نظرية المعرفة والتوالد الذاتي عند السيد الشهيد الصدر

الدكتور علي التميمي الجوازري

باحث في الفكر الإسلامي

المقدمة

المذهب الذاتي: هو المذهب الثالث في نظرية المعرفة الذي قام بدارسة الدليل الاستقرائي مع المذهبين الذين سبقاه، وهما المذهب العقلي في المعرفة الذي يقوده أرسطو المعلم الأول، والمذهب التجريبي في المعرفة الذي نادى به جمهرة من الفلاسفة المحدثين على رأسهم جون ستيوارت ميل الإنكليزي وديفيد هيوم الذي يتجه اتجاهاً سيكولوجياً في المذهب التجريبي والدكتور زكي نجيب محمود المصري ونزعته الترجيحية، وظل المذهب العقلي لأرسطو يقود نظرية المعرفة عبر مقولة التوالد الموضوعي لآلاف السنين، حتى جاء فيلسوفنا محمد باقر الصدر تولد (1313ق) الموافق (1933م) ليكتشف المذهب الذاتي في نظرية المعرفة ويدافع عن نظريته بقوة البيان الفلسفي وصحة الاستنتاج الرياضي وسلامة المنطق الذي ينظّم الفكر البشري. ولم يتوقف السيد الصدر عند مناقشة التوالد الموضوعي في نظرية المعرفة وبيان الثغرة الفكرية فيه، وإنما قام بدارسة الفكر الأرسطي عموماً ابتداءً من مفهومه عن الاستنباط والاستقراء وألغى تقسيم الاستقراء إلى استقراء كامل وناقص حسب منهجة أرسطو وناقش نظرية المعرفة بتفاصيلها الفكرية، الرياضية والمنطقية والفلسفية، ودرس القضايا العقلية القبلية وموقف أرسطو منها وبين ما هو قضية عقلية قبلية أولية وما هو ليس كذلك عند أرسطو واختلف معه في كثير من المواقف ابتداءً من مبدأ عدم التناقض وتفسير أرسطو للبرهان وتقسيماته للاستقراء إلى كامل وناقص وتأكيد السيد الصدر كما سوف يأتي في بيان أفكاره أن الاستقراء الناقص فقط هو الذي يسير دليله من الخاص إلى العام خلافاً لمقولة أرسطو في هذا الصدد.

ثم درس العلم الإجمالي والسببية ونظرية الاحتمال ووضع تعريفاً جديداً للاحتمال، ودرس المذهب التجريبي بمدارسه الثلاثة اليقينية والترجيحية والسيكولوجية وأظهر الثغرات الفكرية الفلسفية في مبانيها جميعاً ورد مقولتها في أن التجربة والحس هما المصدر الأساس للمعرفة البشرية في الوقت الذي لم ينكر دور التجربة والحس في المجال العلمي والمعرفي وناقش (جون ستيوارت ميل) و(ديفيد هيوم) و(زكي نجيب محمود) و(لابلاس) و(يرني) و(راسل)، وقيل ذلك ناقش ابن سينا والطوسي من الفلاسفة المسلمين وقاد معهم دفة الحوار الفلسفي الممتع كما سوف نرى بثقة الفيلسوف العارف والمؤمن الواثق بربه وبدينه وبأفكاره، واستعمل في كل ذلك لغة العلم والأدب واستعان بالرياضيات والمنطق ونظريات الفسلجة الحديثة والكيمياء والفيزياء الذرية والبيولوجيا وكان في كل ذلك فارساً رائداً يعرف أين يضع قلمه وكيف يصوغ أفكاره وماذا يريد من محاوره وماذا يطمح أن يقدم لقارئه، ولم ينس أن يجعل من أطروحته هذه عبر إعادة دراسة وصياغة نظرية المعرفة، أن يجعلها ملحمة للفكر الإيماني وساحة من ساحات الجهاد والفتوح ربط فيها العلية بالخالق والاستقراء بالتوازن الفكري الموصل إلى آفاق الإيمان، ليجعل ملحمة الفكر هي ملحمة الفكر الموسوعي الذي يكون شاهداً على المتحاورين في كل عصر وفي كل مكان، حتى ليحق لنا أن جازت التسميات السابقة بحق الفلاسفة والمفكرين أن نسمي السيد الصدر بالمعلم الرابع بعد أن سُمّي أرسطو المعلم الأول والفارابي بالمعلم الثاني والمحقق الداماد بالمعلم الثالث، لا بل إن اكتشافات السيد محمد باقر الصدر وقدرته على إعادة صياغة نظرية المعرفة بكل مصادرها وملاحمها الفلسفية والمنطقية والرياضية تجعله يحتل مكان الصدارة في الأستاذية والمستشارية المعرفية لأهل الرأي والفكر المعرفي.

الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي

التوالد الذاتي: هو مذهب السيد محمدباقر حيدر الصدر في نظرية المعرفة وهو المذهب الثالث من المذاهب التي تعرضت لشرح نظرية المعرفة أولهما المذهب العقلي وثانيهما المذهب التجريبي.

ويقول السيد الصدر في هذا الصدد:

إن المذهب الذاتي هو اتجاه جديد في نظرية المعرفة، يختلف عن كل من الاتجاهين التقليديين اللذين يمثلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي.[1]

والتمييز الأساسي بين هذه المذاهب الثلاثة على النحو التالي:

توجد نقطتان رئيسيتان في تفسير المعرفة البشرية:

الأولى: تحديد المصدر الأساسي للمعرفة، فالتجريبيون يؤمنون بأن التجربة والخبرة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، والعقليون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها العقل بصورة قبلية، ومستقلة عن الحس والتجربة، وأن هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشرية، والمذهب الذاتي يتفق في هذه النقطة مع المذهب العقلي.

أما النقطة الثانية: فهي في تفسير نمو المعرفة، بمعنى آخر أن هذه المعارف القبلية الأولية كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟

وفي هذه النقطة يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي والذي أحب من الآن فصاعداً أسميه بالمذهب الموضوعي؛ لأن كلا المذهبين هما من المذاهب العقلية، ولكنهما يختلفان في التفاصيل التي تخص نحو المعرفة البشرية؛ ولهذا الاختلاف سوف نقوم بشرح المذهب الذاتي.

فالمذهب العقلي الموضوعي لا يعترف إلا بطريقة واحدة لنمو المعرفة وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي أن في الفكر طريقتين لنمو المعرفة، إحداهما: التوالد الموضوعي والأخرى: التوالد الذاتي.[2]

والفرق بين الموضوعي والذاتي هو الفرق بين الإدراك وهو الذاتي والموضوع المدرك وهو الموضوعي، والتوالد الموضوعي يعني أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا بأن زيداً إنسان، وأن كل إنسان فانٍ، تتولد منها معرفة بـ (أن زيداً فان) وهذا التوالد موضوعي؛ لأنه نابع من التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. وهذا التوالد هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي؛ لأن النتيجة دائماً ملازمة للمقدمات في القياس.

والتوالد الذاتي يعني: أنه بالإمكان أن ينشأ ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أن تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التلازم والتوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين.

فالتلازم هنا هو بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وهذا التلازم غير تابعٍ للتلازم بين الجانبين الموضوعيين.

والمذهب العقلي الموضوعي ذهب إلى أن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول:

إن الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: أن (أ) و(ب) اقترنا باستمرار على خط طويل.

وعلى هذا، فالمذهب العقلي يفسر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها: إما معارف أولية تعبّر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية، وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي.

بينما يذهب المذهب الذاتي إلى أن الجزء الأكبر من تلك العلوم والمعارف مستنتج من معارفنا الأولية بطريقة التوالد الذاتي.

فهناك معارف عقلية أولية قبلية مثل: مبدأ عدم التناقض ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي نظريات الهندسة الإقليدية.

ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي: كل التعميمات الاستقرائية.[3]

وقد استطاع المذهب الذاتي الذي يقوده السيد محمد باقر الصدر من أن يبرهن لأنصار المذهب العقلي الموضوعي على أن طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارف ثانوية، بل يستعمل إلى جانبها أيضاً طريقة التوالد الذاتي؛ لأن العلم الاستقرائي لا يمكن أن يكون نتيجة للتوالد الموضوعي؛ لأنه في نظر المذهب الذاتي أن الرأي الأرسطي أخطأ في الاعتقاد بطابع عقلي قبلي لقضية ليست من القضايا العقلية القبلية، وكذلك أخطأ في الاعتقاد بحاجة الدليل الاستقرائي إلى مصادرات قبلية أيضاً.[4]

وقد سجل السيد الصدر بجدارة سبعة اعتراضات منطقية على العلم الإجمالي الأرسطي والمبدأ الأرسطي وكشف أن هذا المبدأ غير عقلي ولا قبلي، وبالتالي عدم كونه الأساس المنطقي للاستدلالات الاستقرائية.

١. فالاعتراض الأول يقوم على أساس عدم تفسير العلم الإجمالي على أساس التمانع والتضاد بين الصدف النسبية.

٢. والاعتراض الثاني أن التمانع والتضاد بين الأشياء لا يوجد جميعه نتيجة للتمانع والتضاد بهما.

٣. والاعتراض الثالث: أن العلم الإجمالي الذي يمثله المبدأ الأرسطي ليس قائماً على التشابه والاشتباه.

۴. والاعتراض الرابع: عدم وجود علم إجمالي قبلي قائم على أساس التشابه والاشتباه.

۵. والاعتراض الخامس: الصدفة لا تتكرر على خط طويل إذا كان موجوداً لدينا حقاً علم إجمالي لأنه ليس علماً قبلياً.

۶. الاعتراض السادس: الاعتقاد الاستقرائي بسببية (م) لـ (ب) يتناسب عكسياً مع مقدار احتمالات وجود (ت) في التجارب الناجحة.

٧. الاعتراض السابع: أن العلم الإجمالي ليس علماً عقلياً معطى لنا بصورة مباشرة، بل هو وليد عدد كبير من الاحتمالات.[5]

ثم أوضح السيد الصدر: أن الخطأ في إدراك قضية ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي يستند دائماً إلى الخطأ في إحدى القضايا (المقدمات) التي ساهمت في توليد تلك القضية الجديدة، فإما أن يكون الخطأ في قضايا من الفئة الأولى، أو في قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية.

وضرب مثالاً لذلك مثال (النفط سائل)، فإذا قلنا أن كل سائل يتبخر بدرجة مائة من الحرارة، وكلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت عناصر تلك الفئة تتصف بصفة، فإن ذلك يستلزم أن يتصف ذلك الشيء بتلك الصفة. واستنتجنا من ذلك أن النفط يتبخر بدرجة مائة، كانت النتيجة خطأ؛ لأن القضية الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خطأ.[6]

ثم بيّن السيد الصدر أن هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتياً لا يمكن إخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا، إذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على أساس التلازم؛ لأن التوالد ذاتي، وليس موضوعياً.

ثم يستدرك السيد الصدر بأن هذا لا يمكن أن يكون سبباً لأي استدلال خاطئ، بل ما يقصده السيد الصدر هو أن جزءً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقل لم يتكون على أساس التوالد الموضوعي، وإنما تكوّن على أساس التوالد الذاتي.

والسيد الصدر يذهب بعيداً في الفور في أعماق الفكرة ويقول إن المنطق الأرسطي ببناءه المعروف لا يستطيع الإجابة على ذلك. ولذلك فنحن بحاجة إلى منطق جديد، إلى منطق ذاتي يكتشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة. لذلك يذهب إلى سرد هذه النقطة الجوهرية بالطريقة التالية:

حيث يقول: أن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين؛ إذ تبدأ مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نحو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين.

ويمكن بيان ذلك بالمخطط التالي:

معارف ثانوية ! توالد موضوعي ! نمو الاحتمال ! احتمال كبير جداً ! توالد ذاتي ! تصعيد الاحتمال الكبير جداً! اليقيني

والسيد الصدر يذهب بعد ذلك إلى اعتبار التعميمات الاستقرائية كلها تمر بهذين المرحلتين ففي مرحلة التوالد الموضوعي يتخذ الدليل الاستقرائي مناهج الاستنباط العقلي، وينمي باستمرار درجة احتمال القضية الاستقرائية على أساس موضوعي، وفي المرحلة الثانية يتخلى الدليل الاستقرائي عن منهجه الاستنباطي وطريقته في التوالد الموضوعي، ويصطنع طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين،[7] ولهذا قام السيد الصدر بشرح نظرية الاحتمال وإعادة صياغتها بما يتلائم مع المنطق الجديد الذي دعا إليه وبشّر به في خلال شرحه للمذهب الذاتي. فقد قام بتفسير الاحتمال تفسيراً منطقياً، ودرس بديهيات الاحتمال، قواعد حساب الاحتمال.

وبيّن أن البديهيات الست للاحتمال يجب أن تلاحظ عند تفسير الاحتمال وأن تعطى مفهوماً تصدق عليه تلك البديهيات[8]، ثم استعرض قواعد حساب الاحتمالات وهي كالتالي:

١. قاعدة الجمع في الاحتمالات المتنافية:

وهنا بيّن بما أن اجتماع حادثتين غير محتمل في النتائج المتنافية، فيصدق أن احتمال إحدى الحادثتين يساوي مجموع الاحتمالين. وبين أن هذا تطبيقاً للبديهية السادسة (بديهة الانفصال).

٢. مجموع الاحتمالات في المجموعة المتكاملة يساوي واحداً:

وفي ذلك قرر أن مجموع احتمالات الحالات المتكاملة يساوي واحداً صحيحاً. وذلك حينما نقذف قطعة النقد نعتبر حالة ظهور الصورة وحالة ظهور الكتابة مجموعة متكاملة؛ لأن إحدى الحالتين لابد أن تظهر ولا يمكن أن تظهر أكثر من حالة واحدة.

٣. قاعدة الجمع في الاحتمالات غير المتنافية:

ونضرب لها مثال: إذا كانت لدينا حالتان هما (p) و(ب) محتملتان وكان من المحتمل اجتماع الحالتين معاً وأردنا أن نعرف قيمة احتمال (p) أو (ب) فليس بالإمكان أن نحدد قيمة هذا الاحتمال عن طريق جمع قيمة احتمال (p) مع قيمة احتمال (ب) كما كنا نضع في الحالات المتنافية؛ لأن احتمال المجموع موجود هنا، وهو يدخل في كل من احتمال (p) واحتمال (ب)، فلابد أن نطرح قيمة احتمال المجموع من مجموع قيمتي الاحتمالين لكي تصل إلى قيمة احتمال (p) أو (ب).

۴. قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة:

ومعنى ذلك أن كل احتمال يتأثر بافتراض صدق احتمال آخر يسمى (احتمالاً مشروطاً).

۵. قاعدة الضرب في الاحتمالات المستقلة:

وهي الاحتمالات غير المشروطة التي لا يتأثر بعضها بافتراض صدق البعض الآخر، من قبيل نجاح خالد في المنطق واحتمال أن ينجح زيد في الرياضيات، فإن قيمة احتمال نجاح زيد في الرياضيات تساوي قيمة احتمال نجاحه على افتراض نجاح خالد، ويسمى هذا النوع من الاحتمالات بـ (الاحتمالات المستقلة).

۶. مبدأ الاحتمال العكسي:

أي أن احتمال تفوّق طالب في الفيزياء على أساس الظروف العامة وافتراض تفوقه في الرياضيات يساوي احتمال تفوقه في الفيزياء على أساس الظروف العامة مضروباً في احتمال تفوقه في الرياضيات على أساس الظروف العامة، وافتراض تفوقه في الفيزياء مقسوماً احتمال تفوقه في الرياضيات على أساس الظروف العامة، وهذه المعادلة اللازمة عن بديهية الاتصال تسمى بـ (مبدأ الاحتمال العكسي).

فعن طريق الاحتمال العكسي حددت قيمة احتمال نظرية الجاذبية بعد اكتشاف (نبتون).

ثم بعد ذلك بدأ السيد الصدر بتعريف الاحتمال وتفسيره لتنطبق عليه تلك البديهيات التي تحدثنا عنها.

فالاحتمال لديه عبارة عن نسبة الحالات الموافقة للحادثة المطلوبة.[9]

وأوضح بأن هذا التعريف تنشأ عنه مشكلتان، هما:

المشكلة الأولى: هي أن البديهيات لنظرية الاحتمال غير كافية لتبرير الاحتمال بمعناه الذي يحدده التعريف على هذا الأساس، وقد عالج السيد الصدر هذه المشكلة بطريقين هما:

١. أنه أضاف إلى بديهيات نظرية الاحتمال بديهية أخرى تقول: إن الحالات الممكنة إذا كانت متساوية في نسبتها إلى (س) فسوف تتساوى تلك الحالات في قيمها الاحتمالية بالنسبة إلى (س).

٢. أن تطور من معنى الاحتمال الذي يستهدف التعريف تحديده، وننتزع منه عنصر الشك، ونقصد به النسبة الموضوعية بين الحالات المرافقة لـ (ل) ومجموع الحالات الممكنة، فلا نحتاج بعد ذلك إلى بديهية أخرى.

وهذا يعني أن لدينا احتمالين: أحدهما الاحتمال الواقعي، وهو معنى يستبطن التصديق، والآخر الاحتمال الرياضي وهو عبارة عن نسبية الحالات المرافقة لـ (ل) في مجموع الحالات.

المشكلة الثانية: وهي ترتبط بالتفسير المتساوي. وذهب السيد الصدر إلى تفسير هذا التساوي واعتبر أن هذا التساوي النسبي أن هناك علاقة بين كل حالة من الحالات الممكنة (س) وأن هذه العلاقة لها درجات. وهنا لابد من أن يحاول السيد الصدر تفسير العلاقة التي تربط (س) بكل حالة من الحالات الممكنة بدون افتراض الاحتمال في محتوى تلك العلاقة، وهذا يعني أن العلاقة يجب أن تكون ثابتة بصورة مستقلة في عالم الاحتمال واليقين وقائمة بصورة موضوعية بين قضيتين.

ثم يستطرد الشهيد الصدر فيقول في معرض شرحه لهذه النقطة الفكرية يقول:

إننا في النهاية نجد أنفسنا أمام علاقتين هما: 1۔ علاقة الاحتمال. 2۔ علاقة الإمكان؛ لا يمكن تفسير التساوي المفترض في التعريف على أساس أي واحدة منهما، فلا علاقة الاحتمال الذاتية تصلح أساساً للتساوي المفترض؛ لأن هذا يجعل التعريف يفرض الاحتمال بصورة مسبقة، ولا علاقة الإمكان الموضوعية تصلح أساساً للتساوي المفترض؛ لأن هذه العلاقة ليس لها درجات.[10]

تعريف الاحتمال على أساس التكرار (نظرية التكرار المتناهي)

وأخذ السيد الصدر على عاتقه التصدي لهذه النظرية ودراسة إمكانية التعريف الجديد للاحتمال قامت على أساسه هذه النظرية ليتعرف على إمكانية التخلص من المشاكل التي واجهت التعريف السابق أم لا؟

وهذا التعريف يتعرض إلى فئتين مثلاً فئة العراقيين وفئة الأذكياء وهما كلييان لكل منهما أعضاؤهما وأفرادهما الموجودة فعلاً، فهناك فعلاً عراقيون، وهناك فعلاً أذكياء، وهناك فئة ثالثة هي فئة العراقيين الأذكياء تشتمل على الأعضاء الداخلين في كلا الفئتين فعلاً. والسيد الصدر يرى أن هذا التعريف يفي ببديهيات الاحتمال المتقدمة، كما أنه يتخلص من الاعتراضات التي أثيرت ضد التعريف السابق.

ولكن هذا التعريف يقول السيد الصدر إنه يواجه اعتراضاً جديداً وهو أنه لا يشمل كل المجالات التي يمكن للاحتمال الرياضي أن يمتد إليها، بمعنى أن هناك مجالات يمكن فيها تحديد الاحتمال رياضية ولا يشملها التعريف فيعتبر من هذه الناحية ناقصاً. ولذلك رأى السيد الشهيد الصدر أنه من الضروري دراسة الاحتمال الواقعي والاحتمال الافتراضي.

الاحتمال الواقعي والاحتمال الافتراضي

ويمكن التمييز بين الاصطلاحين من خلال العبارات التالية:

إذا أخذنا عراقياً ولا ندري هل هو ذكي أم لا فنقول من المحتمل بدرجة كذا أن يكون ذكياً.

وعبارة أخرى نفترض عراقياً ونقول: إذا كان الإنسان عراقياً فمن المحتمل بدرجة كذا أن يكون ذكياً.

فالعبارة الأولى تتحدث عن احتمال واقعي وشك حقيقي وبالإمكان إزالة هذا الاحتمال وتبديله إلى يقين بجمع المعلومات عن الفرد والعبارة الثانية تتحدث عن احتمال افتراضي أي عن يقين في صورة شك. وبهذا نعرف أننا في القضية الأولى نتحدث عن قضية مشكوك فيها لجهلنا بالظروف المحيطة، وأما القضية الثانية فنحن نتحدث عن احتمال افتراضي، فهو قضية يقينية مستنتجة من المبادئ الرياضية وبديهيات نظرية الاحتمال استنتاجاً، ولا ترتبط هذه القضية بأي درجة من الجهل، ولهذا يمكن لله سبحانه مثلاً أن يقررها كما نقررها، والسيد الصدر يرى أن الاحتمال الواقعي يشمل دائماً على قضيتين ۔وما دامت القضيتان على نهج واحد فلكل منهما الحق في تمثيل الاحتمال الرياضي۔ ولكن السيد الصدر يرى كذلك إلى أن هذه العلاقة لا يمكن استنتاجها من المبادئ المتقدمة لنظرية الاحتمال فحسب؛ لأن المبادئ المتقدمة بإمكانها أن تحدد نسبة التكرار في الذكاء.

ولكن ليس بإمكانها أن تقرر أنه في حالة اطلاعنا على أن هذا الفرد المعين عراقي وعدم اطلاعنا على أي شيء آخر لابد أن تكون درجة الاحتمال مطابقة لتلك النسبة، فلابد لاستنتاج هذا التطابق من بديهية أخرى، ولكنه يفترض الآن أن التطابق حاصل إلى أن يأتي وقت البديهية الأخرى.

ويحتاج السيد الصدر هنا إلى شرطين لتحديد أساس تعريف الاحتمال:

الأول: أن يكون عدد أعضاء (ل) المنتمين إلى (ح) في مجموع أعضاء (ل) بما فيهم (هـ) معلوماً، فإذا افترضنا أن مجموع أعضاء (ل) عشرة وأن أحدهم هو (هـ) فلابد أن نعرف أن عدد الأعضاء المنتمين من هؤلاء العشرة إلى الفئة (ح).

الثاني: أن نفترض أن أساس التعريف البديهية القائلة بالتطابق بين نسبة عدد الأعضاء المشتركة إلى مجموع أعضاء (ل) ودرجة احتمال كون (هـ) منتمياً إلى (ح).

فإذا توفر هذان الشرطان أمكن تطبيق التعريف على الاحتمال الواقعي في الحالة الأولى كما ينطبق على الاحتمال الافتراضي فيها.[11]

ويستدرك السيد الصدر إلى أن في هذا القول شيئاً من التناقض لأننا حين نتحدث عن الاحتمال الواقعي بشأن (هـ) نعني أننا لم نختبر شأن (هـ) ولم نتأكد من عضويتها لكلتا الفئتين سلباً أو إيجاباً، فإذا جعلنا الشرط الأول في تحديد هذا الاحتمال على أساس التعريف المتقدم أن تكون على علم بعدد الأعضاء المنتمين إلى (ح) في مجموعة (ل) بما فيها (هـ) كان معنى ذلك أننا قد افترضنا اختيار حال (هـ) والتأكد من انتمائه إلى (ح) إيجاباً أو سلباً، وهذا يؤدي إلى تناقض فحواه أنه لكي نحدد درجة احتمال انتماء (هـ) إلى (ح) يجب أن نتأكد أنها منتمية أو غير منتمية.

وحل هذا التناقض هو أننا في بعض الأحوال نستطيع أن نعرف عدد أعضاء فئة (ل) المنتمين إلى (ح) دون أن نشخص تلك الأعضاء في أفراد محددة، فمعرفة عدد الأعضاء المشتركة لا يجب أن تستبطن معرفة حال (هـ) والتأكد من انتمائه إلى (ح) إيجاباً أو سلباً ومن تلك الأحوال ما إذا حصلنا بعد ذلك على أي عدد كبير من أعضاء (ل) عن طريق الاستقراء، فإننا إذا حصلنا بعد ذلك على أي عدد كبير من أعضاء (ل) فسوف نعرف على أساس الاستقراء عدد الأعضاء المنتمية إلى (ح) دون أن تشخص حال كل عضو بالذات.

ثم يستعرض السيد الصدر محاولة راسل التي حاول فيها أن يثبت شمول التعريف ومن المحاورات التي أدارها في هذا الباب قوله: (إن مبدأ الاستقراء نفسه يرتكز على الاحتمال، وليس الاحتمال الذي يرتكز عليها الاستقراء تكراراً بل هو من نوع آخر رغم أن كل استقراء يشتمل على تكرار، فنحن حينما نستقرئ عدداً من أعضاء الفئة التي تنتمي إليها البيّنة الدالة على وجود زرادشت مثلاً ونلاحظ أنها صادقة بنسبة معينة نجد في هذا الاستقراء تكراراً، ولكن مبدأ الاستقراء الذي يبرر تعميم النتيجة على سائر أعضاء الفئة لا يستند إلى الاحتمال بوصفه مجرد تعبير عن هذا التكرار بل يستند إلى الاحتمال بمعنى آخر)، وسوف يقوم بتوضيحه السيد الصدر في بحوث أخرى من أطروحته حول التوالد الذاتي. ثم يقول: (إذا كان مبدأ الاستقراء يرتكز على احتمال غير تكراري فلابد من تعريف للاحتمال على هذا الأساس).

تعريف جديد للاحتمال

وحتى يستكمل السيد الصدر أطروحته حول الاحتمال بدأ بتعريف جديد يستبدل فيه التعريفين السابقين وقدم لذلك باستذكار البحث حول العلم الإجمالي وهو العلم بشيء غير محدد تحديداً كاملاً.

وقسّم العلم الإجمالي بعد ذلك إلى قسمين:

الأول: هو العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه متنافية.

الثاني: هو العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه غير متنافية.

وأوضح أنه نواجه في حالة كل علم إجمالي:

أولاً: العلم بشيء غير محدد (كلي).

ثانياً: مجموعة الأطراف التي تعتبر كل عضو فيها ممثلاً احتمالياً للمعلوم أي يحتمل أنه هو ذلك الشيء غير المحدد.

ثالثاً: مجموعة الاحتمالات التي يطابق عددها عدد مجموعة الأطراف؛ لأن كل طرف من أطراف العلم الإجمالي يحتمل أن يكون هو الممثل للمعلوم، ثم بدأ بتوضيح تعريفه للاحتمال في صيغتين:

تعريف الاحتمال: أن الاحتمال الذي يمكن تحديد قيمته هو دائماً عضو في مجموعة الاحتمالات التي تتمثل في علم من العلوم الإجمالية، وقيمته تساوي دائماً ناتج قسمة رقم اليقين على عدد أعضاء مجموعة الأطراف التي تتمثل في ذلك العلم الإجمالي.

فالاحتمال عند السيد الصدر هو تصديق بدرجة معينة ناقصة من درجات الاحتمال، وهو احتمالاً رياضياً ومنطقياً من البديهيات المفترضة لنظرية الاحتمال.

ثم بين أن هذا التعريف يشمل النقاط التالية:

  1. وفاء التعريف بالبديهيات المفترضة لنظرية الاحتمال.
  2. تذليل الصعوبات التي يمكن أن يواجهها التعريف.
  3. انسجام هذا التعريف مع الجانب الحسابي من نظرية الاحتمال.
  4. استيعاب هذا التعريف لتلك الاحتمالات التي لم يستطع تعريف الاحتمال على أساس التكرار أن يستوعبها.
  5. قائمة البديهيات الإضافية لهذا التعريف.

الضرب والحكومة في العلوم الإجمالية

وقد بيّن السيد الصدر أن هذه الحكومة يمكن أن نقدمها بوصفها البديهية الإضافية الثالثة. وأهم نتيجة تؤدي إليها هذه البديهية الإضافية الثالثة هي: أن نبرهن على الخطأ في تطبيق مبدأ الاحتمال العكسي، فإن هذا المبدأ يستبطن قاعدة الضرب.

العوامل المثبتة في الحكومة كالنافية

حيث إن القيمة الاحتمالية النافية، حاكمة على القيمة الاحتمالية المثبتة لقضية ما. والعامل الذي يضعف احتمال الطرفية يحكم على تلك القيم.

الفرضيات التي تفي ببديهية الحكومة

ويوضّح السيد الصدر أن هناك فرضيتين تفيان ببديهية الحكومة وتحققان شروطها:

الفرضية الأولى: أن يكون المعلوم بالعلم الإجمالي الأول يتصف بصفة وتكون هذه الصفة بمثابة اللازم الأعم لأحد طرفي العلم الإجمالي ولا يكون بينها وبين الطرف الآخر للعلم الإجمالي تلازم إيجابي أو سلبي بمعنى أن الطرف الآخر من المحتمل أن يكون متصفاً بها ومن المحتمل أن لا يكون متصفاً بها، ففي هذه الحالة تصبح أي قيمة احتمالية نافية لاتصاف الطرف الآخر بذلك اللازم، حاكمة على القيمة الاحتمالية المثبتة للطرف الآخر والمستمدة من العلم الإجمالي الأول.

الفرضية الثانية: أن نحصل على علم بأن المعلوم الإجمالي الأول يتصف بصفة، وهذه الصفة ليست لازمة لأي واحد من الطرفين، وإنما هي ممكنة ومحتملة في أي واحد منهما، ففي هذه الحالة تصبح أي قيمة احتمالية تنفي بدرجة أكبر ثبوت تلك الصفة أو تثبت بدرجة أكبر ثبوتها في طرف حاكمة على القيمة الاحتمالية المسبقة.

الحكومة في الأسباب والمسببات

إذا وجدنا فئتين كل واحدة منهما تشكّل مجموعة الأطراف لعلم إجمالي وكانت أعضاء الفئة الأولى أسباباً لأعضاء الفئة الثانية فالقيم الاحتمالية التي يحددها العلم الإجمالي الذي يضم الفئة الأولى حاكمة على القيم الاحتمالية التي يحددها العلم الإجمالي الذي يضم الفئة الثانية[12] وهذه الحكومة كذلك تفسر على أساس البديهية الإضافية الثالثة.

انطباق الحكومة على الواقع

وهنا يمكن القول: إن الحكومة التي تثبت لبعض القيم الاحتمالية على بعض وفقاً للبديهية الثالثة والرابعة تطابق الواقع، وهذا يعني أن الواقع يتطابق مع افتراض القيم الاحتمالية المستمدة من العلم الإجمالي في مرحلة المسببات، محكومة للقيم المستمدة من العلم الإجمالي في مرحلة الأسباب.

العلوم الإجمالية الحملية والشرطية

القضية تنقسم إلى قضية حملية وقضية شرطية، فالحملية تتحدث عن وقوع شيء أو نفيه، والشرطية تتحدث عن العلاقة الشرطية بين شيئين مثل: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار مضيء. وعلى هذا الأساس ينقسم العلم الإجمالي إلى حملي وشرطي.

العلوم الشرطية ذات الواقع المحدد

والعلوم الإجمالية الشرطية تنقسم إلى قسمين:

العلم الإجمالي الشرطي الذي يكون لشرطه جزاء معين في الواقع مثل إذا استعملت الدواء الفلاني فسيحدث في جسمي الحالة (1) أو (2) أو ثلاثة؛ فإذا سألت خبيراً أخبرني عن الحالة ما هي.

الثاني: العلم الإجمالي الشرطي الذي نفترض في جزائه بدائل متعددة ولا يوجد له في الواقع جزاء محدد عن تلك البدائل.

وهكذا يكون العلم الإجمالي الشرطي الذي يتحدث عن جزاء غير محدد في الواقع فهو في هذه الحالة لا يصلح أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال فالعلم الإجمالي الشرطي لابد أن يكون معبراً عن جزاء محدد في الواقع وهنا بدأ السيد الصدر تلخيص دراسته عن نظرية الاحتمال بالنتائج التالية:

  1. أن الاحتمال يقوم دائماً على أساس علم إجمالي.
  2. أن نظرية الاحتمال على أساس هذا التعريف تشتمل إلى جانب بديهيات الحساب الأولية على خمس بديهيات إضافية:
  3. إن العلم الإجمالي ينقسم بالتساوي على أعضاء مجموعة الأطراف التي تتمثل فيه.
  4. إذا أمكن تقسيم أحد أطراف العلم الإجمالي دون أن يناظره تقسيم للأطراف الأخرى، فهذه الأقسام إما أصلية وإما فرعية؛ فإذا كانت أصلية كان كل قسم من أقسام الطرف عضواً في مجموعة أطراف العلم الإجمالي، وإذا كانت الأقسام فرعية، فالطرف عضو واحد.
  5. القيمة الاحتمالية النافية حاكمة على المثبتة.
  6. إن التقييد المصطنع للكلي المعلوم بالعلم الإجمالي في قوة عدم التقييد.
  7. كلما كان العلم الإجمالي الشرطي يتحدث عن جزاء غير محدد في الواقع فلا يصلح أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال.

ثم بين أن البديهية الإضافية الثانية هي تحديد وتفسير لموضوع البديهية الأولى. كما أن البديهية الرابعة تقوم بتحقيق مصداق للبديهية الإضافية الثالثة.

إن قاعدة الضرب هي مستنتجة من البديهيات السابقة وإلى هنا تكون نظرية الاحتمال بكل أبعادها واضحة وهي التي سيقوم السيد الصدر بتفسير الدليل الاستقرائي باعتباره تطبيقاً بحتاً لها.

موقف السيد الصدر من المرحلة الاستنباطية (على مستوى التوالد الموضوعي)

وفي البداية يتسارع السيد الصدر لإبداء غرضه من هذا البحث وهو محاولته لإثبات أن الاستقراء يمكن أن ينمي قيمة احتمال التعميم، ويرتفع به إلى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي مستنبطاً ذلك من نفس نظرية الاحتمال وبديهياتها من دون حاجة إلى مصادرات إضافية يختص بها الدليل الاستقرائي أي أن الاستقراء عند الشهيد الصدر ما هو إلا تطبقاً للاحتمال بتعريفه وبديهياته التي مرت في بحث نظرية الاحتمال، ويمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائي بقيمة احتمالية كبيرة جداً.[13]

وهو إذ يميز طريقته عن الطرق الأخرى بكل تواضع، فهو يطرح الطرق الأخرى ويشرحها مثل محاولة (لابلاس) في تفسير الدليل الاستقرائي والتي لم تنجح في تفسيره على هذا الأساس ولم تكتشف مبرراته المنطقية.

وهناك محاولة (راسل) الفيلسوف البريطاني الذي ادّعى الحاجة إلى مصادرات خاصة، وهو رأي غالبية المفكرين المعنيين بدراسة الدليل الاستقرائي.

ومحاولة السيد الصدر تتركز في افتراض علم إجمالي يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطناً أو مستلزماً للقضية الاستقرائية فتصح القضية الاستقرائية محوراً لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الاستقرائية ولابد أن يكون العلم الإجمالي مرّت بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمن إثبات القضية الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعاً لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عملية الاستقراء، وبهذا يصبح نمو القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطرداً مع نمو الاستقراء وامتداده.

ثم ينتقل السيد الصدر إلى بيان السببية العقلية والتجريبية وبين الفارق بينهما على النحو التالي:

  1. أن السببية بالمفهوم العقلي: هي علاقة ضرورة والسببية بالمفهوم التجريبي هي علاقة اقتران أو تتابع بصورة مطردة صدفة.
  2. أن السببية بالمفهوم العقلي علاقة واحدة رئيسية بين مفهومين وارتباطات متلازمة، والسببية بالمفهوم التجريبي، تتمثل في علاقات بين الأفراد وكل علاقة تتابع بين فرد من الحرارة وفرد من الحركة فهي علاقة مستقلة عن علاقات التتابع بين الحرارة والحركات الأخرى.
  3. أن أفراد المفهوم الواحد متلازمة في علاقاتها السببية على أساس المفهوم العقلي وهو مفاد المقولة (إن الأشياء المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة).

أما مجرد التتابع أو الاقتران الذي تفسره السببية على أساسه في المفهوم التجريبي، فهو بوصفه علاقة بين فردين لا بين مفهومين فبالإمكان أن توجد هذه العلاقة لفرد دون فرد آخر مماثل له.

أما السببية الوجودية والسببية العدمية

  1. إن السببية الوجودية بالمفهوم العقلي لا تنفي إمكان الصدفة المطلقة.
  2. إن السببية الوجودية بالمفهوم التجريبي تساوي الصدفة المطلقة المتمثلة في اقتران وجود شيء بوجود شيء آخر دون أي ضرورة.
  3. إن السببية العدمية بالمفهوم العقلي تساوي استحالة الصدفة المطلقة.

وفي ضوء هذه الإيضاحات يقول السيد الصدر إننا يمكن أن نفهم المواقف القبلية الأربعة.

ففي الموقف القبلي للتطبيق الأول نفترض أنه لا يوجد أي مبرر قبلي لرفض علاقة السببية الوجودية بمفهومها العقلي بين (p) و(ب) أي للإيمان بعدمها، ونقيل في نفس الوقت السببية العدمية بمفهومها العقلي الذي يتضمن استحالة الصدفة المطلقة.

وفي الموقف القبلي للتطبيق الثاني نفترض كما في الأول أنه لا يوجد أي مبرر قبلي لرفض علاقة السببية الوجودية بمفهومها العقلي بين (p) و(ب)، وأما السببية العدمية بمفهومها العقلي، فنفترض أنه لا يوجد أي مبرر قبلي للإيمان بها، كما لا مبرر للإيمان بعدمها، وهذا يعني: الشك في إمكان الصدفة المطلقة.

وفي الموقف القبلي للتطبيق الثالث نفترض كما في الموقفين السابقين أنه لا يوجد أي مبرر قبلي لرفض علاقة السببية الوجودية بمفهومها العقلي بين (p) و(ب) للإيمان بعدمها، ولكن يوجد مبرر قبلي لرفض علاقة السببية العدمية بمفهومها العقلي، وهذا يعني الإيمان المسبق بإمكان الصدفة المطلقة، ولا تناقض بين الإيمان بإمكان الصدفة المطلقة وعدم رفض السببية الوجودية بالمفهوم العقلي.

وفي الموقف القبلي للتطبيق الرابع نفترض خلافاً للمواقف الثلاثة السابقة: إنا نملك مبرراً قبلياً لرفض علاقة السببية الوجودية بمفهومها العقلي بين (p) و(ب) أي للإيمان بعدمها فلا يوجد أي احتمال قبل الاستقراء للسببية العقلية، وإنما يحتمل قبلياً السببية بالمفهوم التجريبي لها، أي أن (p) تقترن بها أو تعقبها (ب) بصورة مطردة.[14]

ثم يمضي السيد الصدر في دراسته الجريئة للمرحلة الاستنباطية ويلخّصها على النحو التالي:

  1. إن المرحلة الأولى من الدليل الاستقرائي يمكن أن نعتبرها تطبيقاً دقيقاً لنظرية الاحتمال بالتعريف الذي اختاره، ولا يحتاج الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة إلى أي مصادرة تتوقف على ثبوت مسبق سوى مصادرات نظرية الاحتمال نفسها.
  2. إن المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي ۔ رغم عدم احتياجها إلى أي ثبوت مسبق لمصادرات أخرى إضافة إلى مصادرات نظرية الاحتمال ۔ تتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي أي للاعتقاد بعدمها، وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي إثباتاً مسبقاً؛ لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرر للرفض.

وعلى هذا الأساس يقول الشهيد الصدر: إن من يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضاً كاملاً لا يمكنه أبداً أن يفسر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية، ويبرر نمو الاحتمال بالقضية الاستقرائية. وعن هذا الطريق يقول الشهيد الصدر: .. يمكننا أن نبرهن لكل من يعترف بقيمة حقيقية للدليل الاستقرائي في تنمية الاحتمال، على أنه مضطر إلى التنازل عن المبررات القبلية لرفض علاقات السببية ونفيها.

  1. إن الدليل الاستقرائي الذي يحتاج فقط إلى افتراض عدم وجود مبرر قبلي لنفي علاقة السببية، يمكنه أن يثبت بنفسه ۔وبالطريقة العامة التي حددناها له في مرحلته الاستنباطية۔ علاقة السببية العدمية بمفهومها العقلي أي استحالة الصدفة، فالسيد الصدر يرى أن من يبدأ من احتمال استحالة الصدفة المطلقة يمكنه أن يثبت بدرجة كبيرة من الإثبات هذه الاستحالة بنفس دليل الاستقراء خلافاً لمن يبدأ من الاعتقاد بأن كل ما يوجد فهو صدفة، ويرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي، فإنه لا يمكنه أن ينمي احتمال القانون السببي بالدليل الاستقرائي.[15]

ثم حاول السيد الصدر بالدارسة المعمقة وبالبيان الرياضي والفلسفي والمنطقي أن يدحض لأي المنطق الوضعي في رفضه للسببية العقلية، فالمنطق الوضعي ليس على حق في الربط بين معنى القضية وكيفية إثبات صدقها، وبذلك يفقد المنطق الوضعي أساسه المنطقي في الرفض، وأما رفضه للدليل الفلسفي الذي يرفض السببية العقلية، فهو دعوته لأصحاب هذا الدليل أن يبدأ هذا الدليل من احتمال علاقة الضرورة بين (p) و(ب) وليس من الضروري أن يبدأ من الاعتقاد بها والتأكيد المسبق لها.

وأما حول التبرير العلمي، فقال: حتى إذا افترضنا أن العلم استطاع أن يتأكد من عدم وجود أسباب محددة تقوم على أساسها ظواهر العالم الذري وتصرفات الجسيم البسيط، فهذا لا يمنع من احتمال مبدأ السببية بالنسبة إلى عالم المركبات وما يضم من ظواهر، وبالتالي نحتفظ بالمصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بالنسبة إلى هذا العالم. وأما تجاه التبرير العملي، فقال السيد الصدر رداً على (راسل) إن القوانين الإحصائية التي تستخدمها العلوم، بدلاً عن التعميمات السببية ليست من وجهة نظر تحليلية للدليل الاستقرائي بديلاً لمبدأ السببية بمفهومه العقلي، بل إن أي قانون إحصائي هو نتيجة استقراء وتعميم استقرائي لنسبة التكرار وهذا التعميم بدوره يتوقف على افتراض مبدأ السببية العقلية ولو على مستوى الاحتمال؛ لأن كل تعميم استقرائي لا يمكن أن يستغني عن هذه المصادرة.[16]

ثم ينهي السيد الصدر هذا البحث بوضع الشروط اللازمة لإنجاح الدليل الاستقرائي وهما:

أولاً: أن تكون الألفات فئة ذات مفهوم موحد أو خاصية مشتركة وليست مجرد تجميع أعمى لأشياء متفرقة.

ثانياً: أن يلاحظ تميز الألفات التي شملتها التجربة على سائر الألفات في خاصية مشتركة أخرى.[17]

دور المرحلة الذاتية في إنتاج اليقين

ومن هنا يبدأ السيد الصدر يعطي البيانات والمفاهيم الأساسية التي تصيب في إطار التركيز على نظريته الخاصة تجاه التوالد الذاتي باعتبارها المقولة المعرفية التي هيأ لها كل الأدوات البيانية المنطقية والفلسفية والرياضية، ومن الآن بدأ بالتحضير للدخول في تجليات النظرية العملاقة التي غيرت الوجه المعرفي والفلسفي لنظرية المعرفة على مستوى الفكر البشري منذ أرسطو إلى يومنا هذا؟

والسيد الصدر يرى أن المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي لا تؤدي إلى اليقين بالسببية، ولا إلى اليقين بالتعميم الاستقرائي، وإنما تعطي قيمة احتمالية كبيرة لدرجة التصديق بتلك السببية وهذا التعميم.

والسؤال المهم الذي يواجه السيد الصدر في دراسة المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي هو هل أن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول إلى يقين في مرحلة تالية من الدليل الاستقرائي أم لا؟ ولكي يجيب السيد الصدر على هذا التساؤل المهم كعادته يلقي الضوء على المفاهيم المحيطة باصطلاح اليقين فيدرسه دراسة معمقة فهو يميز بين ثلاثة معانٍ لليقين هي:

  1. اليقين المنطقي أو الرياضي: وهو العلم بقضية معينة، فاليقين المنطقي مركب من علمين. ويعتبر من وجهة نظر منطق البرهان على العلاقة بين قضيتين بوصفها علاقة ضرورة من المستحيل أن لا تكون قائمة بينهما.

أما اليقين الرياضي فهو يندرج في اليقين المنطقي بمفهومه العام فاليقين الرياضي يستمد معناه من تضمن إحدى الدالتين في الأخرى بينما اليقين المنطقي في منطق البرهان يستمد معناه من اقتران العلم بثبوت شيء لشيء بالعلم باستحالة أن لا يكون هذا الشيء ثابتاً لذاك.

  1. اليقين الذاتي: وهو يعني جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها.
  2. اليقين الموضوعي: هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية إلى الجزم.

واليقين الموضوعي له طابع مستقل عن الحالة النفسية. أما اليقين الذاتي فهو مرتبط بالحالة النفسية في المعرفة. وكما يوجد يقين موضوعي في مقابل يقين ذاتي كذلك يوجد احتمال موضوعي في مقابل احتمال ذاتي.

وبعد هذا البيان العميق لليقين يذهب السيد الصدر لدراسة التصديق وكيف يمكن أن نحدد الدرجة الموضوعية لتصديقاتنا.[18]

وهنا يقسّم السيد الصدر بناء على خبرتنا في استنباط القضايا في مجال الرياضيات يقسم الدرجات الموضوعية للتصديق إلى قسمين:

  1. الدرجة التي يمكن البرهنة عليها وعلى موضوعيتها أي على صحتها عن طريق درجات صحيحة لتصديقات سابقة.
  2. الدرجة التي تكون موضوعيتها أي صحتها أولية ومعطاة بصورة مباشرة. وهذا يعني أن أي تقييم موضوعي لدرجة التصديق يجب أن يفترض مصادرة مفادها: أن هناك درجات وتقييمات بديهية أولية وغير مستنبطة، إذ ما لم تكن هناك درجات تتمتع بالصحة الموضوعية بصورة مباشرة، لا يمكن أن توجد درجات مستنبطة. وبعد ذلك يبدأ السيد الصدر بالإجابة على السؤال الذي أثاره في بداية هذا البحث عن الدليل الاستقرائي والقيمة الاحتمالية الكبيرة التي يحققها هل تتحول إلى يقين أم لا؟

ويوضح السيد الصدر بأن اليقين الذي نبحث عنه هنا هو اليقين الموضوعي دون اليقين الذاتي واليقين المنطقي، أي هل هناك مبررات موضوعية لكي يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة ممكنة وهي درجة الجزم واليقين؟ أي أن درجة اليقين هل هي درجة صحيحة وموضوعية للتصديق الاستقرائي أو لا؟ فإن كانت صحيحة وموضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية يقين موضوعي، وإن كانت غير صحيحة ولا موضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية إذا وجد في نفس الإنسان فهو يقين ذاتي بحت.[19]

حاجة اليقين الموضوعي إلى مصادرة

وهذه المصادرة يوضحها السيد الصدر من قولنا إن التصديق الموضوعي بحاجة دائماً إلى افتراض مصادرة فحواها: أن هناك درجات من التصديق الموضوعي بديهية ومعطاة بصورة أولية.

وهنا يأتي دور البحث العلمي في المرحلة الذاتية وهي في ثلاثة أمور:

  1. صياغة المصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية، لكي يبرر حصول التصديق الاستقرائي في هذه المرحلة على أكبر درجة من درجات التصديق الموضوعي، وهي درجة الجزم واليقين.
  2. البرهنة: على الشروط اللازمة لتوفرها في هذه المصادرة لكي تكون صحيحة.
  3. البرهنة على أن تلك الشروط اللازم توفرها في هذه المصادرة موجودة فعلاً في المجالات التي درسناها وهي المرحلة الأولى من الدليل الاستقرائي. وبذلك يقدم السيد الصدر تفسيراً كاملاً للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي التي يرتفع فيها التصديق بالقضية الاستقرائية إلى درجة الجزم واليقين.

ثم يبحث السيد الصدر المصادرة التي كثُر الحديث عنها وشروطها ويبين كيفية صياغة تلك المصادرة فيقول:

إن المصادرة التي يفترضها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية لا ترتبط بالواقع الموضوعي ولا تتحدث عن حقيقة من حقائق العالم الخارجي وإنما ترتبط بالمعرفة البشرية نفسها.

وتلخيص المصادرة على النحو التالي:

إن المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جداً، فأي قيمة احتمالية صغيرة جداً تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة، وهذا يعني تحوّل هذه القيمة إلى يقين. وليس فناء القيمة الصغيرة نتيجة لتدخل عوامل بالإمكان التغلب عليها والتحرر منها، بل إن المصادرة تفترض أن فناء القيمة الصغيرة وتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين، يفرضه التحرك الطبيعي للمعرفة البشرية، نتيجة لتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد بحيث لا يمكن تفاديه والتحرر منه، كما لا يمكن التحرر من أي درجة من الدرجات البديهية للتصديق المعطاة بصورة مباشرة إلا في حالات الانحراف الفكري.

وهذا لا يشبه العوامل النفسية مثل التشاؤم أو التفاؤل والمصادرة لكي تكون معقولة ويتحقق شرطها يجب أن نفترض علمين إجماليين، وأن لا يكون هناك علم إجمالي واحد.

وذلك من خلال استعمال سببية (p) لـ (ب) التي استخدمت في الدليل الاستقرائي.

وأخيراً يصل السيد الصدر إلى القول الأرسطي القائل: (إن الصدفة لا تتكرر بصورة متماثلة ومتتالية)، ويبين بأن هذا القول ليس قاعدة عقلية قبلية على مستوى القواعد المنطقية المستقلة عن التجربة وإنما هو محور لتجمع كبير من القيم الاحتمالية يجعل احتمال تكرر الصدفة بصورة متماثلة ومتتالية أصغر من احتمال أي صورة أخرى من الصور الممكنة.

ثم يحاول صياغة المبدأ الأرسطي بعد أن استولى على كل قواعده وأصوله الفكرية، فهو يصوغه صياغة جديدة ثبت مرة أخرى قدرته الفلسفية الفذة في هذا المجال. ولا تتم هذه الصياغة إلا بعد أن ينزع منه طابعه العقلي القبلي المزعوم.

أ ۔ نعلم بوجود عدد كبير من التباينات بين أي نقطة زمنية والنقطة الزمنية الأخرى التالية لها، وبين أي حالة طبيعية وحالة طبيعية أخرى معاصرة لها.

ب ۔ نعلم بوجود عدد ضئيل من التوافقات بين النقطتين أو الحالتين.

ج ۔ وهذا يجعل قيمة احتمال أن يكون للتباينات تأثير فيما ينجم عن نقطة زمنية معينة أو حالة طبيعية معينة كبيرة جداً.

د ۔ فإذا أدت النقطة الزمنية الأولى، أو الحالة الطبيعة الأولى إلى ظاهرة معينة ولم نعرف سببها، فسوف يكون ترقبنا لأداء النقطة الزمنية التالية أو الحالة الطبيعية المعاصرة لنفس الظاهرة صدفة، بدرجة أقل بكثير من ترقبنا لأداء النقطة أو الحالة الأخرى إلى نتيجة مختلفة ولو كانت محددة، ولنطلق على المبدأ الأرسطي بعد وضعه هذه الصياغة (قاعدة عدم التماثل).

ثم يوضح السيد الصدر أن التباين بين شيئين يقترن دائماً بالتباين بين النتائج والإثبات الاستقرائي لهذا الافتراض إن افترض بدرجة اليقين.

المعرفة البشرية في ضوء المذهب الذاتي

وفي هذا البحث يضع السيد الصدر كل ثقله الفكري وأساليبه البيانية العميقة ليشرح مبادئ المنطق الأرسطي، وذلك بعد أن أعطى السيد الصدر التفسير الشامل المقترح للدليل الاستقرائي اتجه إلى دراسة نظرية المعرفة.

واستعرض اليقين في مفهوم المبدأ الأرسطي الذي يقول: إن المعرفة البشرية الجديدة بالثقة والواجبة القبول، هي القضايا التي تتسم بطابع اليقين، ويريد باليقين تصديق العقل بقضية تصديقاً جازماً لا يمكن زواله أو زعزعته، فكل قضية يتاح لها هذا اللون من التصديق تعتبر قضية يقينية.

والقضايا اليقينية على قسمين:

  1. القضايا اليقينية التي اكتسبت طابعها اليقيني بوصفها نتيجة لقضايا يقينية سابقة.
  2. القضايا اليقينية الرئيسية التي تشكّل المنطلقات الأولية لليقين في المعرفة البشرية، ويقسّم المنطق الأرسطي هذه القضايا إلى ستة أصناف هي:
  3. الأوليات.
  4. المحسوسات.
  5. التجريبيات.
  6. المتواترات.
  7. الحدسيات.
  8. الفطريات.

وهناك قضايا أخرى يضعها المنطق الأرسطي إلى جانب هذه القضايا الأولية وهي:

  1. المظنونة.
  2. المشهورة.
  3. المسلمة.
  4. المقبولة.
  5. الوهمية.
  6. المشبّهة.

فمبادئ الاستدلال في المنطق الأرسطي هي:

  1. اليقينات؛ وهي القضايا الست المتقدمة.
  2. المظنونات؛ وهي قضايا يرجح العقل صدقها مع جواز كذبها.
  3. المشهورات؛ وهي قضايا لا سند للإنسان بصدقها إلا شهرتها وعموم الاعتراف بها. كحسن العدل وقبح الظلم.
  4. المسلمات؛ وهي قضايا حصل التسالم على أنها صادقة.
  5. المقبولات؛ وهي قضايا مأخوذة ممن يوثق بصدقه تقليداً.
  6. الوهميات؛ وهي قضايا كاذبة ينفيها العقل، ولكن ينساق الإنسان للتصديق بها نتيجة لألفته للمحسوسات واعتياده على أحكامها، مثل (كل موجود له مكان وجهة).
  7. المشبّهات؛ وهي قضايا كاذبة يعتقد بها الإنسان أحياناً لأنها تشبه اليقينات أو المشهورات.

فكل استدلال لا يستخدم من المقدمات لإثبات النتيجة إلا القضايا اليقينية يعتبر (برهاناً).

وكل استدلال يستخدم من المقدمات المشهورات والمسلمات يطلق عليه اسم الجدل.

وكل استدلال يستخدم المظنونات والمقبولات يطلق عليه اسم (الخطابة).

وكل استدلال يستخدم قضايا كاذبة يزوّرها ويقدّمها بوصفها قضايا يقينية أو مشهورة فهو (سفسطة) أو (مشاغبة).

وعندما يقوم السيد الصدر بفحص هذه المبادئ الأولية التي آمن بها المنطق الأرسطي يجدها أكثرها ليست مبادئ حقيقية للاستدلال؛ لأنها هي بدورها مستنتجة، وإن كانت قد تشكّل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين، فالقضايا المسلمة يمكن أن تشكل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين؛ لأنها مسلّمة لديهم فلا حاجة بهما للحديث عن إثباتها، ولكنها ليست مبادئ حقيقية للاستدلال الفكري؛ لأن التسليم بها يجب أن يكون قائماً على أساس، فإن كان تصور الطرفين كافياً للتصديق بها فهي قضية من القضايا الست اليقينية، وإلا فلابد أن تكون مستنتجة من قضايا قبلية، فلا تكون قضية أولية.

والقضايا المقبولة: هي أيضاً قضايا مستنتجة بحكم موضعها من الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأن القبول بقضية على أساس الثقة بشريعة أو بقول عالم يعني: استنتاج تلك القضية من القضايا التي أدت إلى الثقة بتلك الشريعة، فكل قضية مقبولة هي قضية ثانوية في تسلسل الفكر الاستدلالي عند الإنسان.

والقضايا المظنونة التي يستعرضها المنطق الأرسطي: ليست في الحقيقة إلا قضايا مستنتجة استنتاجاً ظنياً من قضايا سابقة واستنتاج القضية المظنونة التي يذكرها المنطق الأرسطي من القضايا اليقينية السابقة استنتاج ناقص بدرجة أقل من اليقين.

والقضايا المشبّهة: هي أيضاً ليست قضايا أولية في سير الفكر الاستدلالي؛ لأن الإنسان يتورط في التصديق بها نتيجة لشبهها بقضايا سابقة قد صدق بها.

وأما القضايا الوهمية: فهي عند السيد الصدر قضايا استقرائية كالتجريبيات التي اعتبرها المنطق الأرسطي إحدى القضايا اليقينية الست، غير أن التعميم الاستقرائي في القضية التجريبية صحيح.

ثم يمضي السيد الصدر في تمحيص أوليات الفكر الأرسطي وإعطاء صياغة جديدة للتعامل مع تلك الأوليات على النحو التالي:

فبدلاً من تصنيف المبادئ إلى اليقينيات الست والمظنونات والمسلمات والمقبولات والمشهورات والمشبّهات والموهومات، يعتبر السيد الصدر القضايا الست هي المبادئ الأولية للمعرفة البشرية، وكل القضايا الأخرى تعتبر متفرعة عنها، فإذا كانت متفرعة عنها بصورة مؤكدة فهي قضايا يقينية نظرية، وإن كانت متفرعة عنها بصورة غير مؤكدة فهي قضايا مظنونة، وإن كان هناك خطأ في افتراض التفرع فهي قضايا مشبهة أو وهمية.

وبعد ذلك يتخذ السيد الصدر موقفاً من النقاط الأساسية في المعرفة عند المنطق الأرسطي ويناقشها على ضوء الأسس المنطقية لطريقته في تفسير الدليل الاستقرائي، فيقع النتائج التالية بعد مناقشات علمية مستضيفة مع أرسطو وهذه النتائج هي:

  1. أن القضايا التجريبية هي قضايا ثانوية مستدلة ومستنتجة وليست قضايا أولية كما كان يعتقد المنطق الأرسطي ويضيف إلى ذلك أن الاستدلال في القضية التجريبية هو احتمالي فهي دائماً مستنتجة بدرجة أقل من اليقين. والقضية الحدسية عند السيد الصدر خلافاً للمنطق الأرسطي يعتبرها قضية ثانوية مستدلة، وهي بكامل مدلولها مستنتجة من القضايا الجزئية التي تكوّن منها الاستقراء لصالح تلك القضية الحدسية ولكن بدرجة من الاستنتاج والإثبات أقل من اليقين، وفقاً للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي.

واليقين بالقضية الحدسية درجة أولية من التصديق فهو يتوقف على تصديقات سابقة.

وأما القضية المتواترة: فيعتبرها السيد الصدر في المذهب الذاتي قضية استقرائية تقوم على أساس مناهج الاستقراء الاستدلالية، فهي استقرائية مستدلة بنفس الطريقة التي يعالج بها الدليل الاستقرائي أي قضية استقرائية أخرى عبر المرحلتين على أساس حساب الاحتمال وتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد.

ثم يعالج مشكلة الاحتمال القبلي للقضية المتواترة التي قد تثار في وجه هذا الاستدلال الجديد للقضية المتواترة.

حيث يبرهن على أن القيمة الاحتمالية الحاكمة على أن القيمة الاحتمالية المثبتة للقضية المتواترة، حاكمة على القيمة الاحتمالية النافية لها المستمدة من العلم الإجمالي الأول. وهذا يعني ضآلة الاحتمال القبلي للقضية المتواترة ليس لها أي دور في سير الاستدلال الاستقرائي.

ويرد على الدور المعاكس للاحتمال القبلي بتطبيق البديهية الإضافية الرابعة التي تقول أن التقييد المصطنع لا يحقق الحكومة، وإنما يحققها التقييد الحقيقي.

وهكذا يكون السيد الصدر قد أعاد صياغة الأوليات في الفكر البشري وصحح ما يمكن تصحيحه في المنطق الأرسطي الذي ظل مهيمناً على نظرية المعرفة لمئات كثيرة من القرون حتى جاء السيد الصدر الذي عرفته الساحة الفكرية منازلاً جريئاً وعنيداً ومتواضعاً وشمولياً وموسوعياً بما مرّ معنا من جولاته الموفقة المبدعة والخلابة في آفاق النظريات العلمية بلونها الفلسفي والرياضي والمنطقي. فلم تحظ نظرية الاحتمال بالدراسة الموسوعية إلا على يد السيد الصدر ولم يحظ العلم الإجمالي بالتفصيل والتنظيم كما شهدت عند مدرسة السيد الصدر ولم يجد الفلاسفة والمناطقة وأصحاب المذاهب الفكرية مفكراً منصفاً ومحايداً علمياً في النظر والبحث كما وجدوه عند السيد الصدر الذي يستحق في ذكرى شهادته العشرين أن يعلَن بوفاء أنه المعلم الرابع بل الأول إذا أردنا الإنصاف العلمي والوفاء الفكري والجوهر العقلي الواحد الذي صدر عن الواحد وأن يعلن إلى جانب ذلك خسارة الإنسانية المفكرة في هذا القرن وكل القرون القادمة مفكراً ومعلماً وصاحب مدرسة التوالد الذاتي في المعرفة البشرية والذي أعاد صياغة النظرية وتحليلاتها ومباحثها على ضوء الدليل الاستقرائي ونظرية الاحتمال واليقين الموضوعي والأوليات الست، وإن الذين قتلوه إنما قتلوا ينبوع الفكر وشلّال العلم الفلسفي ومدرسة الصياغة الجديدة لأفكار البشرية ذلك هو الشهيد السيد محمدباقر حيدر الصدر، وعلى المنظمات العالمية الثقافية والإنسانية والحقوقية في هذه المناسبة أن تتذكر غفلتها وتقاعسها تجاه هذا الحدث الجليل وهذه الخسارة الجسيمة التي شكلها غياب مؤسس المذهب الذاتي في نظرية المعرفة الإنسانية، ولا زالت أمام تلك المنظمات فرصة إعلامية وزمنية ممتدة بامتداد السلطة الزمنية للذين قتلوا الإنسانية المفكرة العالمة بقتلهم السيد الصدر وأخته العالمة الفاضلة المجاهدة العلوية آمنة حيدر الصدر (بنت الهدى) والحمد لله الذي قال: <سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا في الْآفٰاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ..>.

[1]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 123.

[2]. م. ن، ص 124.

[3]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 127.

[4]. م. ن، ص 66.

[5]. م. ن، ص 64.

[6]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 128.

[7]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 131.

[8]. م. ن، ص 140.

[9]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 157.

[10]. م. ن، ص 164.

[11]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 970.

[12]. الأسس المنطقية للاستقراء، 214.

[13]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 228.

[14]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 235.

[15]. الأسس المنطقية للاستقراء، ص 270.

[16]. م. ن، ص 299.

[17]. م. ن، ص 310.

[18]. م. ن، ص 326.

[19]. م. ن، ص 329.