الدكتور الشيخ محمود عكام
أ _ مقدمة
للحديث عن (النظرية) بشكل عام شرط أساس لابد منه، هو الشمول لموضوع النظرية والإحاطة به من كل جوانبه، وأهم نظرية إنسانية يجب الحديث عنها هي (نظرية المعرفة)؛ لأنها المؤسسة لسائر النظريات، كما أنها الامتياز الأهم للمخلوق الأسمى (الإنسان)، ولهذا جهدت في هذه الورقة أن أستعرض مع الإخوة المؤتمرين (نظرية المعرفة) من وجهة نظر ذاك الراحل العظيم الذي اتخذه مؤتمرنا محوراً له، إنه الإمام العلامة الشهيد محمد باقر الصدر.
لم أضف، بل التعليق القائم على الإعجاب هو زادي الخاص في هذا البحث، وما سواه كان رصداً يتسم بالأمانة لما قاله العلامة الصدر عن المعرفة.
ويجب القول هنا إنه؟ره؟ لم يؤصّل نظرية عن المعرفة خاصة به، لكنه أبان وبطريقة علمية رفيعة دقيقة عن منهج الإسلام الدين الحنيف في رسم معالم المعرفة الإنسانية مصدراً وموضوعاً وغاية، وفي أثناء الإبانة كان يظهر فضل الإسلام في هذا الشأن من خلال مقارنات ومقاربات تدلّل على ذلك، والمقارنات والمقاربات كانت بين الإسلام وسواه من المبادئ الأخرى، وقد لاحت منها براعة (الصدر) وقوة اطلاعه ودقة بحثه. فهو الذي لم يوفّر في المقارنة مع الإسلام مبدأ قديماً ولا آخر حديثاً، له في المعرفة تأصيل.
وعلى كلٍ فنحن هنا – أعني في هذه الورقة – راسمو ملامح عامة لهذه النظرية، وملخّصون أوفياء إن شاء الله، وأما التعليل للتلخيص والرصد، فسعي جاء للتوريث، الذي يعني مباركة وموافقة من جيل نمثله على نتاج حر جاد لجيل مثّله وكان في قمته الشهيد الصدر، آملين من الجيل اللاحق قبوله، ولا أبغي بالقبول إبعاد التفكير عما يصل إليهم، وإنما القبول الذي أتوخاه من القادمين تواصل بعقل وترابط بفهم، وتلاحم بعلم، وتماسك بإيمان، وكل ذلك ممزوج برغبة الانفتاح الواعية الجادة على كامل المساحة الإنسانية في تجلياتها الراقية المتعلقة بالعرفان والوجدان والإيمان.
(للصدر) الإمام منا ولاء تتلمذ صادق، ولمن أيقظ فينا هذا الولاء وضرورته المنظّمين والمخططين والقائمين على هذا المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، ثناء تآخٍ خالص، وللجمهورية الإسلامية الإيرانية الراعية دعاء نافع من القلب خلاصته: الرجاء من العلي القدير أن يحفظها راعية خير، ويوفّقها داعية أمن، ويثيبها عن المؤمنين في العالم أجراً حسناً.
ب ـ المعرفة عند (الصدر) عرض واعتبار
1 ۔ المصدر.
2 ۔ المعرفة.
3 ۔ معالم (معرفة) نتبناها.
4 ۔ وأخيراً.
1 ـ المصدر
والسؤال هنا الذي طرحه العلامة الصدر هو: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكونت حياته العقلية؟ وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟
فأجاب؟ره؟: إن الإدراك ينقسم إلى نوعين:
1 ۔ التصور: وهو الإدراك الساذج.
2 ۔ التصديق: وهو الإدراك المنطوي على حكم.
فما هو المصدر الأساسي لكل من التصور والتصديق؟
1 ـ التصور ومصدره الأساسي
وقد حصل التصور في تاريخه الفلسفي على عدة حلول تتلخص في النظريات الآتية:
1) نظرية الاستذكار الأفلاطونية: وقد ابتدعها أفلاطون حين رأى أن مصدر التصورات هو ما تستذكره النفس من عالم (المُثل) الذي كانت تعيشه مجردة قبل حلولها في البدن والمادة، وردّ هذا الزعم بأن النفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليس شيئاً موجوداً بصورة مجردة قبل وجود البدن، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادة، وهذا هو المفهوم الوحيد الذي يعطي إيضاحاً معقولاً عن العلاقة القائمة بين النفس والمادة.
2) النظريات العقلية: وهي لعدد من الفلاسفة الأوربيين أمثال (ديكارت) و(كانت)، ومنبع التصورات في هذه النظريات أمران اثنان:
الأول: الإحساس.
الثاني: الفطرة فيما هو خارج عن نطاق الحس.
ورُدّت هذه النظريات من خلال طريقتين:
1 ۔ إن تعميم الحس لشتى ميادين التصور لا يبقي ضرورة للتصورات الفطرية.
2 ۔ إن النفس بسيطة فلا يمكن أن تكون بطبيعة الحال سبباً لعدة من التصورات والأفكار، فلابد من وجود عوامل خارجية كثيرة.
3) النظرية الحسية: والمبشّر الأول بها هو (جون لوك) الإنكليزي، ومفادها: أن المصدر والمموّن الوحيد للذهن البشري بالتصورات والمعاني هو الإحساس، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون للذهن فعالية وابتكار على ضوء ما استمده من الحس، وتبنّت الماركسية هذه النظرية تمشّياً مع رأيها في الشعور البشري وأنه انعكاس للواقع الموضوعي، ولكن فشل هذه النظرية بيّن من خلال عدة مفاهيم ذهنية كالعلة والمعلول، والجوهر والعرض.. ، فالعلية ۔ مثلاً ۔ القائمة بين العلة والمعلول عصية الكشف على التجارب الحسية، مما دفع (دافيد هيوم) ۔ أحد رجال المبدأ الحسي ۔ إلى إنكار مبدأ العلية لأنه لا يدرك بالحس، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني.
4) نظرية الانتزاع: وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين عامة، وتقوم على تقسيم التصورات إلى قسمين:
أ ۔ تصورات أولية: مصدرها الحس.
ب ۔ تصورات ثانوية: بابتكارها مفاهيم جديدة على ضوء قاعدة التصورات الأولية خارجة عن نطاق الحس، وهو ما يسمى بـ(الانتزاع) أي انتزاع مفاهيم جديدة كالعلة والمعلول، والوجود والعدم، والجوهر والعرض، وتسمى (مفاهيم انتزاعية)، فالعلية ۔ مثلاً ۔ ينتزعها الذهن من ظاهرتي العلة والمعلول.
2 ـ التصديق ومصدره الأساسي
والتصديق هو ما ينطوي على حكم، ويحصل به الإنسان على معرفة موضوعية، فما هو أصل المعرفة التصديقية؟
ولم يتناول الشهيد الصدر في هذه المسألة سوى مذهبين فقط هما:
1) المذهب العقلي: وهو ما ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية بصورة عامة، ويوضّح المذهب العقلي أن الحجر الأساسي للعلم هو المعلومات العقلية الأولية، وهو ما يسمى بـ(المعارف الضرورية البديهية)، وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني التي تسمى بـ(المعلومات النظرية الثانوية) الناشئة عن عملية التفكير والاستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح، والتفكير هذا هو جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة.
والعلل الأولى للمعرفة على نحوين:
أحدهما: ما كان شرطاً لكل معرفة إنسانية عامة، وهو مبدأ عدم التناقض؛ لأنه إن جاز التناقض جاز أن تكون القضية التي نبرهن على صدقها كاذبة.
والنحو الثاني: هو سائر المعارف الضرورية التي تكون كل واحدة منها سبباً لطائفة من المعلومات.
وبموجب هذه النظرية يصبح ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة، فيتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا على خلاف المذهب التجريبي الذي يبعد الميتافيزيقيا عن مجال البحث لعدم خضوعها للتجربة، على اعتبارها المقياس الأساسي الوحيد كما يزعم المذهب التجريبي.
والسير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا خاصة من الكليات إلى الجزئيات حتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة على عكس ذلك، وهو ما لم يقل به المذهب التجريبي بل قال بعكسه، ولابد من التنبيه على أن المذهب العقلي لا يتجاهل دور التجربة الجبار في المعارف البشرية، ولكنه يعتقد أن التجربة وحدها غير كافية، ولابد من تطبيق القوانين العقلية الضرورية.
2) المذهب التجريبي: ويقول إن التجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف البشرية، من أجل ذلك يعتمد هذا المذهب الطريقة الاستقرائية (طريقة الصعود من الجزئي إلى الكلي)، ويرفض الاستدلال القياسي السائر من العام إلى الخاص؛ لأنه لا يؤدي إلى نتيجة جديدة، بل نتيجته محتواة في المقدمة، ففيه مغالطة ومصادرة على المطلوب. ولكننا نجد أنفسنا مضطرين إلى رفض المذهب التجريبي للأسباب الآتية:
أولاً: إن قاعدة هذا المذهب القائلة: (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة) على اعتبار صحتها خاضعة للتساؤل عن سبب إيمان التجريبيين بها؟ فإن تأكدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني أنها بديهية مما يعني أن الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وإن تأكدوا من صوابها بتجربة سابقة فهذا مستحيل؛ لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها.
ثانياً: إن المذهب التجريبي عاجز عن إثبات المادة ذاتها، وإن ما يثبته هو ظواهر المادة وأعراضها، فالسند الوحيد لإثبات جوهر المادة ذاتها هو المعارف العقلية الأولية، ولهذا أنكر عدة من الفلاسفة التجريبيين وجود المادة.
ثالثاً: إن الاستحالة ۔ بمعنى عدم إمكان وجود الشيء ۔ ليس مما يدخل في نطاق التجربة، وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلّل عليه هو عدم وجود أشياء معينة، ولكن عدم وجوده لا يعني استحالته، فالإيمان بمفهوم الاستحالة مستند إلى معرفة عقلية مستقلة، وأما إنكاره فيعني عدم استحالة التناقض كوجود الشيء وعدمه، مما يؤدي إلى انهيار جميع المعارف والعلوم.
رابعاً: كذلك مبدأ العلية لا يمكن إثباته عن طريق المذهب التجريبي، وحسبه أنه يوضّح لنا فقط التعاقب بين ظواهر معيّنة، أما الضرورة القائمة بين العلة والمعلول فلا تكشفها وسائل التجربة مهما تطورت وتكررت، وإذا انهار مبدأ العلية انهارت جميع العلوم الطبيعية.
ومن جهة أخرى فإن جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدة معارف عقلية لا تخضع للتجربة، بل يؤمن بها العقل إيماناً مباشراً وهي:
1) مبدأ العلية بمعنى امتناع الصدفة؛ ذلك أن الصدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالم الطبيعي أن يصل إلى تعليل مشترك للظواهر المتعددة التي ظهرت في تجاربه.
2) مبدأ الانسجام بين العلة والمعلول الذي يقرر أن الأمور المتماثلة في الحقيقة لابد أن تكون مستندة إلى علة مشتركة.
3) مبدأ عدم التناقض الحاكم باستحالة صدق النفي والإثبات معاً.
ويخلص الصدر؟ره؟ من ذلك إلى أن المذهب العقلي هو وحده المذهب الذي يستطيع أن يحل مشكلة تعليل المعرفة، ويضع لها مقاييسها ومبادئها الأولية، وهذا هو أساس (فلسفتنا الإلهية) كما يقول. وإذا حاول التجريبيون بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا فلسفتنا فهم ينسفون بذلك الأسس التي تقوم عليها العلوم الطبيعية، ولا تثمر بدونها التجارب الحسية شيئاً.
ولمعترض أن يقول: إن المعلومات الأولية إذا كانت عقلية وضرورية فلماذا لا يحصل عليها الإنسان إلا في مرحلة متأخرة عن ولادته، ولا توجد معه منذ البداية؟
والواقع أن العقليين حين يقررون أن تلك المبادئ ضرورية في العقل البشري يعنون بذلك أن الذهن إذا تصور المعاني ۔ وتصور المعاني هو الذي يتأخر لا المبادئ الضرورية ۔ التي تربط بينها تلك المبادئ فهو يستنبط المبدأ الضروري الأول دون حاجة إلى سبب خارجي.
إذن فالنفس الإنسانية بذاتها تنطوي بالقوة على تلك المعارف الأولية، وبتصور المعاني والحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.
ونؤكد هنا أن استبعاد المعارف العقلية المستقلة عن التجربة سيكون سبباً لاستحالة تخطي دور الإحساس إلى دور النظرية والاستنتاج.
2 ـ المعرفة قيمة
والمراد بقيمة المعرفة هنا إمكان كشفها عن الحقيقة، وتبيّن ما إذا كانت الإنسانية قادرة على الوصول إلى واقع موضوعي بما تملك من طاقات ومعارف.
فقد زعمت الفلسفة الماركسية إيماناً بإمكان معرفة العالم معرفة حقيقية وموضوعية، ورفضت الشك والسفسطة التي تقوم عليها فلسفة (كانت)، فهل تستطيع الماركسية التي تفكّر بطريقة ديالكتيكية أن تثبت زعمها هذا وتتخلص من قبضة الشك والسفسطة؟ وما هي وجهة نظر الفلسفة الإسلامية في هذه المشكلة؟ ومن أجل التبين أشار العلامة الصدر بصورة سريعة إلى أهم المذاهب الفلسفية التي تناولت هذه المشكلة بالعلاج:
1) آراء اليونان: سيطرت على التفكير اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد موجة من السفسطة، وراجت فيه طريقة الجدل الذي حاول ترسيخه (غروغياس) في كتابه (اللاوجود)، وبقي الوضع هكذا حتى بزغ سقراط وأفلاطون وأرسطو بمواقفهم المضادة للسفسطة، وخلصوا إلى أن المعلومات الحسية والعقلية الأولية أو الثانوية المكتسبة بأصول منطقية هي حقائق ذات قيمة قاطعة، وقام بعد ذلك مذهب حاول التوفيق بين الاتجاهين المتعارضين سمّي بمذهب (الشك) الذي يعتبر (بيرون) أحد روّاده، ولكن مذهب اليقين سيطر أخيراً على الموقف الفلسفي حتى حوالي القرن السادس عشر الذي بعثت فيه مذاهب الشك والإنكار من جديد بسبب ما اكتشفت فيه من حقائق، وما قامت به العلوم الطبيعية من نشاطات. هنا برز (ديكارت) بفلسفة يقينية كان لها أثرها في إرجاع التيار الفلسفي إلى حد ما إلى اليقين.
2) ديكارت: من أقطاب الفلاسفة العقليين الأوربيين، بدأ الفلسفة بالشك الجانب العاصف، لأنه من الجائز أن يكون الإنسان واقعاً في رحمة قوة تهيمن على وجوده وعقله وتحاول خداعه وتظليله، ولكن (ديكارت) يستثني حقيقة واحدة تصمد في وجه عاصفة الشك وهي (فكره). فالتفكير حقيقة ثابتة على كل حال، وتكوّن هذه الحقيقة حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي الذي حاول أن يخرج به من التصور إلى الوجود من الذاتية إلى الموضوعية.
وقد عرض العلامة الصدر لمناقشة هذه النقطة، وبيّن أنها نقضت في الفلسفة الإسلامية قبل ديكارت بقرون على يد الشيخ الرئيس ابن سينا الذي نقدها بأنها لا يمكن أن تعتبر أسلوباً من أساليب الاستدلال العلمي على وجود الإنسان المفكّر ذاته، ومن ثمَّ نرى ديكارت يقيم صرح الوجود كله على نقطة واحدة وهي أن الأفكار التي خلقها الله في الإنسان تدل على حقائق موضوعية، وإلا لكان ذلك خداعاً والخداع مستحيل، وقد بيّن الصدر؟ره؟ مدى الخلط في هذه الفكرة، والمهم أن وجهة نظر ديكارت في المعرفة تتلخص في الإيمان بالقيمة القاطعة للمعارف العقلية الفطرية خاصة.
3) جون لوك: وهو الممثل الرئيسي للنظرية الحسية والتجريبية، وقد بدأ بناءه الفلسفي بإبعاد الأفكار الفطرية والإيمان بسيادة الحس على الإدراك كله، فخواص الأجسام لا سبيل لإدراكها إلا الحس.
4) المثاليون: وابتدأت المثالية دورها الأول في المصطلح الفلسفي على يد أفلاطون، في نظرية (المثل الأفلاطونية) التي أكدت على وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية والحسية معاً، ثم اتخذت المثالية في التاريخ الحديث مفهوماً آخر مختلفاً يزعزع أساس الواقع الموضوعي، ويعلن عن مذهب جديد في نظرية المعرفة الإنسانية تلغي به قيمتها الفلسفية، وقد كان للمثالية الجديدة صياغات واتجاهات عديدة تناول العلامة الصدر بالدراسة منها ثلاثة اتجاهات:
أ) المثالية الفلسفية: ورائدها (باركلي)، وجوهر المثالية يتلخص في عبارته المشهورة (أن يوجد هو أن يُدرِك أو أن يُدرَك)، وأما الأشياء المستقلة عن حيز الإدراك ۔ الأشياء الموضوعية ۔ فليست موجودة لأنها ليست مدركة.
ب) المثالية الفيزيائية: إن المفهوم الفيزيائي القائل: (إن الطبيعة واقع موضوعي مادي يحكمه نظام آلي كامل) لم يصمد لكشوف العلمية الحديثة، مما أدى إلى ظهور الاتجاه المثالي الفيزيائي الذي قال: ما دام العلم يقدّم في كل يوم براهين جديدة ضد القيمة الموضوعية للمعرفة البشرية، وضد الصفة المادية للعالم، فليست الذرات أو البنيات الأساسية للمادة بعد أن تبخرت على ضوء العلم إلا طرقاً مناسبة للتعبير عن الفكر.
ج) المثالية الفيزيولوجية: وتعتمد – في زعم أربابها – على الحقائق الفيزيولوجية العضوية، التي يكشفها العلم.
5) أنصار الشك الحديث: الذين حاولوا تقديمه كحل للتناقض القائم بين المثالية والواقعية، إن صح أن يعتبر الاستسلام إلى الشك حلاً لهذا التناقض، وكان بسبب ذلك صورة مخففة عن المثالية، ومن أنصار هذا المذهب (دافيد هيوم) الذي لم يزد على حجج (باركلي) شيئاً سوى زيادة الشك والعبث بالحقائق، فلم يقف شكيته عند المادة الخارجية بل أطاح بالحقيقتين اللتين احتفظ بهما (باركلي) وهما ۔ الله والنفس ۔ تمشياً مع المبدأ الحسي إلى النهاية.
6) النسبيون: تقول النسبية بوجود الحقيقة وإمكان المعرفة البشرية، ولكن هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن للفكر الإنساني أن يظفر بها هي معرفة أو حقيقة نسبية، بمعنى أنها ليست خالصة من الشوائب الذاتية المطلقة، وفي النسبية اتجاهان رئيسان يختلفان في معنى النسبية وحدودها في العلوم البشرية:
أ) نسبية (عمانوئيل كانت): تتلخص نظريته المعرفية في تقسيم المعارف العقلية والأحكام إلى ثلاث وظائف:
الأولى: الرياضيات وأحكامها تركيبية أولية، وهي ذات قيمة مطلقة.
الثانية: الطبيعيات التي تدخل في نطاق التجربة وأحكامها تركيبية ثانوية، والحقيقة فيها لا يمكن أن تكون أكثر من حقيقة نسبية.
الثالثة: الميتافيزيقيا وموضوعاتها لا يمكن أن توجد بها معرفة صحيحة لا على الأساس التركيبي الأولي ولا التركيب الثانوي.
ب) النسبية الذاتية: وأنصارها هم الذين يؤكدون على الطابع النسبي في جميع الحقائق التي تبدو للإنسان الأمر الذي تقتضيه ظروف الإدراك وشرائطه.
* الشك العلمي: لقد نشأت نظريات علمية في حقول أخرى غير حقل الفيزياء والطبيعة أدّت حتماً إلى الشك والقول بإنكار قيمة المعرفة البشرية بالرغم من أن بعض أصحابها لم يقصدوا الوصول إلى هذه النتيجة، بل ظلّوا مؤمنين بقيمة المعرفة وموضوعيتها، ولذلك سميت النتائج الصادرة عنها باسم الشك العلمي، لأنها علمية، أو ذات مظهر علمي على أقل تقدير، ومن أهم تلك النظريات:
1 ۔ السلوكية التي تفسّر علم النفس على أساس الفسلجة.
2 ۔ مذهب التحليل النفسي عند فرويد.
3 ۔ المادية التاريخية التي تحدّد آراء الماركسية في علم التاريخ.
وفي حدود العلاقة بين تلك النظريات استطاع الشهيد الصدر أن يقول: إن البرهنة ضد المعرفة البشرية وقيمتها الموضوعية بنظرية علمية تنطوي على تناقض، وبالتالي على استحالة فاضحة، لأن النظرية العلمية التي تُقدّم ضد المعرفة البشرية ولإزالة الثقة بها سوف تحكم على ذاتها أيضاً وتنسف أساسها لأنها ليست إلا إحدى تلك المعارف التي تحاربها وتشك وتنكر قيمتها، ولذلك كان من المستحيل أن تتخذ النظرية العلمية دليلاً على الشك الفلسفي ومبرراً لتجريد المعرفة من قيمتها.
* النسبية التطورية: التي تبنّتها الماركسية
ذكرنا ۔ سابقاً ۔ أن الماركسيين أو الماديين الديالكتيكيين حاولوا إبعاد فلسفتهم عن الشك والسفسطة فرفضوا المثالية والنسبية الذاتية، وأكدوا على إنكار المعرفة الحقيقية للعالم، فظهرت نظرية المعرفة على أيديهم في إطار من اليقين الفلسفي المرتكز على أسس النظرية الحسية والمذهب التجريبي، فماذا رصدوا لهذا المشروع الضخم والتصميم الفلسفي الجبار؟ كان رصيدهم هو التجربة لتفنيد المثالية، وكان رصيدهم هو الحركة لرفض النسبية، وبعد أن سرد العلامة الصدر عدداً من أقوال الماركسيين التي كوّنت كلاً من الرصيدين خلص إلى آراء ثلاثة يرتبط بعضها ببعض كل الارتباط لخّصت معالم النسبية التطورية عند الماركسيين:
1 ۔ إن الحقيقة في نمو وتطور يعكس نمو الواقع وتطوره.
2 ۔ إن الحقيقة والخطأ يمكن أن يجتمعا في فكرة واحدة، وليس هناك تعارض مطلق بين الخطأ والحقيقة، كما يؤمن به المنطق الشكلي على حد تعبير (كيدروف).
3 ۔ إن أي حكم مهما كانت حقيقته واضحة فهو ينطوي على تناقض خاص، وبالتالي على جانب من الخطأ، وهذا التناقض هو الذي يجعل المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل.
ويثير الصدر على كل فقرة هنا تساؤلاً ويجيب عنه، ونحن نورده باختصار:
1) هل الحقيقة القائمة في فكر الإنسان تتطور وتتكامل حقيقة؟ والجواب بعد الدراسة والمناقشة: أن الحقيقة مطلقة غير متطورة، وإن كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطوراً ومتحركاً على الدوام.
2) هل يمكن للحقيقة أن تجتمع مع الخطأ؟ والجواب بعد التفحص والتمحيص: أن الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقة وخطأ.
3) هل تحتوي كل حقيقة على نقيضها وتنمو بهذا التناقض الداخلي؟ والجواب الناتج عن تفكر وتمعن: أن إجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشك المطلق في كل حقيقة ما دامت في تغيير وتحرك مستمرين، بل يحكم على نفسه بالإعدام والتغير أيضاً؛ لأنه بذاته من تلك الحقائق التي يجب أن تتغير بحكم منطقة التطوري الخاص، وفي نهاية الأمر يشير الصدر إلى أن الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية، وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيتها فإنها قد انتكست في أحضان الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي وقررت أنه من المستحيل للفلسفة مثلاً أن تتخلص من الطابع الطبقي والحزبي، حتى قال موريس كونفورت: (كانت الفلسفة دوماً تعبّر ولا تستطيع إلا أن تعبّر عن وجهة نظر طبقية).
3 ـ معالم معرفة نتبناها
حدد الشهيد الصدر من خلال ما تقدّم من دراسات الخطوط والمعالم العريضة لمذهب الفلسفة الإسلامية في نظرية المعرفة وذلك عبر محاور ثلاثة:
المحور الأول:
إن الإدراك البشري على قسمين: أحدهما التصور، والآخر التصديق، وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية؛ لأنه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن ۔ إذا جرِّد عن كل إضافة ۔ على وجود الشيء موضوعياً خارج الإدراك، وإنما الذي يملك خاصة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية، فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.
المحور الثاني:
وفيه ثلاثة نقاط:
1) إن مردّ المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف أساسية ضرورية لا يمكن إثبات ضرورتها بالدليل أو إثبات صحتها بالبرهان، وإنما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية، والمبادئ الرياضية الأولية، فهي الأضواء العقلية الأولى.
2) إن قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية الأساسية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها، لذا فلا يمكن إعطاء نظرية علمية صفة قطعية إلا إذا استوعبت التجربة كل إمكانيات المسألة، وتناهت في الدقة والسعة، وهذا ما يتعذر في الغالب القيام به.
3) في المجالات غير التجريبية ۔ كالميتافيزيقيا والرياضيات ۔ ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، وتكون النتائج فيها قطعية؛ لأن التطبيق فيها يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت بصورة مستقلة عن التجربة، وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقيا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها، ونقول: (في كثير من مجالاتها)، لأن استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقف على التجربة أيضاً، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.
المحور الثالث:
والمسألة هنا هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية ۔ فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة ۔ والواقع الموضوعي الذي صدقنا بوجوده من ورائها.
والجواب على هذه المسألة هو أن الصورة الذهنية التي نكوّنها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتين:
1 ۔ فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاص في ذهننا.
2 ۔ وهذه الصورة هي من ناحية أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً، لأنها لا تملك الخصائص التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية والنشاط.
وبذلك نستطيع أن نحدّد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الذاتية، أي المأخوذة من الواقع الموضوعي، والتي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود.
وأخيراً
ذلكم هو (الصدر) في تحديد ملامح (المعرفة) حاول جاهداً أن يسقيها من معين الإسلام، وسعى دؤوباً إلى رصدها وتشكيلها تشكيلاً قائماً على استعداد الإنسان وتركيبة عقله المتميزة.
كما أنه استطاع – وبإتقان – المرور الواعي على سائر وجهات النظر الأخرى للمعرفة، منتقداً والنقد محقق، وموجّهاً والتوجيه لائق.
رحم الله (الصدر) إماماً عارفاً عالماً، صاغ الفلسفة وفق معطيات الإيمان، وبيّن (المعرفة) التي توصل إلى الديّان، فنعم العمل عمله، ونسأل الله أن يجزيه عنا وعن طلاب المعرفة كل خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.