الدكتور خلف محمد الجراد
درس شهيد الإسلام آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر قدس سره الفلسفة الماركسية بصورة موضوعية متعمقة، حيث أخذ مقولاتها واحدة واحدة فقدّمها كما أوردها أصحابها ودُعاتها، وبعد ذلك حللها وناقش عناصرها ومرتكزاتها الأساسية، وأظهر مدى تخبّطاتها وتناقضاتها في ذاتها، قياساً إلى فلسفات وضعية أخرى، وإلى المنهج العلمي والفسفة الإسلامية المتماسكة منطقاً وحجة وعقيدة ورؤية شمولية:
أولاً: الماركسية والفلسفة
ترفض الماركسية أي فلسفة عليا تفرض على الأشياء المحسوسة ولا تنبثق منها، أي أنها تجحد (المیتافيزيقا) أو الماورائيات جحوداً تاماً؛ ولهذا نادت بفلسفة ادعت أنها هي وحدها العلمية: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية (وزعمت أن فلسفتها هذه ترتكز على العلوم الطبيعية وتستمد رصيدها من التطور العلمي في مختلف الحقول).[1]
حيث يقول لينين:
فالمادية الديالكتيكية لم تعد بحاجة إلى فلسفة توضع فوق العلوم الأخرى، وإن ما يبقى من الفلسفة القديمة هو نظرية الفكر وقوانينه المنطق الشكلي والديالكتيك.[2]
وتعقيباً على موقف الماركسية من الفلسفة، يقول الشهيد الصدر: إنه بالرغم من إصرار الماركسية على الطابع العلمي لفلسفتها ورفض أي لون من التفكير الميتافيزيقي، نجد أن الماركسية لا تتقيد في فلسفتها بالحدود العلمية للبحث؛ ذلك أن الفلسفة التي تنبع من الخبرة العلمية يجب أن تمارس مهمتها في الحقل العلمي ولا تتجاوزه إلى غيره. فالمجال المشروع للفلسفة الماركسية التي تدّعي العلمية يتمثل في الاستهداء بمختلف العلوم، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون أوسع من المجالات العلمية مجتمعة، أي المجال العلمي العام وهو الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجرية أو الملاحظة الحسية المنظّمة، فليس من صلاحية الفلسفة ۔ التي تنسب لنفسها صفة العلمية ۔ أن تتناول في البحث مسائل ما وراء الطبيعة، وتحكم فيها بشيء إيجابي أو سلبي؛ لأن رصيدها العلمي لا يمدّها في تلك المسائل بشيء. فالقضية الفلسفية القائلة: للعالم مبدأ أول وراء الطبيعة ليس من حق الفلسفة العلمية أن تتناولها بنفي أو إثبات؛ لأن محتواها خارج عن مجال التجربة.
ويضيف السيد الصدر كاشفاً تناقض الماركسية في موقفها تجاه الفلسفة، قائلاً:
وبالرغم من ذلك نرى أن الماركسية تتدخل في هذا اللون من القضايا وتجيب عليها بالنفي، الأمر الذي يجعلها تتمرد على حدود الفلسفة العلمية ۔ التي تزعمها ۔ وتنساق إلى بحث ميتافيزيقي؛ لأن النفي فيما يتصل بما وراء عالم الطبيعة كالإثبات، وكلاهما من الفلسفة الميتافيزيقية، وبذلك يبدو التناقض بين الحدود التي يجب أن تقف عندها الماركسية في بحثها الفلسفي بوصفها صاحبة فلسفة علمية وبين انطلاقها في البحث إلى أوسع من ذلك.[3]
وإن كان عدد من الفلاسفة يعتقدون بعدم معرفة حقيقة العالم، بسبب انفصال جوهر الشيء عن مظاهره أو ظاهراته، وبالتالي فلا يمكن التوصل عبر دارسة الظاهرات إلى معرفة الجوهر، أي إلى معرفة الشيء بذاته وعلى حقيقته.. . فإن الماركسية وأتباعها من الماديين ۔ الديالكتيكية ۔ يردّون على هذا التصور رداً عنيفاً، مصرّين على أن بين ظواهر الشيء وجوهره اتصالاً وثيقاً؛ ذلك لأن الجوهر تعبير عن الصلة الداخلية للعالم الموضوعي، ولأنه أساس تنوّع الظاهرات. أما الظاهرات فهي مظهر الجوهر، أي الشكل الخارجي لتجليه.
وبناءً على ذلك تتضح الخطوات التي يجب السير فيها لتحقيق المعرفة.[4]
فالخطوة الأولى تتمثل في ضرروة تكديس الوقائع واستعراض الظواهر وتجميعها، وأداة هذه الخطوة التجربة الخاضعة للحواس.
ثم يأتي دور الخطوة الثانية على أعقاب ذلك، إذ يبدأ العقل بتحليل الوقائع ومقارنتها فيما بينها ومقابلتها بعضها ببعض، وإذا هو قد وصل إلى استنتاجات معينة منها، فهذه هي الدرجة الثانية للمعرفة، وأداتها المعرفة العقلية.
وتركّز المادية الجدلية (الديالكتيكية) على أن الجسر الواصل ما بين هاتين الدرجتين من المعرفة والذي يتكامل به معنى المعرفة لكل من الظاهرة والجوهر، إنما يتمثل في النشاط العلمي ۔ التطبيقي، الذي من خلاله تحيا النظرية وتنمو المعرفة، فبين النظرية والتطبيق تفاعل جدلي ديالكتيكي ذو أهمية بالغة.. إلى آخره.
إن ما تقدم يقودنا إلى الحديث حول (نظرية المعرفة) في الماركسية.
ثانياً: نظرية المعرفة في الماركسية
من المعلوم أن الماركسية تعترف بالحقيقة الموضوعية، التي ليست وليدة الفكر، وإنما تشكّل انعكاساً لجزء من الواقع الموضوعي، وبالتالي فهي ليست رهناً بالإنسان، ولكنها مع ذلك لا تسمّى حقيقة إلا عندما تكون في ذهن الإنسان، ولكن من الواضح أن المادة إذا كانت تعبيراً مساوياً للواقع الموضوعي المستقل، وكانت الخصيصة اللازمة لها هي موضوعيتها ووجودها بصورة مستقلة عن وعينا، فإن (الفلسفة الميتافيزيقية الإلهية ۔ يقول السيد الصدر ۔: تكون فلسفة مادية تماماً باعتبار هذا المفهوم الجديد للمادة، ويرتفع التعارض نهائياً بين الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة المادية ومفهومها عن العالم). [5]
ويرى السيد الصدر أن المادية الجدلية لا تسمح لأتباعها بالاعتراف بالحقيقة المطلقة؛ لأن ذلك يتنافى مع الجدل القائل بتطور جميع الحقائق طبقاً للتناقضات المحتواة فيها، ويتساءل في سياق ذلك: هل الخاصة الأساسية للمادة في مفهومها اللينيني الجديد خاصة مطلقة لا تتطور ولا تخضع لقانون الجدل وتناقضاته؟!.. فإن كانت كذلك فقد وجدت إذن الحقيقة المطلقة التي يرفضها الديالكتيك ولا يقرّها أصول الجدل الماركسي، وإن كانت هذه الخاصة خاصة جدلية ومحتوية على التناقضات الدافعة لها إلى التطور والتغير كسائر حقائق العالم، فمعنى ذلك أن المادية تشكو هي أيضاً من التناقض وتضطر لأجل ذلك إلى التغير والتبدل ونزع الصفة الأساسية للمادة عنها.
والحقيقة أن التلاعب بالألفاظ لا يجدي شيئاً، فتوسعة المفهوم المادي إلى حد ينطبق على المفهوم المعارض له وينسجم معه، لا يعني إلا تخلّيه عن واقعه الفلسفي الخاص، وعجزه عن الرد على ما يعارضه من مفاهيم.
والنتيجة التي نخرج بها، يقول السيد الصدر: إن الفيلسوف الإلهي الذي يؤمن بما وراء الطبيعة يؤكد القول نفسه عن العالم، فالعالم عنده واقع موضوعي مستقل عن وعينا، وليس المبدأ الإلهي الذي تعتقد به الفلسفة الميتافيزيقية إلا واقعاً موضوعياً مستقلاً عن وعينا.
ولكن الاعتقاد بوجود الواقع الموضوعي للعالم ليس ناشئاً من براهين التجربة والعلم؛ لأنه مع مرور الوقت تنهار (مسلّمات) علمية كانت تُعدّ في مرحلة تاريخية معينة حقائق قاطعة لا تقبل الشك، لكن وقائع أو تجارب جديدة أظهرت زيفها وخطأها، فتزعزعت الأسس والعناصر الارتكازية لها، الأمر الذي ولّد الشكوك تلو الشكوك بموضوعية وإطلاقية تلك (القوانين)، وتجلّى ذلك بنظريات ريبية ۔ شكية، بلغ بعضها حد التطرف والتمرد على جميع الحقائق وإنكار القضايا العلمية والحسية والعقلية والفطرية كافة.
كما ظهرت على خلفية تلك التناقضات المذاهب النسبية القائلة بوجود الحقيقة وإمكان المعرفة البشرية، ولكن هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن للفكر الإنساني أن يظفر بها هي معرفة أو حقيقة نسبية، بمعنى أنها ليست حقيقة خالصة من الشوائب الذاتية ومطلقة، بل هي مزيج من الناحية الموضوعية للشيء، والناحية الذاتية للفكر المدرك، فلا يمكن أن تفصل الحقيقة الموضوعية في التفكير عن الناحية الذاتية، وتبدو عارية عن كل إضافة أجنبية.
هنا يثور تساؤل منطقي: ما معنى الحقيقة الموضوعية والحقيقة المطلقة، وما الفرق بينهما في الفلسفة الماركسية؟!
لعل من المفضل أن نصغي إلى لينين، وهو يحدد لنا المعنى المراد من كل منهما. يقول:[6]
1 ۔ هل للحقيقة الموضوعية وجود، يعني هل يمكن أن يكون للأفكار البشرية مضمون لا يتوقف على الذات، لا يتوقف على كائن إنساني أو على البشرية؟
2 ۔ إذا قلنا: نعم، فهل يمكن للأفكار البشرية المعبّرة عن الحقيقة الموضوعية أن تعبّر عنها دفعة واحدة بكاملها، وبدون تقييد، وبصورة مطلقة، أم بصورة تقريبية ونسبية فقط؟
إن السؤال الثاني هو سؤال خاص بالعلاقة بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية.[7]
إذن، فالحقيقة الموضوعية، هي المضمونات الفكرية التي توجد لها مصاديق في الوجود الخارجي، بشكل مستقل عن الإنسان وفكره.
أما الحقيقة المطلقة فهي تلك الحقائق الموضوعية التي يمكن للفكر الإنساني أن يستوعبها بكل جذورها وفروعها وقيودها، بحيث يكون الفكر الإنساني في أمان من أن يعيد النظر فيها.
وإنك لترى أن الإذعان لوجود الحقيقة المطلقة، مترتب على اليقين بوجود الحقيقة الموضوعية، بمعنى أن الحقيقة المطلقة أخص من الحقيقة الموضوعية.
أما (الحصن الوحيد) ضد حجج المؤمنين بالله ۔ تبعاً لمزاعم لينين ۔ فهو اليقين بوجود الحقيقة الموضوعية، أي أن هذه الحقيقة ستكون عندئذ ورقة رابحة في أيدي الماديين وحدهم، ولا يتأتى أن يستغلها المؤمنون لصالحهم بحال من الأحوال.
ونحن نقول:[8] إن هذا القول من لينين، لا يخيفنا ۔ ونحن من المؤمنين بالله؟عز؟ ۔ من أن نذعن لحقيقة علمية لا نملك دليلاً موضوعياً على إنكارها؛ لأن الحقيقة الموضوعية موجودة، وليست متوقفة في ذاتها على وجود فكر يحتضنها أو يرعاها.
ولكن، أفيتعارض الإيمان بوجود الله؟عز؟، مع الإذعان لوجود الحقيقة الموضوعية كما قد تصور لينين؟
ليس ثمّة من يملك أي دليل على أن هذين اليقينين متعارضان؛ إذ أن مخلوقات الله؟عز؟ كثيرة. والإنسان بما فيه من روح وفكر واحد منها، فأي نقض يعود على الإيمان بوجود الله، من جرّاء الاعتماد على البرهان العلمي القائل بأن الله؟عز؟ متّع الإنسان بضياء من الفكر والوعي، يكتشف به ما حوله من مظاهر المخلوقات وخواصها وسبل الاستفادة منها، وبأنها موجودة وجوداً مستقلّاً عن هذا الضياء الفكري الذي جهّزه الله تعالى به؟
ولكن لننتقل الآن إلى الموضوع الأهم، ألا وهو موضوع (الحقيقة المطلقة) ونطرح أيضاً السؤال التالي: هل يقرّ منظّرو المادية الجدلية بوجود الحقيقة المطلقة؟[9]
والواقع أن أكثر زعماء المادية الجدلية ومفكريها يفضّلون الإذعان لوجود الحقيقة المطلقة، ولكنه إذعان أشبه بالإنكار منه باليقين!
يؤمنون بوجود الحقيقة المطلقة، ولكنهم ينكرون إمكان الوصول إليها إلا باجتياز جسر طويل من تاريخ الإنسانية كله تقريباً، وبتسليط الفكر الإنساني عليها، بمعناه الكلي لا بمعناه المتمثل في الآحاد والأفراد. وإلى أن يتهيأ للإنسانية ذلك الاجتياز الطويل مع هذا التسليط للفكر الكلي، سيظل الإنسان يرضي نفسه بالحقائق النسبية، أي المعلومات المشروطة بظروف معينة وقيود معينة واعتبارات معينة.
يقول إنجلز ۔ شريك ماركس في تأسيس الفلسفة الماركسية ۔:
أيكون الفكر الإنساني مطلقاً؟ يتوجّب علينا قبل أن نجيب بنعم أو لا، أن نستقصي أولاً: ما هو الفكر الإنساني؟ أهو فكر الإنسان الفرد؟ كلا، لكنه لا يوجد إلا بوصفه الفكر الفرد لمليارات عديدة من البشر الماضين والحاضرين والمقبلين.[10]
وبعد أن يستعرض إنجلز جهود العلماء والباحثين في ميادين المعرفة الثلاثة، التي هي الطبيعة الجامدة، ودراسة العضويات الحية، والعلوم التاريخية، لينتهي إلى أن جهود العلماء في شيء من هذه الميادين لم تأت إلا بمعلومات نسبية خضعت فيما بعد لقدر كبير من التعديل والتبديل، وكثيراً ما حدثت اكتشافات جديدة اضطرتنا إلى مراجعة كاملة لسائر الحقائق الأخيرة والنهائية المقررة من قبلُ (وإلى وضع أكوام كاملة منها في سلة المهملات دفعة واحدة، وبصورة جازمة).
ولكن ما هو الدليل على وجود حقيقة مطلقة في الواقع، وكيف يستطيع الناس إدراكها وعزلها عن الظواهر المتبدلة من زمن لآخر، ومن عصر إلى غيره؟
يجيب إنجليز على هذا السؤال بأن الإنسان على الرغم من عجزه الذي وصفه آنفاً، فقد آب من سعيه الطويل هذا بحفنة من الحقائق المطلقة، كمعرفة أن 2×2=4، وأن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، وأن باريس تقع في فرنسا، وأن نابليون قد مات في اليوم الخامس من أيار سنة 1821.. إلى آخره. فهذه الحقائق المطلقة، وإن كانت تافهة وربما سخيفة، إلا أنها دليل كاف على أن لمعارفنا النسبية التي نتمتع بها جذوراً من الحقائق المطلقة القائمة والموجودة. والآن نصل إلى المشكلة الكبرى:
إذا كانت الحقيقة المطلقة موجودة بالفعل، ولكنها خفية عنا، محجوبة عن عقولنا، ففيمَ نبذل كل هذا الذي نبذله من الجهد في سبيل إحراز المعارف والعلوم، وكيف نطمئن إلى صحة ما نحصل عليه من المعارف إذن؟
وها هو إنجلز يستنجد بالمنهج الجدلي بحثاً عن الجواب، فهو يؤكد أن المعارف التي نحرزها، كلها معارف نسبية، إلا أنها تحمل في طياتها في الوقت ذاته بذور الحقيقة المطلقة. وإذن فحل التناقض القائم بين الحقائق النسبية والحقائق المطلقة كامن في تراكم المعلومات النسبية فوق بعضها، خلال رحلة زمنية طويلة، حيث تتولد منها أخيراً الحقيقة المطلقة! وسواء أكُتب لنا أن نعيش إلى عصر اكتشاف تلك الحقيقة أم لم يكتب لنا ذلك، فإن مما يبعث الطمأنينة القلبية تجاه ما نحرزه من المعارف النسبية أننا ندنو بذلك وحده إلى الحقيقة المطلقة.
هذا هو الحل للمشكلة في نظر إنجلز، ويؤيده لينين في ذلك كل التأكيد، كما يؤيده في ذلك أكثر الذين كتبوا من بعد في هذا الموضوع.
ولكن (ديتزجن) يرى للمشكلة حلّاً آخر، إنه يؤكد أن الإنسان، وهو يسعى لتوسيع دائرة معارفه ومعلوماته، يشمّ الحقيقة المطلقة ويحس بها بمحض فطرته، فإذا قيل له وهو يجتاز طريقاً معينة في استحصال المعارف: من أين لك أن الحقيقة المطلقة كامنة في هذا الطريق دون غيره، يمكنه أن يجيب بأن فطرته تشعره بالجهة التي تكمن الحقيقة المطلقة في نهايتها، فهو يقول:
إن الحقيقة المطلقة يمكن أن ترى وتسمع، وتحس، وتشمّ، وتلمس، وطبعاً أن تعرف أيضاً، ولكنها لا تندمج بصوته كلية في معارفنا.
ويقول:
من المفروغ منه أن اللوحة لا تستنفد موضوعها، وأن الفنان يظل متخلفاً عن نموذجه.. كيف يمكن للوحة أن تتطابق من النموذج؟ تستطيع ذلك بصورة تقريبية.. من أين نعرف إذن أنه توجد وراء ظواهر الطبيعة، وراء الحقائق النسبية، طبيعة شاملة ولا محدودة ومطلقة، لا تنكشف بكاملها لإنسان؟ من أين تأتي هذه المعرفة؟.. إنها فطرية فينا، إنها تعطى لنا مع الشعور. [11]
وإننا لنعجب من مادي عريق في ماديته، يتحدث بهذه الصوفية المطلقة عن الفطرة والشعور والحس.. كنبراس في كيان الإنسان يهديه إلى حيث تكمن (الحقيقة المطلقة) وهي ولا ريب صوفية لا تعجب دعاة المادية الجدلية الديالكتيكية.
لقد أنفق إنجلز صفحات عديدة، للتأكيد على أن معارفنا، على إختلافها، لا تستند إلى يقين، وأن (الأجيال التي ستصحح أخطاءنا هي على الأرجح أكثر عدداً بما لا يقاس من تلك الأجيال التي سنحت لنا فرصة تصويبها) وأن كل ما نحرزه من المعلومات إنما هو معلومات مقيدة بظروف وشروط ووجهات معينة، فهي لذلك عرضة للتبدل، ونحن ۔ نظراً لذلك ۔ نوشك أن نكتشف في كل وقت أننا مخطئون في فهمنا لها!
إذن فكيف يحق لصاحب هذا الكلام ۔ وكل الماديين أصحاب لهذا الكلام بشكل أو بآخر ۔ أن يجزم بحتمية خضوع الكون كله لسلطان الديالكتيك، وأن يجزم بأن المادة سرمدية خالدة، وأن يجزم بأن الروح ثمرة من ثمارها، وبأن الفكر وظيفة لمادة خاصة عالية التنظيم، وبأن الإنسان اجتاز عصوراً طويلة وهو لا يتمتع بلغة ولا بفهم.. إلى آخره.
أليست هذه المزاعم ۔ إن صحّت ۔ حقائق مطلقة؟ وهل ثمّة (حقيقة مطلقة) أوسع وأشمل وأبعد عن كل قيد وشرط من القول بأن جميع تقلّبات الكون والحياة خاضع لقوانين المادية الجدلية؟ كيف يتأتى أن ينطق بهذا الكلام من يقول في الوقت ذاته:
(إن الأجيال التي ستصحح أخطاءنا هي على الأرجح أكثر عدداً بما لا يقاس من تلك الأجيال التي سنحت لنا فرصة تصويبها)؟!
إننا لسنا بحاجة إلى الرد على مزاعم الماديين الجدليين فيما يجزمون به من الحقائق المطلقة ۔ التي يفسرون بها قصة هذا الكون كله ۔ بأكثر من كلامهم أنفسهم عن الحقيقة المطلقة، والمتضمن اعترافهم بأن معارفهم كلها معارف نسبية يوشك أن يأتي مَن يثبت خطأها.
إن ما يريد أن يقوله منظّرو المادية الجدلية وفي مقدمتهم إنجلز إنهم يبحثون عن الحقيقة المطلقة من خلال المعارف النسبية، فيستعينون لذلك بما يدعونه قانون الديالكتيك!.. أي إنهم يسعون للوصول إلى معرفة الحقيقة المطلقة، ممتطين الحقيقة المطلقة نفسها! إذ لو صح أن يكون لقانون الديالكتيك هذا السلطان والنفوذ، وأنه النبراس الذي يمكن أن يؤلّف على ضوئه من المعارف النسبية المتجمعة، الحقائق المطلقة، لكان قانون الديالكتيك ذاته أعلى حقيقة مطلقة في الكون، ويصبح إنجلز ۔ وأتباعه عندئذ ۔ مثل ذلك الذي كان يحمل المصابح في يده بحثاً عن شيء افتقده، فلما سُئل عنه قال: إنه يبحث عن المصباح!
ولنفرض أن المعارف النسبية تحمل فعلاً حبّات من الحقيقة المطلقة، وأنها كلما ازدادت في أفكارنا، ازداد بنيان الحقيقة المطلقة كمالاً وقرباً منا، لنفرض صحة هذا، ولكن لماذا تكون هذه الاستفادة الجليلة من المعارف النسبية وقفاً على الماديين الجدليين وحدهم؟! أليست معارفنا جميعاً معارف نسبية باعتراف هؤلاء الماديين، مهما اختلفت عن بعضها في النزعة والاجتهاد؟
إذن فعلى أي أساس يتم اكتشاف بذور الحقيقة المطلقة في معارف الماديين الجدليين، ويشطب على سائر المعارف النسبية الأخرى لبقية المفكرين، بحجة أنها فارغة من بذور الحقيقة المطلقة؟!
إننا إذا أردنا أن نصنّف معارفنا، نحن البشر، بأنها معارف نسبية حقاً، فما من ريب أن أحداً منا لا يملك أي حجة يدحض بها مخالفة الآخرين له؛ لأن أي حجة من هذا القبيل لا تملك هذه الصلاحية إلا باعتمادها على ميزان الحقيقة المطلقة، ونظراً إلى أن الحقيقة المطلقة مفقودة في وقتنا هذا، فإن هذه الحجة لا وجود لها.
بل إن القول بأن تراكم المعارف النسبية هو الضمانة لبلوغ الحقيقة المطلقة قول باطل يثير الضحك، مهما كانت هذه المعارف وأياً كان مذهب أصحابها؛ إذ كيف تجزم بأن مجرد تراكم المعارف يوصلك إلى معرفة الحقيقة المطلقة، إذا كنت لا تعلم بعدُ شيئاً عن الحقيقة المطلقة والجهة التي تقع فيها؟ لعل سلسلة معارفك تسير بك ذات اليمين، والحقيقة المطلقة كامنة عن يسارك! أم تُرى هي سلّم تنصبه نحو الهدف الذي تراه وتحدّد مكانه ببصرك ويقينك، ثم تصعد إليه عن طريق اجتياز درجات السلّم؟! إذن فأنت لست تائهاً عن الحقيقة؛ لأنها أمامك.[12]
فأما إن كان قصدهم أن تراكم المعارف النسبية في ذهن الإنسان، يهيئ له فرصة إعادة النظر فيها، ويعطيه ذخراً يعينه على اكتشاف أخطائه، فهو يطبّق على المعارف الكثيرة التي تتجمع لديه ما يشبه مبدأ الاصطفاء الذاتي، ثم إن الأجيال المتعاقبة تستفيد من بعضها الفائدة ذاتها.. وهكذا إلى أن تصفّى المعارف الإنسانية العامة من دخائل الأغلاط والأخطاء، فإذا هي الحقيقة المطلقة. إذا كان هذا قصدهم، فما لهم لا يعترفون بأن كل هذا الذي يقررونه عن الكون ويتصورونه عن جذور الحياة ونهايتها إن هو إلا تجارب تطرح في حقل المعرفة لتضاف إلى حصيلة التجارب الأخرى، فتقلبُها العقول والألباب، عسى أن تتمخض عن مجموعها الحقائق المطلقة الصحيحة، ويذهب الزبد جفاءاً؟! وما لهم يسفّهون كل من يخالفهم في الرأي وناقشهم في أمر المادة وتطورها؟!
وإنها لظاهرة غريبة أن ترى الماديين الجدليين يندبون ضياع الحقيقة المطلقة، ويجزمون بأنه لا سبيل للعثور عليها، إلا وراء الرحلة اللامتناهية التي تمضي الأجيال الإنسانية في خوض غمارها، وفي الوقت الذي يتقدمون فيه إلى البشرية جمعاء، بتقاريرهم القاطعة عن قصة هذا الكون كله، وتفسير وجوده، وطبيعة سيره وتطوره، وما يمكن أن يؤول إليه حاله فيما بعد!
فهل لهذه الظاهرة الغريبة من موجب؟ وما هو؟
إليك بيان أساس هذه الظاهرة باختصار:
أرأيت إلى الذي يتأمل الجزء الأعلى من شجرة ضخمة كثيرة الأغصان متشعبة الفروع، وقد حصر كلاً من بصره وبصيرته في ذلك الجزء وحده، بحيث كلما ساق امتداد الأغصان بصره إلى القسم الأدنى منها، حوّله عن الالتفات إليه، وكرّ به عائداً إلى ذروة تلك الأغصان والفروع يتأمل تشابكها. تُرى ما الذي يمكن أن يخلص إليه تأملُه السجين هذا؟ لا ريب أنه يتيه وسط تتبع علاقات متشابكة متزايدة دون أن يستبين له من خلالها كلي تلك العلاقات؛ لأنه أغلق على نفسه طريق استبانتها، فهو ۔ وقد يئس من العثور على (الحقيقة المطلقة) لهذه الفروع المتشابكة ۔ يقنع نفسه بمعلومات المجتزأة النسبية، عن المعرفة التامة لمجموع تلك الشجرة وكلي ما هي عليه!
تلك هي قصة الماديين الجدليين مع الحقيقة المطلقة التي ضلّت عن أبصارهم وبصائرهم، في زحمة هذه الكثرة الكونية المترامية الأطراف والعلاقات، وإنها لكثرة رهيبة متشابكة لا يكاد يحدّها عقل ولا حصر، ولكنها قائمة في الوقت ذاته على وحدة من التناسق والتنظيم، الهادية بدورها إلى وحدة الحكمة والخلق والتدبير. فلقد تأمّلوا طويلاً في الكثرة السطحية المتشابكة، ولم يفكّروا إطلاقاً في الوحدة المتناسقة التي ترتكز كل تلك الكثرة عليها، والتي تهدي إلى اليد التي دبّرت فصنعت فأحكمت الصنع، بل لقد رأيتهم كيف يلوون رؤوسهم عن الفكر والنظر، كلما وجدوا أنفسم أمام مشكلة تنظيم يعترفون به، والتنظيم لابد له من منظّم، أو أمام مشكلة حياة يعترفون بعجزهم عن الوصول إلى كنهها، وهو نقض بيّن لدعوى أنها منبثقة عن المادة، أو أمام دحض القوانين المنطقية لفكرة التسلسل اللانهائي، وهو يضعهم وجهاً لوجه أمام ضرورة الاعتراف بوجود القدرة الخالقة الأولى!
لكنهم يعرضون عن هذه المحرجات التي تواجههم في طريق بحثهم عن تفسير الكون أو ما يسمونه بالطبيعة، فلم يكن أمامهم والحالة هذه إلا أن يكرّوا عائدين إلى الكثرة.. تلك الكثرة المتشابكة الممتدة ۔ فيما يتعلق بوجودها السطحي ۔ وسط علاقات لا تكاد تخضع لضابط حصر أو ثبات، حيث المعارف النسبية المؤقتة التي لا يُطمأن إليها.
إن من البداهة بمكان أنهم لن يعثروا على كلي العلاقات الكونية، ولا على شيء من الحقائق الطليقة عن قيود الظروف والعلاقات الموقوتة، ما داموا قابعين في سجنهم هذا، وإن من البداهة بمكان أن أفكارهم لن تهديهم ۔ والحالة هذه ۔ إلا إلى علاقات لا يكاد يضبطها العقل، ولا يستنفدها الوعي ولا تستبين لها أطراف، اللهم إلا حقيقة مطلقة واحدة، هي حقيقتهم الخاصة بهم دون غيرهم، ألا وهي حقيقة السجن المادي الذي حكموا به على أنفسهم! فهم يقومون ويقعدون بهذه (الحقيقة) وحدها، والتي ارتضوا في سبيلها أن تصبح معارف الكون كلها أمامهم معارف نسبية لا جوهر لها؛ ولذا تراهم يائسين من الوصول إلى معرفة الحقيقة المطلقة، ولكنه يقررون في الوقت ذاته حقيقة يجعلون منها مفتاح فهم الكون كله في كل زمان ومكان.
والواقع أن هذا المفتاح ليس إلا مفتاح الباب الكبير لسجنهم الذي يقبعون فيه، وهو مفتاح أحكموا طريقة استعماله للإغلاق، ثم لم يهتدوا إلى أي فائدة منه للفتح والانطلاق.
وإذا سلمنا بصحة ما يقول منظّرو المادية الجدلية من أن جميع ما يتمتع به البشر إلى هذا التاريخ من المعارف، ليس سوى حقائق نسبية، فإن القاعدة نفسها تنطبق على قوانين الديالكتيك المادي وما يتبعه من مقولات ومستلزمات، بحيث نجزم أن هذه (القوانين) و(المقولات) الديالكتيكية أيضاً هي حقائق نسبية، هذا إن وضعناها ۔ على سبيل الافتراض ۔ في أعلى المراتب، وفرضنا أنه لم يمسّها أي نقض أو تبديل، وعندئذ يملك أصحاب المذاهب الأخرى علدى اختلافهم، من الحجة على مذاهبهم وآرائهم المخالفة، ما لايقلّ عن حجج الماديين على مذهبهم؛ إذ أن (النسبية) لا يمكن أن تتحيز ۔ ما دامت نسبية ۔ لطرف دون آخر، وحسب كل من الدليل على مذهبه أنه يرى الأمر من الزاوية التي تواجهه مطابقاً لما قد تصور وعلم، وحسبه ذلك نفسه نقضاً لمذهب خصمه!
وهكذا، فلن نجد دحضاً ۔ لما يسميه الماديون الجدليون حتمية القوانين المادية وشموليتها ۔ أقوى من إقرار هؤلاء الماديين أنفسهم بأن الإنسان لم يعثر بعد على الحقيقة المطلقة وأن كل الذي جمعه في جعبته معلومات نسبية.
أما نحن الذين لم نشأ أن نحصر أنفسنا في أي سجن من سجون المعرفة الزائفة والتزمنا بأن نصغي إلى منطق الباحثين جميعاً وفي المقدمة منطق الماديين أنفسهم، فإننا لم نشعر ولن نشعر بمثل هذا الضياع؛ لأننا نرى الحقيقة المطلقة في الكون واضحة ماثلة ملء أفكارنا وبصائرنا! نراها في الجذع الذي تنتهي عنده العلاقات المتشابكة التي قد يضلّ عند سطحها كل ذي لب وعقل، حيث البرهان العلمي الساطع على وجود الخالق المدبر، الذي نثر ضمن وعاء من وحدة التناسق والتنظيم ملايين ملايين الموجودات والعلاقات المتشابكة.
ومن هذه الحقيقة المطلقة الكبرى تنبثق حقائق مثلها في تحررها من قيود الاعتبار والشروط والظروف وغيرها. أما ما قد يتبقى وراءها من تلك المعارف النسبية المقيدة، فما هي إلا ذيول لتلك الحقائق المطلقة، تتحرك في أفلاكها، وتأتي ثم تذهب ضمن ميقاتها.[13]
والحقيقة ۔ كما يؤكد علامتنا الشهيد السيد الصدر ۔ فإن الماركسية تلحّ في مسألة المعرفة على التجربة، التي تقود بالنهاية إلى تكوين (المفاهيم) العلمية و(المقولات) النظرية التي (تعكس الواقع التجريبي بعمق ودقة).[14]
ويسوق بعض النصوص الماركسية، التي تؤكد ۔ في هذا السياق ۔ على أن النظرية لا يمكن أن تنفصل عن التطبيق، أي ما يطلقون عليه (جدلية النظرية والتطبيق) حيث يقولون: (فالمهم إذن أن نفهم معنى وحدة النظرية والتطبيق.. ومعنى ذلك أن من يهمل النظرية يقع في فلسفة الممارسة، فيسلك كما يسلك الأعمى ويتخبط في الظلام، أما ذلك الذي يهمل التطبيق فيقع في الجمود المذهبي ويتحول إلى صاحب مذهب لا أكثر، وصاحب تدليلات عقلية جوفاء).[15]
ونحن وراء علامتنا الكبير نتفق مع منطوق هذا النص، ولكن ألم تصل الماركسية نفسها إلى (الجمود المذهبي) القاتل الذي كرّس مؤسسوها وحواريوهم جهداً نظرياً كبيراً لنقده والهجوم عليه؟!
بل أثبتت الأحداث والوقائع العملية أن نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية ۔ وكذلك في المادية التاريخية كما سنرى لاحقاً ۔ لم تبرهن على صحتها لا التجربة ولا التطبيق، وسقطت بصورة مدوّية في ميدان التطبيق في المقام الأول، مع أنها (شنّت نضالاً ضد كل ۔ ما زعمت أنه ۔ النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية التطبيق أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق).[16]
وعليه فالواضح أن الماركسية لا تريد أن تسلّم بوجود معرفة منفصلة عن التجربة، وهذا هو التناقض الأساسي الذي تقوم عليه نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية، ذلك أن العقل لو لم يكن لديه معارف ثابتة بصورة مستقلة عن التجربة لم يستطع أن يضع النظرية على ضوء الإدراكات الحسية، وأن يكون مفهوماً للمعطيات التجريبية؛ لأن استنتاج مفهوم خاص من الظواهر المحسوسة بالتجربة إنما يتاح للإنسان إذا كان يعرف على الأقل أن ظواهر كهذه تقتضي بطبيعتها مفهوماً كذلك، فيركّز استنتاجه لنظريته الخاصة على ذلك.. فالتجربة ۔ باعتراف الماركسية ۔ تعكس ظواهر الأشياء، ولا تكشف عن جوهرها وقوانينها الداخلية التي تهيمن على تلك الظواهر وتنسّقها.[17]
وبعد أن يستعرض آية الله السيد محمد باقر الصدر أبرز المذاهب والتيارات الفلسفية فيما يتصل بمسألة التجربة والمعرفة، يحلّل موقف الماركسية من هذه القضية كاشفاً تناقضاتها البينة، كادعائها القدرة على بحث مسائل ما وراء الطبيعة، في حين أن رصيدها العلمي لا يمدّها في تلك المسائل بشيء.
فالقضية الفلسفية القائلة: (للعالم مبدأ أول وراء الطبيعة) ليس من حق الفلسفة الماركسية أن تتناولها بنفي أو إثبات؛ لأن محتواها خارج عن مجال التجربة. وعندما تتدخل الماركسية في هذا اللون من القضايا وتجيب عليها بالنفي، فإنها إنما تنسف واحداً من أعظم الأسس التي تزعم الاستناد إليها، وتنساق إلى بحث ميتافيزيقي؛ لأن النفي في ما يتصل بما وراء عالم الطبيعة كالإثبات وكلاهما من الفلسفة الميتافيزيقية، وبذلك يتجلى تناقض الماركسية في منطقها الداخلي؛ نظراً لأنها تعلن تمسكها بالخبرة والمعارف العلمية القائمة على التجربة وحسب، وبالتالي فإنه تمشياً مع هذا المبدأ لا يحق للماركسية الخوض بمسائل المطلق، التي لا يمكن أن تخضع للتجربة الحسية. وقد نشأ هذا من خطأ الماركسية في نظرية المعرفة وإيمانها بالتجربة وحدها.
أما في ضوء المذهب العقلي والإيمان بمعارف قبلية فالفلسفة ترتكز على قواعد أساسية ثابتة، وهى تلك المعارف العقلية القبلية الثابتة بصورة مطلقة ومستقلة عن التجربة، ولأجل ذلك لا يكون من الحتم أن يتغير المحتوى الفلسفي باستمرار تبعاً للاكتشافات التجريبية.
ويؤكد السيد الصدر: نحن لا نعني بذلك انقطاع الصلة بين الفلسفة والعلم، فإن الترابط بينهما وثيق؛ لأن العلم يقدّم في بعض الأحايين الحقائق الخاصة إلى الفلسفة لتطبيق عليها مبادئها المطلقة فتخرج بنتائج فلسفية جديدة، كما أن الفلسفة تنجد الأسلوب التجريبي في العلوم بمبادئ وقواعد عقلية يستخدمها العالم في سبيل الارتقاء من التجارب المباشرة إلى قانون علمي عام.[18]
وفي تحليله المنطقي الرائع لمجمل المقولات الماركسية المتصفة بالاضطراب والتشوّق عند مواجهة قضايا الفكر والإدراك والمعرفة، يخلص السيد الصدر إلى القول التالي:[19] إن الفكر في المفهوم الماركسي جزء من الطبيعة أو نتاج أعلى لها، ولنفترض أن هذا صحيح ۔ وليس هو بصحيح ۔ فهل يكفي ذلك لأجل أن نبرهن على إمكان معرفة الطبيعة بصورة كاملة؟!
صحيح أن الفكر إذا كان جزءً من الطبيعة ونتاجاً لها فهو يمثّل بطبيعة الحال قوانينها، ولكن ليس معنى هذا أن الفكر بهذا الاعتبار يصبح معرفة صحيحة للطبيعة وقوانينها.
أو ليس الفكر الميتافيزيقي أو المثالي فكراً، وبالتالي جزءً من الطبيعة ونتاجاً لها في الزعم المادي؟! أو ليست جميع محتويات العمليات الفيزيولوجية ظواهر طبيعیة ونتاجاً للطبيعة؟!
فقوانين الطبيعة تتمثل إذن في تفكير المادي الجدلي وتجري عليه، وفي التفكير المثالي والميتافيزيقي على السواء، كما تتمثل في جميع العمليات والظواهر الطبيعية، فلماذا يكون الفكر الماركسي معرفة صحيحة للطبيعة دون غيره من هذه الأمور؟ مع أنها جميعاً نتاجات طبيعية تعكس قوانين الطبيعة؟!
ومن استعراض جملة من النصوص الماركسية، يتوصل كاتبنا الصدر إلى أن تلك النصوص حاولت إثبات ما يلي:[20]
١. أن الحقيقة في نمو وتطور، يعكس نمو الواقع وتطوره.
٢. أن الحقيقة والخطأ يمكن أن يجتمعا، فتكون الفكرة الواحدة خطأ وحقيقة، وليس هناك تعارض مطلق بين الخطأ والحقيقة، كما يؤمن به المنطق الشكلي، على حد تعبير كيدروف.
٣. أن أي حكم مهما بدت الحقيقة فيه واضحة فهو يحتوي على تناقض خاص، وبالتالي على جانب من الخطأ، وهذا التناقض هو الذي يجعل المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل.
لكن الشهيد الصدر لا يترك هذه المنطلقات المتهافتة تمر دون دحض وتحليل وفضح، فيتساءل:
أولاً: هل الحقيقة القائمة في فكر الإنسان تتطور وتتكامل حقيقة؟
ثانياً: هل يمكن للحقيقة أن تجتمع مع الخطأ؟
ثالثاً: وهل تحتوي كل حقيقة على نقيضها وتنمو بهذا التناقض الداخلي؟
وبعد أن يناقش ويفنّد تلك المقدمات النظرية الماركسية الخاطئة والمتناقضة ۔ في ضوء ما يمليه المنطق والواقع والتفكير العقلي المتماسك ۔ يخلص إلى الاستنتاجات التالية:[21]
أولاً: أن الحقيقة مطلقة وغير متطورة ۔ والمقصود هنا الحقائق الكبرى ۔ وإن كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطوراً ومتحركاً على الدوام.
ثانياً: أن الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقة وخطأ.
ثالثاً: أن إجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشك المطلق في كل حقيقة ۔ بما في ذلك حقائق الديالكتيك نفسه ۔ ما دامت في تغير وتحرك مستمرين، بل يحكم على نفسه بالإعدام والتغير أيضاً؛ لأنه بذاته من تلك الحقائق التي يجب أن تتغير بحكم منطق التطوري الخاص.
مع الإشارة إلى أن الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفع وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيتها وأنها نسبية تواكب الواقع المتطور وتعكس نسبيته، بالرغم من ذلك كله ارتدّت الماركسية فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي وقرّرت أن من المستحيل للفلسفة مثلاً أن تتخلص من الطابع الطبقي والحزبي، حتى قال موريس كونفورت: (كانت الفلسفة دوماً تعبّر ولا تستطيع إلا أن تعبّر عن وجهة نظر طبقية).
وفي ضوء هذا الاتجاه، فإنه ليس بوسع أي فكر أن يدرك الواقع إلا في حدود المصالح الطبقية لدُعاته، وبالتالي ۔ تبعاً لهذا المنطق الحزبي ۔ لا يمكن لأحد أن يضمن وجود الحقيقة الموضوعية في أي فكرة فلسفية أو علمية، وحتى الماركسية نفسها لا تستطيع ما دامت تؤمن بحتمية الطابع الطبقي للمعرفة أن تقدّم لنا مفهوماً موضوعياً للكون والمجتمع والفكر مطابقاً للواقع، وإنما كل ما تستطيع أن تقرره هو أنه يعكس ما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جانب الواقع.
من ناحية أخرى يناقش علامتنا الجليل آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر المفهومَ الماركسي للعالَم في ضوء الفلسفة الإلهية، انطلاقاً من حقيقة أن التصور الديني للعالَم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرد على شيء من حقائق العلم الصحيح، وإنما هو التصور الذي يرى أن الله جل جلاله سبباً أعمق، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة والمادة،[22] فالإلهية التي تؤمن بالسبب المجرد الأعمق، تعتقد بصلة كل ما هو موجود في المجال العام ۔ سواء أ كان روحياً أم مادياً ۔ بذلك السبب الأعمق، وترى أن هذه الصلة هي التي يجب أن يحدّد على ضوئها، الموقف العملي والاجتماعي للإنسان، تجاه الأشياء جميعاً.
وبعد أن يجري السيد الصدر مقارنة دقيقة بين المدرسة المادية للفلسفة، والمدرسة الإلهية، والفوارق الأساسية التي جعلت منهما اتجاهين متعارضين، ومدرستين متقابلتين، يتوصل إلى أن التعارض بين الإلهية والمادية ليس في الحقائق العلمية، فإن الإلهي كالمادي يعترف بجميع الحقائق العلمية، التي توضّحها التجارب الصحيحة عن جسم الإنسان وفسلجة أعضائه، وعن التطور والحركة في الطبيعة، وإنما يزيد بوضع حقائق أخرى والاعتراف بها، فهو يبرهن على وجود جانب روحي مجرد للإنسان، غير ما ظهر منه في الميدان التجريبي، وعلى سبب مجرد أعلى للحركات الطبيعية والميكانيكية فوق المجال المحسوس.
والواقع أن الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعاً للنقاش بين الإلهية والمادية، وإنما النقاش في التفسير لتلك الحقائق، أي في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة، مع أن التجربة لا يمكن أن تُعدّ برهاناً على نفي حقيقة خارج حدودها، فالعالم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرد في مختبره، لم يكن هذا دليلاً على عدم وجوده في مجال فوق مجالات التجربة.
وفي هذا السياق يؤكد العلامة الصدر على أمرين:[23]
أولهما: أن المادية الجدلية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي ۔ لوجود المسبِب الأول ۔ الذي يميزها عن الإلهية، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الإيجاب والإثبات.
وثانيهما: أن المادية اتجاه فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادية علمية، أي تجريبية؛ لأن العلم ۔ كما عرفنا ۔ لا يثبت المفهوم المادي للعالم، لتكون المادية علمية، بل كل ما يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالاً لافتراض سبب أعلى فوق المادة، فالترجبة العلمية ۔ مثلاً ۔ لا يمكن أن تدل على أن المادة ليست مخلوقة لسبب مجرد أو على أن أشكال الحركة وألوان التطور، التي اكتشفها العلم في شتى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطورات مكتفية ذاتياً، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها، وهكذا كل حقيقة علمية.
فالدليل على المادية إذن لا يمكن أن يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وإنما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماماً. ومن هذه المقارنات يخرج السيد الصدر بالنتائج التالية: [24]
أولاً: أن المدرسة المادية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية، أي الإنكار لما هو خارج الحقل التجريبي.
ثانياً: أن المادية مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الإثبات.
ثالثاً: أن التجربة لا يمكن أن تُعدّ برهاناً على النفي؛ لأن عدم تشخيص السبب الأعلى في ميدان التجربة لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتد إليه يد التجربة المباشرة.
رابعاً: أن الأسلوب الذي تتخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي هو نفس الأسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية.
وبعد توقف مطوّل عند تاريخ الديالكتيك أو الجدل والمبادئ الارتكازية لهذه الفلسفة، التي صاغها الفلاسفة الإغريق وبلورها الفيلسوف الألماني هيجل، يبرز عدداً من المشكلات الناتجة عن تطبيق تلك المقولات في قضايا الوجود الكبرى.
ثم ينتقل إلى تحليل الجدل الماركسي، في خطوطه العريضة التي وضع تصميمها الأساسي هيجل نفسه.
والخطوط الأساسية أربعة، وهي حركة التطور، وتناقضات التطور، وقفزات التطور، والإقرار بالارتباط العام.[25] حيث يكشف تهافت الفهم الماركسي لقوانين التطور والحركة، مبيّناً بالأدلة المنطقية والعقلية أن الأسباب الكامنة خلف الضوضاء والصخب والسخرية الماركسية بالفلسفات الأخرى، مردّها إلى عدم فهم الماركسية لتشابك درجات القوة والفعل أو اتحادها، في مراحل الحركة المختلفة، وبالتالي فإن الحركة ليست ۔ كما توهم منظّرو المادية الجدلية ۔ صراعاً بين فعليات متناقضة دائماً، بل هي تشابك بين القوة والفعل، وخروج تدريجي للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن ندرك أن الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتياً عن السبب، وأن الوجود المتطور لا يخرج من الفعل إلا لسبب خارجي، وليس الصراع بين التناقضات هو العلة الداخلية لذلك؛ إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها.
فما دام الوجود المتطور في لحظة انطلاق الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيات، التي سيحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الداخلي إلا إمكان تلك الدرجات والاستعداد لها، فيجب أن يوجد سبب لإخراجه من القوة إلى الفعل، لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخلي إلى حقيقة.
ومن خلال مناقشة قوانين الجدل الماركسية، يتبين تناقضاتها وتعاكسها مع المنطق ومع ذاتها أيضاً، وتنهار بذلك مزاعمها حول الاستغناء عن المحرك الأول، فيجب أن يوجد التعليل، وأن يكون التعليل بشيء أو بقوة خارج حدود الطبيعة والمجتمع والفكر.
إن الفلسفة القائمة على التسليم بوجود القوة الإلهية تؤمن بالتطور والحركة في الطبيعة وفي المجتمع وفي الفكر، لكن معرفة قوانين التطور والنمو لا تلغي وجود القوانين الكونية الكبرى، الناظمة للعالم، بل تؤكد وجود حقائق مطلقة وراء حدود المعرفة البشرية المتاحة.
وما يراه الماركسيون جوهر الديالكتيك، ونعني به (قانون وحدة وصراع الأضداد) أقصى عن ميدانه أكثر الأفكار البشرية بدهية، فأنكر مبدأ عدم التناقض، وافترض التناقض ۔ عوضاً عنه ۔ قانوناً عاماً للطبيعة والوجود؛ فإن الجدلي حين يؤمن بالتناقضات الجدلية، وبالتفسير الديالكتيكي للطبيعة، يجد نفسه مضطراً إلى رفض مبدأ عدم التناقض، والتفسير الميتافيزيقي لها؛ كل ذلك لاستبعاد أو إلغاء السبب الخارجي الأعمق، أو المسبِب الأول للحركة والتطور والنمو.
ومن دراسته العميقة لمقولات الماركسية من خلال نصوصها ومصادرها الأساسية ۔ مؤلفات ماركس وإنجلز ولينين وماوتسي تونغ وستالين وغيرهم ۔ يتوصل علامتنا الكبير السيد الصدر إلى أن كل ما تعرضه الماركسية من قوانين للتناقضات، في الحقل الفلسفي أو العلمي، أو المجالات الاعتيادية العامة، ليست من التناقض، الذي يرفضه المبدأ الأساسي للمنطق الميتافيزيقي، بل إن أمثلة الديالكتيكية عن (قوانين التناقض) و(تفاعل الأضداد) ليست من مميزات هذه الفلسفة، وإنما من مقررات الميتافيزيقية التي عرفناها في نصوص أرسطو.
وقد ترتبت على تفحص مقولات الجدلية ومبادئها النتائج التالية: [26]
أ ۔ أن مبدأ العلية لا يمكن إثباته والتدليل عليه بالحس المباشر، وليس من المعقول أن يكون هذا المبدأ مَدِيناً للحس في ثبوته، ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدّق به الإنسان، بصورة مستغنية عن الحس المباشر.
ب ۔ أن مبدأ العلية ليس نظرية علمية تجريبية، وإنما هو قانون فلسفي عقلي فوق التجربة؛ لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه.
ج ۔ أن مبدأ العلية لا يمكن الاستدلال على رده، بأي لون من ألوان الاستدلال؛ لأن كل محاولة من هذا القبيل، تنطوي ضمناً على الاعتراف به، فهو إذن ثابت بصورة متقدمة، على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الإنسان.
وإن مناقشةً موضوعية ۔ منطقية للعلاقة بين (العلة والمعلول) ستوصلنا إلى نتيجة مؤكدة تقول: إن العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية، أي علة أولى لم تنبثق عن علة سابقة.[27] ولا يمكن أن يتصاعد تسلسل العلل تصاعداً لا نهائياً؛ لأن كل معلول ليس إلا ضرباً من التعلق والارتباط بعلته، فالموجودات المعلولة جميعاً ارتباطات وتعلقات، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلة تنتهي إليها. فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية، لكانت الحلقات جميعاً معلولة، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها، ويتوجه السؤال حينئذ عن ماهية الشيء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعاً.
وفي سياق آخر أن سلسلة الأسباب إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلية، ولا يحتاج إلى علة، فهذا هو السبب الأول، الذي يضع للسلسلة بدايتها، ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه، وإ ذا كان كل موجود في السلسلة محتاجاً إلى علة ۔ طبقاً لمبدأ العلية ۔ دون استثناء، فالموجودات جميعاً تصبح بحاجة إلى علة، ويبقى سؤال لماذا؟ ۔ هذا السؤال الضروري ۔ منصبّاً على الوجود بصورة عامة، ولا يمكن أن نتخلص من هذا السؤال إلا باستنتاج وجود سبب أول متحرر من مبدأ العلية، فإننا حينئذ ننتهي في تعليل الأشياء إليه، ولا نواجه فيه سؤال لماذا وجد؟ لأن هذا السؤال إنما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلية خاصة.
إن المادة في حركتها ونموها وتطوراتها المختلفة، لا تلغي المبدأ الكلي للكون، بل إن وحدة المادة الأصلية للعالم، التي دل العلم والتجربة على أنها عرضية متغيرة ناشئة أساساً من عوامل خارجة عن المحتوى الذاتي لها.. تتسلسل في نهاية التتبع لتصل إلى مبدأ وراء الطبيعة، لا إلى المادة ذاتها، أي (أن السبب الأعلى لكل هذه التنوعات والاتجاهات، لا يكمن في المادة ذاتها، بل في سبب فوق حدود الطبيعة، ترجع إليه العوامل الطبيعية الخارجية التي تعمل على تنويع المادة وتحديد اتجاهاتها).[28]
وفي ضوء ما تقدم يدرس العلامة السيد الصدر المسألة الإلهية في إطار ما وصلت إليه العلوم والنظريات الفلسفية المختلفة، مستنتجاً في النهاية أن المبدأ الأول هو الحلقة الأولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتماً بالواجب بالذات، فالمبدأ الأول هو الواجب بالذات. وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنياً في كيانه ووجوده عن شيء آخر.
وإن تتبع الأبحاث والتجارب الخاصة بعلم الوراثة والأحياء والسلوك، يظهر بجلاء سقوط النظرية المادية وتفسيراتها في ما يتصل بالسلوك الخاص بالحيوانات والحشرات، ويبقى تفسيران للغريزة: [29]
أحدهما: أن العلم الغريزي يصدر عن قصد وشعور، غير أن غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة، بل الالتذاذ المباشر به، بمعنى أن الحيوان ركّب تركيباً يجعله يلتذّ من القيام بتلك الأعمال الغريزية، في نفس الوقت الذي تؤدّي له أعظم الفوائد والمنافع.
والتفسير الآخر: أن الغريزة إلهام غيبي إلهي، بطريقة غامضة، زوّد بها الحيوان، ليعوّض عما فقده من ذكاء وعقل، وسواء أصح هذا أم ذاك، فدلائل القصد والتدبير واضحة وبديهية، وإلا فكيف حصل هذا التطابق التكامل، بين الأعمال وأدق المصالح وأخفاها على الحيوان؟!
وإن الكون بما زخر به من أسرار النظام، وبدائع الخلقة والتكوين، قد أوجدته وتسيّره ضمن غائية عظيمة محددة، قوة حكيمة بصيرة وراء العلل والأسباب كلها.
ومجمل القول أن العلم لم يتوصل بعد إلى دقائق الكون وأسراره وطريقة تنظيمه، كما أنه لم يكشف السر الأعظم المعروف بالحياة، الأمر الذي دفع الكسندر أوبارين ۔ رئيس معهد الكيمياء الحيوية في روسيا بعد أن ظل يبحث 37 عاماً في أصل الحياة، وعما إذا كان من المممكن إيجاد الخلية الأولى عن طريق بناء مواد عضوية أو عن طريق تفاعل كيميائي ۔ إلى الإعلان أن الحياة لا يمكن أن تبدأ من العدم أو أن تتوالد من التفاعل الكيميائي والتوالد الذاتي، وأن العلم لا يمكن أن يخوض في ما وراء حدود المادة.[30]
وقد شهد شاهد من أهل الماركسية على أوهامها وتناقضاتها وتهافتها، فصحّ قول الحق جل وعلا <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ>.[31]
بعد ذلك ينتقل فيلسوفنا الإسلامي العلامة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر إلى دراسة (المادية التاريخية) وتحليل قوانينها ومنطلقاتها ومقولاتها، لتبيان تناقضاتها الجلية، وأوهامها الصريحة، ونتائجها الواهية المتهافتة، مع الإشارة إلى أنها ليست في حقيقة الأمر سوى أحد المفاهيم والمستلزمات الكبرى للمادية الديالكتيكية وإن حاول مؤسسو الماركسية وروّادها الأوائل إعطاءها أهمية مستقلة، والإيحاء بأنها (اكتشاف) ماركسي آخر، أو نظرية مستقلة صالحة لكل زمان ومكان، لتقيم المجتمعات البشرية من خلالها أرقى الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. إلى آخره.
ففي مؤلفه الموسوم بـ(اقتصادنا) [32] درس السيد الصدر نظرية المادية التاريخية، سواء على ضوء الأسس الفلسفية العامة أو بتفاصيلها التطبيقية المختلفة، حيث ركّز على أن المادية التاريخية طريقة خاصة في تفسير التاريخ تتجه إلى تفسيره بعامل واحد أو أساسي وشبه شامل، هو العامل الاقتصادي، وما يتفرع عنه من عناصر وبُنى وأنساق.
فالماركسية تعتقد أن الوضع الاقتصادي لكل مجتمع، هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي، والوضع الاقتصادي بدوره له سببه الخاص به ككل شيء في هذه الدنيا، وهذا السبب ۔ السبب الرئيس لمجموع التطور الاجتماعي، وبالتالي لكل حركة تاريخية في حياة الإنسان ۔ هو وضع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، فالعلاقة (الجدلية) بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، سواء في توافقها أو في تناقضها وتناحرها، هي التي تضع التطور وتاريخ الناس وماهية الأنظمة والتشكيلات الاجتماعية ۔ الاقتصادية التي تؤطّر حياة المجتماعات وتقدّمها، والحركة التاريخية بمجموعها.[33]
وعلاقات الإنتاج التي تقوم بين الناس.. هي في الحقيقة علاقات المُلكية، التي تحدد الوضع الاقتصادي، وطريقة توزيع الثروة المنتَجة في المجتمع. وبمعنى آخر تحدد شكل المُلكية: المشاعية (البدائية) أو العبودية، أو الإقطاعية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية ۔ المرحلة الأولى من الشيوعية ۔ ونوعية المالك، وموقف كل فرد من الناتج الاجتماعي.
وتعدّ هذه العلاقات ۔ علاقات الإنتاج، أو علاقات المُلكية ۔ من وجهة نظر الماركسية الأساس المادي، الذي يقوم عليه البناء الفوقي للمجتمع كله، حيث إن كل العلاقات السياسية والحقوقية والظواهر الفكرية والدينية مرتكزة على البُنية التحتية: القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
ويستمر الوجود الاجتماعي القائم على تطابق القوى المنتجة مع علاقات الإنتاج ۔ علاقات المُلكية والوضع الاقتصادي ۔ لمرحلة قد تطول أو تقصر، إلى أن تبلغ هذه القوى الإنتاجية درجة جديدة من النمو والتطور، فتدخل في تناقض مع الوضع الاقتصادي القائم؛ لأن هذا الوضع إنما كان نتيجة للمرحلة أو الدرجة، التي تخطّتها قوى الإنتاج إلى مرحلة جديدة، تتطلب وضعاً اقتصادياً جديداً، وعلاقات مُلكية من نمط آخر، بعد أن أصبح الوضع الاقتصادي السابق معيقاً لها عن النمو.
وهكذا يبدأ الصراع بين القوى الإنتاجية، في مرحلتها الجديدة من ناحية، والعلاقات الإنتاجية، أي علاقات المُلكية والأوضاع الاقتصادية، التي خلّفتها المرحلة السابقة لقوى الإنتاج من ناحية أخرى.
وهنا يأتي دور الطبقية والصراع الطبقي في المادية التاريخية، فإن الصراع بين القوى الإنتاجية النامية، وعلاقات الإنتاج ۔ علاقات المُلكية القائمة ۔ ينعكس على الصعيد الاجتماعي دائماً، في الصراع بين طبقتين:
إحداهما: الطبقة الاجتماعية التي تتفق مصالحها مع نمو القوى المنتجة، ومستلزماته الاجتماعية.
والأخرى: الطبقة الاجتماعية التي تتفق مصالحها مع علاقات المُلكية القائمة، وتتعارض منافعها مع متطلبات المدّ التطوري للقوى المنتجة.
ففي كيان المجتمع ۔ إذن ۔ تناقضان:
الأول: التناقض بين نمو القوى المنتجة، وعلاقات المُلكية السائدة، حيث تصبح معيقة لها عن التكامل.
والثاني: التناقض الطبقي، بين طبقة من المجتمع تخوض المعركة لحساب القوى المنتجة، وطبقة أخرى تخوضها لحساب العلاقات القائمة. وهذا التناقض الأخير هو التعبير الاجتماعي والانعكاس المباشر للتناقض الأول.
بعبارة أخرى: حين تنتصر قوى الإنتاج على العلاقات الإنتاجية ۔ علاقات المُلكية ۔ التي أصبحت تقف عائقاً أمام تطور القوى الإنتاجية، وفازت الطبقة الحليفة للقوى الإنتاجية المتطورة على نقيضتها، حينئذ تتحطم علاقات الإنتاج ۔ علاقات المُلكية ۔ القديمة، ويتغير الوجه الاقتصادي للمجتمع.
وتغير الوضع الاقتصادي بدوره يزعزع كل البناء الفوقي للمجتمع، من سياسة وأفكار وأديان وأخلاق؛ لأن هذه الجوانب كلها كانت تقوم على أساس الوضع الاقتصادي، فإذا تبدّل الأساس الاقتصادي ۔ البُنية التحتية المادية ۔ تغير وجه المجتمع ككل.
والمسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ؛ لأن القوى المنتجة تواصل نموها وتطورها حتى تدخل مرة أخرى في تناقض مع علاقات الإنتاج، علاقات المُلكية والأوضاع الاقتصادية الجديدة، ويتمخض هذا التناقض عن ولادة طبقة اجتماعية جديدة تتفق مصالحها مع النمو الجديد في قوى الإنتاج ومتطلباته الاجتماعية. بينما تصبح الطبقة التي كانت حليفة لقوى الإنتاج خصماً لها منذ تلك اللحظة، فتشتبك الطبقتان الممثلتان لمرحلتين من القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في معركة جديدة.. فتنتصر قوى الإنتاج الممثلة للتطور والتقدم، وبالتالي تنتصر الطبقة الحليفة لها.
وهكذا فإن العلاقات الإنتاجية ۔ علاقات المُلكية، والأوضاع الاقتصادية ۔ تظلّ محتفظة بوجودها الاجتماعي ما دامت القوى المنتجة تتحرك ضمنها وتنمو، فإذا أصبحت عقبة في هذا السبيل أخذت التناقضات تتجمع، حتى تجد حلها في انفجار ثوري، تخرج منه قوى الإنتاج منتصرة، وقد حطّمت العقبة من أمامها وأنشأت وضعاً اقتصادياً جديداً، لتعود بعد مدة من نموها إلى مصارعته من جديد، طبقاً لقوانين الديالكتيك حتى يتحطم ويندفع التاريخ إلى مرحلة جديدة.
ويؤكد السيد الصدر أنه إذا كان منظّرو المادية التاريخية يزعمون أنها تقوم على أمرين:
أحدهما: الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية، والآخر: أن الأحداث التاريخية لم تُخلق مصادفة، وإنما وجدت وفقاً لقوانين عامة، يمكن دراستها وتفهمها، وتغيير الأوضاع الاجتماعية ۔ الاقتصادية والسياسية تبعاً لها.. إلى آخره، فإنهم لا يأتون بجديد؛ لأن الإيمان بالحقيقة الموضوعية للمجتمع ولأحداث التاريخ، لا يقود إلى الأخذ بالمفهوم المادي الماركسي.
وهذه المسألة ليست من مزايا المادية التاريخية فحسب، بل يؤمن بها كل مَن يفسّر أحداث التاريخ أو تطوراته بالأفكار، أو بالعامل الطبيعي أو الحضاري، أو بأي شيء آخر من هذه الأسباب.
فالإيمان بالحقيقة الموضوعية هو نقطة الانطلاق لكل تلك المفاهيم عن التاريخ، والبديهة الأولى التي تقوم تلك التفسيرات المختلفة على أساسها.
وشيء آخر: أن أحداث التاريخ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث الكون تخضع للقوانين العامة التي تسيطر على العالم، ومن أبرز تلك القوانين مبدأ العلية القائل: إن كل حدث سواء أكان تاريخياً أو طبيعياً، أم أي شيء آخر لا يمكن أن يوجد مصادفة وارتجالاً، وإنما هو منبثق عن سبب.
فكل نتيجة مرتبطة بسببها، وكل حادث متصل بمقدماته وبدون تطبيق هذا المبدأ ۔ مبدأ العلية ۔ على المجال التاريخي والمجتمعي يكون البحث التاريخي غير ذي معنى.[34]
ويشير علامتنا الكبير السيد الصدر إلى ما مُنيت به المادية التاريخية من فشل كبير في تحليلها لمراحل تطور المجتمعات البشرية ۔ المراحل الخمس ۔ وما تنبأت به في ضوء تلك (الحتمية التاريخية ۔ الاقتصادية) إذ قرّرت بصورة مطلقة أن التناقض الطبقي الذي يعكس تناقضات قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج هو الأساس الرئيس ۔ إن لم يكن الوحيد المحرك ۔ للصراع في داخل المجتمع، وليست التناقضات الأخرى إلا نابعة منه. وقرّرت في الوقت نفسه أن القافلة البشرية سائرة ۔ حتماً ۔ في طريق محو الطبقية من المجتمع إلى الأبد؛ وذلك حين تدقّ أجراس النصر للطبقة العاملة، وتزول المُلكية الخاصة، ويولد المجتمع اللاطبقي، وتدخل الإنسانية في الاشتراكية والشيوعية.
والمثير للسخرية والشفقة أن المادية التاريخية ۔ التي تزعم أنها الجانب الديالكتيكي في مجال المجتمع ۔ أعلنت بحتمية طوباوية، لا علمية أنه مع دخول المجتمع في التشكيلة الاشتراكية ۔ ومن ثم الشيوعية ۔ ستزول الطبقات وتناقضاتها، وكذلك سينتهي دور الدولة الممثلة للعنف ومصالح طبقية معينة، وسيتوقف عندئذ ۔ يا للمهزلة!! ۔ المجتمع عند هذه المرحلة من تطوره، مرحلة الاشتراكية والشيوعية، وتنطفئ شعلة الحركة الأبدية، وتحصل المعجزة التي تشلّ قوانين الديالكتيك عن العمل.[35]
وهكذا حكمت المادية التاريخية على نفسها وعلى تطور الفكر والمجتمعات الإنسانية، وعلى مستقبل البشرية جمعاء بالتجمد عند لحظة أو مرحلة تاريخية معينة، نهاية التاريخ من وجهة نظر المادية التاريخية!!
من ناحية أخرى فقد خالفت مسيرة الأحداث التي جرت بعد وضع ماركس وإنجلز لأعمالهما في القرن التاسع عشر تنبؤاتهما بحصول الثورات في أوروبا الغربية، بل سارت الظروف السياسية والاقتصادية سيراً معاكساً، للاتجاه الذي قدّرته الماركسية ونظريتها المادية التاريخية، وبينت الوقائع اللاحقة ۔ ولاسيما بعد (الثورة الاشتراكية) في روسيا 1917م، وإقامة (الأنظمة الاشتراكية) في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية ونتائجها المعروفة ۔ مدى محدودية المفهوم الماركسي للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكيف أن أوروبا الغربية سلكت الطريق الديمقراطي الإصلاحي، وليس طريق (العنف الثوري) و(الصراع الطبقي) و(الثورة الاشتراكية).. إلى آخره. كل ذلك أكد ويؤكد أن المادية التاريخية وما زُعِم من عمومية (قوانينها) و(مقولاتها) ومن (حتمية) انتصارها التاريخي (لم تكن من حقائق التاريخ المطلقة، التي تكشّفت لماركس في لحظة من الزمن، وإنما هي تعبير عن الظروف التي عاشها ماركس، ثم وضع عليها المساحيق العلمية، وأعلنها قانوناً مطلقاً، لا تقبل التخصيص والاستثناء).[36]
والنتيجة التي يستخلصها المفكر الإسلامي السيد الصدر أن جميع مفاهيم ماركس عن التاريخ، يجب أن تكون ۔ في حكم المادية التاريخية ووفقاً لنظرية المعرفة الماركسية ۔ حقائق نسبية نابعة عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاصرتها، ولا يمكن أن تؤخذ، بوصفها حقائق مطلقة ما دامت النظريات نتاجاً للظروف النسبية المتطورة وحركة المجتمع والتاريخ، كما تؤكد ذلك الماركسية نفسها.[37]
أخيراً نخلص مما تقدّم إلى النتائج والحقائق التالية:
١. حاولت الماركسية إقناع العالم على مدى حوالي مائة وخمسين عاماً ۔ منذ ظهورها ۔ بصلاحيتها لكل الأزمنة والمجتمعات، وأن (قوانينها) ثابتة مطلقة. وأكدت أن المقياس الأعلى لصحة أي نظرية هو مدى نجاحها في مجال التطبيق.. وشنّت (نضالاً عنيفاً ضد كل النظريات التي تنكر أهمية التطبيق، أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق) في حين أنها برهنت بصورة قاطعة على عكس هذه المزاعم تماماً.
٢. حاولت الماركسية إقصاء العوامل الروحية عن مجال العوامل الفاعلة في حركة التاريخ والمجتمعات، زاعمة (أن الدين أفيون الشعوب) وأن الطبقات الحاكمة المستغلة تسقيه للطقات المحكومة المضطهدة، كي تنسى مطالبها ودورها السياسي، وتستسلم إلى واقعها السيّء، فجاءت الوقائع لتدحض بقوة هذه الأكذوبة الكبرى، حيث برز الدين قوة هائلة في وجه الظلم وقوى الاستكبار.
٣. عندما كانت الماركسية في أوج مدها وقوتها وجبروتها، قال السيد محمد باقر الصدر ما يلي:
لقد مُني الفكر الديالكتيكي الذي تتشدق به الماركسية بالجمود، حين اتخذ الديالكتيك حقيقة مطلقة، وتبنّته الدولة مذهباً رسمياً، ومرجعاً أعلى يجب إخضاع كل علم ومعرفة له، وتحجير كل فكر أو جهد ذهني لا ينسجم معه ولا ينطلق من عنده، فعادت الأفكار البشرية في مختلف مجالات الحياة أسيرة منطق خاص، وأصبحت المواهب والإمكانات الفكرية مضغوطة كلها في الدائرة التي رسمها للبشرية فلاسفة الدولة الرسميون.[38]
4. بعد ثلاثة أرباع القرن من الديكتاتورية والعنف والقمع والجمود المذهبي، أعلن قادة (الاتحاد السوفياتي) السابق وبقية البلدان السائرة في فلكه وفلك الماركسية اللينينية عن وفاة (الاشتراكية) التي بُنيت تطبيقاً للماركسية بشقّيها (الجدلي) الديالكتيكي و(التاريخي) فظهرت الحقائق المرعبة، وبانت معالم الخرافات والأضاليل والتخلف والفقر والحرمان، واتضح أن ما سُمّي هناك بـ(الاشتراكية المزدهرة) لم يكن نسوى منظومة من (القوانين) و(المقولات) الزائفة نظرياً وعملياً، استنزفت طاقات وقدرات، وضيّعت شعوباً وأمماً، لكن الإسلام وفكره وقرآنه العظيم الذي جاء للناس كافة، لم يفاجأ بما حصل، بل إن مفكريه الأفذاذ، وفي مقدمتهم شهيد الإسلام آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر تنبأوا بصورة مؤكدة بسقوط الفلسفة الماركسية، وانهيار ما بُني على أساسها من أنظمة وتيارات وأفكار وعقائد، فحق قوله؟عز؟: <فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ>.[39]
والله من وراء القصد
[1]. انظر: فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، طبعة جديدة مصححة ومنقحة صادرة عن مجمع الشهيد آية الله الصدر العلمي، ص 90.
[2]. م. ن.
[3]. م. ن، ص 91.
[4]. دُرست مقولات الماركسية بتفصيل كبير لدى الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، نقض أوهام المادية الجدلية الديالكتيكية، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1399ق. ۔ 1979م، ص 44 وما بعدها.
[5]. فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، ص 120.
[6]. انظر: نقض أوهام المادية الجدلية الديالكتيكية، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص 190 ۔ 205.
[7]. انظر: المادية والمذهب التجريبي النقدي، لينين، ص 114.
[8]. نقض أوهام المادية الجدلية الديالكتيكية، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص 192 ۔ 193.
[9]. م. ن، ص 193 ۔ 205.
[10]. إنجلز، أنتي دوهرنغ، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، ص 105، وما بين المزدوجين من كلام إنجلز بنصه.
[11]. من كتاب دتيزجن (رحلات)، وانظر: المادية والمذهب التجريبي النقدي، لينين ص 127. نقلاً عن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه نقض أوهام المادية الجدلية، ص 97.
[12]. انظر: نقض أوهام المادية الجدلية الديالكتيكية، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص 200 وما بعدها.
[13]. م. ن، ص 204.
[14]. فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، ص 79.
[15]. انظر: م. ن، ص 80 والهامش 2.
[16]. نقلاً عن المصدر السابق، الهامش 3؛ وانظر كذلك: جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين، أصول الفلسفة الماركسية، تعريب شعبان بركات، في مجلدين، بيروت: منشورات المكتبة العصرية، د. ت. وبخاصة (القسم الرابع) من المجلد الأول تحت عنوان (اتحاد النظرية بالناحية العملية).
[17]. فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، ص 81.
[18]. م. ن، ص 91 ۔ 92.
[19]. م. ن، ص 157 وما بعدها.
[20]. م. ن، ص 163.
[21]. م. ن، ص 175 ۔ 176.
[22]. م. ن، ص 181 وما بعدها.
[23]. م. ن، ص 185 ۔ 187.
[24]. م. ن.
[25]. م. ن، ص 191 ۔ 234.
[26]. م. ن، ص 266 وما بعدها.
[27]. م. ن، ص 283 وما بعدها.
[28]. م. ن، ص 297.
[29]. م. ن، ص 316.
[30]. نقلاً عن قصة التطور، الدكتور أنور عبد العليم، ص 11 ۔ 23، الذي استشهد به الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: كبرى اليقينيات الكونية، ص 83، الطبعة السادسة (دمشق: دار الفكر، 1399ق).
[31]. فصلت: 53.
[32]. انظر: اقتصادنا، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، طبعة ثانية مصححة ومنقحة، ص 250.
[33]. م. ن، ص 44 ۔ 49.
[34]. م. ن، ص 51.
[35]. م. ن، ص 63.
[36]. م. ن، ص 67.
[37]. م. ن، ص 68.
[38]. انظر: فلسفتنا، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 240.
[39]. الرعد: 17.