش أواخر الخمسينات وبداية الستينات في العراق، حيث كان الفكر الماركسي والموجة القومية الناصرية تسيطر على الشارع العراقي، ولم يجد الباحث عن الاسلام غير المؤلفات الحوزوية الاختصاصية القديمة ككتب الاصول والفقه وما إليها التي ليس من شأنها أن تعرض الاسلام وأحكامه بشكل يساهم في اقبال الامة عليه ـ كما ذكرنا ـ .
وبينما يهزم الكثير من الناس أمام الفكر الماركسي المعروف بشتى الاساليب والصور التعبيرية، يتصدى فقيه واع يجمع بين حرارة الايمان وحرارة الشباب، وحرارة الحرص على الاسلام مثل السيد محمد باقر الصدر رضي اللّه عنه فينازل الماركسية والاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية وكشف زيفها للامة وتآمرها على الانسانية، ثم يقدم البديل الاسلامي لعلاج مشاكل الانسانية المعذبة من خلال رسالة الدين الحق .
((وهكذا تجاه الماركسية والرأسمالية بكتابي ((فلسفتنا واقتصادنا)) وسواهما، ويوفر المفكر الشهيد قدس سره بذلك أمضى سلاح للامة في معترك فكري وسياسي رهيب، لم يشعر بحقيقة ابعاده بشكل دقيق إلاّ من عاش تلك الفترة العصبية من تاريخ الامة .
وقد جاء الكتاب الاول مبرهناً على صحة النظرة الاسلامية للوجود، وتهافت النظريات الاخرى كافة .
وجاء ((اقتصادنا)) داحضاً للنظرية الاشتراكية والرأسمالية في الاقتصاد كاشفاً عن أصالة العلاج الاسلامي لمسائل الاقتصاد على مستوى التملك والحرية الاقتصادية والمشكلة الاقتصادية والعدالة، ومشكلة التوزيع، ومسألة الارض وما إليها، إضافة تفنيد المادية التأريخية كعقيدة يعتمدها الماركسيون في تبرير المنحى الاقتصادي لديهم .
وقد كان للكتابين المذكورين ـ رغم جلالة ما كتبه يراع السيد الشهيد رضي اللّه عنه من تآليف أُخرى ـ الدور الاكبر في رفد المسيرة الاسلامية في العراق ومواجهة الغزو الفكري الأوربي للعراق .
وهكذا وفر المفكر الشهيد الصدر مفردات عصرية للخطاب الاسلامي، تحتفظ بأعلى درجات الاصالة، وتتسلح بأحدث وسائل المعاصرة .
وقد تميزت نتاجات السيد الصدر رضي اللّه عنه بالمنهجية العلمية التي لم تتوفر عند أغلب المفكرين المسلمين المعاصرين، الذين يجنح أكثرهم إلى الاسلوب الخطابي أو الاستغراق في المنهجية الادبية، دون ان يعتمد نهجاً علمياً صارماً ـ كما وفق له سيدنا المفكر الكبير رضوان اللّه عليه ـ .
ان هذا الخطاب الثقافي العملاق، الذي وفره السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه للنهضة الاسلامية وللثقافة الاسلامية المعاصرة في مضمونها المبلور المميز وفي أدواتها التعبيرية الكفؤة وفي منهجيتها العلمية العصرية الواثقة .
ان هذا الخطاب لم يشعر بقيمته إلاّ من عاش فترة الستينات في العراق، حيث تلتهب الساحة يومذاك بصراع فكري رهيب بين انصار الاشتراكية الماركسية والديمقراطية والقومية وقبالهم انصار النهضة الاسلامية كل بأدواته التي يملك .
ولم يكن للاسلاميين يومذاك سلاح فاعل ومضمون مبلور قبل ظهور ((فلسفتنا واقتصادنا)) لقد كان اقتصادنا وغيره بحق سيفاً ـ وأي سيف ـ شهره الاسلاميون العاملون ببسالة واثقة في وجوه انصار الفكر الوافد الرخيص .
ولعلي لا أبالغ إذا قلت: ان شطر ما حققناه من نصر فكري في الستينات كان بذلك الحسام الذي جرده السيد الصدر رضي اللّه عنه من غمده .
وهكذا فليست خيالاً مجنحاً، ولا اماني عريضة ان ندعي ان منهجية السيد الصدر رضي اللّه عنه في نتاجه الفكري عموماً والطريقة التي امتطاها لمواجهة الحركة الثقافية التغريبية في منحنياتها الاسلامية لم يألفها الخطاب الثقافي الاسلامي في المنطقة الاسلامية كلها .
فلقد عبرت نتاجاته الفكرية العملاقة عن عبقرية الثقافة الاسلامية وأصالتها وقدرتها على مواجهة الغزاة بطريقة لم تواجه بها ((ثقافة)) الرجل الابيض! منذ جاست جحافله خلال الديار الاسلامية)) ((هامش: انظر الدراسات السابقة بين ص66 ـ ص68)) .
2ـ المساهمة الفعلية في بلورة الاطروحة السياسية الاسلامية في ضوء ظروف الامة وطموحاتها : لقد سعت عبقرية هذا المفكر العملاق لتعميق ثلاثة محاور من أجل أن تتبلور آفاق الاطروحة السياسية الاسلامية في العراق :
أ ـ المحور الاول: اهتمام القيادة الدينية بعموم الامة لتنمية وعيها الديني والاخلاقي، ورقع مستوى حسها السياسي، وقد تبلور هذا الاهتمام بمجموع الامة في مظاهر عديدة نذكر منها:
*نشر المكتبات الدينية العامة في طول البلاد وعرضها، كمشروع للتوعية الجماهيرية على أوسع نطاق، وقد حملت بؤرُ الخيرِ هذه اسمَ مؤسسها المرجع الراحل السيد محسن الحكيم قدس اللّه نفسه الزكية، حيث بلغ ما افتتح في البلاد حوالي سبعين مكتبة دينية عامة .
تنهض بتوفير الكتاب، والمحاضرة وتعتقد الاجتماعات الدينية العامة، وتعكس رأي الحركة الدينية في الاحداث في أغلب الاوقات من خلال البيان أو الخطاب أو ما إلى ذلك *ومن مظاهر الاهتمام بالامة نشرُ وكلا المرجعية الدينية في طول البلاد وعرضها ليكونوا محاور لبث الهدى ونشر الثقافة، وترويج الاحكام.
*ومن مظاهر هذه المهمة: رعاية المنبر الحسيني وتطويره مآتم ومواكب، وقد تطورت المدرسة الحسينية بفعل رعاية الحوزة العلمية في النجف وكربلاء تطوراً عالياً حتى بلغ الحال ان ينتظم شباب الجامعة في مواكب حسينية رائعة في العاشر من المحرم الحرام كل عام، تستقبلها القيادة الدينية العليا بكلمة توجيهية كريمة بجوار سيد الشهداء الحسين السبط عليه السلام.
هذه بعض مظاهر هذا المحور، وهناك مصاديق أخرى كثيرة.
ب ـ المحور الثاني في الاطروحة: تشكيل تنظيم إسلامي سياسي مبلور لسد الحاجة في هذا الجانب من الحركة الدينية العامة، حيث انتظم في هذا الاطار آلاف الشباب من أبناء العراق الطيبين، تحت رعاية القيادة الدينية ومفاصلها المجاهدة.
ج ـ بلورة قيادة العلماء للمسيرة الاسلامية المعاصرة: من خلال إطروحة المرجعية الموضوعية التي تبناها الفقيه الشهيد قدس سره.
وأهم محاور هذه الفكرة ما يلي : 1 ـ ايجاد قيادة سياسية ذات بعد شرعي تحتضن نهضة الامة في العراق وتقودها نحو أهدافها.
2ـ تهدف الاطروحة إلى تبني المرجعية الصالحة ((للاهداف الحقيقية التي يجب ان تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الاسلام وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الاهداف، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي تتصرف دائماً على أساس الاهداف)) على حد قول السيد الشهيد.
3ـ تحويل المرجعية إلى جهاز لا يتأثر بموت المرجع، فإذا توفي المرجع الصالح يكون بمقدور المرجع الصالح الذي يرثه أن يبدأ ((ممارسة مسؤولياته من حيث انتهى المرجع العام السابق بدلاً عن أن يبدأ من الصفر ويتحمل مشاق هذه البداية وما يتطلبه من جهود جانبية، وبهذا يتاح للمرجعية الاحتفاظ بهذه الجهود والاهداف وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.
ويتم ذلك عن طريق شكل المرجعية الموضوعية إذ في إطار المرجعية الموضوعية لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات ويمارس العمل المرجعي الرشيد، والشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأما الموضوع فهو ثابت)).
على حد تعبير المرجع الشهيد رضي اللّه عنه.
4ـ تعمل المرجعية الصالحة على حمل العمل الاسلامي القائم لدى الامة بواسطة ((لجنة رعاية العمل الاسلامي والتعرف على مصاديقه في العالم الاسلامي وتكوين فكرة عن كل مصداق وبذل النصح والمعونة عند الحاجة)).
هذه أهم المفاصل التي يحتويها المشروع الاسلامي السياسي المعاصر الذي انتجته عبقرية القيادة الدينية المباركة في النجف الاشرف، وكربلاء المقدسة والكاظمية الشريفة حيث سارت عملية التطابق بين أهداف هذه المفاصل متضامنة متكاملة تحت ظل قيادة دينية شرعية مباركة.
وما لم ترع الحركة الاسلامية العراقية هذه الحقائق الثلاثة المكونة للمشروع السياسي الاسلامي الذي تبلور في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، على يد رجال العلم والجهاد في هذه الامة والطائفة، فأن خللاً خطيراً سيبقى مواكباً لمسيرتنا الحاضرة والمستقبلية، وإذا لم ينتبه المخلصون بجدية إلى هذه الحقائق ويعملوا على مراعاتها، فأنهم يتحملون وزراً عظيماً في الدنيا والاخرة.
مع السنن التأريخية في فكر السيد الصدر رضي اللّه عنه مقدمة : منذ عصور بعيدة والمهتمون بشؤون الحضارة الانسانية، وحركة أحداث التاريخ يستقرئون ما وراء الاحداث الكبرى في تاريخ الانسان، ويضعون لها التفسيرات، ويتصورون خلفياتها المحرِكة، وقد تباينت آراء المفكرين والفلاسفة في تصورهم للخلفيات المحرِكة والفاعلة في صنع الاحداث الكبرى في التاريخ.
فبعضهم تصور ان العامل الجغرافي هو الحاكم والفيصل في حركة الاحداث، فالامة التي تمتلك ثروات طبيعية من ماء، وتراب، ومناخ مناسب وثروات باطنية مناسبة أقدر من غيرها على صناعة الحضارة في زعم هذا الفريق من الفلاسفة وبعض من المفكرين افترض ان العامل الجمالي وظهور الفن في أمة ما باعث أساس لنهضتها وحركتها نحو المجد، ويفترض هذا الفريق من المفكرين ان نهضة أوربا الحديثة بدأت بحركة الفن الحديث من رسم ونحت وما إلى ذلك.
وفريق يتجه إلى العامل الروحي كأساس في حركة الاحداث.
ومنم من يرى ان امتلاك ((القوة هي العامل المؤثر في حركة الاحداث، وصناعة الحضارة وبعكسها يقع العكس.
وبعضهم من يحكّم وسائل الانتاج في صيرورة الاحداث.
وقد لعب العامل الواحد دوراً مركزياً في بلورة نظريات الكثير من المفكرين حول الحضارة والتاريخ ابتدأ من ماركس إلى فرويد إلى سارتر إلى غيرهم..
وفي العالم الاسلامي، تأثر الموقف العام للمثقفين ورواد الاصلاح عموماً بالثقافة الأوربية حيث تأثر مثقفونا بالموجات الفكرية هناك بشأن البناء الحضاري وحركة التاريخ وما إليها، لذا، فأنك لا تكاد تجد ـ لعدة عقود من الزمان ـ غير المتأثرين بماركس ((المادية التأريخية)) وفرويد ((أساسية العامل الجنسي))، ودارون ((في موضوع الصراع من أجل البقاء)) وبرتراندرسل ((مبدأ القوة)) وجون بول سارتر ((الوجودية)) ـ وغيرهم.
وحتى الذين كتبوا حول سنن التاريخ مستلهمين القرآن الكريم في ذلك، وقع بعضهم تحت عامل التأثير بالفيلسوف البريطاني توينبي في دراسته للتاريخ كما هو حال المفكر المرحوم مالك بن نبي في فصل الدورة الخالدة من دراسته ((شروط النهضة)).
وأشهر من كتب من الاسلاميين حول التاريخ والحضارة في العقود الاخيرة هما السيد الشهيد آية العظمى السيد محمد باقر الصدر رضي اللّه عنه وآية اللّه الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
وقد بلور السيد الشهيد رضي اللّه عنه أفكاره حول قوانين حركة التاريخ ضمن مجموعة من المحاضرات في تفسير القرآن الكريم ألقاها بين 17 / جمادى الاولى من عام 1399 هـ لغاية رجب المرجب من نفس العام، حيث جمعت تلك المحاضرات القيمة في كتاب سمي بالمدرسة القرآنية.
أما الشيخ شمس الدين، فقد كان موفقاً في دراسته حول ((حركة التاريخ عند الامام علي عليه السلام)) التي ظهرت طبعتها الاولى في بيروت عام 1985 م.
هذا، ومن الجدير ذكره، ان السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه له غير ما ذكرنا مجموعة من الاحاديث المتناثرة حول قوانين حركة التاريخ وصنع الحضارة وسقوطها تارة في مقالات تفرضها المناسبات كحديثه الذي نشرته مجلة الاضواء النجفية في عددها الخاص الصادر في 15 شوال 1380 هـ مفهوم تاريخي للانسانية أو في مناقشاته المادية التاريخية في ثنايا ((فلسفتنا)) و ((اقتصادنا)) أو في كتاب المدرسة الاسلامية.
ومن الجدير ذكره، ان السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه لم يكن مؤرخاً يهتم بسرد الوقائع وتحليلها، وربطها، وانما كان يتعامل مع التاريخ باعتبار السيد الشهيد رضي اللّه عنه رجل رسالة وعقيدة، ورائد نهضة وحركة من أجل استئناف المسلم لوجوده الحضاري على ظهر هذا الكوكب للخلاص من كبوته، وبعده عن المسيرة الهادية.
ورغم اهتمام السيد الصدر رضي اللّه عنه في بلورة السنن التي تحكم مسيرة التاريخ حسب ما يراها القرآن المجيد، وتقررها كلمات اللّه عزّ وجلّ في هذه المحاضرات المخلَّدة، فأننا نلاحظ ان الظروف لم تكن مهيأة أن توفر للسيد الشهيد قدس سره أن يطرح عموم تصوراته المشربة بروح القرآن الكريم حول مسيرة التاريخ، والمؤثرات الفاعلة في حركته..
لان هذه المحاضرات قد ألقيت في الاشهر الاخيرة من حياته الشريفة، ـ حيث استشهد على يد الطغمة البعثية الكافرة الحاكمة في العراق بعد القائه لاخر محاضرة من هذه المحاضرات القيمة بحوالي عشرة أشهر ـ .
* السنن الحاكمة في التاريخ كما استوحاها السيد الشهيد رضي اللّه عنه من كلمات اللّه عزّ وجلَّ: ليسو بوسع حديث مقتضب ـ كهذا الحديث ـ ان يستوعب كافة المفاهيم التي استوحاها فقيد الكفر الشهيد الصدر رضي اللّه عنه من دراسته المتأنية للقرآن الكريم، خصوصاً الآيات التي تدور حول القوانين التي تحرك التاريخ الانساني، وتفعل فعلها الايجابي أو السلبي في.
إلاّ أن بوسع هذا البحث الموجز فحسب ان يشير إلى المحاور المركزية التي شكلت الهيكل العام لما استوحاه السيد الشهيد رضي اللّه عنه من كلمات اللّه عزّ وجلّ بشأن القوانين المتحكمة بصنع أحداث التاريخ الكبرى في حياة الانسان.
فنقول: ان من الملاحظ ان يراع السيد الشهيد رضي اللّه عنه قد تناول مسألة قوانين التاريخ في ضوء آيات اللّه تعالى وكلماته التي حملها كتاب اللّه المجيد، وكان تناوله لها من جوانب عديدة حسب ما صدعت به الآيات، وحسب الفعل الواقعي لهذه السنن في مسيرة الانسان.
ومن أجل ذلك، فأنك تجد بين ثنايا أحاديث المفكر الشهيد (ره) حول هذه المسألة الفعل الايجابي والفعل السلبي، أي أنك تلحظ القوانين التاريخية، وهي تبني الحضارة، وتتسلق بالانسان إلى الهرم، ثم تراها وهي تنزل بالانسان إلى أسفل سافلين، ولكل من هذه الظواهر شروطها ومستلزماتها وحيثياتها، انك تقرأ عند السيد الصدر رضي اللّه عنه فعل السنن التاريخية التي أودعها الخالق جلّ وعلا في هذه الحياة، وهي تثير الحياة البشرية من حولها، حيث تورق المسيرة الانسانية وتنبت من كل زوج بهيج، ثم تقرأ كيف تذبل الحياة وتذوي، ثم يهيج اخضرارها فيصفر ثم يكون حطاماً، كل ذلك وفق عوامل وشروط، وها نحن نسجل أهم السنن التأريخية الخالدة التي استوحاها فقيد المعرفة من نير المعرفة:
1ـ التغير في حيّاة الامم قضية شرطية: من ابرز السنن الحاكمة في مسيرة الانسان عبر وجوده على ظهر هذا الكوكب، هو ان التغير والتحول في حياة الانسان منوط بالانسان نفسه، فهو الذي يحدد مصيره في مقياس الخير والشر ومقياس الذلة والعزة، وفي اطار الصعود والنزول، فقد شاء اللّه عزَّوجلَّ ان تكون ارادته جلّ وعلا في مسألة التغيير في حياة الانسان منسجمة مع ارادة الانسان نفسه، فإذا إختارت الجماعة الانسانية طريق العزة والمجد والسمو، انسجمت مشيئة اللّه تعالى مع هذه الارادة، وجاء الامداد الغيبي لتحقيق أمل الجماعات المصممة على صنع المجد.
وان اختارت البشرية سبل الضلال المعوجة، وتنكبت الصراط، واتخذت لنفسها طريق الذلة والهبوط والعدوان، تعرضت لقانون الاملاء والاستدراج حتى تصل الهاوية الحتمية..
وقد استلهم السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه هذا المفهوم من قوله تعالى ((ان اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) ((هامش: سورة الرعد: 11)).
((ذلك بأن اللّه لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).
كما ان عدداً من الآيات الكريمة مما ذكرها السيد الفقيد رضي اللّه عنه أو لم يذكرها ضمن أبحاثه القيمة تؤكد هذه المضامين من قبيل قوله تعالى: ((وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا..)) ((هامش: سورة الجن: 16)). ((والذين اهتدوا زادهم هدى)).
يقول السيد الشهيد رضي اللّه عنه ما يلي: ((هذه السنة التأريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني إلى ان هناك علاقة بين تغييرين: بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية، انه متى ما وجد ذلك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم، هذه القضية شرطية بيّن القانون فيها بلغة القضية الشرطية)) ((هامش: المدرسة القرآنية: محاضرات الامام محمد باقر الصدر قدس سره: ص105)).
ويقول أيضاً: ((ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).
التغيير هنا أسند إليهم فهو فعلهم، ابداعهم وارادتهم.
اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية، وحينما يحتمل ابداع الانسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماماً مع اختيار الانسان، بل ان السنة حينئذ تغطي اختيار الانسان، تزيده اختياراً وقدرة وتمكناً من التصرف في موقفه)) ((هامش: المصدر السابق: ص110)).
وهكذا يؤكد السيد الشهيد رضي اللّه عنه على أهمية فعل الانسان وأثره في صنع مصيره في التاريخ، وتحديد موضعه المختار من قبله.
2ـ الاسلام قانون تاريخي لا يمكن تخطيه : الاسلام حين يعرضه القرآن الكريم، يعرضه بلحاظين:
أ ـ باعتباره تشريعاً إليهاً أو قراراً ربانياً، يدعو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومن بعده من أئمة الهدى الناس إلى التزامه، والتمسك بمضامينه وقيمه العظيمة، فهو بهذا ارادة تشريعية.
ب ـ ولكن الاسلام ن جانب آخر سنّة إلهية تكوينية إذ هو فطرة اللّه تعالى التي فطر عليها الناس، وجبلوا عليها، تماماً كما جبلوا على الغرائز المركزية التي ركبت في كيان الانسان.
وقد عبّرت الاية الثالثة عشرة من سورة الشورى عن الحالة التشريعية للاسلام، كرسالة وقوانين إلهية ينبغي على الناس ان ينضبطوا بها، ويتمسكوا: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم، وموسى، وعيسى ان أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه))، كما عبّرت الاية الثلاثون سورة الروم عن كون الاسلام سنّة تاريخية ترتبط بتكوين الانسان، وان مخالفة هذه السنة يعني التنكر للطبيعة التي جبل عليها الانسان، الامر الذي يؤدي بالمخالفين والمتكبرين لهذه السنة، ويسوقهم ومن معهم إلى عقاب تاريخي صارم لمخالفتهم لسنة الحياة الطبيعية: ((فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).
ان مخالفة هذه السنة، وهذا القانون، ومحاولة تبديله أو إلغائه تحت أي عذر سيؤدي إلى حلول عقاب تاريخي طبيعي عاجل، ولكنه عاجل بحساب السنّة التاريخية، لا بحسابات الفرد العادي وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: ((ويستعجلونك بالعذاب، ولن يخلف اللّه وعده، وان يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون)) ((هامش: سورة الحج: 47)).
ويمتاز هذا العقاب عن غيره، انه شامل للجماعة التي تحمّلت اعبأ التجاوز على الدين كسنة، وليس يحل على افراد معينين كالعذاب الذي يحل بسبب المخالفة الشرعية المعهودة ((هامش: المدرسة القرآنية: محاضرات سماحة محمد باقر الصدر رضي اللّه عنه: ص110)) وتشبه حالة كون الاسلام سنة تاريخية تتعرض الجماعات المخالفة لها إلى الدمار.
تشبه هذه الحالة: حالة مخالفة سنة الزواج بين الجنسين التي جعلها اللّه تعالى هي الوضع الامثل للعلاقات الجنسية بين الذكر والانثى، فأن مخالفة هذه السنة الطبيعية ومقاومتها، والانحراف بها إلى الشذوذ أو المحاربة سيؤدي حتماً إلى تدمير الجماعات الواقعة تحت تأثير هذه المخالفة لهذا القانون الطبيعي ـ كما أفاد السيد الشهيد الصدر رضي اللّه عنه ـ .
3ـ هناك فرق بين الرسالة الالهية والجماعات المندمجة بخطها من ناحية صلتها باللّه عزّ وجلّ : فالرسالة الالهية تنتمي إلى اللّه عزّ وجلّ في مضمونها وتمثل قيمَه وإرادته التشريعية التي لا تخضع للزمان والمكان، اما الجماعات المتمسكة بهذه الرسالة المباركة، فانها تخضع للعامل الزمني والمكاني، وتسير في نموها وارتقائها أو في نصرها واخفاقها ضمن الشروط الموضوعية المنسجمة مع سنن التاريخ، ففوز الجماعات المؤمنة بالرسالة وفق شروط موضوعية، كذلك اخفاقها يكون تابعاً لشروط موضوعية فعلية.
وهكذا، فأن حركة التغيير لدى الجماعات المؤمنة باتجاه القمة أو بالاتجاه العكسي، انما يسير وفق جهد بشري يلتمس مقومات وجوده من الواقع الموضوعي والذاتي..
وهكذا يتحدد الفرق بين الجماعة في حركاتها الفعلية الواقعية، حيث مضمونها البشري المحكوم بالزمان والمكان وبين رسالتها السماوية ذات المضمون الرباني والهوية الالهية..
ومن هنا، فلا بد للجماعة المؤمنة أن تبذل وسعها من أجل البحث عن أفضل الوسائل للعمل والتغيير الذي يجعلها موفقة في استثمار السنن التاريخية بأعلى درجات الاستثمار..
كما ان على الجماعات المسلمة ان تعمل وسعها لاكتشاف سنن التاريخ والتحكم فيها من أجل أن تتسلق الجماعات قمة الهرم بأقدام الجدية والواقعية وحسن الاداء والاستفادة من الامكانات المادية والمعنوية المتاحة.
4ـ للامم والشعوب آجال ـ كما للافراد ـ: وفي ضوء آيات الكتاب العزيز يستنبط السيد الشهيد رضي اللّه عنه ان للامم والجماعات والشعوب آجالاً محددة ـ كما للافراد ـ فتقضي نحبها كما يقضي الافراد، فالامم والجماعات في منطق القرآن الكريم، لها حياة، وحركة، وموت، كما الافراد يحيون ويتحركون ويموتون: ((لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) ((هامش: سورة يونس: 49)).
((وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون)) ((هامش: سورة الحجر: 4 ـ 5)).
ويقصد القرآن في هذا النمط من الايات، ان الموت لا يحل بكيان الافراد، لان الافراد لا يموتون دفعة واحدة، وانما الجماعة والامة بوجودها المعنوي ـ كأمة أو كجماعة ـ هي التي تموت، فيقال حينئذ سقطت الدولة الفلانية رغم وجود أفرادها، وسقط المجتمع الفلاني والمعسكر الكذائي رغم الوجود المادي للافراد، فالاجل المقصود هنا بالنسبة للجماعات يعبر عن حالة متعلقة بالجماعة ووجودها المعنوي ولا تتعلق بالافراد وبوجودهم الفردي: ((وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً.
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لمهلكهم موعدا)) ((هامش: سورة الكهف: 58 ـ 59)) .
((ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم، فأن اللّه كان بعباده بصيرا)) ((هامش سورة فاطر: 45)).
وهذا الموعد المحدد لهلاك الامم لا يقصد به هلاك في الاخرة، ولا موعد الهلاك الاخروي، فالهلاك هنا: هلاك دنيوي على الارض ويصب الامم التي تطغى وتظلم وتستكبر، وهذا العقاب الدنيوي عادة يصيب الجميع حتى الصالحين في ذلك المجتمع، ولذا، فقد شمل التيه الذي أصاب بني إسرائيل حتى موسى كليم اللّه باعتباره جز من هذه الامة التي اصابها العقاب بعد ظلمٍ منها..
والحسين سبط خاتم النبيين صلى اللّه عليه وآله وسلم تعرض للقتل والسلب بشكل فظيع حينما حلّ البلاء بالمسلمين في عهد بني أمية ويزيدهم الطاغية..
هذا هو منطق سنة اللّه تعالى في الامم: ((واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة.
واعلموا ان اللّه شديد العقاب)) ((هامش: سورة الانفال: 25)).
5ـ ما تقوم دعوة للحق إلاّ ويصدُّها دعاة الباطل : وهذه سنة تاريخية أيضاً ان دعوة الحق أو دولة الحق لا بد أن يواجهها الطواغيت وأصحاب الترف، والمسرفون بالمنابذة والعدوان..
فهناك علاقة تناقض بين دعوة الحق والطغاة والمترفين: ((وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها: انا بما ارسلتم به كافرون .
وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)) ((هامش: سورة سبأ: 34 ـ 35)).
ومن هنا، فأن الصراع سيبقى سجالاً بين دعوات الحق وأهل الباطل، ولا بد أن يتعرض أهل الحق للعدوان والقتل، ولذا، لا بد أن يحتاطوا لامرهم، ويتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر، ويعدّوا للامر عدته المادية والمعنوية لمواجهة الموقف، والصمود عند اللقاء، ومعرفة عقبات الطريق..
هذه بعض القوانين التاريخية التي سجلها القرآن الكريم لتتدبرها الامم، وتعتبر بها وتستلهمها في مسيرتها نحو الحق.
وقد ألقى السيد الشهيد رضي اللّه عنه عليها الاضواء في محاضراته القيمة التي أشرنا إليها في مطلع هذا الحديث.
والعاقبة للمتقين.
عز الدين سليم