التفسير الاسلامي للتاريخ و دور الشهيد الصدر فيه الاستاذ صائب عبد الحميد

[lwptoc]

اولا اسهامات المسلمين في تفسير حركة التاريخ:

ان الاسهامات الجادة في تفسير التاريخ جاءت، عند الاسلاميين، متاخرة كثيرا قياسا بغيرها من العلوم التي ابدع فيهاالمسلمون مبكرا وقدموا فيها نتاجا غزيرا ومعمقا، كالفقه، والتفسير، والحديث، والقراءات، والنحو، والاداب،والاصول، والكلام، والترجمة، والفلسفة، والتدوين التاريخي، والجغرافيا، وعلوم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء،والطب، والفلك وغيرها.

الامام علي بن ابي طالب (ع) واذا كنا نجد، في برامج الامام علي (ت 40ه) (ع) وخططه التنظيمية، مادة مهمة في تفسير حركة التاريخ، سابقة في‏عصرها اي اثر عالمي في هذا المضمار، فقد بقيت هي نفسها من دون ادنى زيادة تذكر، او تفصيل او تعليق، حتى اوائل‏القرن السادس الهجري، حيث ظهرت من جديد في مشروع ابي بكر الطرطوشي (ت 520ه).

لقد تناول الامام علي (ع)، خلال تنظيره للسياسة المدنية في الاسلام، محاور مهمة تدخل في اطار حركة التاريخ، من‏قبيل العوامل المسهمة في صناعة الحضارة، وعوامل نمو الدولة و اسباب انهيارها.

فعلى مستوى المحور الاول العناصر التي تقوم بها الدولة:

قسم المجتمع الى “طبقات‏” “لا يصلح بعضها الا ببعض‏”،و”لاغنى ببعضها عن بعض..”، وهذه الطبقات هي: الجنود، والقضاة، والعمال، والكتاب، والتجار، والصناع، وعامة الناس‏اهل الحاجة والمسكنة.

فالجنود باذن اللّه حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن.

ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج اللّه لهم من “الخراج‏”. ثم لا قوام لهذين الصنفين، الا بالصنف الثالث من “القضاة والعمال والكتاب‏”، لما يحكمون من المعاقد (العقود)،ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها.

ولا قوام لهم جميعا الا ب‏”التجار وذوي الصناعات‏”..ثم “الطبقة السفلى‏” من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم (مساعدتهم وصلتهم) ومعونتهم.. “ولكل على الوالي‏حق بقدر ما يصلحه‏” . وهكذا تكون طبقات المجتمع المتكاملة المت‏آزرة بمثابة الاركان التي تقوم عليها الدولة ويستقر امرها.

وفي المحور الثاني كيف تحافظ الدولة على نمو مطرد؟ عالج الامام (ع)، في سياسته المدنية، الامور التي تحافظ على‏تماسك المجتمع والدولة، وتدفع بالحضارة الى امام، فهو يكتب الى واليه على مصر، مالك الاشتر، دستورا تفصيليا

في‏عناصر المجتمع، والعوامل الاساسية في نمو الكيان الاجتماعي وتطوره، ما يمكن تلخيصه في النقاط الاتية:

ا “تفقد امر (الخراج)، بما يصلح اهله‏” برعاية مصالح الطبقات التي يعود خراجها الى الدولة، نتاجا وثروة وقوة‏”لان‏الناس كلهم عيال على الخراج واهله‏”. ب “وليكن نظرك في (عمارة الارض) ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان الخراج لا يدرك الا بالعمارة‏” . ج “وان  افضل قرة عين الولاة: استقامة (العدل) في البلاد، وظهور (مودة) الرعية‏” . د “ان اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وامر قائم… وان في (سلطان اللّه) عصمة لامركم فاعطوه طاعتكم..” .

هذه هي عناصر نمو الدولة وتقدمها الحضاري المطرد، اصلاح الخراج، عمارة الارض، العدل، مودة الرعية، الطاعة‏لسلطان اللّه. ثم في المحور الثالث اسباب ضعف الدولة وانهيارها: نجد انه قد وضع يده على عناصر اساسية سيعتمدها فلاسفة‏التاريخ من بعده، وقد اوجزنا مادته الغزيرة في خمسة امور، يمثل كل واحد منها عاملا من عوامل تدهور الحضارة‏وسقوطها، وهي: ا انتشار البدع الضالة في المجتمع: “ان المبتدعات المشتبهات (البدع الملتبسة بثوب الدين) هن المهلكات‏”.

ب التمرد على سلطان اللّه: “ان في سلطان اللّه عصمة لامركم، فاعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره عليها..

واللّهلتفعلن او لينقلن اللّه عنكم سلطان الاسلام، ثم لا ينقله اليكم ابدا حتى يازر (يرجع) الامر الى غيركم‏” . فعندئذتفقدالدولة سلطانها، فينتقل السلطان الى طائفة اخرى او دولة اخرى.

ج استئثار المالكين وظهور الترف والتمايز الطبقي الذي يؤدي الى انتشار الفقر: “وانما يؤتى خراب الارض من اعوازاهلها..”. “وانما يعوز اهلها لاشراف انفس الولاة على الجمع.. وقلة انتفاعهم بالعبر” .

د ظلم الحكام: “وليس شي‏ء ادعى الى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم‏” . فهذه هي اسباب تدهور الدول والممالك وسقوطها وانتقال سلطانها الى دولة جديدة، ستكون هي الاخرى محكومة‏بهذه القوانين نفسها.

ان هذه المادة المركزة، المستقاة مباشرة من نصوص قرآنية، او من تجارب التاريخ، قد بقيت زمنا طويلا تمثل كل ما قدمه‏المسلمون في تفسير التاريخ، مما يمكن نسبته الى التفسير الاسلامي، من دون ان تحظ‏ى بشي‏ء من الشرحوالعناية،حتى جاء ابو بكر الطرطوشي، فاستفاد من هذه المادة، ومن غيرها، ومن تجارب الملوك والامراء والحكماء، ليقدم‏اسهاما جيدا في عصره في هذا العلم.

اخوان الصفا لم يعن اخوان الصفا  (النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) بتفسير التاريخ بشكل مباشر، وانما جاء ذلك منهم‏عن طريق عنايتهم بالنجوم والافلاك وتاثيراتها، فانتهوا الى “التفسير الفلكي الحضاري‏” لولادة الحضارات والدول،وانهيارها. وخلاصة هذا التفسير: “ان كل الحوادث التي تكون في عالم الكون والفساد، هي تابعة لدوران الفلك، وحادثة ‏عن حركات كواكبه ومسيرها في البروج، وقرانات بعضها مع بعض، واتصالاتها، باذن اللّه تعالى‏” .. وان امور هذه‏الدنيا دول، تدور بين اهلها قرنا بعد قرن، وامة بعد امة، وان لكل كائن في هذا العالم اربعة ادوار متباينة:

ا ابتداء الوجود، وهو الصعود من الحضيض.

ب النمو والارتقاء، وهو الصعود الى الاوج.

ج التوقف والانحطاط، وهو الهبوط من الاوج.

د البوار والعدم، وهو الهبوط الى الحضيض.

فالدولة، اذا بلغت اقصى غايتها، تسارع اليها الانحطاط والنقصان، واستانف في آخرين من القوة والنشاط والظهور، الى‏ان تضمحل الدولة الاولى، وتظهر الدولة الثانية، وهكذا تكون حركة التاريخ حركة متواصلة، لكنها صاعدة هابطة. امااسباب صعودها وهبوطها عبر الادوار الاربعة فيرجع الى حركة الفلك. يقول اخوان الصفا في حديثهم عن

الدولة‏العباسية:

“وقد نرى انه قد تناهت دولة اهل الشر وظهرت قوتهم وكثرت افعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعدالزيادة الا الانحطاط والنقصان، ولا بد من كائن قريب وحادث عجيب فيه صلاح الدين والدنيا” .

وايضا، فان‏الوضع الفلكي هو السبب المباشر عندهم في ولادة دولة صالحة، او اخرى فاسدة، او نهايتها، فكل ذلك مقرون بانواع‏خاصة من الطوالع. فمع حركة خاصة من حركات المريخ يظهر النمو والنضج في المعادن والنباتات والحيوانات، وتظهر الدولة في بعض‏الامم، وتزداد قوة بعض السلاطين، واذا تخلل ذلك شي‏ء من الفساد الناتج عن الحروب وزوال بعض الدول فانه في‏جنب ما يكون عند هذه الحركة من الصلاح في العالم، شي‏ء يسير. ومثل ذلك يحدث مع بعض حركات زحل.

ابو بكر الطرطوشي

وضع الطرطوشي، محمد بن الوليد (المتوفى سنة 520ه)، ما يمكن عده شرحا مهما لما تقدم من فقرات عن الامام علي(ع)، في العديد من ابواب كتابه: “سراج الملوك‏” مقدما مادة مفصلة وواسعة نسبيا من خلال البيان والتوضيح المستندالى العديد من تجارب الملوك والدول في التاريخ، وخلاصة فكرته في هذا الموضوع: “ان العدل اساس الملك وسرالحضارة، وان الدول تقوم بعناصر يتوقف بعضها على بعض، فلا سلطان الا بجند، ولا جند الا بمال، ولا مال الابجباية،ولا جباية الا بعمارة، ولا عمارة الا بعدل، فصار العدل اساسا لسائر الاساسيات‏” . كما يرى، مستندا الى تجارب التاريخ، ان الاسباب الرئيسية لزوال الدول ثلاثة، هي: ترف الملوك، والاستبداد، وتولية‏الصغار والضعفاء .

ابن خلدون

عالج ابن خلدون (732 808 ه،1332 1406م) سير التاريخ البشري من خلال بحثه في نشاة الدول والممالك‏وانحطاطها والادوار التي تمر بها. وتتلخص نظريته هذه في الدولة في النقاط الاتية:

اولا: نشاة الدولة: ان الدولة تقوم اساسا على “العصبية‏”.. فالعصبية شرط قيام الدولة والملك .

لكن الدولة اذااستقرت قد تستغني عنها، وذلك لان السلطة بالاستقرار تكتسب صبغة الرئاسة، فيرسخ في العقائد دين الانقياد لهاوالتسليم، ويقاتل الناس لها كقتالهم في سبيل العقائد الايمانية، فلم تحتج السلطة عندئذ الى كبير عصابة ..

وقديحدث لاهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية، وذلك اذا فزعوا من قبائلهم الى قبائل اخرى تدين لهم بالولاءوتسخر عصبيتها في نصرتهم، كما حصل للادارسة في المغرب الاقصى، والعبيديين (الفاطميين) في افريقيا ومصر.

دور الدين: ان الدولة العامة الاستيلاء (الدولة العظيمة الواسعة) اصلها الدين، اما من نبوة، او دعوة حق، ذلك ان القلوب‏اذا انصرفت الى الحق بفعل الدين ورفضت الباطل، واقبلت على اللّه، اتحدت وجهتها، واتسع نطاق الكلمة لذلك،فعظمت.

وان الدعوة الدينية تزيد الدولة في اصلها قوة الدولة على القوة العصبية التي كانت لها من عددها. لكن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم.. “ما بعث اللّه نبيا الا في منعة من قومه‏” .

ثانيا عظم الدولة: ان عظمة الدولة وقوتها واتساع نطاقها وطول امدها، كل ذلك يكون بحسب نسبة القائمين بها في القلة‏والكثرة، فالمملكة التي تكون عصابتها اكثر يكون ملكها اقوى واوسع .

ثالثا عمر الدولة: يرى ابن خلدون ان الدول لها اعمار، كما للاشخاص.. وان عمر الدولة في الغالب لا يزيد على اعمارثلاثة اجيال، والجيل اربعون سنة، ذلك لان الجيل الاول لم يزل على خلق البداوة وخشونتها، من شظف العيش،والبسالة، والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم.. اما الجيل الثاني فيتحول حالهم من‏البداوة الى الحضارة، ومن الشظف الى الترف، ومن الاشتراك في المجد الى انفراد الواحد به وكسل الباقين، فتنكسرسورة العصبية بعض الشي‏ء، ويبقى لهم الكثير منها بما ادركوه من الجيل الاول.. واما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة‏والخشونة، ويفقدون حلاوة العز بما هم فيه من ملكة القهر الناجمة عن انفراد الملك بالسلطان، ويبلغ فيهم الترف غايته،فيصيرون عيالا على الدولة حالهم حال النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، فتسقط العصبية بالجملة، فيحتاج‏صاحب الدولة الى الاستظهار بغيرهم من اهل النجدة كما حدث في الدولة العباسية ممن يغني عن الدولة بعض‏الغناء حتى ياذن اللّه بانقراضها، فتذهب الدولة بما حصلت، فهذه ثلاثة اجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها.

رابعا الانحطاط: ان السبب المباشر في انحطاط الممالك هو طبيعة الملوك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف،والدعة فاذا تحكمت هذه الطبيعة ادت الى فساد العصبية بذهاب الباس من اهلها، والى الضعف المادي بكثرة الانفاق‏وتزايد الحاجات، ومتى ضعف العطاء ضعفت الحامية، واقبلت الدولة على الهرم .

خامسا اطوار الدولة: تمر الدولة باطوار خمسة:

الاول: طور الظفر والاستيلاء على الملك.

والثاني: طور الاستبداد والانفراد بالملك.

والثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك بتشييد

المباني الحافلة والمصانع العظيمة والتوسيع على جهازالملك

وحاشيته.

والرابع: طور القنوع والمسالمة، ويكون الملك فيه مقلدا لسلفه

من الملوك، يرى الخروج عن تقليدهم فسادالامره.

والخامس: طور الاسراف والتبذير، فيتلف فيه صاحب الدولة ما

جمعه سلفه في الشهوات والملذات فيكون مخربا لمااسسه

سلفه، وفي هذا الدور تحصل في الدولة طبيعة الهرم.

سادسا: دورة الحضارة: ان تاريخ اي حضارة ينطوي في ثلاثة

ادوار اساسية، تمثل: المبتدا، والغاية، والنهاية.. والمبتدادائما هو

حالة “البداوة‏” لان الملك لا يتحقق الا بالعصبية، والعصبية لا محل لها الا البداوة.. فاذا تحقق الملك تبعه الرفاه‏بتطور الصنائع ووسائل المعيشة، وهذه بعينها هي “الحضارة‏” فما الحضارة الا التفنن في الترف واحكام الصنائع‏المستعملة في وجوه الترف ومذاهبه، فصار دور “الحضارة‏” في الملك يتبع دور “البداوة‏”.. وتحقق الحضارة يؤدي الى‏انهيار العصبية..وانهيار العصبية يؤدي الى انهيار الملك ونهاية الحضارة…

اذا العصبية في البداوة تحقق الحضارة، والحضارة تدمر العصبية، وتدمير العصبية يؤدي الى نهاية الحضارة. هذه هي خلاصة نظرية ابن خلدون في حركة التاريخ وتبادل الحضارات..

مالك بن نبي

ثمة عناصر ثلاثة، (الانسان، والتراب، والوقت) هي التي تؤلف الحضارة، اي حضارة كانت. لكن هذه العناصر الثلاثة لا تصنع وحدها انتاجا حضاريا، فلا بد من عارض غير عادي يقوم بالتركيب بين العناصرالثلاثة، لا بد من ظرف استثنائي لميلاد التركيب العضوي التاريخي الذي يتفق مع ميلاد مجتمع، ذلك هو “المركب‏الحضاري‏” الذي يؤثرفي مزج العناصر الثلاثة ببعضها لانتاج الحضارة.

اذن معادلة الحضارة عند مالك بن نبي (1905 1973م) هي كما يلي: (انسان + تراب + وقت) + مركب حضاري : انتاج حضاري. والمركب الحضاري عند مالك بن نبي قد تمثل دائما ب‏”الفكرة الدينية‏” التي رافقت دائما تركيب الحضارةخلال‏التاريخ. دورة الحضارة: وضع مالك بن نبي مخططا لدورة الحضارة، مثله بثلاثة ادوار: دور التكون والنمو، ودور الامتداد بفعل الدفعة الاولى، ودور الضعف والسقوط. كما هو مبين في المخطط البياني‏ادناه: الوقت

درجة النمو

ا النقطة صفر (0) على المخطط البياني تمثل بداية ظهور عارض غير عادي، وولادة “المركب الحضاري‏” الذي سيعمل‏على مزج العناصر الثلاثة للبناء الحضاري فيولد الانتاج الحضاري المتنامي، الممثل بالخط المتصاعد (. ا) والذي يبدوفي المخطط انه يحقق انتاجا حضاريا كبيرا في وقت قصير نسبيا، فالخط (. د) يمثل الوقت الذي استغرقه النموالحضاري لبلوغ قمته (ا). في هذه المرحلة تكون شبكة العلاقات الاجتماعية في اكثر حالاتها كثافة، هذه الكثافة التي‏يعبر عنها قوله تعالى: (كانهم بنيان مرصوص).. ويكون ايضا نظام الافعال المنعكسة عند الفرد في اقصى فاعليته‏الاجتماعية، وتكون طاقته الحيوية في اتم حالات تنظيمها.

وهذا هو العصر الذهبي لاي مجتمع، وهذه هي الحركة الديناميكية التي يدان فيها كل تقاعس، كما نشهده في المجتمع‏الاسلامي الاول من خلال ادانة (الثلاثة الذين خلفوا)، ناهيك عن تميز حالة النفاق بوضوح. ب اما المرحلة الثانية فيمثلها الخط (ا ب) الممتد مع الوقت في محافظة على درجة النمو الحضاري المتحققة اولا،من دون صعود، اذ ان شبكة العلاقات الاجتماعية تكون في اكثر حالاتها سعة وامتدادا، ولكن قد داخلها نقص وشوائب،فلم تعد صاعدة.. ونظام الافعال المنعكسة عند الفرد قد تعرض الى صدمة، مثلت هذا الانكسار في اتجاه المسارالحضاري، وهي في تاريخ الاسلام “صدمة صفين‏” فلم يعد الفرد بعد تلك الصدمة يتصرف بكل طاقاته الحيوية، فلم‏يعد الاتجاه الحضاري صاعدا.

اما كيف استطاع المجتمع الاسلامي المحافظة على البقاء؟ ان العالم الاسلامي لم يقو على البقاء ابان تلك الازمة الاولى في تاريخه وبعدها الا بفضل ما تبقى فيه من دفعة قرآنية‏حية قوية .

ج ثم تاتي المرحلة الثالثة (ب ج)، مرحلة الانحطاط، اثرا طبيعيا لتفكك وحدة العلاقات الاجتماعية وهبوط‏المستوى الروحي، “فاذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الاسلامي كما يتوقف المحرك عندما يستنفد آخر قطرة من‏الوقود، وما كان لاي معوض زمني ان يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الانسانية، الا وهو “الايمان‏”.

ولذا لم‏تستطع النهضةالتيمورية التي ازدهرت في القرن الرابع عشر الميلادي حول مغاني سمرقند، او الامبراطورية‏العثمانية، ان تمنح العالم الاسلامي “حركة‏” لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها”.

عماد الدين خليل تعد دراسة الدكتور عماد الدين خليل اول دراسة اسلامية واسعة من اجل اكتشاف العوامل المؤثرة في حركة التاريخ من‏القرآن الكريم بالدرجة الاولى، ثم لما راى ان القرآن الكريم قد اطلق النظر الى تاريخ الانبياء والامم، فقد اتخذ الباحث‏من هذا التاريخ مادة لاستقرائه وتطبيقاته. فقد راى ان المساحة التاريخية الواسعة في القرآن الكريم تشكل نسقا رائعا ومتكاملا للتفسير الاسلامي للتاريخ.

وان القرآن يطرح لاول مرة مسالة “السنن‏” و”النواميس‏” التيتسير حركة التاريخ، وفق مسالك مقننة لا سبيل للخروج‏عليها: (سنة اللّه في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلا).

ان اول خصائص هذه “السنن‏” ان حكمها على حركة التاريخ اشبه ب‏”الجزاء” الذي هو من جنس “العمل‏”.وثاني خصائصها انها بمثابة دافع حركي يفرض على الجماعة المدركة الملتزمة ان تتجاوز مواقع الخطا التي قادت‏الجماعات البشرية السابقة الى الدمار، وان تحسن التعامل مع الكون والطبيعة، مستمدة التعاليم والقيم من حركة التاريخ‏نفسه.

ثم اكتشف ان وراء العطاء والتعامل الحضاريين عوامل ذات اثر مباشر على المصير، هي: (1) نفسية الامة‏افراداوجماعات. (2) اخلاقية الامة ونظرتها الشاملة الى الحياة. (3) طبيعة علاقاتها الانسانية. (4) المواقع التي تتخذهافي مواجهة اللّه والعالم، اي موقفها من الايمان باللّه تعالى والاستجابةلشريعته.

ولاحظ، ايضا، ضمن معطيات القرآن الكريم، ان اي حدث تاريخي انما يجي‏ء تعبيرا عن ارادة اللّه تعالى.. ولكن ليس كمايفهمه اصحاب “التفسير اللاهوتي‏” و”الجبريون‏” من الغاءلوجود الطبيعة ولدور الانسان.. ذلك ان الفعل الالهي كما

بينه‏القرآن في حشد كبير من آياته يتخذ شكلين رئيسين:

اولهما: الاجراء المباشر للفعل التاريخي، وهذه المباشرة تكون على مستويين: المستوى الاول: اعتماد نواميس الطبيعة‏والتساوق معها. والمستوى الثاني: تجاوز مقاييس الطبيعة، في ما يعرف بالمعجزات.  وثانيهما: الفعل الالهي غير المباشر في التاريخ. وهو ما يجي‏ء عن طريق الحرية الانسانية نفسها.

كما اكتشف من تصريحات وايحاءات قرآنية كثيرة ان عنصر “التحدي والاستجابة‏” له دور كبير في الفعل التاريخي، فهناك‏تحديات كثيرة في عالم الانسان تبعث فيه التوتر الدائم والطموح الابدي للتغلب والتفوق، وتمنعه من ان يسلم نفسه‏للكسل والتراخي. ومن اهم هذه التحديات: “الموت‏”، فطموح الانسان الى الخلود الدائم، وفاعلياته في ميادين الفكر والفن والاجتماع‏والابداع، لتحقيق بعض هذا الامل في الخلود الذي يطمح اليه، هذه وتلك كلها ردود على تحديات الموت، تملامساحات واسعة في التاريخ وتمثل جزءا كبيرا من احداثه وصوره.

وفي التقابل الفعال بين الانسان والمادة يمنح الانسان الدور الرئيس في صياغة التاريخ، فهو الذي يمسك بالفعل ويعطيه‏ملامحه النهائية. كما ان علاقة المادة بالانسان تمثل نوعا آخر من انواع “التحدي‏” الكبرى المؤثرة في حركة التاريخ، اذ ان المادة الطبيعة آليست مطاوعة لارادة الانسان على كل حال، بل تبدي امامه درجات متفاوتة من المقاومة والاستعصاء، وبذلك تحفز ردالفعل البشري وتدفعه نحو الحركة الفعالة.

كما يعط‏ي الطليعة الفذة دورها المهم في صناعة التاريخ، فقد ركز الاسلام دائما على دور الفرد في الحياة الاجتماعية،ووضعه امام مسؤوليته التاريخية، وهو في الوقت نفسه يفتح الطريق امام المتفوقين الذين تجاوزوا مواقع الضعف‏وانتصروا على قوى الشر وبلغوا بعطائهم المبدع القمم التي لا يبلغها الا “القلة الطليعية الفذة‏”، وهؤلاء هم الذين تقع على‏عاتقهم مسؤولية توجيه التاريخ وتشكيل حركته، شرط ان يضمنوا مسيرة الامة وراءهم في اطار النظام والفكرالاسلاميين

دور الايمان في الناتج الحضاري:

الايمان كما يرى عماد الدين خليل هو بمثابة “معامل حضاري‏” يصب ارادة الجماعة‏المؤمنة على معطيات الزمن والتراب، ويوجهها في مسالكها الصحيحة. وهذا مطابق ل‏”المركب الحضاري‏” عندابن نبي، الذي يمزج بين العناصر الثلاثة (الانسان، والتراب، والوقت) ليقدم نتاجا حضاريا.

سقوط الدول والحضارات: ان اهم قوانين الحضارات البارزة في القرآن الكريم: قانون المداولة.. او تبادل مواقع الحضارة،بهلاك حضارة وقيام حضارة اخرى في موقع آخر: (وتلك الايام نداولها بين الناس) وياتي هذا القانون مؤكدافي سياق‏السنن التاريخية الثابتة: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين × هذا بيان للناس‏وهد ى وموعظة للمتقين × ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين × ان يمسسكم قرح فقدمس ال قوم قرح‏مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم اللّه الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء واللّه لا يحب الظالمين × وليمحص اللّهالذين آمنوا ويمحق الكافرين) [آل عمران:137 141].

ولا يستثنى المسلمون من هذه القاعدة، فهذا النذير جاءهم بعدما اصابهم يوم احد. ويؤكد هذا القانون ان للدول والحضارات آجالا بمواعيد ثابتة محددة في علم اللّه، بوصفها جزءا من نظام كوني‏متماسك (ولكل امة اجل فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون) [الاعراف:34]. (ولولا كلمة سبقت من‏ربك الى اجل مسمى لقضي بينهم) [الشورى:14]. والقرآن يطرح فكرة المداولة، بوصفها فعلا محركا، يستهدف تمحيص الجماعات البشرية واثارة الصراع الدائم بينها،الامر الذي يؤدي الى تحريك الفعل التاريخي. ان المداولة توحي بالحركة الدائمة، وبالتجدد، وبالامل. ان قضية السقوط الحضاري تاخذ اتجاهات عديدة: سياسية، وادارية، واقتصادية، واخلاقية، واجتماعية، وعقدية.

فسياسيا: يرتبط السقوط بتسلط المترفين الفسقة، او الظالمين الطغاة.

واقتصاديا: يرتبط السقوط بالترف المدمر الذي يخلف تفاوتا طبقيا هائلا بين المترفين وبين اكثرية محرومة. وما اكثرالدول الاسلامية وغير الاسلامية التي كان الترف وراء تدهورها وسقوطها.

وغالبا ما تلتصق بطبقة المترفين طائفة من رجال الدين (الاحبار والرهبان) الذين يشترون بعقيدتهم ثمنا قليلا،ويخادعون الناس باسم الدين لياكلوا اموالهم. واخلاقيا واجتماعيا وعقائديا: يرتبط السقوط لا بالجهات المتنفذة ومن التصق بها، وحسب، بل يتصل بالامة كلها، افراداوجماعات.

(قالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا) [الاحزاب:67] (قاتلوهم يعذبهم اللّه بايديكم ويخزهم وينصركم‏عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) [التوبة:14]. (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم) [الانفال:24].

(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان اللّه شديد العقاب) [الانفال:25]. واخيرا، فان اهم ما يميز التفسير الاسلامي للتاريخ، عند خليل، انه تفسير واقعي لا يتاثر بقيمه ومثالياته ممكنة الوقوع‏اساسا كما يفعل هيغل وماركس على سبيل المثال وانما يتكلم على الواقع كما هو من دون تسويغ او تعديل او تحوير،وهذا يشكل فرقا منهجيا حاسما بينه وبين المذاهب الوضعية في تفسير التاريخ، التي تصاغ فيها حقائق التاريخ وفق‏المذهب الوضعي المصنوع، فتفسر على الانسجام مع وضعية المذهب، وتساق للتدليل عليه وتاكيده.

ثانيا: اسهام السيد محمد باقر الصدر في تفسير التاريخ ياتي اسهام الشهيد محمد باقر الصدر (ت 1400ه 1980م)، في هذا الموضوع، من خلال بحثه التنظيري المفصل في‏”سنن التاريخ في القرآن الكريم‏” الذي قدمه انموذجا للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الهادف الى اكتشاف النظرية‏القرآنية في الموضوع. وقد تناول، في بحثه المفصل، “سنن التاريخ‏”، من جوانب عديدة بوصفها القضية الحاسمة في حركة التاريخ.. وفي البدء يبرز تاكيد القرآن على اهمية التجربة التاريخية وقيمتها، في مثل قوله تعالى: (افلم يسيروا في الارض فينظرواكيف كان عاقبة الذين من قبلهم) [يوسف:109] ونظيراتها الكثيرة التي يتبلور من مجموعها المفهوم القرآني الذي يقرر”ان الساحة التاريخية مثل جميع الساحات الكونية الاخرى لها سنن وضوابط‏”. وهذا المفهوم القرآني يعد فتحا عظيما،لان القرآن الكريم اول كتاب عرفه الانسان ضم بين دفتيه هذا المفهوم.

لقد الغى الاسلام، بهذا المفهوم، النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الاحداث… وهذا الفتح القرآني‏الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى محاولة فهم التاريخ فهما علميا.

في خطوة اخرى يعط‏ي القرآن الكريم فكرة “سنن التاريخ‏”بصيغتها الكلية.. (ولكل امة اجل فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون‏ساعة ولا يستقدمون). فهنا اضيف الاجل الى الامة، لا الى الفرد، فالامة اذن لها حياة وحركة واجل وموت.. وايضا فهواجل مضبوط محدد وفق نواميس معينة (ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولكن يؤخرهم الى اجل‏مسمى فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون) [النحل:61]. فهذه الاية تتحدث عن عقاب دنيوي، عن‏النتيجة الطبيعية لما تكسبه امة من طريق الظلم والطغيان.

والذي يؤكده العرض الاسلامي ان مثل تلك النتيجة الطبيعية للظلم لا تختص بالظالمين وحدهم، بل تمتد الى ابناءالمجتمع على اختلاف هوياتهم.. تشمل موسى حين وقع التيه على بني اسرائيل بتمردهم وطغيانهم.. وتشمل الحسين‏حين حل البلاء بالمسلمين نتيجة انحرافهم.

وهذا هو منطق سنة التاريخ: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان اللّه شديد العقاب)[الانفال:25].

في الخطوة الثالثة تتقدم النظرية الى استعراض نماذج من سنن التاريخ، ومن هذه النماذج: ا ما نجده في قوله تعالى: (وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لا يلبثون خلافك الا قليلا × سنة من‏قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) [الاسراء:76 و77].

فالاية تقول ان عملية معارضة الملا للرسل، اذا بلغت الى مستوى اخراج النبي من البلد، فلا يلبثون بعده الا قليلا. وتؤكدالاية ان هذه سنة ثابتة من سنن التاريخ.

غير ان المقصود من عدم لبثهم ليس محصورا في فنائهم العاجل من الوجود، فهو قد يكون كذلك، كما حدث مع قوم‏نوح، ومع قوم ابرهيم، ومع قوم لوط، ومع قوم موسى.. لكنه قد يتخذ نحوا آخر فيراد به: عدم مكثهم بوصفهم‏جماعة‏صامدةذات موقع اجتماعي، كما حدث لقريش، اذ تداعى كيانهم بغلبة الاسلام وانصهارهم في دولته.

ب في قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات‏اللّهولقد جاءك م ن نبا المرسلين) [الانعام:34]. فهنا حديث عن تجارب تاريخية سابقة، وعن ربط تجربة النبي (ص) التاريخية بالتجارب السابقة، في سنة تاريخية‏جارية عليه كما جرت على من سبقه من النبيين، مفادها: ان اللّه تعالى ينصر رسله في معادلة ثابتة، متى تحقق شرطهاتحقق جزاؤها، وشرطها (الصبر، والثبات).

وهذه المعادلة التي تحققت مع التجارب السابقة هي بعينها جارية مع هذه‏التجربة، بلا استثناء، ولا خروج على السنة التاريخية. وترد هذه السنة ايضا في قوله تعالى: (ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساءوالضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللّه الا ان نصر اللّه قريب) [البقرة:214].

ج في قوله تعالى: (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) [الرعد:11]. هذه الاية الكريمة تقرر اولا قاعدة، تقول: ان المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة في البناءالاجتماعي، وان الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي. ثم تقرر ثانيا سنة ثابتة تقول: ان هذا البناء العلوي لا يتغير الا وفقا لتغيير القاعدة .

د (واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا × وكم اهلكنا من القرون من‏بع دنوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) [الاسراء:16 و17]. اذن هناك علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر، وبين هلاك محتوم، وان هذه العلاقة مطردة على مر التاريخ.

وفي الاتجاه المقابل يحدثنا قوله تعالى: (وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) [الجن:16].

عن العلاقة بين‏الاستقامة وتطبيق احكام اللّه تعالى، وبين وفرة الخيرات وكثرة الانتاج، ليؤكد ان تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامهافي علاقات التوزيع يؤدي دائما وباستمرار الى زيادة الانتاج والى كثرة الثروة. هذه اذن سنة من سنن التاريخ تقابلها تلك‏السنة التي ربطت بين الظلم وبين الهلاك . طبيعة السنن التاريخية

يكتشف الصدر ان هناك ثلاث خصائص للسنن التاريخية كما يعرفها القرآن الكريم، هي:

اولا: الاضطراد: اي ان السنة التاريخية مضطردة، ذات طابع موضوعي. وفي هذه الخاصية تاكيد مهم على الطابع العلمي للقانون التاريخي، لان الاطراد وعدم التخلف هو اهم ما يميز القانون‏العلمي عن بقية المعادلات والفروض، وبهذا يلغي القرآن الكريم التصورات الساذجة والعشوائية لسير التاريخ.

ثانيا: الربانية: اي ان السنة الربانية مرتبطة باللّه تعالى “سنة اللّه”. وهذا يستهدف امرين مهمين:

ا شد الانسان باللّه تعالى حين يريد ان يستفيد من القوانين الموضوعية للكون.

ب اشعار الانسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والقوانين والسنن المتحكمة في هذه‏الساحات لا يعنيان انعزال الانسان عن اللّه تعالى، لانه انما يمارس قدرته من خلال هذه السنن، وهذه السنن هي ارادة‏اللّه، وهي ممثلة لحكمة اللّه وتدبيره في الكون.

وفي هذا الغاء “التفسير اللاهوتي للتاريخ‏” الذي تبنته بعض مدارس الفكر اللاهوتي، على يد عدد من المفكرين‏المسيحيين واللاهوتيين، من امثال اغسطين، والذي يربط الحادثة باللّه تعالى قاطعا صلتها مع بقية الحوادث ومع السنن‏الموضوعية للساحة التاريخية.

والقرآن الكريم بلغ في حرصه على تاكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية ان اناط العمليات الغيبية نفسها، في كثيرمن الحالات، بالسنة التاريخية نفسها، فالامداد الالهي الغيبي الذي يسهم في كسب النصر جعله القرآن الكريم‏مشروطابالسنة التاريخية (ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم…).

(اذ تقول للمؤمنين الن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين × بلى ان تصبروا وتتقوا وياتوكم من‏فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) [آل عمران:124 و125]. فالامداد الالهي الغيبي مشروط‏بسنةتاريخية (ان تصبروا وتتقوا).

ثالثا : الاتساق مع حرية الانسان: يؤكد القرآن ان ارادة الانسان هي المحور في تسلسل الاحداث.. (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) [الرعد:11].

(وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) [الجن:36].

(وتلك القرى اهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) [الكهف:59]. اذا لاختيار الانسان موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ .

ويظهر جليا دور الانسان الحر في التاريخ في كافة السنن التاريخية التي عرضها القرآن الكريم على شكل “القضية‏الشرطية‏” اي الشرط والجزاء.. فهذه السنن تؤدي دوراعظيما في توجيه الانسان حين تعرفه بامكاناته الحرة ازاء الجزاء،فما عليه الا ان يوفر شروط القانون لياتي الجزاء مناسبا لفعله الحر.

الظواهر التي تدخل في سنن التاريخ دائرة السنن النوعية للتاريخ في فلسفة السيد الصدر تكون منحصرة بالفعل المتميز بظهور علاقته بغاية وهدف. اي ماتظهر فيه “علة غائية‏”، ثم يكون له اثر يتعدى حدود العامل الفردي الى المجتمع.. فالاعمال التجارية والسياسية والفكرية‏والحربية اعمال تاريخية لانها اتخذت من المجتمع ارضية لها.. مثل هذه الاعمال هي التي تحكمها سنن التاريخ.

اما حدث تاريخي مثل وفاة ابي طالب وخديجة في عام واحد، فمع ما له من اثر في التاريخ، الا انه راجع الى قوانين‏”فيزيزلوجية‏”، وليس الى السنن التاريخية.الخلاصة تتلخص رؤية الشهيد الصدر، في فلسفة التاريخ، بالنقاط الاتية: ان المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس في حركة التاريخ.

وان حركة التاريخ حركة غائية مربوطة بهدف، وليست سببية فقط، اي انها حركة مشدودة الى المستقبل، فالمستقبل هوالمحرك لاي نشاط من انشطة التاريخ.

والمستقبل معدوم فعلا، وانما يتحرك من خلال الوجود الذهني.

فالوجود الذهني اذا هو الحافز، والمحرك، والمدار لحركة التاريخ.

وفي الوجود الذهني يمتزج الفكر والارادة.. وبامتزاج الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل وتحريكه للنشاط‏التاريخي على الساحة الاجتماعية.

اذن فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان (الفكر والارادة) وبين البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هي علاقة تبعية،اي علاقة سبب بمسبب، فكل تغير في البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع انما هو مرتبط بتغير المحتوى الداخلي.