حركة المجتمع، أنواعها وشروطها ومسارها في فكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره

همام حمودي / أبوإبراهيم

المقدمة

تعرّض السيد الشهيد الصدر قدس سره لفكرة الحركة التاريخية وحركة المجتمع وأساس هذه الحركة وطبيعتها ومسارها في أكثر من موضع من كتاباته ومحاضراته ولعل أكثرها وضوحاً وتركيزاً وتفصيلاً ما تناوله إبداعه في تفسيره الموضوعي للقرآن وفي بحثه عن المجتمع وعناصره والمثل الأعلى وعنوانه وكذلك في بحثه عن خطي الخلافة والشهادة.

ونجد أوليات هذه الأفكار في كتاباته الأولى في اقتصادنا وفلسفتنا والمشكلة الاجتماعية..

من جانب آخر نرى تطبيقات هذه الإبداعات الفكرية وافتراضاتها المختلفة من شواهد ومصاديق طرحها في تصوراته على الدولة الإسلامية وحركة المجتمع الإسلامي في رسائله وكتاباته كما في كتاب (الإسلام يقود الحياة). ونجدها كذلك واضحة في مقدمة رسالته الفقهية (الفتاوى الواضحة) في موضوع مسيرة المجتمع السائر نحو الله وفي مفهوم العبادة وأصول الدين.

إننا نجد مجموعة فكرية وإطار نظري فلسفي اجتماعي حول المجتمع وطبيعته وحركته وأهداف حركته وطبيعة المسيرة وأنواع الحركة في إطار نظري وفكري قرآني مستقاه من نظرة مترابطة ومتكاملة يطرحها السيد الشهيد قدس سره في استدلال قرآني وكذلك ۔ في بعض الأحيان ۔ بأسلوب مقارن مع النظريات الأخرى.

أما موضوع بحثنا فإنه يحاول جمع كل ما كتبه السيد الشهيد الصدر قدس سره في هذا الموضوع في مختلف محاضراته وكتبه والسعي لتبويبه في إطار أكاديمي يثبت مصطلحات البحث ويضع أسئلة حول الموضوع ثم يثبت أركان النظرية وأساسها ثم يحاول أن يصوغ تفسيراتها وافتراضاتها في تفسير ظاهرة الحركة في المجتمعات وحركة المسيرة البشرية التاريخية.. مع تحديد لأنواع الحركة وأشكالها.

دورنا في البحث ليس إضافة أو تتميماً.. وإنما ۔ وبشكل رئيسي ۔ إعادة صياغة وإيجاد الأجوبة المناسبة لتساؤلات قد تنشأ من فهم النظرية أو من تطبيقاتها وفي تفسيرها للواقع وقد نستعين أحياناً بأدلة قرآنية أو استفادة من تفسير مؤيد أو مخالف لما طرحه السيد الشهيد الصدر قدس سره في بحثه القيّم والجديد والمهم في هذا المجال.

التمهيد وأهمية البحث

بحث المجتمع وحركته وأسس وأهداف هذه الحركة من المواضيع الجديدة نسبياً أو الجديدة على صعيد البحوث الفلسفية والاجتماعية والتاريخية وقد كثر تداولها بشكل شائع ودخلت مفاهيم الحركة التاريخية والاجتماعية ومصطلحاتها وافتراضاتها أو بيان الأبحاث والمقالات في المعاصرة ويرجع بعض الباحثين ابتداع نظرية الحركة في المجتمعات واكتشاف قوانينها وأسسها إلى العالم المسلم (ابن خلدون) مقدمة كتابه.

وقد شاعت بشكل أوسع فكرة الحركة التاريخية للمجتمعات في فترة الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وتوظيفه لإمكانياته الكبيرة في الدعاية والإعلام لنظرياته في الديالكتيك التاريخي وافتراضاتها في مسيرة البشرية وحركتها من الشيوعية الأولى إلى الإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية وبشكل حتمي لا مفر للبشرية فيه مستندين على فكرة محورية وسائل الإنتاج ودورها في رسم معالم المجتمع المختلفة.

ثم نجد أن نظرية حركة التاريخ والمجتمعات لم تنته بعد نهاية الاتحاد السوفيتي وأفول نظرية الماركسية وغياب ثقلها السياسي والإعلامي والدعائي لها إذ نجد أن المعسكر الغربي قد روّج وبشكل كبير لنظرية أخرى تعتمد فكرة الحركة التاريخية وقانونيتها متمثلة بفكرة (نهاية التاريخ) لصاحبها (فوكاياما) الأمريكي الجنسية الياباني الأصل حيث يبرر فيها حتمية حركة البشرية نحو النموذج الليبرالي الرأسمالي مؤكداً فكرة العولمة والهدف الواحد الذي تسير باتجاهه البشرية واعية أو غير واعية.

ولذلك نجد أن بحوث الحركة التاريخية للمجتمعات ما زال من المسائل الأكثر رواجاً وانتشاراً في ثقافة العصر ومقولاته واكتسبت أبعاداً سياسية خطيرة وترويجاً إعلامياً ودعائياً موجهاً في نهاية عصر وابتداء عصر آخر جاعلين من تطبيقاتها فكرة العولمة ومبررين فيها هجمتهم الثقافية والاجتماعية وهيمنتهم على البشرية ومستقبلها.

من كل ما سبق تتبين أهمية البحث وحيويته وضرورته وتتجلى أهمية الموضوع بشكل واضح عندما نجد أن الشعوب الإسلامية تخرج من قمقمها وتتحرك بشكل كبير نحو إسلامها وهويتها وباتجاه تحكيم إسلامها في كل جوانب الحياة والمجتمع وتطرح النظرية الإسلامية كإطار نظري متكامل قادر على حل مشكلات العصر والإجابة على أسئلته وفي وقت تعيش الشعوب صراعاتها وتخط حركتها نحو أهدافها وفي أجواء تتصاعد العملية تبرز الحاجة إلى إيجاد إطار فكري إسلامي.. يعتمد أصول الفكر الإسلامي من القرآن والسنة ليلقي بإشعاعاته الربانية وأنواره في هذا الخضم والمعترك الحضاري ليفسّر الواقع الاجتماعي المتغير واتجاهات حركته وأهداف هذه الحركة ونهاياته البعيدة مما يعزز من تعبئة حركة الجماهير والبشرية نحو مثلها الأعلى المطلق الله جلّت قدرته والتزامها منهج الإسلام ويجيب على افتراضات المدارس الأخرى المطروحة ويردّ مدعياتها.

لم يزل تناول هذا الموضوع من قبل الكتّاب الإسلاميين مع الأسف مبتوراً ومحدوداً على أهميته وكثرة شيوعه في الفكر الاجتماعي المعاصر ويتم تناوله عادة ضمن تفسير الآيات الكريمة وبشكل مجزّأ ومبتور.

ولم ترق هذه الأبحاث التفسيرية والمتجزئة إلى نظرية وإطار فكري متكامل ومترابط ومستدل يمكن أن يشكل مادة علمية وفكرية متكاملة مستدل عليها وقادرة على الإجابة على التساؤلات المطروحة على هذا الصعيد ويمكن من خلالها تفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية المعاشة وقادرة على التنبؤ بمستقبل حركة المجتمعات المعاصرة ولم توفّق المكتبة الإسلامية المعاصرة لمثل هذا الطرح المتكامل إلا ما يمكن جمعه من هنا وهناك في التفسير القيّم للسيد الطباطبائي قدس سره وتلميذه المبدع الشيخ المطهري قدس سره وكتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره التي يمكن القول عليها إنها مسودّة مشروع لإطروحة متكاملة طرحها بشكل مختصر ومقتضب بسبب الظروف التي كانت تتحكم بالوضع السياسي في العراق.

ولم تتبنّ جهة علمية بحثها أو إقامة ندوات دراسية حولها ولم تتحول ۔ مع الأسف ۔ إلى إطار نظري لأبحاث وندوات ومؤسسات ودراسات علمية متكاملة كما هو حال الكثير من المسائل العلمية المطروحة على صعيد الفكر الإسلامي في الاقتصاد والفقه والأحكام الجزائية والقضائية وما شابه.

منهج البحث

سوف نتناول في بحثنا هذا، المفردات الرئيسية في الموضوع والتي تشكّل الإطار العام للنظرية وأسسها المعتمدة وسيكون تناولنا على الشكل الإجمالي:

الفصل الأول _ المجتمع.. حقيقته وقوانينه، وهل أن المجتمع وجود حقيقي أم اعتباري؟ وما هي عناصره؟ ورأي السيد الشهيد الصدر قدس سره في ذلك وأنواع المجتمعات التي يطرحها والأساس الذي يضعه لتنوع المجتمع والبحث في الأدلة القرآنية التي يطرحها في هذا الموضوع.

الفصل الثاني _ الحركة.. مفهومها الفلسفي وأشكالها وأنواعها ورأي السيد الشهيد الصدر قدس سره المثل العليا والعلة الغائية التي تميّز الفعل الاجتماعي ثم الحركة في المجتمع وطبيعتها، أسسها ومنشأها وأنواعها.. . وفق أنواع المجتمعات وأنواع المثل ورأي السيد الشهيد الصدر قدس سره في أساس الحركة الاجتماعية ومنشأها وأطوارها.

الفصل الثالث _ الحركة التاريخية والحركة الاجتماعية واتجاه الحركة التاريخية هل هو تصاعدي تكاملي أم أنها حركة دائرية تنتهي لتبدأ من جديد وآراء السيد الشهيد الصدر قدس سره فيها وبعض آراء المفكرين الإسلاميين والأدلة المطروحة بهذا الخصوص نخصّ منهم بشكل رئيسي السيد الطباطبائي والشيخ المطهري والعلامة الشيخ مصباح يزدي وقد تناول البحث بشكل محدود الآراء المطروحة في المدارس الأخرى دون الإطالة في مناقشتها تاركين البحث الأكثر تفصيلاً ومناقشته لفرصة أخرى.

الخاتمه _ الحركة التاريخية التكاملية ومفهومها وأشكالها وخاتمة البحث ونتائجه. سوف يكون مبنى الأبحاث هو الاقتصار على طرح آراء السيد الشهيد الصدر قدس سره من خلال ما كتبه في جميع كتبه والسعي لتبويبها وترتيبها بمنهجية تحاول أن تغطي بشكل علمي محاور هذا الموضوع بشكل مفصل ومترابط وقد نعرض بعض الآراء المؤيدة أو المخالفة لمفكرين إسلاميين.

الفصل الأول: المجتمع.. حقيقته وعناصره

اختلف المفكرون والفلاسفة في حقيقة المجتمع وهل أن المجتمع وجود حقيقي أكثر من مجموع الأفراد أم أنه وجود اعتباري لا يخرج عن حدود الأفراد والمشتركين فيه؟

كما اختلف علماء الاجتماع في تحديد موضوع علمهم ومنها في تشخيص حدود ماهية المجتمع فهل كل تجمع لمجموعة من الأفراد يعتبر مجتمعاً أم هو مجموعة من الأفراد تكتسب صفة الارتباط بينهم فترة من الزمن وهل كل نوع من الارتباط لأفراد يحولهم إلى مجتمع سواء كان سياسياً أم اقتصادياً أم جغرافياً.

وما هو المقصود بالدوام وكم طول هذه الفترة وما هو أساس اعتبارها وما شاكل من التساؤل والافتراضات في حقيقة المجتمع وماهيته.

الآراء المطروحة في المجتمع

يلخّص الشيخ المطهري الآراء المطروحة لتفسير ماهية المجتمع وحقيقته إلى أربع نظريات[1] وهي:

1 ۔ المجتمع مركّب اعتباري أي أن الإفراد المكوّنين لهذا المجتمع لم يفقدوا خواصهم والوحدة التي نجدها في المجتمع لمجموع أفراده وحدة انتزاعية مفهومية اعتبارية وليست وحدة حقيقية وعينية وأصيلة وهذه المدرسة تؤمن بأصالة الفرد وأهمية أبحاث علم النفس ومركزيتها.

2 ۔ المجتمع مركب صناعي أي مركب حقيقي وهو يشبه ماكنة ذات أجزاء مترابطة وهنا لا تفقد الأجزاء خصائصها وهويتها بل تفقد استقلالها بالتأثير فهو أجزاء مترابطة مع بعضها ارتباطاً خاصاً.

وبهذا الارتباط يتحقق أثرها كما هو الحال في الماكنة والكل هنا لا يملك وجوداً مستقلاً عن الأجزاء بل هو من مجموع الأجزاء إضافة إلى الارتباط الخاص.

3 ۔ المجتمع مركب حقيقي بين الأرواح والأفكار والعواطف والتطلعات والإرادات وهو تركيب ثقافي وطبيعي وهو ليس كالمركب الحقيقي الذي تنصهر فيه الأجزاء والإنسان الكلي ما هو إلا اعتباري انتزاعي.

4 ۔ مركب حقيقي لا تجد فيه الأجزاء وجودها إلا من خلال المركب (المجتمع) فالأفراد لا يملكون هوية إلا بوجودهم الاجتماعي فإنسانية الإنسان والعواطف والأحاسيس والأفكار هي التي تملي على الإنسان بوجوده في المجتمع.

فنحن هنا بين أصالة الفرد في النظرية الأولى وفي الطرف المقابل لهذه النظرية من يرى أصالة المجتمع واعتبارية الفرد كما هو الحال في النظرية الرابعة وتتدرج النظريتان الباقيتان:

فالنظرية الثانية (الصناعية أو الميكانيكية) التي تعتبر المجتمع ماكنة يرى أصالة الفرد ويسلب الأصالة والعيّنة عن المجتمع باعتباره وجود كلي ولكن هذه النظرية تعتقد أن للأفراد وجوداً مشتركاً ومترابطاً ولا يمكن فهم المجتمع إلا من خلال فهم الأجزاء وموقعها.

النظرية الثالثة تعتقد بأصالة الفرد والمجتمع معاً فهما وجودان حقيقيان لكل أحكامه وترى أهمية علم النفس والاجتماع.

رأي صاحب الميزان في حقيقة المجتمع

يميل الشيخ المطهري إلى رأي صاحب الميزان في أصالة المجتمع وأصالة الفرد وأن المجتمع وجود حقيقي حيث يقول صاحب الميزان:

الصنع والإيجاد يجعل أولاً أجزاء ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركّبها ويؤلّف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة أخرى وغير ذلك وربما لم تأتلف وبقيت على حال التباين والتفرق كالسمع والبصر والذوق والإرادة والحركة إلا أنها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الإنسان وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمّة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة. فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلاً إذا استملكت نشأتها قدرت على إفزار شيء من المادة من نفسها وترتيبها إنساناً تاماً آخر يفعل أصله ومحتده فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان واحد وأفعال كثيرة عدداً واحدة نوعاً وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يُقسّم إلى آنية فهي مياه كثيرة وذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد وكلما تجمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.

وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره.

قال تعالى: <وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً>[2] وقال: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ>[3].

وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة أخرى من المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكوّن في المجتمع سنخ ما للفرد من وجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ولذلك اعتبر القرآن للأمة وجوداً وأجلاً وكتاباً وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعة ومعصية.

وبالجملة لازم ذلك.. تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد، فهمّة الجماعة وإرادتها في أمر كما في الغوغاءات.. فلا مفر للجزء أن يتبع كله ويجري على ما جرى عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه وكذا الخوف العام والدهشة العامة. وهذا هو ملاك اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في الأديان والسنن المتقدمة[4].

رأي الشيخ مصباح يزدي في حقيقة المجتمع

أما الشيخ مصباح يزدي فيختلف مع القوم ويرى أن المجتمع ليس له وجود حقيقي وإنما هو وجود اعتباري مفهومي ولا شيء غير الأفراد، ويرى الأصل للفرد ويعتبر على ذلك علم النفس هو الأساس.. ويردّ على مدعى القوم واستدلالهم القرآني بأن الآيات التي تتحدث عن الأمة.. في إرادتها أو أجلها أو جزائها إنما تتحدت عنهم بما هم مجموع أفراد بدليل صيغة الجمع المقرونة في الآية.

<وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ..>[5] <كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ..>[6].

فإذا كان الإسناد إلى الأمة كان يفترض أن تكون النسبة مؤنثة ومفردة وليس ضمير جمع.

وكذلك يناقش تفاصيل آيات الأجل والموت والمسؤولية والتكليف للأمة وأنه لا ينسجم مع ما يؤكده من مسؤولية الحالة الفردية في الحساب <وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً>[7].

ويناقش كل منهم الطرف الآخر لكل الآيات التي توحي بوجود حقيقي للأمة ويختم ردّه على استدلال الطرف الآخر بعرفية الخطاب القرآني حيث يقول:

(فالآيات القرآنية مثل جميع المحاورات العرفية والخطابات العقلانية تماماً عندما تتحدث عن فئة أو تخاطب جماعة فإنها لا تشير إلى كل واحد من أفراد تلك الجماعة وإنما تؤكد على التعميمات، وإذا كانت هناك استثناءات فإنها توضحها وبهذا اللون من الخطابات والمحاورات لا يمكن الاستدلال على وجود روح جماعية واحدة).

ويختتم الشيخ مصباح بقوله:

إذن نحن لا نملك استدلالاً فلسفياً وبرهاناً عقلياً لإثبات الوجود الحقيقي والشخصي للمجتمع ولا تتوفر لدينا شواهد علمية ولا مؤيدات تجريبية ولا آيات قرآنية ولا أدلة نقلية يستنبط منها ذلك[8].

رأي الشهيد الصدر قدس سره في حقيقة المجتمع

يمكن استكشاف رأي الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره من ثنايا بحثه إثباتاً ونفياً لبعض الصفات وردّاً على بعض النظريات لنستنتج بشكل غير مباشر رأيه في حقيقة المجتمع وأين يقع موقعه من الاتجاهات الأربع في تفسير ماهية المجتمع.. أو إلى أيهم أقرب.

وعلى هذا الصعيد نثبت آراء السيد الشهيد الصدر قدس سره نفياً وإثباتاً ثم نعرض استنتاجنا لفهمه:

أولاً: ينفي السيد الشهيد الصدر قدس سره التصور الهيكلي للتاريخ والمجتمع، ذلك الموجود الكلي الذي يفرض نفسه على الفرد وله وجوده الخاص وقوانينه وحركته الخاصة به والفرد فيها يكون مسيّراً وجزءاً متحركاً بغير وعي كحركة الأجرام في النظام الفلكي.

ثانياً: يثبت السيد الشهيد الصدر قدس سره أن المجتمع ليس أكثر من مجموع الأفراد.

ثالثاً: يميل بل يؤكد ما ذهب إليه صاحب الميزان في فهم الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأمة ويؤكّد أن للأمة إرادة وحساب وكتاب وجزاء وأجل وكل هذه الصفات التي تطلق على الفرد تؤكد على أصالة وجود المجتمع وحقيقته[9].

رابعاً: لا نجد في كتابات ومحاضرات السيد الشهيد الصدر ما ذهب إليه صاحب الميزان من فكرة الروح الجماعية والروح الثقافية التي هي مجموعة من تفاعل التطلعات والأفكار والإرادات والقيم، والتي بمجموعها تشكّل هوية الأمة وروحها ووجودها الحقيقي حيث لم يطرح السيد الشهيد الصدر قدس سره هذا التصور بشكل واضح أو يشمّ منه أنه يؤيد مثل هذا التصور للوجود الحقيقي للأمة والمجتمع.

من مجموع ذلك يمكن الاستنتاج أن رأي السيد الشهيد مع أصالة الفرد وأصالة المجتمع لكن ليس على نمط ما ذهب إليه صاحب الميزان.. وقد يكون أقرب إلى الاتجاه الثاني الذي يرى المجتمع كالمركب الصناعي الماكنة حيث إن الأفراد والأجزاء تبقى محافظة على هويتها لكن التأثير يحسب لها من خلال موقعها في هذا الكل وليس لها تأثير منفرد أو جزئي إلا من خلال المجموع وترابطاته.

والدليل على ما ذهب إليه صاحب هذا الاستنتاج أنه يؤكد أن الجدل المحرك للمجتمع والتناقض الذي يخلق فيه الحركة هو التناقض بين القوي والضعيف وأن الثورة في المجتمعات هي تعبير عن التناقض بين المستغِل والمستغَل والثورة هي في حقيقتها تبديل المواقع بينهما. ونلحظ هنا تأكيده على المواقع والأطراف المشكلة للمجتمع والعلاقات التي بينهم ]الإنسان والطبيعة والله والعلاقة بين هذه الأطراف[.

وقد يُعترض على هذا الاستنتاج بالقول: إن ما طرحه السيد الشهيد الصدر قدس سره في نظرية المثل الأعلى ودورها في حركة المجتمع وما إليه يتوافق مع رأي صاحب الميزان في الروح الجماعية والثقافية؛ إذ تتساوق كل ما ذكر في هذه الروح من الإرادات والتطلعات مع مفهوم المثل الأعلى.

ويمكن هنا أن نقول: إن نظرية المثل الأعلى ودوره في حركة المجتمعات هي مشابهة مساوية لفكرة السيد صاحب الميزان في الروح الجماعية والثقافية الواحدة حيث نجد هنا تصوير السيد الشهيد الصدر قدس سره للمجتمع في موضوع <إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّىٰ يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم> وفي فهمه لدور المحتوى الداخلي للإنسان في تغيير الأوضاع الخارجية للمجتمع بقوله:

إن المقصود من تغيير ما بالأنفس تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة.. متغيراً وإلا تغيير الفرد الواحد أو الفردين أو الأفراد الثلاثة لا يشكّل الأساس لتغيير ما بالقوم وإنما يكون تغيير ما بالقوم تابعاً لتغيير ما بأنفسهم كقوم، كأمة[10].

وفي جانب آخر يعرّف دور المثل الأعلى في حركة الأمة بقوله:

(عرفنا أن المحتوى الداخلي للإنسان يجسّد الغايات التي تحرّك التاريخ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير وهذه الغايات التي تحرّك التاريخ يحددها المثل الأعلى فإنها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته للجماعة البشرية في حياتها.. المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود إليه كل تلك الأهداف)[11].

عناصر المجتمع عند السيد الشهيد الصدر قدس سره

يستقي السيد الشهيد الصدر قدس سره فهمه لعناصر المجتمع الإنساني من مفاد الآية القرآنية المباركة <وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ>[12]. حيث شخّص أن عناصر المجتمع وفق الآية المباركة هي:

الإنسان والأرض أو الطبيعة، العلاقة المعنوية إضافة إلى العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالطبيعة من جهة والعلاقة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان من جهة ثانية.

فالإنسان كائن متميز خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه فإذا به يجمع بين ضرورات الأرض وتطلعات السماء.

الإنسان

الآيات الكريمة قررت أن الإنسان خُلق من تراب وأنه نفخ فيه من روحه فهو مجموع لقطبين اجتمعا والتحما في الإنسان: حفنة التراب تجرّه إلى الأرض، إلى الشهوات، إلى الميول وتجره إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحطاط وانحدار.

وروح الله التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله إلى حيث أخلاق الله، تخلّقوا بأخلاق الله، إلى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها، إلى حيث العدل الذي لا حد له، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام، إلى حيث الأخلاق الإلهية.

هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي، بحسب تركيبه الداخلي هذا الجدل وهذا التناقض ۔ الذي احتوته طبيعة الإنسان وطرحته قصة آدم ۔ له حل واحد فقط هو الشعور بالمسؤولية ولكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل؛ لأنه لا يحل هذا الجدل وإنما الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي يتكلفه الارتباط بالله المثل الأعلى المطلق يحس الإنسان من خلاله بأنه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم وعلى العدل[13].

وهذه العلاقة المعنوية هي التي سماها القرآن الكريم بـ (الاستخلاف).

وحينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد أنها تشترك جميعاً في العنصر الأول والعنصر الثاني فلا يوجد مجتمع بدون إنسان يعيش مع أخيه الإنسان ولا يوجد مجتمع بدون أرض أو طبيعة يمارس عليها دوره الاجتماعي.

أما العنصر الثالت ففي كل مجتمع علاقة كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة وفي كيفية صياغتها وهذا العنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع كل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها[14].

أنواع المجتمعات

ولما كان الاختلاف بين المجتمعات البشرية مرجعه إلى العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان بشكل رئيسي وكذلك إلى علاقة الإنسان بالطبيعة وبشكل أقل حدة.

على ضوء ذلك فقد استخدم السيد الشهيد الصدر قدس سره في مواطن مختلفة من محاضراته وكتبه عناوين وأوصاف للمجتمعات موضع البحث يمكن أن ندرجها.. أما تشخيص الأفق الذي على أساسه تم فيه فهم المجتمع وتقييمه فسوف نبحثه في حركة هذه المجتمعات ومسار التحولات فيها وموقعها في الحركة التاريخية.

إن التقسيم الرئيسي عند السيد الشهيد الصدر قدس سره للمجتمعات هو:

أولاً: المجتمع ذي الصيغة الرباعية في علاقاته.

ثانياً: المجتمع ذي الصيغة الثلاثية.

المجتمع ذي الصيغة الرباعية (مجتمع الاستخلاف)

وهي الصيغة التي طرحها القرآن الكريم للعلاقات الاجتماعية تحت اسم الاستخلاف وبموجبها ترتبط أربعة أطراف مع بعضها، ثلاثة منها داخل إطار المجتمع هي الطبيعة والإنسان مع الإنسان وطرف رابع خارج عن إطار المجتمع وهذا الطرف الرابع مقوماً من المقومات الأساسية للعلاقات الاجتماعية وهو الله.

وفي هذه الصيغة تنطبق مع وجهة نظر معينة نحو الكون والحياة ترى أنه لا إله للكون والحياة إلا الله وأن دور الإنسان في ممارسة حياته إنما هو دور الاستخلاف والاستئمان.

وعلاقة الإنسان بالطبيعة فهي في جوهرها علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها لا علاقة مالك بمملوك وأية علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو ذلك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان مؤدياً لواجبه من هذه الخلافة وليست علاقة سيادة أو ألوهية أو مالكية[15].

مجتمع الاستخلاف قدر البشرية الرباني

يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره من خلال فهمه للقرآن الكريم أن المجتمع ذي الصيغة الرباعية المجتمع المرتبط بالله مجتمع الاستخلاف يعتبره سنّة تاريخية بمعنى أن القدر الإلهي للمسيرة البشرية هو تحقق المجتمع المرتبط بالله، بالدين، بالمستخلف، وهذه السنّة من نوع السنن القابلة للتحدي لفترة لكن مسيرة البشرية سوف ترجعها إلى الصيغة الرباعية، إلى الدين، إلى المستخلف، إلى الله[16].

والأدلة التي يطرحها السيد الشهيد الصدر قدس سره استقاها واستفادها من الآيتين المباركتين:

الأول <إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً> هنا القرآن الكريم يصف هذه السنّة التاريخية بوصفها جعل وفعل رباني ومن زاوية دور الله في العطاء ويمثل الدور الإيجابي التكريمي من رب العالمين.

وتارة عرضها من زاوية تقبّل الإنسان لهذه الخلافة وذلك في قوله: <إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً>[17].

ويرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن الأمانة هي الوجه التقبّلي للخلافة والخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للأمانة ويرى أن الأمانة والخلافة عبارة عن الاستخلاف والاستئمان وتحمل الأعباء.

فهذه الأمانة التي تقبلها الإنسان وتحملها حين عُرضت عليه بنص الآية الكريمة أي بتعبير آخر هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية لم تُعرض على الإنسان على مستوى التكليف والطلب وليس التقبل بمعنى الامتثال والطاعة لأن العرض كان معروضاً على السماوات والجبال والأرض أيضاً ولا معنى لتكليف السماوات والجبال والأرض. ومن هذا نفهم أن العرض ليس عرضاً تشريفياً بل إنه يعني أن هذه العطية ربانية كانت تفتش عن الوضع المنسجم معها لطبيعته بفطرته بتركيبه التاريخي والكوني فالعرض عرض تكويني والقبول قبول تكويني وهذا هو معنى السنّة التاريخية أي أن هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة داخلة في تكوين الإنسان وفي مسار الإنسان الطبيعي والتاريخي وهذه السنّة قابلة للتحدي بدليل قوله تعالى <وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً> وكذلك فإن الهبة من سياق قوله تعالى <ذلك الدّينُ القَيِّم>[18].

وندرج تحت هذا العنوان مجتمعات العدل والتوحيد والمجتمع المتبني للمثل الأعلى المطلق كما ذكر السيد الشهيد الصدر قدس سره.

مجتمع الصيغة الثلاثية

يختلف هذا المجتمع عن سابقه ذو العلاقة الرباعية هو انقطاع صلة المجتمع عن الله.. وبهذا تتحول نظرة كل جزء إلى الجزء الآخر داخل هذا التركيب وهذه الصيغة؛ لأن إضافة الصلة مع الله ليس إضافة عددية وإنما هذه الإضافة تحدث تغييراً نوعياً من بيئة العلاقات الاجتماعية وفي تركيب الأطراف الثلاثة نفسها؛ لأنه سوف يحدث تغييراً أساسياً في بيئة العلاقات.

ونموذج هذه المجتمعات التي ظهرت على مسرح التاريخ ألوان مختلفة من سيادة الإنسان على الإنسان وبأشكالها المختلفة إذ أن بداية العلاقة تبدأ بالإنسان وتنتهي به في هذه المجتمعات (في غياب عن الله، عن المستخلف للإنسان). إذ بهذا الاستخلاف والصلة مع الله يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شركاء في محل هذه الأمانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد أمانة لابد من رعاية واجبها وأداء حقها[19].

ويندرج تحت هذا النوع من المجتمعات ما يطلق عليه السيد الشهيد الصدر قدس سره مجتمع الظلم ومجتمع الفراعنة والمجتمعات المتبنية للمثل الأعلى المحدود والجامد.

الفصل الثاني: الحركة والتغيير في المجتمعات

مفهوم الحركة في المجتمع

الحركة سير تدريجي للوجود وتطور للشيء في الدرجات تتسع لها إمكاناته ونقصد من الحركة ما هو مقابل للاستقرار والسكون سواء كانت الحركة انتقال مكاني أو أثر زماني تبدّل أو تحوّل انقلاب أو تغير بشكل عام وعلى هذا الصعيد نثبت مسائل عامة قبل الدخول في التفاصيل:

أولاً: المادة في حركة مستمرة وتطور دائم وهذه حقيقة متفق عليها والحركة تحتاج إلى سبب محرك لها. والحركة تطور وتكامل تدريجى للشيء الناقص وإن سبب الحركة التطورية للماده من صميمها وجوهرها ليس هو المادة ذاتها بل مبدأ وراء المادة يمدها بالتطور الدائم ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرّج[20].

ثانياً: أن التحولات الاجتماعية هي من مقولة (الحركة) وليس من قبل الكون والفساد فهي تحولات تدريجية تحدث في طول الزمان وبمرور الأيام وليست هي تحولات دفعية تظهر في لحظة واحدة أو بالتعبير الفلسفي في آن واحد[21].

ثالثاً: أن المجتمعات تتطور تطوراً مثل تطور الفرد من أفراد النوع الواحد أي أن النوع والماهية يبقيان ثابتين في كل التطورات والتحولات فهو ليس تطور وتحول نوعي.

رابعاً: أن أفراد البشر ينتمون إلى نوع واحد وعلم الأحياء يذهب إلى أن الإنسان لم يتغير تغيّراً نوعياً منذ أن وجد على ظهر الأرض ويرى بعض العلماء أن الطبيعة بعد أن دفعت بمسيرة تطور الأحياء إلى مرحلة الإنسان اتجهت مسيرتها التكاملية نحو المجتمع البشري أي أن المسيرة تغيرت من تطور بدني وجسمي إلى تطوير روحي ومعنوي.

خامساً: يمكن تشخيص التحولات الاجتماعية التي تمثل تغيراً في أوضاع المجتمع في شكله أو عدد أفراده أو تغيير في أوضاعه الاقتصادية أو مستوى تعليمه أو شكل الحكم والمؤسسات السياسية فيه أو ما شابه من التحولات أو التغيرات التي تمثل استجابات للمؤشرات الداخلية أو الخارجية التي يعيشها أي مجتمع من المجتمعات والدول ويمكن اعتبار هذا النوع من التغير والتبدل والحركة تكيفاً مؤقتاً وتغيراً علاجياً يمكن أن تمارسه الكثير من المجتمعات كنوع من متطلبات استمرار الحياة وهذا لا يقع في دائرة بحثنا عن حركة التاريخ أو التغيرات الاجتماعية موضوع البحث الذي أشار إليه السيد الشهيد الصدر قدس سره.

سادساً: يمكن أن نشخّص تغيرات طارئة وقسرية وسريعة وغير إرادية تنتاب بعض المجتمعات جرّاء حادث طارئ سماوي أو أرضي كالزلازل أو الحرب أو الأوبئة أو الفيضانات أو ما شابه مما يؤدي إلى تغير في كثير من أوضاع المجتمع أو يحدث فيها تبدلاً وهذا في الحسابات لا يقع في دائرة الحركة التاريخية أو التغيرات الاجتماعية موضوع البحث.

سابعاً: يضع السيد الشهيد الصدر قدس سره ثلاث شروط أو أوصاف من أجل أن تكون الظاهرة ضمن دائرة العمل التاريخي وتدخل ضمن سنن التاريخ وهذه الأبعاد هي:

1 ۔ ظاهرة معينة كانت نتيجة لأسباب أو مقدمات وتمثل علاقة الحاضر بالماضي وبالظروف المسبقة المنجزة (العلة الفاعلية) أي دراسة السبب.

2 ۔ ظواهر تمثل علاقة فعل بغاية ونشاط بهدف (العلة الغائية) تنحصر هذه الدائرة بالفعل المتطلع إلى المستقبل المحرك لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر؛ أي دراسة الأهداف.

3 ۔ أن يتعدى العمل الفاعل نفسه وأن يكون المجتمع علة مادية له بحيث يكون للعمل أثر وموج يتعدى شخص الفاعل ويتخذ من المجتمع أرضية له سواء كان الفاعل فرداً أو جماعة[22].

الحركة والتغيير في المجتمع عند السيد الشهيد الصدر قدس سره

يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن العناصر المكونة للمجتمع والمتمثلة بالإنسان، الطبيعة والعلاقة المعنوية بين الإنسان وبين الإنسان والطبيعة وتفرض هذه العلاقة الثنائية بين المكونات الثلاثية للمجتمع نوعين من الحركة والتطور في حياة المجتمع لكل حركة قانونها وأساسها وكذلك هناك نوع رابطة وتأثر وتأثير متبادل بين هذين الخطين من العلاقة:

أـ علاقة الإنسان بالطبيعة وشكل حركتها

طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض التي يعيش عليها والطبيعة التي يحيا فيها تستند على أساس الحاجات المادية وما يمثل مصالح الإنسان الطبيعية.

ويتمثل باستثمارها وتطويعها وإشباع حاجاته الحياتية منها ويواجه هذا الخط من العلاقة مشكلة وجدلية رئيسية هي تناقص الإنسان والطبيعة وهو حقيقة التسخير والاستثمار والتطويع للطبيعة ووفق قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة وهو قانون يستند على قاعدة أن الخبرة تتولد من الممارسة والممارسة بدورها تولد خبرة جديدة [من عمل علم ومن علم عمل] وكلما ازدادت خبرته بأسرارها وقوانينها ازدادت السيطرة عليها وتمكن الإنسان من تطويقها وتذليلها[23].

وهنا نجد أن الخبرة الإنسانية تنمو باستمرار وبشكل تراكمي ما لم تحصل كارثة طبيعية أو بشرية والذي يشير إلى هذا القانون التاريخي <وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا>[24].

والمستفاد من هذه الآية أن السؤال المذكور فيهما لا يراد منه الدعاء لأن الآية تتكلم عن الإنسانية ككل عمّن يؤمن بالله ومن لا يؤمن ومن يدعو الله ومن لا يدعوه إضافة إلى أن الدعاء لا يتضمن تحصيل الشيء المطلوب بينما الآية تتحدث عن استجابة فعلية بإعطاء ما سئل عنه وعليه فالسؤال الفعلي والطلب التكويني هو الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة[25].

وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية يمكن تقسيمها إلى فئتين:

إحداهما: مصالح الإنسان التي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصاً كالعقاقير الطبية مثلاً فإن من مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين بل الإنسان بوصفه كائناً معرّضاً للجراثيم الضارة بحاجة إلى تلك العقاقير سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط ونطلق عليها المصالح الطبيعية.

فهناك شرطان أساسيان لا يمكن بدونها للنوع الإنساني أن يظفر بحياة كاملة تتوفر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية: أحدهما: أن يعرف تلك المصالح وكيف تحقق. والآخر: أن يملك واقعاً يدفعه بعد معرفتها إلى تحقيقها.

وقد زودت الإنسانية بإمكانيات الحصول على تلك المصالح التي تكمن فيها وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مر الزمن نمواً بطيئاً ولكنها تسير على أي حال في خط متكامل على ضوء الخبرة والتجارب المستجدة وكلما تمت هذه القدرة وكان الإنسان أقدر على إدراك مصالحه ومعرفة المنافع التي يمكن أن تجنيها من الطبيعة[26].

وإلى جانب ۔ ذلك ۔ تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً يضمن اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية فإن المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي بالدافع الذاتي لكل فرد.

فالمجتمع الإنساني دائماً يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية وهكذا نعرف أن الإنسان ركّب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصاً يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية وتكفل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة[27].

وملخص هذا الخط من العلاقة يمكن درجه ضمن هذه النقاط:

1 ۔ أنها علاقة طبيعية لسد حاجات طبيعية للإنسان وإكفاء لدوافعه الأساسية والأولية.

2 ۔ إنها تعتمد قانون تنامي الخبرة بالممارسة.

3 ۔ مجالها الطبيعة وجدلية واستثمارها وتطويعها وتسخيرها.

4 ۔ أن هذه العلاقة تمثل البعد المشترك بين جميع البشر والمجتمعات وهي القاسم المشترك على اختلاف الزمان والمكان.

5 ۔ أن الخبرة المتراكمة.. والعلم المتحصل من هذه المجالات وهي علوم تطبيقية عادة عامة بين جميع البشر وليست خاصة بمجتمع ويمكن تبادلها وتناقلها مما يؤدي إلى تناميها عبر القرون وعبر مختلف الحضارات والمجتمعات فالحضارة الإسلامية طوّرت العلوم التي ورثتها من الحضارة التي سبقتها وهكذا الحضارة الغربية ورثت وطورت ما وصلها من الحضارة الإسلامية.

6 ۔ أن خط العلاقة هذه للإنسان مع الطبيعة متطور متنامٍ متقدم دائماً عادة والجيل الذي يأتي أفضل من سابقه في تسخير الطبيعة واستثمارها وتمكن الإنسان في مصالحها (عادة) وبذلك خط العلاقة هنا متصاعد طولي متنام.

7 ۔ أن تنامي هذه العلاقة وتسخير الطبيعة واستثمارها يصطلح عليه عادة بـ (المدنية) وهي العنصر المشترك المتنامي والمتبادل في حياة الشعوب عادة.

بعض الثقافات تجعل من تطور هذه العلاقة ودرجة تسخير واستخدام الطبيعة واستثمارها هو العنصر الذي يقاس عليه حركة التطور والنمو في المجتمعات ودرجة تقدمها وفق هذا الخط من العلاقة وبمقاييس مادية قابلة للتشخيص والإحصاء.

ب _ خط العلاقة بين الإنسان والإنسان واتجاه تطورها

ويمثل هذا الخط مصالح الإنسان الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية، يمثل هذا الخط التناقض الاجتماعي داخل الجماعة البشرية والذي أساسه الفروق الفردية بين البشر وطبيعة المصالح الأنانية وحب الذات والرغبة من التسخير والسيطرة مما أبرز الاختلاف بين البشر وبروز مشكلة التناقض بين الإنسان القوي والإنسان الضعيف الذي يتيح للأول استغلال الثاني واستضعافه مما يؤدي إلى انقسام المجتمع الإنساني إلى طائفتين: طائفة المستكبرين وطائفة المستضعفين.

وتبرز هنا مسألة الظلم وتجاوز الحقوق في مقابله الصراع والحركة من أجل تحقيق العدل، من هنا أخذ موضوع العدل حالة إنسانية عامة وجُعل مؤشراً على حركة الشعوب.

من جانب آخر يتحدث الشهيد الصدر قدس سره في كتاب اقتصادنا حول هذه المشكلة حيث يقول:

فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي كيف يدرك الإنسان المصالح الاجتماعية [فحسب]؟ بل المشكلة الأساسية هي كيف يندفع هذا الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟ ومثار المشكلة هو أن المصلحة الاجتماعية لا تتفق في أكثر الأحایين مع الدافع الذاتي لتناقضها مع المصالح الخاصة للأفراد.. . فإن الدوافع الذاتية التي تنبع من حب الإنسان لنفسه وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح الآخرين، إن تلك الدوافع تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم. وهكذا يتضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها الاجتماعي هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية وما لم تكن الإنسانية مجهزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية والدوافع الأساسية التي تتحكم في الأفراد لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يظفر بكماله الاجتماعي[28].

ويضيف (نخلص من ذلك كله إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبه لذاته)[29].

فنظرية حب الذات (حب الإنسان لنفسه) دفعته للحركة والتطور والتقدم في الخط الأول في علاقته مع الطبيعة أما في الخط الثاني فإن الفطرة هنا نفسها في حبه لنفسه خلقت له مشكلة لا يمكن أن يحلها بنفسها ولا تكفل له التطور هنا إن لم يجد حلها في طريق آخر.

ويمكن تلخيص هذا المحور ضمن النقاط التالية:

1 ۔ إن علاقة الإنسان بالإنسان تأتي استحابة لمصالح الإنسان الذاتية (الأنا) والذي يجد في المجتمع فرصة لتحقيقها وكذلك فطرة الإنسان في الجعل الإلهي للشعوب والقبائل والعيش مع الآخرين.

<إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ> [30].

2 ۔ محور العلاقة هو الفطرة والتسخير والاستفادة والمصلحة الاجتماعية.

3 ۔ إن الفروق الفردية بين البشر في قدراتهم وإمكانياتهم ورغباتهم أبرزت مشكلة الاختلاف وتناقض القوي مع الضعيف وتمكن الأول من الثاني وصراع الإنسان من أجل حقوقه ومصالحه.

4 ۔ إن جدلية العدل والظلم والقوي والضعيف هي التي تتحكم في مسار هذا الخط.

5 ۔ إن عنصر الاختلاف بين المجتمعات والحضارات والدول يتمثل في هذا الجانب من العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان في مفهوم العدل ومصداقه وبذلك فهي مسألة خاصة بكل مجتمع وهذا الاختلاف لا يعني اختلاف في ماهية المجتمعات وإنما المجتمعات البشرية أفراد مختلفة من نوع واحد قابل للتعامل بشكل متفاوت مع هذه المسألة.

6 ۔ ليس بالضرورة أن يكون هناك تطور مستمر في هذه العلاقة وآثارها وليست هي قابلة للتبادل بشكل ميسّر أو طبيعي لأنها تمثل العنصر المتغير بين هوية المجتمعات ومسار نمو المجتمعات غير واضح الاتجاه صعوداً أو نزولاً أو تعرجاً.

7 ۔ يمثل هذا الجانب العنصر الإنساني الأعمق في عملية المقارنة بين المجتمعات والتي يمثل جانب العدل والحقوق منها القسم المهم في جانب الثقافة والحضارة والتي تمثل البعد المعنوي الأكثر صعوبة في التشخيص والقياس.. لكنها قابلة للإدراك والتقييم.

8 ۔ عمق المشكلة يكمن في الجدلية بين حب الإنسان لنفسه وبين المصالح الاجتماعية التي تتطلب التنازل أو الكفّ عن المصالح الذاتية التي تتحرك باتجاهها الأنا ومن دافع طبيعي قوي.

9 ۔ لا يمكن الخروج من المشكلة إلا بعامل خارجي يستطيع أن يلبي الأمر بين حب النفس من جهة والمصالح الاجتماعية من جهة أخرى وينبغي أن يكون هذا الحل يمتلك من الموضوعية ومن القدرة على الانسياب والانسجام مع النفس ودوافعها وقدر من المسؤولية على ضبط النفس ومن جهة أخرى يملك من الموضوعية في تلبية حاجات المجتمع وقدرته على البقاء والتطور وهذا ما نجده في الدين الإلهي.

التأثير المتبادل بين نمو وتطور حركة الخطين في العلاقة

توجد بين خطي العلاقة المعنوية خط العلاقات الاجتماعية وخط العلاقات الطبيعية علاقة تأثير متبادل نسبياً فلكل من الخطين لون من التأثير الطردي أو العكسي على الخط الآخر ويبرز القرآن الكريم هذا التأثير المتبادل في محورين:

المحور الأول: تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.

ومؤدى هذا المحور أنه كلما تمت قدرة الإنسان على استثمار الطبيعة واتسعت سيطرته عليها ازداد اغتناءً بكنوزها أصبح أكثر قدرة على تحقيق الاستغلال في خط علاقاته مع أخيه الإنسان وبهذا الصدد نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: <كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى>[31].

ومفاد هذه الآية الكريمة أن الإنسانية بقدر ما تتمكن من الطبيعة وتتوصل إلى وسائل انتاج أقوى وأوسع بهذا القدر تنفتح أمام الأقوياء والأثرياء إمكانيات واغراءات استثمار أدوات الإنتاج في سبيل استغلال الضعفاء حيث يستطيع الإنسان المالك لوسائل الإنتاج أن يمارس قدراً أكبر من استغلال الآخرين إذا لم يحل تناقضه الداخلي أي إذا استسلم لنوازع الشر الكامنة فيه[32].

أما المحور الثاني: فهو تأثير خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على خط علاقات الإنسان مع الطبيعة.

ومؤدى هذا المحور أنه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة واستوعبت قيمتها وابتعدت عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة (و أخرجت الأرض أثقالها)[33] وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركة من السماء وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء وذلك لأن العدالة الاجتماعية هي الإطار الأنسب لتحقيق التنمية الإنتاجية بأعلى درجاتها.

<وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً>[34].

<وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ>[35].

ومفاد هذه الآيات أن مدى الظلم في المجتمع يتناسب تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة.

نظريات في تفسير الحركة الاجتماعية والتاريخية

الحركة الاجتماعية والتبدلات في المجتمع ما هو منشأها وما هو مبدؤها وما هي قوانينها:

هل مبدؤها الإنسان.. أم مبدؤها الصدفة.. أم منشأها آلة الاستثمار والإنتاج.. أم منشأها الإنسان.. لأنه محور العلاقات والارتباطات في هذه العناصر وإذا قلنا الإنسان فأي بُعد من الإنسان غريزته وحبه لنفسه أم فكره وإرادته أم كل تلك الأمور؟ والإنسان هل هو في معزل عن محيطه وظروفه التي يعيشها أم أن هناك واقعاً آخر في حركته وإرادته؟

ثم كيف نفسر تغير المجتمعات وتبدلها وحركتها وهل يجمعها قانون واحد مع الإنسان.. .

وما هي السنن التي تحكم هذه الحركة؟

ثم ما هو اتجاه حركة المجتمع هل هو تكامل المسيرة البشرية أم أن حركة التاريخ دورية تبدأ من نقطة ثم تعود إليها بعد أن تطوى عدة مراحل فالتاريخ يعيد نفسه؟

أما النظريات المطروحة في تفسير منشأ وأسباب التطور ۔ كما طرحتها الكتب الفلسفية الاجتماعية – فهي:

1 ۔ النظرية العنصرية: حيث تذهب إلى أن بعض السلالات البشرية لها قابلية صنع الحضارات والثقافات وبعضها ليس له هذه القابلية وبعضها منتج العلوم والفلسفة والصناعة.. وبعضها الآخر يستهلك.. فهي نظرية أنثريولوجية وهذه النظرية بوصفها لا تعطي تفسيراً لسبب هذه الحركة سوى منشأها وربطها بأساس عنصري.

2 ۔ النظرية الجغرافية: البيئة الطبيعية ۔ بموجب هذه النظرية ۔ هي صانعة الحضارات والمدنيات والصناعات، ففي المناطق المعتدلة ينشأ المزاج المعتدل والأدمغة المقتدرة (أبو علي سينا في كتاب القانون يشرح بالتفصيل تأثير البيئة الطبيعية على الشخصية الفكرية والواقعية والعاطفية للإنسان) وهذه النظرية لا تعطي الدافع والسبب لهذه الحركة سوى منشأها.

3 ۔ نظرية الأبطال: ترى هذه النظرية أن النوابغ هم الذين يصنعون التاريخ وهم وراء التغيرات والتطورات التاريخية، سواء العلمية أو السياسية أو الاقتصادية أو العملية أو الأخلاقية.

والنوابغ هم الأفراد الاستثنائيون في كل مجتمع ويتمتعون بقدرة عقلية أو ذوقية أو إرادية أو ابتكارية خارقة ۔ الكسيس كاريل في كتاب الأبطال تبنّى هذه النظرية ۔ وأن تاريخ كل أمة من الأمم مظهر لنبوغ بطل من الأبطال.

4 ۔ النظرية الاقتصادية: ترى أن الاقتصاد هو العامل المحرك للتاريخ وأن جميع المظاهر الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية مظهر وانعكاس لطريقة الإنتاج والعلاقات الإنتاجية في ذلك المجتمع.

5 ۔ النظرية الإلهية: هذه النظرية ترجع كل ما يظهر على سطح الأرض إلى الأوامر الإلهية المسيّرة للأرض وفق حكمة بالغة وتطورات التاريخ مظهر للمشيئة الإلهية وحكمته البالغة. فإرادة الله هي التي تغيّر التاريخ والتاريخ مسرح لتحقيق الإرادة الإلهية.

6 ۔ نظرية الفطرة : إن الإنسان يتمتع بخصال تجعل خصائص حياته الاجتماعية متكاملة ومن هذه الخصال:

أ ۔ القدرة على استيعاب التجارب وحفظها.

ب ۔ قدرته على التعلم عن طريق البيان والقلم واللغة.

ج ۔ تزود الإنسان بقوة العقل والابتكار وهذه القوة تمنح الإنسان قدرة الإبداع والابتكار التي هي مظهر للإبداع الإلهي.

د ۔ ميل الإنسان الذاتي ورغبته الفطرية في الإبداع فهناك اندفاع ذاتي نحو الإبداع والخلاقية.

هذه الخصال تدفع الإنسان نحو الهدف بينما لا نجد مثل هذه الخصال عند الحيوان.

ما يطرحه السيد الشهيد الصدر قدس سره أكثر عمقاً في منشأ التقدم والإبداع عند الإنسان وفي تفسيره لأسباب الحركة والتبدل في المجتمع والتاريخ.[36]

الحركة التاريخية والاجتماعية عند الشهيد الصدر قدس سره

السيد الشهيد الصدر قدس سره يستخدم على هذا الصعيد عدة مقولات ومفاهيم لصياغة نظريته في تفسير الحركة التاريخية والتحولات الاجتماعية ومن هذه المفاهيم:

1۔ حرية الإنسان واختياره:

تعدد الآراء في موقع الإنسان وإرادته واختياره ومسؤوليته فيما يجري من تحولات اجتماعية وحركة تاريخية هل هو مسيّر وخاضع لقوانين صارمة تحكم الإنسان في إرادته وشخصيته وهو بذلك خاضع لظروفه ومحيطه ومجتمعه ۔ كما تقول المدرسة السلوكية ۔ أو أن اختيارات الإنسان وحركته خاضعة لعوامل عديدة منها وسائل الإنتاج والتي تؤثر على شكل التوزيع وهذا يؤثر على ثقافة الإنسان وسلوكه أم أن حركة الإنسان حرة مطلقة لا تحكمها سنة أو قانون أو ظروف معينة.

هنا يؤكد السيد الشهيد الصدر قدس سره من خلال منظور قرآني وفي الوقت الذي يؤمن بوجود سنن تاريخية تحكم حركة الإنسان يؤكد في الوقت نفسه على حرية اختيار الإنسان في حركته التاريخية حيث يقول: إن البحث في سنن التاريخ خلق توهماً عند كثير من المفكرين بشأن وجود تعارض وتناقض بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ هؤلاء ظنوا أنهم أمام اختيارين إما أن يؤمنوا بأن للتاريخ سننه وقوانينه وبذلك يتنازلون عن إرادة الإنسان واختياره وإما أن يسلّموا بأن الإنسان كائن حر مريد مختار وبهذا يجب أن يلغوا سنن التاريخ وقوانينه[37].

ويضيف قدس سره أن القرآن يؤكد عبر هذه الآيات:

<إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّىٰ يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم>[38].

<وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً>[39].

<وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً>[40].

هذه الآيات توضح أن السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الإنسان بل تجري من تحت يده فهناك مواقف إيجابية للإنسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تتبع جزاءاتها التالية ومعلولاتها المناسبة ضمن علاقات السنن التاريخية فاختيار الإنسان إذن له موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ[41].

ويستعرض السيد الشهيد الصدر قدس سره صوراً لحركة الإنسان وحريته في ضمن السنن العامة التاريخية وتارة تكون على شكل شرط ونتيجة والإنسان حر في تحقيق النتيجة من خلال أسبابها وشروطها يضاف إلى ذلك هو وجود اتجاهات عامة في حركة الحياة والتاريخ قد يستطيع الإنسان تحدي هذه الاتجاهات.

ويمكن أن نلخّص تصورات الشهيد الصدر قدس سره عن الحركة الاجتماعية وأساس حركة التاريخ ضمن النقاط التالية:

الإنسان هو المبدأ للحركة التاريخية

يقرر السيد الشهيد الصدر قدس سره بأهمية العوامل المختلفة التي هي خارج الإنسان من ظروف وأسباب اقتصادية أو جغرافية أو اجتماعية بل حتى السنن الإلهية التاريخية.. لكن كل تلك العوامل لا تعدّ الأكثر فاعلية في مسيرة التاريخ ويذهب إلى أن الإنسان هو العامل الأول والأكثر تأثيراً في العملية التاريخية والتحولات الاجتماعية والأدلة التي يذكرها في إثبات هذه الحقيقة يمكن تصنيفها إلى قسمين:

أ ۔ دليل قرآني (نقلي): وذلك من خلال ما فهمه وأثبتته ظواهر الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الحقيقة ومن هذه الآيات: <إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّىٰ يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم>. <وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً>.

ب ۔ من خلال مناقشته نفياً للآراء الأخرى وخاصة المادية الديالكتيكية ۔ والتي يناقشها على مستويات ثلاث فلسفياً في مبدأ العلة وسايكولوجياً في منشأ اللغة وعلمياً في قدرتها على تفسير الحدث التاريخي ۔ يصل الباحث إلى أن الأساس هو الفكر في [الإنسان] وقدرته الإبداعية والفعّالة في التعامل مع الواقع واستيعابه وتمثله وإعادة تشكيله وليس العامل الخارجي هو العامل الفاعل فيه مع كونه عاملاً مؤثراً لكن الإنسان ومن خلال فكره ووجوده (دوافعه وفطرته) هو العامل الأقوى[42].

ثم ينتقل السؤال أي بعد من الإنسان هو المحرك التاريخي والسبب الذي يقف وراء الحركة الاجتماعية والتغيرات الحضارية.

هل هو عامل الجنس كما يقول فرويد حيث يجعل من الغريزة الجنسية العامل الوحيد الذي يفسّر فيه مختلف الظواهر الإنسانية والاجتماعية معتبراً أن اللذة الجنسية هي القاعدة للبناء الكبير الفوقي لمختلف مظاهر الحياة الإنسانية في جوانبها المختلفة الفكرية والعلمية والأخلاقية والفنية.. إلخ.

أم كما تقول الرأسمالية في فهمها المادي والنفعي للإنسان في حركته من دافع حب الذات وحبه للذة وابتعاده عن الألم في إطار مادي محدود وبالتالي تكون حركة الإنسان شبيهة لدوافع حركة الحيوان والاختلاف في الوسيلة والآلية حيث يمتاز الإنسان بقدرة فكرية لتطوير الوسيلة والآلية والمظاهر المعبّرة عن هذه الحقيقة الأم.

الشهيد الصدر قدس سره يناقش كل هذه التصورات المادية في فهم دوافع وأساس حركة الإنسان وينفيها بمناقشة علمية وفلسفية ثم ينتقل ليثبت دور الفكر والإرادة كأساس لسلوك الإنسان واعتبارها بناء تحتي وقاعدة لكل مظاهر شخصية الإنسان كفرد والحضارة والتاريخ كمجتمع وجماعة بشرية.

ويقرر هذه الحقيقة إثباتاً من خلال تفسير السلوك الإنساني الأكثر شيوعاً والذي لا يستند على مبدأ حادثة بسبب أو علاقة مسبَب بسبب أو علاقة نتيجة بمقدمات كما هو الحال في الظواهر الكونية المختلفة والتي تمثل علاقة الحاضر بالماضي بالظروف المسبقة المنجزة.

ويرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن الظواهر الإنسانية الأكثر تحكماً في الإنسان وفي مظاهر حياته الفردية والاجتماعية والتاريخية هي الظواهر التي تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية (العلة الغائية) فالفعل الإنساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب والماضي بل مع الغاية غير الموجودة حين إنجاز هذا العمل وإنما يترتب وجودها في المستقبل بغض النظر عن الهدف والغايات صالحة أو طالحة نظيفة أو غير ذلك.

هذه الغايات تؤثّر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة المستقبل أو الهدف يؤثر في تحريك نشاط الإنسان وبلورته من خلال وجوده الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية والذي يضمّ تصورات الهدف وبهذا التسلسل المنطقي للفعل الإنساني يثبت السيد الشهيد الصدر قدس سره دور الفكر الأساس والفاعل في المظاهر الإنسانية الهادفة.

الإرادة: الأمر الثاني في حركة الإنسان يمثل بالإرادة وهي الطاقة التي تحفّز الإنسان نحو هذا الهدف.. هذه الإرادة والطاقة المحركة يحكمها قانون حب الذات أي حب الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة وهو أمر طبيعي في الإنسان ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حب الذات.

وحب الذات هو الغريزة التي لم تعرف غريزة أعم منها وأقدم فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشُعبها بما فيها غريزة المعيشة فإن حب الإنسان ذاته ۔ الذي يعني حبه للذة والسعادة لنفسه وبغضه للألم والشقاء لذاته ۔ هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته ولو لم يكن حب الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول ۔ قبل كل تكوينة اجتماعية ۔ إلى تحقيق حاجاته ودفع الأخطار عن ذاته والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده وخوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار.

إن مجموع الفكر والإرادة وتفاعلهما فيما بينهما يمثل المحتوى الداخلي للإنسان وفيه تبدو غايات الإنسان وأهدافه وتشخَّص.

المحتوى الداخلي والمثل الأعلى

مما تقدم يصح القول أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي لكل ما يضم من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصيل مرتبطة بهذه القاعدة في المحتوى الداخلي للإنسان وتغيره وتطوره تابع لتغير هذه القاعدة وتطورها فإذا تغيّر الأساس تغير البناء العلوي وإذا بقي الأساس ثابتاً بقي البناء العلوي ثابتاً[43].
العلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية أي علاقة سبب بمسبب.

المثل الأعلى

يبقى السؤال ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي؟ ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية المحتوى الداخلي للإنسان؟

السيد الشهيد الصدر قدس سره يفترض مفهوماً يحمّله كل هذه المسؤوليات وهو (المثل الأعلى).

المثل الأعلى يحدد الغايات التي تحرّك التاريخ من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة والتفكير.. هذه الغايات تنبثق جميعاً عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته وللجماعة البشرية في حياتها.

هذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه الهدف الجزئي وذاك الهدف الجزئي.

وبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وسامياً وممتداً تكون الغايات صالحة وسامية وممتدة وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً[44].

هذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة والكون ويتحدد من قبل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرتها العامة نحو الكون والحياة.

ميكانيزم حركة المثل الأعلى

السؤال كيف يتفاعل الإنسان مع المثل الأعلى؟ أو كيف ينبثق المثل الأعلى من حياة الجماعة البشرية وضمن جماعة محددة؟

يقول السيد الشهيد الصدر قدس سره: إنه ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تحقق إرادتها للسير نحو هذا المثل وفي طريق هذا المثل فهذا المثل الأعلى يتجسد من خلال رؤية فكرية ومن خلال طاقة روحية تدفع بالإنسان على طريقه وكل جماعة اختارت مثلها الأعلى فقد اختارت في الحقيقة سبيلها ومنعطفات هذا السبيل.

وعلى ضوء هذا الفهم والرؤية يصبح المثل الأعلى هو هوية الأمة والمجتمع وبه تتمايز الحضارات والمجتمعات وكذلك به تشخّص الحركات التاريخية والمثل الأعلى هو الذي يحدّد الغايات والأهداف، والأهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار المثل الأعلى.

وجهة نظر قرآنية

يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن المثل الأعلى الذي ابتدعه لتفسير الحركات الاجتماعية التاريخية له أصل قرآني حيث أن القرآن الكريم يطلق على المثل الأعلى في جملة من الحالات اسم الإله باعتبار أن المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه ويعبّر عن كل ما يمثل المثل الأعلى بالإله؛ لأنها هي المعبودة حقاً وهي الآمرة والناهية حقاً وهي المحركة حقاً فهي آلهة من المفهوم الديني والاجتماعي[45].

تسميات المثل الأعلى

يقسّم السيد الشهيد الصدر قدس سره المثل الأعلى إلى ثلاثة أقسام تبعاً لنوع المجتمع الذي ينبثق منه هذا المثل وأوضاع هذا المجتمع وحاجاته ومرحلة حركته التاريخية وهذه الأقسام هي:

۔ المثل الأعلى المطلق.

۔ المثل الأعلى المحدود.

۔ المثل الأعلى المنخفض.

ويفترض السيد الشهيد الصدر قدس سره أن المجتمعات في حركة وتفاعل وتبدل ضمن مراحل يذكرها في سيرها في المُثل العليا وخاصة المحدودة منها.

المسيرة الإنسانية

كيف يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره المسيرة الإنسانية في حركتها التاريخية والاجتماعية هل تسير باتجاه التكامل والتصاعد والنمو والتطور يبدأ بنقطة لينتهي بنقطة أخرى.. أم أن حركة التاريخ والمجتمع كحركة الإنسان تبدأ وتنتهي ثم تبدأ حركة لفرد آخر من نقطة البداية نفسها لتلتقي بالأجل نفسه.

يبدو من خلال عدة شواهد أن السيد الشهيد الصدر قدس سره يرى بالحركة التكاملية للتاريخ والمجتمع وهي حركة متصاعدة متطورة باتجاهها العام.

يثبت السيد الشهيد الصدر قدس سره واستناداً إلى الآية المباركة <يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلي رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ>[46].

إن الإنسانية ككل تكدح نحو الله كدح مجاهدة وتسير سيراً تكوينياً نحو الله المثل المطلق ويقرر فهمه لهذه الآية بقوله:

هذه الآية الكريمة تضع الله هدفاً أعلى للإنسان والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله ويعني السير المسير بالمعاناة وبالجهد وبالمجاهدة لأن هذا السير ليس سيراً اعتيادياً بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلّق.

كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنما هي تتسلّق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل باستمرار[47].

فالآية تتحدث عن حقيقة قائمة عن واقع موضوعي ثابت فهي ليست بصدد أن تدعو الناس إلى أن يسيروا في طريق الله فليست الآية بصدد الطلب والتحريك[48].

ومن هذا التصور يمكن أن نستنتج أن السيد الشهيد الصدر قدس سره يميل إلى الرأي القائل بالحركة التاريخية التكاملية للمجتمع.

السيد الشهيد الصدر قدس سره بعد أن يقرر هذه الحقيقة القرآنية الكبرى يقسّم المسيرة البشرية نحو الله إلى قسمين:

1 ۔ المسيرة البشرية الواعية والمسؤولة نحو الله أو الحركة التاريخية التكاملية التصاعدية.

2 ۔ المسيرة البشرية غير الواعية والمسؤولة نحو الله أو الحركة التاريخية الحلزونية.

ويضع لكل نوع من السير شروط وقواعد وأحوال لكنها في اتجاهها العام هو سير نحو الله وسنأتي إلى تفاصيلها:

1 _ المسيرة الإنسانية (غير الواعية والمسؤولة) نحو الله

يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن البشرية تسير نحو الله نحو كمالها وإن كانت غير واعية ومختارة لهذا المسير لكنها ووفق فطرتها ومن خلال معاناتها سوف تبتدع إلهاً ومثلاً أعلى يمتلك خطوة نحو الأمام تمثل جذوة من ذلك المثل الأعلى المطلق (الله) حيث قدرته.. لكن هذه الخطوة وهذا التقدم قد يتوقف لتبتدع مثلاً أعلى آخر ومن خلاله تتحرك نحوه بحركة تكاملية وهذه الحركة يشوبها توقف ونكوص وقد تراجع لكنها باتجاهها العام تتحرك نحو ومضات وإشعاعات من النور والحق المطلق.

فالسيد الشهيد الصدر قدس سره يقرر أن كل سير وكل تقدم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأمد فهو تقدم نحو الله وسير نحو الله حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت أن تحقق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل حتى هذه الجماعات التي يسمّيها القرآن بالمشركين حتى هؤلاء هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله ولكنه تقدّم غير مسؤول[49].

المثل الأعلى المحدود

في هذا المسير غير المسؤول والواعي قد يبتدع الإنسان مثلاً أعلى مشتقاً من طموح الأمة ومن تطلعها نحو المستقبل وتحفّز نحو الجديد والإبداع والتطوير لكنه منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل من هذا الطريق الطويل أي أن الطموح الذي انتزعت منه الأمة مثلها كان طموحاً محدداً لم يستطح تجاوز المسافات الطويلة.

في هذا المثل الأعلى جانب موضوعي صحيح وهو أن الإنسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه أن يستوعب المطلق لأن الذهن البشري محدود ولا يستوعب المطلق وإنما يستوعب نفحة من المطلق شيئاً من المطلق يأخذ بيده قبضة من المطلق تنير له الطريق.

أخطار وأخطاء في المسيرة غير الواعية

يشير السيد الشهيد الصدر قدس سره إلى أخطار[50] في هذا المثل الأعلى المحدود بأفق الإنسان والمستمد من نور المطلق ويمكن تحديده بهذه الأخطار:

الأول: تحويل المحدود إلى مطلق.

الثاني: تعميم المثل ومكانها.

الثالث: استنفاذ غرضه وجموده.

الرابع: فقدان الشعور الموضوعي بالمسؤولية.

أما الخطر الأول (التعميم الأفقي): فهو أن هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق يحوّلها إلى مثل أعلى ويحوّلها إلى مطلق ويحوّل هذه الومضة من النور التي قبضها من هذا المطلق إلى نور السماوات والأرض وهنا يكمن الخطر لأن مثل هذا المثل الأعلى سوف يعمي الإنسان عن محدوديته ويغريه ويتعامل معه بأنه الحق المطلق.

وبسبب جهل الإنسان ومحدوديته يعتبر هذا المثل الأعلى يضمّ كل قيم الإنسان التي يجاهد من أجلها ويناضل في سبيلها بينما هذا المثل ۔ لا يمثل إلا جزءاً من هذه القيم ۔ وهذا التعميم تعميم أفقي خاطئ لأن هذا المثل يعبّر عن جزء من أفق الحركة بينما يخلو مما يملأ كل أفق الحركة فيصبح المثل الأعلى صنماً وسراباً يمنع الإنسان أن يبصر محدوديته.

الخطر الثاني (التعميم الزمني): توجد على مر التاريخ خطوات ناجحة تاريخياً لكن لا يجوز أن تحول من حدودها (المكانية والزمانية) كخطوة إلى مطلق وإلى مثل أعلى منتزع من ظروف وأوضاع وطموح يتناسب مع أوضاع هذا المجتمع وأحواله وآفاقه. صحيح أنه في هذا المثل ومضة نور، خطوة نحو الأمام، نحو شيء من المطلق لكنه على كل حال محدود بأوضاع هذا المجتمع وبأفق أهله وحدود حاجاتهم وأوضاعهم وبدل أن يضع الإنسان هذا المثل الأعلى بحدوده المكانية وظروفه الاجتماعية يقوم بتعميم خاطئ وخطير حيث يجعله مثلاً أعلى لكل البشرية ولكل المجتمعات في كل زمان وعلى كل الأرض يحوله إلى مطلق غير محدود وصالح ومناسب للبشرية بغض النظر عن أحوالها وآفاقها وطموحاتها ومشاكلها مع أن هذا المثل الأعلى انبثق من ظرف خاص ولعلاج مشكلة في مجتمع محدد. إنه الخطأ الثاني والخطأ الذي تقع فيه البشرية حين تطرح مثلاً الماركسية أو الليبرالية أو العلمانية أو.. كمثل أعلى مطلق لكل البشرية في كل زمان ومكان والصحيح أن تكون هذه التجربة والممارسة خطوة ضمن مثل أعلى لا أن تحوّل هذه الخطوة إلى مثل أعلى مطلق.

القرآن الكريم يعبّر عن هذا التعميم والإطلاق للمثل الأعلى المحدود بالسراب <وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ> [51].

الخطر الثالث (جمود المثل الأعلى): هو تحوّل المثل الأعلى المحدود والذي كان يملك قدرة على تحريك الأمة وله فاعلية في دفعها خطوات نحو الأمام يصبح هذا المثل الأعلى المحدد معيقاً لحركة الأمة وذلك حينما يتحقق هذا الطموح المحدود وتصل المجموعة البشرية إلى النقطة التي أثارت فيها هذا المثل فيتحول هذا المثل إلى واقع محدود بحسب الخارج ويصبح مثلاً تكرارياً جامداً وصنماً مانعاً لحركة الأمة ومثلاً فاقداً للفاعلية مما يؤدي إلى تمزّق الأمة وتحولها إلى شبح وذلك ضمن مراحل تمر بها الأمة التي تتخذ مثلاً أعلى محدوداً سوف نتناوله في بحث حركة الأمة ضمن المثل العليا المختلفة.

هذه هي مشكلة البشرية في حركتها غير الواعية نحو الله ففيها نزول وصعود وتبدل للمثل وابتداع آخر وفيها جمود وحركة وجهل وغرور وتضخيم وتحويل المحدود والجامد إلى مطلق ولكنها في المحصّلة سعي الإنسان الكادح نحو الله أو لبعض صفاته ولكن بدون وضوح ومسؤولية ومرشد في الطريق.

الخطر الرابع (فقدان الشعور الموضوعي بالمسؤولية): هذه المُثل هذه الآلهة هذه الأقزام المتعملقة على مر التاريخ، على مر المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن إلا إفرازاً بشرياً إلا إنتاجاً إنسانياً فهي جزء من الإنسان، جزء من كيان الإنسان ونتاجه وإبداعه فلا يمكن أن يستشعرها بصورة موضوعية حقيقية والمسؤولية اتجاه ما يفرزه هو واتجاه ما يصنعه هو <إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا>[52] فلا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية فقد تضع قوانين أو عادات أو أخلاق لكنها كلها غطاء ظاهري وكلما وجد الإنسان مجالاً للتحلّل من هذه العادات أو من هذه الأخلاق أو القوانين فسوف يتحلل.

2 _ المسيرة الإنسانية الواعية والمسؤولة نحو الله

ويتميز هذا المسير الواعي نحو الله ۔ بنوره المطلق ۔ بخصوصيات ومسائل وآثار يشير لها السيد الشهيد الصدر قدس سره في تفسيره الموضوعي يمكن درجها بما يلي:

طريق الإنسان نحو الله هو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله لكن هذا الاقتراب يبقى نسبياً ويبقى مجرد خطوات على الطريق دون أن يجتاز هذا الطريق لأن المحدود لا يصل إلى المطلق والكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلى غير المتناهي فالفسحة الممتدة بين الإنسان والمثل الأعلى فسحة لا متناهية أي أن مجال الإبداع والتطور التكاملي متروك للإنسان إلى اللانهاية.

في هذه المسيرة يحدث عليها تغيير:

أ۔ كمي.

ب ۔ كيفي نوعي.

أ ۔ التغيير الكمي من السير: المجموعة البشرية حين تتبنى المثل الأعلى المطلق (الله) سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزوّرة وكل الأصنام والأقزام المتضخمة التي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى الله وسوف يكون مجال الإبداع والتطور والنمو قائماً أبداً ودائماً ومفتوحاً للإنسان باستمرار دون توقف، عكس حال المثل العليا المحدودة والمنخفضة التي حددت من كمية الحركة وأوقعت الإنسان وسط الطريق. فدين التوحيد على مر التاريخ حامل لواء المعركة ضد هذه الأصنام ويسعى لخلاص البشرية وتحريرها من عقالها.

التغيير الكيفي (الشعور بالمسؤولية إزاء المثل الأعلى):

المثل الأعلى المطلق يعطي الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني للتناقض الإنساني وإعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان لأنه من خلال إيمانه بالمثل الأعلى ووعيه على الطريق بحدوده الكونية الواقعية ينشأ لديه بصورة موضوعية شعور معمّق بالمسؤوليات تجاه المثل الأعلى.

والسبب يعود إلى أن المثل الأعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان والمسؤولية الحقيقية لا تقوم إلا بين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه.

والمثل الأعلى لدين التوحيد للأنبياء على مر التاريخ ليس إفرازاً بشرياً وليس إنتاجاً إنسانياً لأنه واقع منفصل عن الإنسان وجهة أعلى من الإنسان.

إن الشعور بالمسؤولية شرط أساسي في إمكان نجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني وجدله الداخلي[53].

شروط المسير المسؤول

۔ الوضوح.

۔ الطاقة الروحية.

۔ الصلة الموضوعية.

1 _ وضوح الرؤية (التوحيد): الشرط الأول في المسيرة الواعية المسؤولة باتجاه المثل الأعلى المطلق هو الرؤية الواضحة لهذا المثل بما تعطيه عقيدة التوحيد حيث تعطينا رؤية واضحة عن المثل الأعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات وكل التطلعات البشرية باعتبار أن المثل الأعلى كله قدرة وكله عدل وكله رحمة وتعلّمنا أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا وأنها هدف للمسيرة العملية ومؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله تعالى وأن إفراز صفة العدل وغيرها من بين صفات الله وميزته هو أن المسيرة البشرية تحتاجه أكثر من أي صفة أخرى ولما لها من مدلول توجيهي وتربوي.

2 _ طاقة روحية (الإيمان بيوم الحساب): تحتاج المسيرة إلى طاقة محركة ودافعة للإنسانية لمواصلة مسيرها وتحمل تبعات هذا الكدح وهذا الصعود والترقي، وتكون الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مر التاريخ هذه الطاقة الروحية مستمدة من الله يتمثل في يوم القيامة وفي عقيدة الحشر والامتداد.

إن عقيدة يوم القيامة تعلّم أن مصير الإنسان في ساحة البرزخ والحشر والجزاء مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدور الإنسان على الساحة التاريخية الصغيرة مما توفر هذه العقيدة ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان ويوفّر الشعور بالمسؤولية إزاء مسيرته ومثله الأعلى ويوفّر الضمانات الموضوعية.

3 _ الصلة الموضوعية بالمثل الأعلى المطلق (النبوة والإمامة): ولما كان المثل الأعلى المطلق منفصل عن الإنسان وليس جزءاً من الإنسان ولا من إفرازاته وإنما هو واقع عيني قائم في كل مكان هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلى على خلاف المثل الأخرى حيث كانت إفرازاً بشرياً لا تحتاج إلى افتراض صلة موضوعية <إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ..>.

هذه الصلة الموضوعية تتجسّد بحقيقة النبوة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركّب بين الوضوح في المثل الأعلى (التوحيد) وطاقة روحية مستمدة من الإيمان بيوم القيامة ثم يجسّد بدور النبوة الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ليحمل هذا المركّب إلى البشرية بشيراً ونذيراً مجسّدين بذلك الصلة الموضوعية بالله.

والإمامة هي تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة لأن النبي هو إمام أيضاً لكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء دور النبي لذا كانت المعركة قائمة وكانت الرسالة بحاجة إلى قائد يواصل المعركة إذ لابد للبشرية إذن أن تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة والطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصّب نفسها قيماً على البشرية وتقف سداً أمام حركة البشرية والمسيرة التاريخية. إذن لابد من معركة ضد هذه الآلهة ولابد من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الإمامة[54].

المسيرة غير المسؤولة والواعية

إلى جنب المسيرة الواعية للجماعة الصالحة وجموع البشرية المؤمنة بالمثل الأعلى المطلق الحق والتي تسير بأفق متصاعد ومنحني متكامل باتجاهه العام مستند إلى وضوح في العقيدة وعزيمة وطاقة عالية من خلال الإيمان وارتباط موضوعي وصلة.

في جنب هذه المسيرة لهذه البشرية نجد أن المسيرة العامة للبشرية غير المسؤولة والواعية لها خصوصيات أخرى في السير ومنحنى مختلف إذ تتحرك البشرية في منحنى حلزوني يبدأ من نقطة لينتهي إلى النقطة نفسها لكن بمستوى مختلف وعبر المثل العليا المختلفة المحدودة والمنخفضة.

طبيعة الحركة عبر المثل الأعلى المحدود[55]

المرحلة الأولى _ مرحلة الفاعلية

يبدأ هذا المثل مشتقاً من طموح مستقبلي ومكاسب هذا المثل وعطاؤه عاجل وعلى الأمد البعيد هذا المثل عطاءه محدود وعمره قصير وهو وفق تعبير القرآن الكريم (العاجلة) و(المتعة) لأن هذا المثل سوف يتحول من لحظة من اللحظات إلى قوة إبادة لكل ما أعطاه من مكاسب.

السائرون نحو هذا المثل الأعلى وهذه الحزمة من نور المستقاة من نور الله المطلق يمدهم الله من عطائه لأنه سبحانه خير محض وعطاء محض وجود كله يمدّ بقدر ما تتبنى الأمة من مثل قابل للتحريك وعطاؤه بقدر قابلية هذا المثل وحينما يكون المثل مشتقاً من طموح مستقبلي محدود يعطي شيئاً عاجلاً لا أكثر.

أما أوضاع السلطة والمجتمع السائرين في ظل هذا المثل الأعلى والمحدود تكون السلطة موجهة للأمة في حدود المثل وتكون الأمة لها دور المشاركة في صنع هذا المثل وتحقيقه.

عطاء هذا المثل الأعلى من مكاسب.. وفق تعبير القرآن مكاسب عاجلة تعقبها جهنم في الدنيا والآخرة.

المرحلة الثانية _ تجمّد المثل الأعلى

يبدأ المثل الأعلى المحدود بالتجمد وذلك بعد أن يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء ويتحوّل هذا المثل حينئذ إلى تمثال ويتحول القادة الذين كان لهم موقع الريادة والتوجيه ۔ وعلى أساس المثل الأعلى ۔ يتحولون إلى سادة وكبراء كما يتحول جمهور الأمة من مشاركين في الإبداع والتطوير إلى أناس مطيعين منقادين القرآن يعبّر عن هذه المرحلة <وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ>[56].

المرحلة الثالثة _ الامتداد التاريخي للمثل

السلطة تتحول في هذه المرحلة إلى طبقة تتوارث مقاعدها عائلياً أو طبقياً وبشكل من أشكال الوراثة وتصبح هذه الطبقة حينئذ هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الأغراض الكبيرة المشغولة بهمومها الصغيرة ويعبّر القرآن عن هذه المرحلة <وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ>[57].

المرحلة الرابعة _ المنخفض التكراري

وهي أخطر المراحل حيث تتفتت الأمة وتتمزق وتفقد ولاءها لذلك المثل التكراري.

وفي هذه الحالة يسيطر على الأمة مجرموها الذين لا يرعون لها إلا ولا ذمة وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم:

<وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ>[58].

وفي هذه الحالة يسيطر مجموعة من المجرمين كهتلر.. ليحطموا كل ما ينمو من خير وإبداع وللقضاء على كل مكاسب.. كما هو الحال في المثل الأعلى المحدود الذي تبناه الإنسان الأوروبي الحديث وتحوّل بالتدريج إلى مثل تكراري ثم تفسّخ هذا المثل وبقيت مكاسبه في المجتمع الأوروبي ثم يأتي شخص كهتلر لكي يمزّق تلك المكاسب ويقضي عليها[59].

المثل الأعلى المنخفض

عندما يتجمد المثل الأعلى ويفقد فاعليته ويتحول الجيل الثاني الذي لم يعش فترة فاعلية المثل الأعلى ستسعى السلطة إلى تمجيد المثل الأعلى وتحويله إلى صنم بعد أن فقد إشعاعاته وجاذبيته ويتحول المجتمع من مجتمع فاعل إلى مجتمع خامل يكرر أصوات السلطة وما تردده أبواقها ويصبح المثل الأعلى المطروح مستمداً من الواقع نفسه ومنتزعاً من واقع ما تعيشه البشرية من ظروف وملابسات، أي أن الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده وقيوده وشؤونه وستكون حركة التاريخ حركة تكرارية لحالة سابقة وسوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي فالمثل الأعلى هنا يجمّد الواقع ويحوّل ظروفه النسبية إلى ظروف مطلقة كما لا تستطيع الجماعة البشرية أن تتجاوز الواقع وترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

أسباب تبني المثل الأعلى المنخفض (التكراري)

أولاًـ سبب نفسي: ويتمثل بحالة الخمول والألفة والعادة والضياع والكسل الذي تصاب به المجتمعات وقد واجه الأنبياء مثل هذه المجتمعات [التي] سادتها حالة الألفة والعادة والتميّع، فكانت هذه المجتمعات تردّ على دعوات الأنبياء بقولهم إنا وجدنا آباءنا على هذه السنة ونحن متمسكون بمثلهم الأعلى.

سيطرة الواقع على الإنسان في هذه المجتمعات وتغلغل الحس في طموحاته بلغ درجة تحول هذا الإنسان معها إلى إنسان حسي لا إنسان مفكر إلى إنسان يكون ابن يومه دائماً وابن واقعه دائماً لا أبا واقعه ولا أبا يومه، فلا يستطيع أن يرتفع على هذا الواقع.

<قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا>[60].

<بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ>[61].

السبب الثاني _ سبب اجتماعي سياسي خارجي: مشكلة حكم الفراعنة وتسلطهم على رقاب الناس والواقع حيث يجدون أي تطلّع للمستقبل وأي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزّاً لمراكزهم لذا كان مصلحة فرعون على مر التاريخ أن يغمض عيون الناس على هذا الواقع وأن يحوّل الواقع الذي يعيشه الناس إلى مطلق إلى إله إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه يحاول أن يحبس كل الأمة في إطار نظرته هو وفي إطار وجوده هو كما لا يمكن لهذه الأمة أن تفتّش عن مثل أعلى ينقلها من الحاضر إلى المستقبل.

<وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي>[62].

<قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>[63].

القرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول أن تحوّل هذا الواقع المحدود إلى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في إطار هذا المحدود يسمى هذا بالطاغوت.[64]

إن كل مثل أعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك في الحقيقة عن الثوب الديني سواء برز بشكل صريح أو لم يبرز؛ لأن المثل العليا تحتل دائماً مركز الإله بحسب التعبير القرآني، علاقة الأمة بمثلها الأعلى تستبطن دوماً نوعاً من (العبادة) لهذا المثل الأعلى.

فقدان الولاء: المجتمعات والأمة التي تعيش المثل الأعلى المنخفض المستمد من الواقع سوف تفقد ولاءها بالتدريج لهذه المثل بعد أن يفقد هذا المثل فاعليته وقدرته على العطاء. وهذا يعني أن القاعدة الجماهيرية الواسعة سوف تتمزق وحدتها وتصاب بالتشتت والتمزق والتبعثر <تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ>.

في هذه الحالة لا تبقى أمة وإنما يبقى شبح أمة فقط وهنا سوف ينصرف كل فرد إلى همومه الصغيرة وقضاياه المحدودة وتسقط الراية التي توحد الأمة بسقوط المثل الأعلى وتبرز ثلاثه إجراءات وثلاثة بدائل يمكن أن تنتهي إليها الأمة الشبح وهي:

۔ الذوبان والانصهار.

۔ النهاية بغزو وإجراء عسكري.

۔ إعادة انبثاق مثل أعلى محدود جديد.

الإجراء التاريخي الأول: أن تتداعى هذه الأمة أمام غزو عسكري من الخارج لأن الأمة الشبح تغري الآخرين بغزوها بعد أن أفرغت من محتواها وتخلت عن وجودها كأمة وبقيت كأفراد.

الإجراء التاريخي الثاني: الذوبان والانصهار في مثل أعلى أجنبي مستورد من خارج الأمة لأنها بعد أن فقدت الأمة مثلها العليا بدأت تفتّش حينئذ عن مثل أعلى من الخارج تعطيه ولاءها لكي تمنحه قيادتها.

كما وجدنا في حركة المجتمعات العربية والإسلامية بعد نهاية الدولة العثمانية وذوبانها بمثل أعلى من الخارج تتمثل بالحضارة الغربية وأبرز نموذج له دولة أتاتورك في تركيا ورضا بهلوي في إيران.

الإجراء التاريخي الثالث: أن تنشأ في أعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه الأمة ونموذجه روّاد النهضة الإسلامية ومساعيهم في إعادة الحياة إلى الإسلام من جديد وفي سبيل انتشار هذا المثل الأعلى وإعادة الحياة وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر وبمستوى حاجات المسلمين[65].

نهاية حركة المجتمعات

المرحلة الخامسة من حركة المجتمعات وتفاعلها مع المثل الأعلى المحدود والمنخفض يتمثل بأجل المجتمعات أو بزوغ علائم ولادة جديدة:

ويمكن تلخيص هذه المراحل بما يلي:

1۔ مرحلة الفاعلية للمثل الأعلى المحدود.

2۔ مرحلة تجمد المثل الأعلى المحدود.

3۔ مرحلة امتداد المثل الأعلى المحدود.

4۔ مرحلة تكرار المثل وتحوله إلى مثل أعلى منخفض.

5۔ مرحلة موت المجتمع أو بداية بزوغ مثل أعلى محدود جديد.

لتعاد الحركة لهذا المجتمع بمراحله الخمسة من جديد ولكن من نقطة أخرى وهذه طبيعة المجتمعات السائرة إلى الله بمسيرة غير واعية ولا مسؤولة.

ميكانيزم حركة المجتمع وآراء بعض العلماء

بعد استعراض نظريات السيد الشهيد الصدر قدس سره في حركة المجتمع وأنواعها وأسسها تتبادر مجموعة أسئلة منها أن هذه المراحل الخمسة لحركة المجتمعات في ظل المثل الأعلى المحدود والمنخفض هل هي سنّة لا يمكن الخروج عليها والمجتمعات محكومة بها بقانون حركة المجتمعات وما هو دور الإنسان وإرادته في هذه السنّة تأخيراً تبديلاً تحدياً؟

ما هو منشأ هذه المراحل في حركة المجتمعات؟ هل هو طبيعة المثل الأعلى وكونه محدوداً وغير قادر على استيعاب كل حاجات الإنسان واستنفاذ غرضه في نقل المجتمع إلى خطوة نحو الأمام فيتوقف عندها؟

أم أن السبب عام ويشمل كل المجتمعات بغض النظر عن مثلها الأعلى وشمولها لكل المجتمعات لأن ميكانيزم الحركة فيه يرجع إلى قانون تعاقب الأجيال وما أشار إليه أميرالمؤمنين عليه السلام فيما نقل عنه: ربّوا أولادكم على غير تربيتكم فإنهم ولدوا في زمان غير زمانكم.

لأن معاناة وظروف الجيل الأول الذي يبزغ فيه المثل الأعلى المحدود غير ظروف الجيل الثاني الذي يولد ويرى ويعيش أجواء سيادة المثل الأعلى المحدود وما أعطاه من بركة وأثر في تطوير المجتمع كما أن ثقافة وظروف وهموم الجيل الثاني غير ظروف وهموم الجيل الأول وترجع المسألة إلى ما ذكره ابن خلدون في مقدمته حول ما يرجع إلى العصبية من جهة وإلى تعاقب الأجيال ولذا نجده يشخص المراحل التي تمر بها المجتمعات بسنين محددة وفي ذلك إشارة إلى واقع تعاقب السنين كعامل أساسي أو مهم في موضوع البحث.

ابن خلدون وتصوراته عن الحركة الاجتماعية والتاريخية

وفيما يلي نستعرض بشكل مختصر أهم آراء ابن خلدون في هذا الموضوع:

يقول ابن خلدون في مقدمته:

اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة ويكتسب القانون بها من كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور ]لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه[.

وحالات الدولة وأطوارها لا تتعدى في الغالب خمسة أطوار:

الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الذي في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي دفع بها القلب وهي لم تزل بعد بحالها.

الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول بالمساهمة والمشاركة ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته والمقاسمين له في نسبة الضاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد؛ لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم وهذا يدافع الأرقاب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعب من الأمر.

الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات المُلك مما ينتزع طبائع البشر إليه من تحصيل المال وتخليط الآثار وبُعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والصنائع العظيمة.. والتوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم.. ويظهر أثر ذلك عليهم من ملابسهم وشاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم ما يقرب لعزّهم موضحون الطرق لمن بعدهم.

الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة قانعاً عما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك وأمثاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن المباهج ويرى أن الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.

الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة متلفاً لما جمع في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته واصطناع أخدان السوء وتقليدهم عظيمات الأمور ولا يعرفون ما يأتون مستفسد الكبار الأولياء ويتخاذلوا على نصرته مضيف من جنده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون وهادماً لما كانوا يبنون وتحصل طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الداخل الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون برء إلى أن تنقرض.

إلا أن الدولة في الغالب لا تعدوا أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته.

قال تعالى <حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً>[66].

ولهذا قلنا إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ويؤيده ما ذكرناه من حكمة التيه من بني إسرائيل وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه فدل على اعتبار الأربعين من عمل الجيل الثاني هو عمر الشخص الواحد وإنما قلنا إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سَوْرَة العصبية محفوظة فيهم فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون.

والجيل الثاني تحوّل حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتكسر سورة العصبية بعض الشيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركو الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم فلا يسعهم ترك ذلك بالكلمة ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول.

وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته فيصيرون عيالاً على الدولة ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم تسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة ويلبسون على الناس من الثروة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النسوان ويحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يُغني عن الدولة بعض الغناء حتى يأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حلمت فهذه ۔ كما نراه ۔ ثلاثة أجيال.

وهذه الأجيال عمرها مائة وعشرون سنة[67].

تلخيص لأهم معالم نظرية ابن خلدون

أهم أركان وأسس نظرية ابن خلدون ۔ ومن خلال قراءة سريعة لمقدمته ۔ النقاط التالية:

1 ۔ العصبية هي محور نظرية ابن خلدون، العصبية محورها النسب والرابطة الدموية والعشيرة.

2 ۔ الانتقال من البداوة إلى الحضارة كمحور لحركة قيام الأمم والدول وانعكاس ذلك على أخلاق وسلوكية القائمين بالدولة والمؤسسين وتأثير الملك والترف على ضعف هذه العصبية.

3 ۔ دور تعاقب الأجيال على السلطة واختلاف أمزجتهم وسلوكياتهم وفق نظرية البداوة والقساوة والترف والملك والتجمع وضعف العصبية.

4 ۔ تركّز بحث ابن خلدون على نموذج الدولة والحكم في بحثه؛ ولذا فقد أمعن في دراسة سياسة الحكام وأصحاب السلطة ومن تحول اعتمادهم من على أهل العصبية والأقارب إلى التفرد بالسلطة والحكم ثم فكرة استخدام الآخرين أصحاب الكفاءات البعيدين عن النسب ويستمر في إعطاء تفاصيل حركة الحكام أو أصحاب السلطة.

5 ۔ يضع ابن خلدون خمس مراحل لحركة الدولة وما تمر به من أوضاع وما ينعكس ذلك على أوضاع الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية والاقتصادية والروحية.

وهذه المراحل هي:

أ ۔ طور الغلبة والظفر والاستعلاء على الملك.

ب ۔ طور الاستبداد على قومه والانفراد بالملك.

ج ۔ طور الفراغ والدعة والبناء وتوفير ما تنزع له الأنفس.

د ۔ طور القنوع والمسالمة وتقليد الآباء.

ه ۔ طور الإسراف والتبذير والدخول في الحرام والمرض والموت.

6 ۔ يقدّر ابن خلدون الجيل السياسي بأربعين سنة مستفيداً من التقدير القرآني ويقدر جيل الدولة بثلاثة أجيال أي ما يقارب من 100۔120 سنة لعمل كل دولة ويستفيد من فكرة تعاقب الأجيال الثلاثة لتفسير مظاهر التعبير والتبدل في أوضاع السلطة والجهاز وما ينعكس على المجتمع عموماً.

7 ۔ ابن خلدون يطرح الحركات المتعاقبة للدولة ومراحلها وكذلك عمرها التقريبي والأوضاع التي تمر بها يفترض كل تلك كسنّة وقانون ثابت لا يمكن أن يخطأ أو يتخلف متحدياً ومطالباً بالتقصّي والتحقق من ذلك.

8 ۔ يستفيد ابن خلدون من التاريخ المعاصرله والتاريخ السحيق كشواهد ومصاديق لنظريته.

مقارنة بين نظرية ابن خلدون ونظرية الشهيد الصدر قدس سره

1 ۔ السيد الشهيد الصدر قدس سره يجعل من فكرة المثل الأعلى كأساس لفهم حركة المجتمعات في مقابل نظرية العصبية وبين الفكرتين بون شاسع، السيد الشهيد الصدر قدس سره يعتبر العصبية مصداقاً من مصاديق المثل الأعلى ولا يتلخص في العصبية فقط.

إن فكرة المثل الأعلى أكثر تماسكاً وأكثر قابلية وقدرة على التفسير وللإجابة على التساؤلات؛ لأنها أكثر شمولية وسعة وأقرب في تفسير الحالة الإنسانية في أوضاعها الحضارية المختلفة.

2 ۔ هناك تشابه في المراحل التي تمر بها الدولة مع المراحل التي يطرحها السيد الشهيد الصدر قدس سره من حركة المجتمع في ظل المثل الأعلى المحدود لكن السيد الشهيد الصدر قدس سره يدخل إلى العمق في تفسيره لظواهر السلطة وسلوكيتها والظواهر الاجتماعية على خلاف التحليل الخلدوني الذي يركّز على الأوصاف الظاهرية للأوضاع وإن كان هناك اتفاق وتقاطع في بعض المقاطع والمراحل.

3 ۔ وضع السيد الشهيد الصدر قدس سره الإنسان ومحتواه الداخلي من الإرادة والفكر تحت مجهر بحثه مركّزاً على الأبعاد الإنسانية وميكانيزم الفعل الإنساني الإرادي ومحتواه الداخلي في حركة المجتمع على خلاف نظرية ابن خلدون الذي اهتمت كثيراً بالتأثير الظرفي والبيئي في سلوك الإنسان وانعكاس ذلك على السلطة.

4 ۔ ركّز السيد الشهيد الصدر قدس سره على الإنسان ومحتواه الداخلي كمحور لبحثه معتبراً أنه يمثل البناء التحتي والأساسي لبناء فوقي يتمثل بالحضارة والسلطة وآثارها مما يضع نظرية محكمة في فهم المجتمع وظواهره المختلفة.

أما ابن خلدون فجعل السلطة بل الحكّام وبشكل أخص ومسألة عصبتهم أساساً لمختلف المظاهر المختلفة التي تمر بها الدولة فيمكن القول إن بحث السيد الشهيد الصدر قدس سره يختص بالإنسان والمجتمع أما بحث ابن خلدون فيركز على الدولة وأحوال الحكام من خلال منظور العصبية وكأي نتاج تاريخي في تلك العصور التي تهتم بالدول وأوضاعها أكثر من اهتمامها بالتحولات الاجتماعية والثقافية.

5 ۔ لا يفهم من نظرية ابن خلدون إيمانه بحركة المجتمع التكاملية والتطورية بل قد يكون من أولئك الذين يرون أن حركته تبدأ بنقطة لتنتهي بنقطة أخرى ثم تبدأ بداية جديدة في حركة أخرى كما هو حال الإنسان على خلاف نظرية السيد الشهيد الصدر قدس سره الذي يبدو أنه أقرب إلى أولئك الذين يرون بالحركة التكاملية والتصاعدية للمجتمع وللمسيرة الإنسانية في حركتها التاريخية والاجتماعية.

6 ۔ يطرح السيد الشهيد الصدر قدس سره نظريته في المثل الأعلى وحركة المجتمع وفق نسق أيديولوجي عام يتضمن فهماً للكون والإنسان ويستند على فهم عقائدي مترابط ويجعل من المسيرة البشرية وحركتها باتجاه المثل الأعلى المطلق (الله) سبحانه وما يفترض من شروط مترابطة مع مفاهيم الإسلام العقائدية من النبوة والمعاد والعدل كل ذلك في نسق مترابط ومنطقي ومتكامل يكون الإنسان ومثله الأعلى وحركته جزءاً مهماً وله موقع الأساس في هذه النظرية بينما نجد أن منهج ابن خلدون منهج وصفي ونظرية تحليلية محدودة تتسم بالنظرة الاجتماعية والفكر الاجتماعي الصرف بعيداً عن أسس عقائدية ومفاهيم فلسفية مترابطة وإن كان في مقدمة بحثه ذكر أصول العقائد وشرحها شرحاً عقائدياً لكن في انتقاله إلى بحث الدولة والمجتمع لا نجد ترابطاً محكماً وإنما انتقال نوعي في أبحاث مختلفة.

وهنا نشخّص مدرستين من البحث وفي الفهم وفي المعرفة.

رأي صاحب الميزان

يرى صاحب الميزان أن الحركة الاجتماعية على أكثر من نوع: نوع يقبل التكامل ويمثل حركة من الناقص إلى الكامل ويتمثل بالعلوم الصناعية وتطوير قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية وهذا التحول من النقص إلى الكمال يوجب التحول في الحياة الاجتماعية.

ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهي العلوم والمعارف العامة الإلهية التي تغضّ في المبدأ والمعاد والسعادة وغير ذلك. فالمعارف فيها غير متغيرة ولا متحولة وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعميق والتعمق.

وهذه الأفكار والعلوم لا تؤثر في المجتمع والتحولات والسنن الاجتماعية إلا بنحو كلى ۔ كما يقول صاحب الميزان ۔ والدليل الذي يطرحه على صحة مدعاه أن ثبوت هذه المعارف والآراء على حال واحد لا يوجب وقوف التحولات والحركة الاجتماعية عن سيرها الارتقائي.

وأما النوع الثالث من التحولات.. ما يتعلّب تغيّر طرق إدارة المجتمعات وتغيير أنظمة الحكم كالاستبداد الملكي والديمقراطية والاشتراكية ونحوه فإن التغيّر منها والبذل والتحول من نظام إلى آخر لا يعكس تحولاً من النقص إلى الكمال وإنما قد يكون من جهة عدم نقص هذه الأنظمة وقصورها عن إيفاء الكمال الإنساني الاجتماعي المطلوب فإنما هو تحول وتغير من الغلط إلى الصواب ومن الخطأ إلى الصحيح.

ويضيف صاحب الميزان أن المحرك للإنسان لإجراء هذه التحولات الاجتماعية هو الفطرة وشوقها نحو العدالة مما يدفع المجتمع البشري بالسير التصاعدي بالعلم والعمل الصالح مما يجعله أكثر تمكناً واتساعاً في السعادة وليس التحول والتغير في نفسه أمر مطلوب ما لم تكن هناك جهة أو هدف أو حاجة تكون وراء هذا التحول والتغير.

وهذا التقسيم الذي يطرحه صاحب الميزان يتوافق في أكثر خطوطه مع ما طرحه الشهيد الصدر قدس سره في تقسيمه الثنائي للعلاقة مع الطبيعة.. ومع الإنسان ومسار التحولات فيها.

ويختلف العالمان الجليلان من مسألة التطور الكامل في مسار التفكير العقائدي.. وهل يرتبط بالتحولات الاجتماعية والتطور في المعارف الإنسانية أم أنه خط ثالث مسار علمي خاص غير قابل للتحول والتغير وإنما الارتقاء والكمال من حيث الدقة؟[68].

وقد يكون هذا خارج موضوع البحث.

الفصل الثالث: الحركة التاريخية التكاملية

يتفق جميع الباحثين أن هناك حركة وتغيير في المجتمعات وتبدل وعلى أكثر من صعيد حياتي أو معاشي أو اقتصادي أو تنظيمي وأوضحها هو التغيير في الأجيال والأعمار.. فلا سكون في الحياة الاجتماعية كما لا سكون في حياة الكون.

وفي الوقت الذي أجمع العلماء على الحركة والتبدل في المجتمعات اختلف العلماء ۔ علماء الاجتماع ۔ ومعهم علماء المسلمين في اتجاه هذه الحركة هل هي حركة دائرية شبيهة حركة الإنسان والكائن الحي من الولادة والنمو والتكامل ثم الضعف والموت والشروع في بداية جديدة لمخلوق آخر بالدائرة نفسها والمراحل نفسها وكذلك الحال في المجتمعات البشرية حيث تبدأ من نقطة وتنمو وترتقي إلى كمالها ثم تضعف وتنتهي ليبدأ مجتمع آخر بالمراحل والمسير نفسه فلا تكامل تصاعدي مستمر في حركة التاريخ.

في مقابل ذلك هناك رأي آخر يرى أن المجتمعات تسير سيراً تكاملياً نحو نقطة وهدف أعلى وأكثر تطوراً عن النقطة التي بدأت منها سواء كان بمنحى ونمو تصاعدي مستمر أو بمنحى حلزوني تصاعدي لا فرق في ذلك إذ أن المهم في اتجاه السير بنمو تصاعدي تكاملي وإن اختلفت شكل الحركة. وهنا يأتي السؤال.. أين يقف السيد الشهيد الصدر قدس سره من هذين المدرستين أو التوجهين أو النظريتين.

معنى التكامل الاجتماعي

وقبل الدخول في تفاصيل البحث من المهم أولاً تحديد معنى التكامل أو التطور والتقدم الذي تسير إليه الإنسانية وعلى ضوء تحديد معنى التكامل يمكن أن نشخّص منحى مسير المجتمعات هل أنها تسير سيراً تصاعدياً مستمراً أم أن الحركة التاريخية للمجتمعات تسير سيراً دائرياً أو تنازلياً؟

علماء الاجتماع يطرحون عادة عدة مؤشرات ومعاني لمفهوم التكامل الاجتماعي تنصبّ في مجملها على قضايا مرتبطة بـ:

أ۔ تطور قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستثمارها بأقصى درجات الاستفادة والاستثمار وبأعلى درجات التطور الآلي والتكنولوجي والكومبيوتري وتعميم وسائل هذه الاستفادة بين جميع أبناء البشر. وهنا ير كّز أصحاب هذا التوجه على علاقة الإنسان بالطبيعة التي أشرنا إليها في ثنايا البحث.

ب ۔ ما يرتبط بإدارة وتنظيم المجتمع ودرجة المشاركة الشعبية في الإدارة وقدرة النظام على تمثيل آراء المجتمع وتساوي الفرص المتاحة لكل فرد فيه في هذا الموضوع واحترام حقوق الأفراد وضمان حمايتها.

ج ۔ العدالة في توزيع الإنتاج وتحقيق الرفاهية وإكفاء الحاجات الأساسية لجميع أبناء المجتمع وتصاعد المستوى الاقتصادي لجميع أفراده.

هذه مجموعة من المؤشرات التي تطرح عادة لقياس مدى التقدم والتطور في أي مجتمع من المجتمعات. أما مفهوم التكامل والتقدم الذي يطرح كمقياس في ضمن المدرسة الإسلامية عادة فهو يتمثل.. بدرجة تحقق غاية الخلق الذي أشار إليه القرآن الكريم في العبادة <وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ>[69] بمفهوم الفرد العابد القريب من الله والمجتمع العابد القريب من الله والمتمثلة فيه والمنعكسة عليه صفات الله وكذلك الدولة التي تجسّد صفات الله في القدرة والعلم والرحمة والعلم والحكمة.

وقد نجد أن بعض الكتّاب الإسلاميين يقصر مفهومه عن الكمال بالحالة الفردية المتمثلة بالمعرفة والطاعة والقرب من الله سبحانه ومثل هذا التحديد يجعل من الصعب قياسه لأنه يمثل حالة نفسية خاصة.

مفهوم التكامل في الحركة التاريخية عند الشهيد الصدر قدس سره

يطرح السيد الشهيد الصدر قدس سره عدة خطوط تساهم في تحديد معنى التكامل والتطور في المسيرة الإنسانية حيث يقول:

معنى فكرة التطور هنا لابد وأن تحدد إجمالاً ملامحها ومعالمها ويمكن أن تبرز ثلاثة خطوط تتطور على وفقها الإنسانية:

1 ۔ خط وعي التوحيد.

2 ۔ خط المسؤولية الأخلاقية لحمل أعباء الدعوة.

3 ۔ خط السيطرة على الكون والطبيعة[70].

من هذه الخطوط الثلاثة التي يضعها الشهيد الصدر قدس سره لمفهوم التكامل والتطور يمكن أن نستنتج الملاحظات التالية:

1 ۔ إن نظرته للتكامل والتقدم لم تأخذ منحى واحداً وإنما متعدد يشمل البعدين من العلاقة التي أشار إليها البعد المادي من السيطرة على الطبيعة واستثمارها وهو منحى تكاملي تصاعدي وكذلك البعد العقائدي المتمثل بالتوحيد وعياً وإدراكاً وتمثلاً وهو بُعد عقلي نظري يشير إلى سعة وعمق المعرفة التي محورها إدراك الحق والواقع المتمثل بحقيقة التوحيد.

2 ۔ إن السيد الشهيد الصدر قدس سره يرى أن البشرية قد تطورت وتكاملت في مسيرتها وحركتها؛ إذ أنيط بها تحمل مسؤولية الدعوة في تحمل مسؤولية التبليغ والتعريف بالرسالة وإلقاء الحجة وهي مسؤولية ما كانت في الأمم السابقة ولعل الشاهد على هذه المسؤولية ما تتحمله الأمة من موقع الوسط وفي الشهادة.

3 ۔ إن الخطوط التي يضعها لمعنى التكامل تمتاز أنها قابلة للتشخيص والقياس وليست معنوية أخلاقية خاصة غير قابلة للتشخيص وبذلك يمكن حساب مسار التقدم والتكامل.

مراحل تطور الحركة التاريخية عند السيد الشهيد الصدر قدس سره

أما ما هو تصوره لمستقبل واتجاه الحركة التاريخية فالسيد الشهيد الصدر قدس سرهيرى أن الحركة التاريخية تصاعدية بشكل عام ووفق المسارات في الخطوط الثلاثة ويورد مراحل ثلاثة مرت بها البشرية في مسيرتها التكاملية، وهي:

1 ۔ مرحلة الحضانة: وتبدأ منذ خلق آدم وتنتهي بالهبوط إلى الأرض.

2 ۔ مرحلة الفطرة: وهي بداية خلافة الجماعة البشرية على الأرض بوصفها أمة واحدة وأنشأت مجتمع التوحيد المجتمع الفطري الموحد وكان الأساس الأول لتلك الوحدة هو الفطرة الإنسانية.

3 ۔ مرحلة الاختلاف: بداية التجربة الاجتماعية وممارسة العمل ونمو خبرات الأفراد التي وسعت إمكانياتهم فبرزت بذلك ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابلياتهم ونجم عنه اختلاف مواقعهم الاجتماعية وأتاح فرص الاستغلال للأقوى وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى أقوياء وضعفاء ومستغلين ومستضعفين وفقدت الجماعة وحدتها[71].

من جانب آخر يستقي السيد الشهيد الصدر قدس سره تصوره عن مستقبل مسار البشرية من الآية القرآنية <يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلي رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ> ويرى أن الآية تحكي عن أمر واقع وليس تضع تشريعاً هنا، فهي تقرر أن هناك حركة بشرية تتسم بالكدح وهناك مسار وطريق وهناك هدف في نهاية الطريق.

وتقرر الآية أن البشرية بمختلف اتجاهاتها وألوانها وخطوطها ومسالكها سوف تلقى الله. والحركة هنا ليست مكانية واللقاء هنا تكامل وتحلّي.. وتمثل وتلبس لحقيقة التوحيد وصفات الله من قبل البشرية وعلى هذا الصعيد يشير إلى هذا التصور بقوله: فالله مطلق لا حدود له من إدراك وعلم وقدرة وقوة وعدل وغنى وهذا يعني أن الطريق إليه لا حد له فالسير نحوه يفرض التحرك باستمرار وتدرّج النسبي نحو المطلق بدون توقف <يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ> ويعطي هذا التحرك مثله العليا المنتزعة من الإدراك والعلم والقدرة والعدل وغيرها من صفات ذلك المطلق الذي تكدح المسيرة نحوه فالسير نحو مطلق كله علم وكله قدرة وكله عدل وكله غنى، يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلاً باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر[72].

العبادة طريق التكامل

يرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن التخطيط الإلهي للبشرية في تنظيم سيرها لتكاملها والوصول إلى أهدافها الكبرى في تمثّل صفات الله عزوجل هو العبادة ويرى في العبادة مجموعة خصائص سنأتي على استعراضها تباعاً.

إن منهج العبادة يكفل للإنسانية الارتباط بالله وهذه الارتباط يحرر المسيرة من كل مطلق كاذب ومعيق وبذا يتحرر الإنسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة التي تقف حاجزاً دون سيره نحو الله وتزور هدفه وتطوّق مسيرته.

ويرى السيد الشهيد الصدر قدس سره أن العبادة تحقق الخصائص التالية:

1 ۔ العبادات هي التعبير العملي للارتباط بالمطلق وهي تعبير تطبيقي لغريزة الإيمان.

2 ۔ الموضوعية في القصد وتجاوز الذات ودورها في التربية على الموضوعية في القصد ودفع الإنسان للعمل في سبيل الله من أجل الناس.

3 ۔ الشعور الداخلي بالمسؤولية وتنمية الشعور بالمسؤوليات كضمان للتنفيذ[73].

هذه ملخّص التصورات والأدلة التي طرحها السيد الشهيد قدس سره لمستقبل الحركة الإنسانية والتي تتسم بالتصاعد والتكامل.

آراء بعض العلماء في المسار التكاملي للحركة التاريخية

رأى الشهيد المطهري

وفي السياق نفسه يميل أو يتبنى صاحب الميزان وتلميذه الشهيد المطهري القول بالحركة التصاعدية التاريخية للمجتمع الإنساني ويستندون في ذلك إلى آيات قرآنية تتحدث عن مستقبل البشرية.. مثل:

<وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‌ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً>[74].

ويمكن تلخيص وجهة نظر الشهيد المطهري بهذا الخصوص ضمن النقاط التالية:

القرآن الكريم يؤكّد أن حركة التاريخ تتجه نحو انتصار الإيمان على الإلحاد وانتصار التقوى على الفجور وانتصار العمل الصالح على العمل الطالح ويستدل الشيخ المطهري من الوعد بالاستخلاف المذكور أعلاه بالاستنتاجات التالية:

1۔ الاستخلاف أي استلام الجماعة الصالحة للسلطة في المجتمع وزوال السلطة الطالحة.

2۔ استتباب الدين أي تحقق القيم الخلقية والاجتماعية الإسلامية كالعدل والعفاف والتقوى والشجاعة والإيثار والمحبة والعبادة والإخلاص وتزكية النفس ونظائرها.

3۔ رفض كل ألوان الشرك في العبادة والطاعة[75].

رأي السيد محمد الصدر _ صاحب موسوعة الإمام المهدى عجل الله تعالى فرجه

ومن ضمن هذا السياق أيضاً التصور التكاملي التصاعدي في حركة المجتمع يأتي طرح السيد محمد الصدر في موسوعته عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه لكنه يرى أن الاستدلال بآية: <وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ> أكثر وضوحاً وإحكاماً من آية الوعد بالاستخلاف التي طرحها الشيخ المطهري، واستدلاله مبني على النقاط التالية:

۔ الغرض من الخليقة الحصول على الكمال العظيم المتمثل بالعقيدة السليمة والطاعة الكاملة والعدل في كل حركة وسكون.

۔ إن هذا الهدف بحاجة إلى معرفة متكاملة عنه من أجل الوصول إليه.

۔ إن هذا الهدف يشمل:

أ۔ إيجاد الفرد الكامل العابد العادل الذي يعيش الحرية من انحرافات العاطفة والمساوق في انطلاقه مع انطلاقة الكون الكبرى إلى الله عزوجل.

ب ۔ إيجاد المجتمع الكامل والبشرية الكاملة الذين يعيشون على مستوى العدل والإخلاص والتجرد من كل شيء سوى العبادة التي تتضمن تربية المجتمع والارتباط بكل شيء على مستوى العدل الإلهي.

ج ۔ إيجاد الدولة العادلة التي تحكم المجتمع بالحق والعدل بشريعة الله وتكون المسؤولة الأساسية عن السير قدماً بالمجتمع والبشرية نحو زيادة في التكامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات.

ويرى أن هذا هو معنى العبادة المقصودة من الآية..!

۔ إن العبادة بهذا المعنى هي الغاية الأساسية والغرض الأصيل للخلق والوصول بها إلى هذا المستوى وذلك بقرينة وجود التعليل في <لِيَعْبُدُونِ> مع الحصر المتحصل من النفي والاستثناء. فالعبادة هي الهدف الوحيد المنحصر الذي لا شيء وراءه من خلقه البشرية.

۔ لما كان الغرض الإلهي من خلق البشرية هو العبادة بهذا المعنى إذن لابد أن يشاء الله تعالى إيجاد كل ما يحقق هذا الهدف ودفع كل ما يحول عنه شأن كل غرض إلهي مهم فأن تخلقه يكون مستحيلاً.

۔ إن ما نجد بالوجدان أن هذا الغرض الإلهي المهم لم يحدث في تاريخ البشرية على الإطلاق إذن فهو باليقين سوف يحدث في مستقبل عمر البشرية وفق تخطيط إلهي لليوم الموعود.

ثم يبحث ويضع عدة افتراضات لمقدمات قيام هذا الأمر وتحقق هذا الغرض من شروط موضوعية وذاتية أو خارجية وداخلية ويرى من العوامل الخارجية الموضوعية معرفة العدل والكمال وإيجاد الشعور بالمسؤولية إزاء قضية العدل والكمال والتي تأتي من الإيمان وطاعته والإيمان بالآخرة ودور التجربة في إيجاد الإحساس بأهمية العدل والتربية على الإخلاص والشعور بأفضلية الأطروحة العادلة وأهميته التضحية في سبيلها[76].

العلامة مصباح يزدي

يتعرض العلامة الشيخ مصباح يزدي إلى فكرة التكامل في سير حركة التاريخ والمجتمع وهل أن المجتمع يسير سيراً تصاعدياً باتجاه الكمال؟ ويناقش هذه الفكرة والتصور بما يلي:

1 ۔ لا يرى صحة الوجود الحقيقي للمجتمع بل المجتمع مفهوم انتزاعي ليس إلا، وبالتالي فمسيرة المجتمع نحو التكامل هو في الحقيقة مسيرة أكثر أفراده نحو التكامل.

2 ۔ التكامل سوف يكون بعد تثبيت النقطة الأولى هو مدى قرب الأفراد من الله أي كون أكثر أفراد المجتمع في حالة قرب من الله.

3 ۔ ليس هناك دليل عقلي أو نقلي يُثّبت أن المجتمع القادم سوف يكون أكثر أفراده أكثر قرباً من الله أو أن مجتمع اليوم أفضل من الأمس من هذه الزاوية بل كيف يمكن أن نقيس أو نتعرف على هذا المؤشّر ونحبه؟ فكون أكثر أفراد المجتمع أقرب إلى الله هي مسألة أبعد عن التشخيص الدقيق.

وإن ما ورد في وصف مجتمع أو قرية أو حالة قادمة ۔ مجتمع الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ۔ بأنها أكثر تكاملاً وقرباً من الله لا يعدّ أن يكون قضية في واقعه وتشخيص لمجتمع خاص وليس للمسار الحتمي للمجتمعات.

4 ۔ حتى لو سلمنا جدلاً بأن المجتمعات الفعلية أكثر تكاملاً من المجتمعات السابقة فلا دليل ۔ عندنا ۔ عقلي أو برهاني على أن المجتمعات المستقبلية القادمة سوف تكون أكثر تكاملاً.

5 ۔ إن الاحتجاج بالرسالات السماوية لإثبات التكامل في المسيرة البشرية بدعوى أن الرسالة اللاحقة أكثر تكاملاً ودرجة من الرسالة السابقة لا دليل برهاني نقلي عليه وكون أن الرسول الخاتم محمد صل الله عليه و آله أكمل وأفضل الأنبياء لا يدل بالضرورة على أن موسى أكثر كمالاً من إبراهيم أو بالعكس لأن الرسول الخاتم صل الله عليه و آله له حكمه الخاص به.

ويطرح الشيخ مصباح يزدي فكرة الميل بدل القانونية والحتمية في فكرة التكامل ويحدد معنى آخر للتكامل بعنوان الأكثر تعقيداً وتنوعاً وأكثر خبرة وسيطرة وقدرة وليس التكامل بمعنى القرب من المطلق.. وبعد هذين التعديلين في مفهوم الكمال والتطور وفي استخدام فكرة (الميل) بدل (القانون) يمكن أن يقبل فكرة التطور في المجتمعات البشرية ومع كل ذلك فليس هناك حتمية لازمة في هذه الميل فقد يحدث طارئ أو يكون هذا التطور في المدنية والتكنولوجية سبباً في موت هذه المجتمعات وقيام مجتمعات أخرى أقل تعقيداً وقدرة.. كما أن هذا التقدم الحاصل في الإدارة أو الأجهزة غير قابل للتوريث أو الانتقال كملكه وإنما هو سنّة[77] وعادة.

نتائج البحث

مما سبق نخلص إلى ما يلي:

1 ۔ إن الأدلة المطروحة عند القائلين بالحركة التصاعدية التاريخية مستقاة من الآيات التالية:

أ ۔ <يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ>[78] والتي استند عليها الشهيد الصدر قدس سره.

ب ۔ آية الوعد بالاستخلاف <وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‌ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً>[79].

وآية <هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدىٰ وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ>[80] التي استند عليهما الشهيد المطهري.

ج ۔ <وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ> التي اعتمدها السيد محمد الصدر.

ويمكن أن يرد على الاستفادة من الآية الأولى أن هذا المدعى الكبير للحركة التصاعدية التاريخية للمجتمع قد يكون تحميلاً على الآية؛ إذ أن الآية تتحدث في ظاهرها عن حقيقة الحياة ولقاء الله بالموت والقيامة والسياق يساعد على ما أشرنا إليه[81].

أما الآيات الأخرى فهي تتحدث عن وعد إلهي مشروط بأمور ولا تتحدث عن مستقبل وهي في سياق <إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ> وإذا سلمنا أنها تتحدث عن المستقبل فهو مرتبط بظهور الحجة ولا تلازم بالتسليم باليوم الموعود لظهور صاحب الأمر والقول بحتمية السير التصاعدي التكاملي للحركة الاجتماعية التاريخية.

أما الآية الأخيرة التي استفاد منها السيد محمد الصدر فالآية تتحدث عن العبادة المشتركة التي تشمل الأنس والجن بمعناها المتعارف من المعرفة والطاعة أما تحميلها معنى العدل الاجتماعي والتكامل الاجتماعي التي يشير إليهما ففيها تحميل فالآية لا تتحدث عن هذين البعدين.

ولذا فالقول بحتمية الحركة التصاعدية التاريخية للمجتمع يصعب الاستدلال عليه من خلال هذه الآيات الكريمة.

۔ الملاحظة الأخرى أن ما طرح حول موضوع الحركة الاجتماعية بحث من زوايا أخرى وكان التعرض للموضوع بشكل غير مباشر وخاصة في الرد على تصورات الآخرين ومناقشتها أو في معرض بيان مطالب أخرى مثل اليوم الموعود أو في معرض بيان منهج قرآني معين.

۔ إن طريقة طرح الشهيد الصدر قدس سره وعرضه للموضوع لم تكن تتسم بالطرح الأكاديمي العلمي في بيان المدعى وأدلته وفي مناقشة الآراء الأخرى لأن البحث كما يبدو كان بحثاً استهدف بُعداً تعبوياً وبأسلوب يستهدف عموم الأمة.

۔ إن ما طرحه السيد الشهيد الصدر قدس سره كان يتصف بوحدة الإطار والأفكار وترابطها وانسجامها وقدرتها على الإجابة على الكثير من التساؤلات وعلاج الكثير من الإشكالات.

۔ إن أطروحة السيد الشهيد تزخر بآراء مهمة وكبيرة وعميقة وتحتاج إلى إبراز ومحاكمة ومناقشة وتفصيل أدلتها وإيجاد مصاديق تفصيليه ومحاولة قراءة الواقع من خلالها.

۔ إن الموضوع المطروح والقضايا المطروحة تمثل حاجة فكرية معاصرة ملحة يحتاجها الذهن الإسلامي في تفاعله في هذه الحياة وخاصة وأن الشعوب الإسلامية تعيش قضايا المواجهة والصراع الاجتماعي والسياسي.

۔ من هنا فإننا نوجه دعوة لإيجاد مركز أو مؤسسة مختصة بالبحث الاجتماعي والتاريخي من زاوية قرآنية وإسلامية تعتمد فكر الشهيد الصدر قدس سره وتنظيره وتأصيله بشكل أساس والدخول في ساحة الفكر الاجتماعي العالمي المطروح في هذا الموضوع في ظرف ما زالت ساحة المواجهة تشهد سجالاً طويلاً في هذا الميدان وفي أجواء العولمة والهجمة الثقافية الواسعة.

وفي ختام بحثنا نعتذر عما بدا فيه من قصور وتكرار بسبب زحمة الأعمال كما وأشكر اللجنة الموقرة على دعوتها لنا للكتابة ودعاؤنا لها بالتوفيق وقبول الأعمال خاصة وأنها تنجز عملاً كبيراً في خدمة الفكر الإسلامي وفي خدمة مفكر العصر ومبدعه والذي اغتالته يد الإجرام الصدامي في أعز وقت تفتقره التجربة الإسلامية في عز نهوضها وصحوتها.

المصادر

القرآن الكريم.

المدرسة القرآنية؛ دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان، 1401 هـ / 1981 م.

النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ؛ الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي، منشورات دار الروضة، بيروت، لبنان، 1416 هـ / 1996 م.

المجتمع والتاريخ؛ القسم الثاني، الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري/ محمد علي آذرشب، مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى، 1402 هـ .

اقتصادنا؛ محمد باقر الصدر، دارالتعارف للمطبوعات، الطبعة السادسة عشر، بيروت، لبنان، 1402 / 1982 م.

فلسفتنا؛ محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية عشر، بيروت، 1402 / 1982 م.

المجتمع؛ محمد عبد الجبار، دار الاضواء، بيروت، لبنان، 1408 / 1987 م.

الإسلام يقود الحياة؛ محمد باقر الصدر.

الفتاوى الواضحة؛ محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة السابعة، بيروت.

الموجز في أصول الدين؛ تحقيق عبد الجبار الرفاعي، الشهيد محمد باقر الصدر، حبيب، الطبعة الأولى، 1417 هـ .

الميزان في تفسير القرآن؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، اسماعيليان، الطبعة الثالثة، 1974 م.

مقدمة ابن خلدون؛ عبدالرحمن بن خلدون، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان.

تاريخ الغيبة الكبرى؛ محمد الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، طبعة 1395 ۔ 1975.

التفسير الكبير؛ الإمام الفخر الرازي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة.

[1]. المجتمع والتاريخ، ج1، ص 16۔19.

[2]. الفرقان: 54.

[3]. الحجرات: 13.

[4]. الميزان، ج 4، ص 95۔97.

[5]. غافر: 5.

[6]. المؤمنون: 44.

[7]. مريم: 95.

[8]. النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص 96۔122.

[9]. المجتمع والتاريخ، ص 78.

[10]. التفسير الموضوعي، المدرسة القرآنية، ص 141۔142.

[11]. م. ن، ص 145.

[12]. البقرة: 30.

[13]. المدرسة القرآنية، ص 188 ۔ 189.

[14]. المجتمع والتاريخ، ص 104.

[15]. م. ن.

[16]. م. ن، ص 105.

[17]. الأحزاب: 72.

[18]. المجتمع والتاريخ، ص 106.

[19]. م. ن، ص 105.

[20]. فلسفتنا، ص 357 ۔ 358.

[21]. النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص 406.

[22]. المجتمع والتاريخ، ج2، ص 91 ۔ 92.

[23]. الإسلام يقود الحياة، ص 32.

[24]. إبراهيم: 34.

[25]. المدرسة القرآنية، ص 204، وكذلك 135.

[26]. اقتصادنا، ص 317۔319.

[27]. اقتصادنا، ص 319.

[28]. اقتصادنا، ص 321.

[29]. اقتصادنا، ص 324.

[30]. الحجرات: 13.

[31]. العلق: 6۔7.

[32]. المجتمع والتاريخ، ص 135.

[33]. العلق: 6۔7.

[34]. الجن: 16.

[35]. الأعراف: 99.

[36]. المجتمع والتاريخ (تطور التاريخ)، ص 45۔49.

[37]. المجتمع والتاريخ، ص 89 .

[38]. الرعد: 11.

[39]. الجن: 16.

[40]. الكهف: 59.

[41]. المجتمع والتاريخ، ص 89 .

[42]. راجع: اقتصادنا، ص 70۔94 وفلسفتنا، ص 35۔53.

[43]. المجتمع والتاريخ، ص 110.

[44]. المجتمع والتاريخ، ص 110.

[45]. المجتمع والتاريخ، ص 111.

[46]. الانشقاق: 6.

[47]. المدرسة القرآنية، محاضرة 11، ص 179.

[48]. م. ن، 179 ۔ 180.

[49]. المجتمع والتاريخ، ص 181.

[50]. م. ن، ص 119.

[51]. النور: 39.

[52]. النجم: 23.

[53]. المجتمع والتاريخ، ص 126 ۔ 128.

[54]. م. ن، ص 130 ۔ 131.

[55]. م. ن، 121۔122.

[56]. الأحزاب: 67.

[57]. الزخرف: 23.

[58]. الأنعام: 123.

[59]. المجتمع والتاريخ، 123.

[60]. البقرة: 170.

[61]. الزخرف: 22.

[62]. القصص: 38.

[63]. غافر: 29.

[64]. المجتمع والتاريخ، ص 112۔115.

[65]. م. ن، ص 117.

[66]. الأحقاف: 15.

[67]. مقدمة ابن خلدون، ص 175.

[68]. الميزان، ج 4، ص 118 ۔ 120.

[69]. الذاريات: 56.

[70]. موجز في أصول الدين، ص 207.

[71]. المجتمع، ص 45۔48.

[72]. المدرسة القرآنية، 179۔180.

[73]. المدرسه القرآنية، 179 ۔ 189.

[74]. النور: 55.

[75]. المجتمع والتاريخ، ج2، ص 18.

[76]. تاريخ الغيبة الكبرى، ص 233۔251.

[77]. النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص 194 ۔ 200.

[78]. الانشقاق: 6.

[79]. النور: 55.

[80]. التوبة: 33.

[81]. راجع: تفسير الميزان، ج 2، ص 242 والتفسير الكبير، ج 31، ص 104.