نبذة عن حياة الشهيدة بنت الهدى

الحاجّة الخليلي

ملخّص البحث

الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

البحث المقدّم بين أيديكم تحت عنوان لمحات من حياة الشهيدة بنت الهدى1 يتردد بين حديث الذكريات الخاصة وبين محاولة رسم صورة عامة لحياة العالمة الشهيدة آمنة الصدر، التي لم تعش أكثر من 43 عاماً.

فأما حديث الذكريات، فقد رافقت كاتبة هذه السطور الشهيدة لمدة تناهز السبعة عشر عاماً، فسمعت منها الكثير، وتعلّمت منها الكثير، وأما محاولة رسم الصورة بالتقصّي والبحث فالحق أن ما نشر عن الشهيدة وإن لم يفِ بالغرض تماماً إلا أنه كان وافياً إلى حد ما، فجزى الله الجميع خير الجزاء لما يمثّله ذلك من وفاء للشهيدة وأخيها الإمام الشهيد وللمبادئ التي ضحّيا من أجلها.

وفي الحقيقة فإن إحياء الذكريات وإقامة المؤتمرات في مثل المناسبات يجب أن تنشّط في أذهاننا كيفية تخليد مبادئ أصحاب الذكرى وسيرتهم بالعمل والسلوك العملي الصالح، من أجل مواصلة دربهم نحو الأهداف الإسلامية العظيمة.

ورسم صورة لشخصيات من مثل الإمام الشهيد الصدر وأخته المظلومة ليس بالأمر الهيّن؛ بالنظر لما لهما من منزلة عظيمة وجوانب شامخة ومتنوعة. وعلى كل حال فإن هذه الصعوبات وغيرها يجب أن لا تثنينا عن قول شيء ما؛ لأن في هذا القول بعض الوفاء ببعض الواجب.

وقبل كل شيء فإن البحث يلفت النظر إلى طبيعة العلاقة الإيمانية التي كانت قائمة بين الشهيد الصدر والشهيدة بنت الهدى1، وإلى النشأة الكريمة التي نعمت بها العالمة المربّية في طفولتها.

يعني هذا البحث بثلاثة جوانب متشابكة من الحياة الشريفة للشهيدة الخالدة وهي:

  1. جانب النشاط والتكوين الإيماني.
  2. جانب الجهاد والعمل السياسي.
  3. الجانب الاجتماعي والأدبي.

وواضح من تتبّع ظروف النشأة والتكوين الإيماني للشهيدة السعيدة، أن ذلك ترك أثراً واضحاً في شخصية بنت الهدى1، بل إنه طبع شخصيتها بطابع الالتزام الديني، الذي دفعها لتلمس طريقها الجهادي في مجالات عدة، فقد مارست الجهاد الاجتماعي، والجهاد التربوي والجهاد السياسي، فكانت حياتها حافلة بالعمل والنشاط، كانت حياتها حياة جهاد وكدح نحو البارئ الحق المبين. لقد تمنّت الشهادة فحصلت عليها؛ لتكتمل الفكرة بالمصداق وترتفع الروح السعيدة المؤمنة متخلصة من أوزار المادة الثقيلة وسجن المؤمنين إلى رحاب كرم الله ورضوانه.

لقد كرّست الشهيدة حياتها وعلمها وجهادها ونثرها وشعرها وقصصها لله، ولخدمة المسلمين.

فسلام الله عليها وعلى أخيها الشهيد يوم ولدا، ويوم استشهدا، ويوم يُبعثان.

والسلام عليكم إخواني وأخواتي ورحمة الله وبركاته

مقدمة

ها هي ذكرى شهادة المفكّر الكبير والمجاهد العظيم السيد محمدباقر الصدر, وأخته العالمة المربّية العلوية بنت الهدى تطلّ علينا من جديد حاملة العظات والعبر، ورغم أن الكثيرين قد كتبوا خلال العقدين الذين مرّا على هذه الواقعة الأليمة فتركوا رصيداً مهماً على صعيد توضيح أبعاد الشخصيتين الكريمتين، فإن الحديث عنهما ما يزال غضّاً يانعاً في جوانبه المختلفة العلمية والاجتماعية والسياسية.

هذا وإن الحديث عن الشهيدة بنت الهدى لا يكاد ينفصل عن الحديث عن أخيها وأستاذها الشهيد الصدر، ويبدو من غير الممكن فهم شخصية الشهيدة دون المرور ولو بشكل سريع بشخصية الشهيد الصدر والعلاقة الخاصة بينهما.

أما الإمام الشهيد الصدر فقد ولد في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة عام 1353 هـ.ق (1933م) في مدينة الكاظمية بالعراق. وباشر دراسته منذ نعومة أظفاره، فدرس المقدمات والسطوح على يدي أخيه حجة الإسلام السيد إسماعيل الصدر في الكاظمية التي غادرها بعد ذلك إلى النجف الأشرف عام 1365 هـ.ق، وكان له من العمر آنذاك ثلاث عشرة سنة. ثم إنه أكمل دراسته هناك ودوّن فتاواه وهو في الثامنة عشرة من عمره، وبدأ بتدريس الأبحاث الخارجية في الخامسة والعشرين.

للشهيد الصدر مؤلفات مشهورة عديدة بلغت أربعة وعشرين مؤلّفاً، سوى ما كتبه من المقالات وألقاه من المحاضرات وحرّره من الرسائل.

أما نشاطاته فهي غنية عن التعريف لاسيما في مجال تطوير أوضاع الحوزة العلمية من جوانب متعددة، فقد أحدث تطويراً في أوضاع الطلبة، ونشّط الحركة العلمية، وأكّد على مختلف أبواب الثقافة الإسلامية والدراسات القرآنية والعقائدية، كما طوّر كثيراً في المناهج كالذي فعله في صدد مناهج علم الأصول، وما إلى ذلك.

إن العبارات عاجزة عن وصف هذه الشخصية الفذّة، كما هو شأن الحديث عن أي عبقري آخر من العباقرة والعظماء المتميزين. نعم، إن الحديث عن أمثال هذه الشخصية بالغ الصعوبة؛ وذلك لعظمة ما يحملونه من قيم إنسانية وأهداف سامية، وفي الحقيقة فإننا نرى أنا بحاجة إلى وقفات طويلة للتفكر والتدبر قبل التوغّل في مسيرة وخصائص تلك الشخصية، وأنى لنا ذلك.

إن الشهيد الصدر, قد مثّل القمّة في الأخلاق والالتزام بالمثل العليا للإنسانية، وإن العلم الذي يمنحه الله لعدد من الشخصيات يجعلها متميزة حقاً عن سائر الناس.

لقد تحوّل السيد الشهيد, لشخصيته الفذّة إلى مصدر أمل ينبعث لدى طلائع المجتمع الإسلامي في حياته وبعد مماته. وإذا كان للسيد الشهيد مثل هذا الموقع في مجتمعه فقد كان له موقعه وتأثيره الرائعان في تلميذته القريبة منه الشهيدة بنت الهدى1، حتى ارتفعت روحه الطاهرة إلى بارئها لتستقر عنده راضية مرضية بعد أن أدّت ما عليها من إحياء لقيم السماء المثلى:

<يٰا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبٰادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي>[1]، ولم تلبث أخته العلوية ولم تكن تريد أن تلبث بعده طويلاً، بل رافقته في جهاده ومحنته وشهادته، فكانت له كما كانت السيدة زينب& لأخيها الحسين%، وها نحن نحاول أن نعكس في هذه اللمحات الموجزة بعض جوانب حياتها الشريفة التي اطّلعنا عليها من قرب وتشرّفنا بمشاركتها في بعض فعالياتها وبمرافقتها في بعض المسير، فنتعرض إلى جوانب ثلاثة:

أولاً: النشأة والتكوين الإيماني

أ ـ الأحضان الطاهرة

ولدت مربّيتنا الفاضلة المؤمنة العلوية بنت الهدى@ في مدينة الكاظمية عام 1357ق (1937م)، وقد سمّيت آمنة تيمّناً باسم أم الربسول-، وقد كانت الوحيدة لأبويها العظيمين: السيد حيدر الصدر الذي كان من كبار علماء ومفكّري العراق، وقد توفّي ولم يكن عمر الشهيدة آنذاك يزيد على السنتين، فتربّت في حضن والدتها وهي كريمة العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين آل ياسين,، التي عرفت بالتقوى والإيمان العميق وفي كنف أخويها العَلَمين: السيد إسماعيل الصدر والسيد الإمام محمدباقر الصدر، وخالها المرجع الكبير الشيخ محمدرضا آل ياسين.

لقد نشأت العلوية آمنة الصدر منذ البداية، وهي محرومة من الحنان الأبوي، فحاولت أمّها العالمة المربّية أن تعوضها وتسدّ لها هذا الفراغ الكبير، ففتحت لها قلبها الكبير ومنحتها العطف والحنان، وبالرغم من صعوبة الحالة المعيشية المتواضعة، إلا أن ذلك لم يمنع شهيدتنا الغالية من أن تنشأ وهي متعطشة لطلب العلم والمعرفة، فهي من أهل بيت العلم والاجتهاد، والإيمان والطهارة، فكانت@ تحفظ كلما تسمعه من أمّها وأخويها، وكانت تسألهم عن كل ما يدور بخاطرها وهم لا يبخلون عليها بل ويستنطقونها إذا سكتت، وكانوا يرون فيها بوادر النبوغ والذكاء الخارق، وقد أمّلوا عليها الكثير من المعلومات والمفاهيم الإسلامية بعد أن حفظت@ أجزاءً من القرآن الكريم، ومقداراً من الأحاديث الشريفة ونصوص الأدعية المباركة.

وبعد أن قرّرت العائلة الكريمة مغادرة مدينة الكاظمية، هاجرت الشهيدة السعيدة بصحبة والدتها وأخويها إلى مدينة الإيمان والحوزة الدينية النجف الأشرف، وكان عمرها آنذاك أحد عشر عاماً، وعندما ترعرعت أخذت تدرس العلوم الإسلامية والحوزوية وعلى يد أخويها الفاضلين؟رضهما؟ وكان ذكاؤها ينمو مع نموّها، وهذا ما شجّع الأخوين على التركيز عليها وطيّ المراحل التعليمية لها، ولاسيما أخيها الشهيد السيد محمدباقر الصدر,، فقد لاحظ تطلّعها الواسع نحو المستقبل وسرعة التعلم والاستيعاب، عندها قرّر أن يجعل لها وقتاً خاصاً لتدريسها ومتابعة تطور أفكارها البنّاءة، فدرست علوم اللغة والفقه والأصول والحديث والأخلاق وتفسير القرآن وعلومه والسيرة.

وقد أضافت الشهيدة السعيدة1 إلى جانب دراستها للعلوم الإسلامية مطالعة الكتب الإسلامية المنوعة والمؤلفات الثقافية الحديثة، فاتّسعت دائرة معارفها وعلومها، وكانت1 تركّز اهتمامها على ما يخصّ شؤون المرأة المسلمة ودراسة أمراض المجتمع الذي تعيشه المرأة المسلمة في العراق والعالم الإسلامي، وكيف أثّرت الثقافة الغربية في أوساطنا الاجتماعية المسلمة، وكيف حطّت هذه الثقافة المستوردة من قيمة المرأة وكرامتها وإنسانيتها، فتربّت الشهيدة بنت الهدى1 في أحضان المرجعية الرشيدة المتمثلة آنذاك بالشهيد القائد السيد محمدباقر الصدر,، أخيها وقائدها في الجهاد والنشاط الإسلامي فكانت له أذناً صاغية، تابعة ومطيعة لقائدها في كل نشاطاتها وجهادها، فالمرجعية صنعت من بنت الهدى امرأة راسخة الإيمان، عميقة الفكر، قوية الإرادة، شجاعة مقدامة، فأصبحت متمكنة من القيام بشتّى الأعمال الإسلامية التي تنسجم مع طبيعة وضعها ومقامها، فكان السيد الشهيد, يكلّفها ببعض الأعمال فتنجزها بكل كفاءة ونجاح، ولاسيما في أيام المحنة التي شدّد فيها النظام البعثي حصاره على سماحة السيد الشهيد وأيام اعتقاله.

ب ـ علاقتها بالشهيد الصدر!

لقد كانت الشهيدة بنت الهدى تلميذة أخيها وأستاذها الشهيد السيد محمدباقر الصدر، الذي كان له الدور الفاعل والمؤثر في حياتها الشريفة، وقد سارت على نهجه وتابعت خطاه بشغف وإيمان، باعتباره القائد والمرجع، فحملت معه هموم الأمة، كما كانت طبيعة جهاد أسرتها الكريمة، ولما تبلغ في حينها العشرين من العمر، وكانت1 تتبنّى تربية النساء المسلمات وتعليمهن الأحكام والعقائد والأخلاق الإسلامية، فتهدي وترشد بنات عصرها وتأخذ بأيديهن إلى طريق الخير والصلاح.

لقد امتزجت تضحيات هذه المربّية الفاضلة من أجل إسلامها بمشاعر الإخلاص للأخوّة الإيمانية والرفقة الجهادية التي تربطها بأخيها وأستاذها الإمام الصدر، وقد كانت ترى في مسيرة هذا الأخ المقدام معالم التضحية والفداء للدين الإسلامي القويم؛ ولهذا كانت@ متابعة له، وقد كنا نسمع منها في هذا قولها الذي تردّده أمامنا (إن حياتي هي من حياة أخي، وسوف تنتهي مع حياته إن شاء الله تعالى).

لقد كانت حقاً تتمنى الشهادة، وتتمنى أن تكون مصداقاً للمقولة المشهورة: (والجود بالنفس أقصى غاية الجود) وقد حصل ما تمنّت@.

وهكذا نرى أن الشهيدة قد تربّت في أسرة عنوانها المجد والعلم والنبوغ، أسرة اشتهرت بالتقوى والفضيلة، وكانت منهلاً من مناهل الفكر الإسلامي الأصيل. وقد التقت فضائل الأسرة الكريمة بنبوغ الشهيدة المبكّر وذكائها وألمعيتها، لترتفع إلى المنزلة التي احتلّتها بالعلم والعمل حتى ضحّت بشبابها وحياتها وبكل ملذّات الدنيا من أجل إنقاذ الجيل النسوي الذي كان يتخبط في ظلام الجهل والظلم.

ج ـ مصاديق السلوك

تحملها للمسؤولية

لقد نهضت الشهيدة1 بتحمل مسؤولياتها تجاه الإسلام ونشره في الوسط النسوي الضائع بين متاهات الإغراء والاضطهاد من قبل الزمرة الحاكمة في العراق، بالإضافة إلى قيود الأعراف والتقاليد البعيدة عن روح الإسلام الأصيل، فأخذت بزمام المسؤولية الكبرى لتخليص المرأة المسلمة المعذّبة، فكانت الرائدة والمربّية لجيل المرأة في العراق من خلال مسيرتها وما أنتجته من أساليب التربية والتثقيف لتوعية وانتشال المرأة من واقعها المرير الذي تعيشه ومحاولة تحريك الأمة وإيقاضها من سباتها وجهلها المطبق الذي بات يخيّم عليها بأوهام أعداء الدين وانحرافاتهم، فكانت لها عدة نشاطات وفي مجالات مختلفة من جملتها:

  1. القيام بمهمة التربية الإسلامية عن طريق إلقاء المحاضرات والدروس والندوات النسوية وفي مناطق متعددة.
  2. القيام بعملية الإشراف على مدارس الزهراء& للبنات في كل من النجف الأشرف وبغداد والكاظمية، والتنسيق التربوي والأخلاقي مع المربّين وفق منهج محدّد.
  3. عمل ندوة فكرية إسلامية يحضرها الكثير من الفتيات الجامعيات والمدرّسات حيث تطرح فيها الشهيدة1 مختلف المفاهيم، بعد أن تلقي الأضواء الكاشفة على الواقع الفاسد الذي أبعد المرأة عن مهامها الرسالية وشغلها بمظاهر الزينة والجمال فأصبحت فاقدةلقيمها المعنوية.
  4. إحياء المناسبات الإسلامية بالاحتفالات العامة والخاصة، ومحاولة تجسيد واقع الذكرى من خلال بيان معالم شخصية صاحب الذكرى باعتباره مثالاً رائعاً وقدوة في الحياة الإسلامية، وكذا بيان حقيقة المناسبة وما لها من آثار معنوية وتربوية على الفرد والمجتمع الإسلامي.
  5. القيام بالنشاطات الميدانية التي لها مدخل في حياة الناس، مثل زيارات المناطق المختلفة، وتفقّد العوائل المحتاجة، ومحاولة بثّ روح التعاطف والتعاون فيما بين الأخوات.
  6. كتابة البحوث والمقالات الإسلامية والشعر الهادف ومن جملة ما نشر لها1 (المجموعة القصصية) التي بثّت فيها المفاهيم الإسلامية وبأسلوب رائع وشيّق؛ لتثقيف المرأة المسلمة وتذكيرها بقيم الإسلام العظيمة ومحاولة تغيير أفكار المجتمع المنحرفة إلى الاتجاه الإسلامي مع بيان مساوئ وأضرار الأفكار الأخرى.

إعراضها عن الدنيا

لم تكن الشهيدة المجاهدة تهتم بزخارف الدنيا وزينتها ولذائذها كما يهتم الآخرون، وحتى بالمكان والأثاث والملبس والمأكل وغير ذلك من أمور الحياة، إلا بقدر حاجتها وحاجة العمل الصالح المرضي لله، فكان جهادها المتواصل من أجل نساء مجتمعها المحروم هو من أهم ما تهتم به في حياتها الشريفة، في الوقت الذي كانت فيه المرأة محصورة بين جدران البيت لا تقوم بأي دور لتفهم شيئاً من حياتها في هذه الدنيا الفانية إلا خدمة الزوج وتربية الأطفال فحسب، وكان المجتمع في أمسّ الحاجة إليها وإلى نصائحها وإرشاداتها القيمة وحل مشاكله، وكانت النساء تحتاج إلى من يحلّ مشاكلهن، فكانت المربّية الفاضلة (بنت الهدى1) توصيهن وتشجّعهن على الاهتمام بالعلم والعمل المتواصل، وكانت تشجّع الفتيات ألّا يجعلن جُلّ اهتمامهن بالأزياء والزينة التي كانت تهتم بها أغلب فتيات المجتمع آنذاك، وكانت المربّية الجليلة@ تعبّر عن تلك النصائح بأشعارها فمثلاً كانت تقول:

لا العزّ لبسكِ أثواباً فخرتِ بها   والجهل من تحتكِ ضافٍ على الجسدِ

 

وأيضاً كانت تقول:

إن البنات الناشئات   يصرن يوماً أمّهات
فإذا نشأنَ على التُقى   والعلم كنَّ الكاملات
هنَّ الدعائمُ للبيوت   وحفظُ ركنِ العائلات

 

وكانت شهيدتنا المعلّمة الفاضلة المظلومة تشجّع نساء المجتمع على العلم والجهاد معاً فكانت تقول:

إلى المجدِ يا فتيات الهدى   لنحيي مآثرنا الخالداتْ
ونمضي سوياً إلى غاية   أجل لقاها تهونُ الحياةْ
ونكتبُ تأريخنا ناصعاً   مضيئاً بأعمالنا الباهراتْ
فإما مقام الهدى نرتقيه   وإما قبورٌ تضمّ الرفاتْ

 

وهكذا كانت المعلّمة الكفوءة تربّي نساء مجتمعها على العلم والجهاد والقناعة والثقة بالله، فكانت تنير قلوبهن وبصائرهن لتسير بهن إلى طريق العلم والمعرفة والجهاد المتواصل، وبالفعل كانت لهن أثر كبير في ترسيخ المفاهيم والقيم الإسلامية المؤدّية إلى طريق الحق والهداية، حيث إن الشهيدة1 كانت تزرع الثقة في أنفسهن فلقد تخرّج على يديها الكريمتين الكثير من نساء مجتمعنا بعد أن تنوّرت قلوبهن بنور العلم والتقى والفضيلة.

ولقد كان من الطبيعي بعد هذا أن نشعر _ نحن والأخوات الرساليات السائرات على خطى أهل البيت( ومنهجهم، والمدينات لما قدّمته لنا هذه المجاهدة الكبيرة _ بفراغ كبير نتيجة غيابها المفجع؛ إذ كانت1 بإصرارها على نهج الهدى والصلاح قد أضاءت الطريق لبنات عصرها ومجتمعها المتعطش للعلم والمعرفة، وتألّقت بشهادتها لتصبح مناراً للأجيال القادمة.

تواضعها

من جملة الخصائص التي تميزت بها شهيدتنا المظلومة1 أنها كانت لا تهتم بالجوانب الكمالية في حياتها الخاصة فهي في منتهى البساطة والتواضع، فأنا أتذكر الكثير من المشاهد المثيرة التي تنبئ عن عظمة الشخصية ومدى اندكاكها في ذات الله، فكانت1 بسيطة في حياتها إلى أبعد الحدود، فمثلاً كنت أراها دائمة الانحناء وهي تطالع أو تكتب على الأرض، فلم يكن أمامها رحل أو منضدة، فكانت تفضّل أن تترك ما كان معتاداً عند أكثر الناس، فكنت أقول لها: يا علوية، لِمَ هذا الانحناء؟ فإنك تتعبين نفسك، فمن الأفضل أن تجعلي أمامك منضدة لكتبك ولوازمك لترتاحي في مطالعاتك وكتاباتك؟

فكان جوابها لي: (يا أختي أنت تعرفين بأنه لا راحة في الدنيا، وعلى الإنسان أن لا يتعود على الترف والتنعم.. بل المهم أن ينتج).

وكانت تقول أيضاً: (المهم أن يشعر الإنسان بعد العمل والإنتاج بالراحة النفسية ولاسيما عندما يرى ثمرة عمله إذا كان خالصاً لله تعالى، وفي خدمة دينه ومجتمعه، فهذا أهم بكثير من تحقيق رضا نفسه؛ لأن النفس أمّارة بالسوء).

إن كلمات وتوجيهات الشهيدة بنت الهدى1 كانت بالنسبة لنا عبارة عن دروس وعبر نتأمل بها ونطبّقها في حياتنا وعلاقاتنا مع الأخريات، فهي ضياء لدربنا ومنار في مسيرتنا.

عبادتها

إن الجانب العبادي في شخصية الشهيدة بنت الهدى1 جدير بالعناية والاهتمام كبقية الجوانب اللامعة التي تتجسد فيها أروع معاني الصدق والإخلاص في تعاملها مع خالقها، فكانت بحق تمثّل القدوة الصالحة والمثل الطيّب في سيرها وسلوكها إلى الله.

كانت1 كثيراً ما تخفي هذا الجانب من حياتها الشريفة بعيدة عن أعين الناس حتى المقربين من زميلاتها وطالباتها؛ لئلا يكون للرياء والتظاهر مجالاً يتسلل منه هوى النفس والشيطان، فكانت لها غرفة صغيرة خاصة بها وكانت تؤدي فيها جُلّ عبادتها من صلاة ودعاء ومناجات، وربما كانت تذهب إلى حرم الإمام أمير المؤمنين% لتؤدّي قسطاً من عباداتها وتوسلاتها بالقرب من ضريح جدّها%.

وباعتباري إحدى زميلاتها القريبات منها وقد عشت معها فترة طويلة من حياتي فلاحظت الكثير من حالاتها، فقد كانت1 كثيرة الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، بل وكثيرة الذكر لله تعالى دون تفاخر أو رياء، فكانت1 تستغلّ كل ما يتاح لها من فرص وفراغات، فتبادر إلى أداء لون من ألوان العبادة حيث هي في شغل دائم ولسانها رطبٌ بذكر الله تعالى، وأن للعبادة بأشكالها المختلفة لدى الشهيدة الفاضلة بنت الهدى1 فهماً عميقاً يتطابق مع الهدف الحقيقي للعبادة في الإسلام، وهي العبادة الواعية التي تنعكس آثارها على السلوك والعمل.

فقد كانت قمة شامخة في أخلاقها وسلوكها حيث تتجسد في شخصيتها الفذّة آثار العبادة ومعطياتها، فليس عجيباً أن تكون شهيدتنا الغالية بهذا المستوى الرفيع من السمو الأخلاقي والسلوكي إذا علمنا أن أستاذها ومربّيها هو الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمدباقر الصدر! الذي ألزم نفسه أن لا يصلّي إلا بحضور قلب وانقطاع كامل إلى اللهÅ ولم يكن لشهيدتنا الفاضلة أن تخرج عن نطاق هذا الفهم العميق والصحيح للعبادة، فهي تراها تعيش كل حياتها من أجل الله، كثيرة التأمل والتدبر في خلق الله تعالى وفضله على خلقه في جميع مراحل الحياة، تذكّر نفسها بعظمة الله (جلّ وعلا) الذي لا يستغني أحد من العالمين عن عونه ولطفه فيستوجب عليه شكره وعبادته في السرّاء والضرّاء وفي الشدة والرخاء.

من جملة مناجاته الرائعة تقول:

(فما أروع رحمتك يا إلهي حين يتحسّسها العباد، وما أهون الصعاب في سبيلك يا رب، وما أروع العذاب من أجلك، ما أيسر العسير في طريقك، وما أحلى المرّ في الوصول إليك.. هانت يا إلهي دمعة لا تذرف إلا من أجلك، وبعدت يا مناي غاية لا تؤول إليك.. إلهي إن تظافرت في حياتي طرق الشقاء فإن لي في طريقي إليك سعادة لا تدرك، وإن أطبقت عليّ سماء الدنيا فإن لي في ذكرك أفقاً أرحب وأوسع).

ومن مناجاتها: (إلهي.. ما أروع أن أسعى إليك فأحجب عنك فتنطلق إليك روحي من قيود أسرها وتهرب إليك نفسي من ثقل حديدها).

(إلهي.. ما عدت أرغب إلا رضاك، ولا أطمع إلا في عفوك، ولا أسعى إلا إلى فنائك).

(إلهي.. ما الدنيا إلا ساعة شوق إلى لقائك، وما الحياة إلا ممرّ درب إلى فنائك، وما العمر إلا لحظات كفاح من أجلك وفي سبيلك.. فاجعل حياتي يا رب كلمة رضا، واجعل أعمالي يا إلهي ساعة جهاد، واجعل روحي يا سيدي خفقة أمل ورجاء، ترنو إلى عفوك وتشتاق إلى رفدك وتحنّ إلى رضاك).

وفي مجال المعاناة وصعوبات العمل الاجتماعي تقول1:

(إلهي.. ما باتت الصعاب تقرّبني إليك، وما برح العذاب يشدّني إلا إلى الأمل بك، فما أحوجني إلى رضاك..).

يتجلّى بنحو جليل من هذه النصوص درجة التعلق الشديدة بالله تعالى لدى الشهيدة الزاهدة بنت الهدى) ومدى التحليق الروحي الذي تبلغه مستخفّة بالدنيا وزخرفها، ساخرة من إغرائها لها، داعية إلى عدم التجاوب معها إلا لمصلحة روحية وبمقدار ما يحقق التجاوب مع الدنيا من خير للناس، وعطاء للروح، وجهاد للباطل وكفاح للانحراف.

وقد لا يستطيع البعض إدراك عمق الموقف الروحي الخاص لهذه الزاهدة المتبتلة، أو تصور مدى إعرضها التام عن الدنيا، فإن التفكير الروحي والتأملات الإلهية لدى الشهيدة الفاضلة بنت الهدى1 على نحو ما لاحظناه في كلماتها العرفانية، وأن التبتل في الحياة والزهد فيها إنما يشير إلى ذوبانها وتفانيها في عقيدتها الحقة بعد اليقين الذي لا يعرف الشك والاضطراب، فلم يكن اتجاهاً لرهبانية؛ لأن هذه العابدة الصالحة هي بنت الإسلام، ولا رهبانية في الإسلام.

تأكيدها على إصلاح النفس

لقد ظهرت بركات مرشدتنا المصلحة والمربّية القديرة العلوية بنت الهدى في أيام حياتها بل وحتى بعد استشهادها1 على طالباتها بشكل خاص وعلى المجتمع النسوي بشكل عام. وأن مثلي لا يمكنها أن تحيط وتفي بحق هذه الشخصية العالمة والفاضلة المضحية من أجل خلق جيل نسوي واعٍ.

فقد كانت ترشدنا إلى طريق الخير والصلاح وترسم لنا معالم الطريق السليم للحصول على الفوز في الدارين، فكان لعطفها وإنسانيتها وحسن سيرتها معنا ومصاحبتها لنا بوجهٍ بشوش تبدو عليه ملامح الخير والبركة الأثر الكبير في أن نحسّ بقيمنا الإسلامية، ونثق بأنفسنا بأننا أصبحنا قادرات على إصلاح أنفسنا والآخرون بقدر ما اكتسبناه من روحها الطيبة وسيرتها المثالية، فكانت توصي دائماً بإصلاح النفس قبل كل شيء ومن كل الجوانب بناءً على: (من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره).

لقد كانت الشهيدة1 في زمن ينعدم فيه الوعي والمعرفة، فكانت تكثر من وصاياها لطالباتها وتقول: (توعّوا وتفهّموا الحياة ليكون مستقبلكنّ مستقبلاً زاهراً نافعاً مليئاً بالخير والبركات)، وكانت تقول أيضاً: (ما أروع عمل الخير، وما أجمل المعروف فيه).

وكانت1 كثيراً ما تؤكد على حديث رسول الله-: (خير الناس من نفع الناس) تشجيعاً للأخوات اللاتي يحضرن دروسها المربية على التخلّق بأخلاق الأنبياء ويستنفذون منها في حياتهن، فهي بحق تمثّل مصداقاً واقعياً لهذه المفاهيم الإسلامية والإنسانية.

حثّها على وحدة الكلمة

كانت العلوية بنت الهدى1 تحثّ النساء وكافة المؤمنين على التقيّد بأحكام الدين الإسلامي، وترى أن من أبرز مصاديق الالتزام الشرعي هو السعي لتحقيق وحدة الكلمة والتآزر والتكاليف بين أفراد المجتمع، وكذا الصبر على مكاره الدنيا وابتلاءاتها، والتسليم إلى حكم الله، فإنه يختبر عباده ليرفع قدرهم ومنزلتهم عنده؛ لأن الدنيا هي دار ممر والآخرة دار مقر.

وكانت1 تنصح الفتيات الشابات لقلة تجاربهن في الحياة فتحثّهن على أهمية وفوائد الصبر، ومحاولة التمرّس على التأني في اتخاذ أي قرار يمسّ حياتهن وخصوصاً إذا اختلفن في الآراء حول عمل معين، فكانت@ تؤكد على أن تستحضر كل مؤمنة في ذهنها بأنها مؤمنة وتعمل مع المؤمنات، فلها معهن قواسم مشتركة كثيرة، فلا ينبغي أن تخضع لوساوس الشيطان الذي يصوّر للإنسان بأن الذي يختلف معه هو عدوه، بينما نجد أن الإسلام يقول في دستوره: <إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ>، وتشير لنا دائماً بأن الاتحاد قوة والفرقة عذاب. فالفتيات سيصبحن أمّهات وأن مسؤوليات الأمهات ثقيلة جداً، فالأم تحتاج إلى إعداد وتوجيه؛ لأنها هي الأصل والأساس في إعداد الجيل الجديد، فينبغي عليها أن تزرع في قلوب أطفالها حب الآخرين.

ثانياً: الجهاد والعمل السياسي

لقد ألمحنا إلى أن الشهيدة بنت الهدى1 كانت تعبّد الطريق وتضيئه لبنات جنسها ومجتمعها، غير أن الخصوصية التي كنا نلمسها في أفكارها وسيرتها، أنها كانت تعتقد بأن العمل الجهادي لا يقلّ أهمية عن العمل التبليغي _ الثقافي التربوي _ وبالتالي فقد كانت تشعر أن من مسؤوليتها أن تسهم في العمل الجهادي إلى جانب عملها التربوي التثقيفي، فكانت تحمل على عاتقها عبئاً كبيراً تطلّب منها تكريس جلّ أوقاتها.

ولقد قرأت الشهيدة تاريخ المرأة المسلمة، وحاولت أن تتمثله فكراً وتطبيقاً، وقد ذكرت طرفاً من ذلك في القصة التي نشرتها أوائل عام 1979 حيث قالت:

إن دور المرأة المسلمة في صدر الإسلام يؤكد أيضاً هذه الحقيقة _ أي حقيقة عدم عزل المرأة عن الحياة الاجتماعية _ فقد شاركت المرأة المسلمة خلال تلك الفترة في تحمّل مسؤولية العمل من أجل الدين، حتى أنها أحياناً كانت تشهد الحروب والغزوات لتداوي الجرحى وتسقي العطشى وتبعث الحماس في نفوس المتخاذلين.[2]

نعم، لقد رأيناها جادة كل الجد في جهادها وأشكال عملها المثمر، ساعية بصدق إلى أن تنال الأجر والثواب والجزاء الأوفى في يوم لا ينفع فيه المرء إلا ما قدّمت يداه من عمل صالح، لقد كانت تسعى لنيل شفاعة جدّتها الزهراء& التي رفعت لواء المعارضة ضد الظلم والانحراف بعد وفاة أبيها المصطفى-.

أ ـ موقفها من الحكّام الظالمين

وهكذا وقفت الشهيدة بنت الهدى1 لسابق اعتقاد وتصميم إلى جانب أخيها المجاهد حتى جادت بدمها الزكي؛ متأسية بالسيدة زينب الكبرى& في جهادها من أجل الإسلام الغالي، وإخلاصها ووفائها لأخيها الإمام الصدر,، كما وقفت أم المصائب إلى جنب أخيها السبط الشهيد%. وكان لبنت الهدى موقف مع الظلمة يذكّرنا بموقف العقيلة زينب& في وجه الأعداء.

ففي فجر يوم الثلاثاء المصادف للسابع عشر من شهر رجب المرجب من عام 1399ق، حين داهم رجال أمن السلطة الغاشمة بقيادة المجرم مدير الأمن المدعو (أبو سعد) لاعتقال المرجع السيد الصدر!، وقد ملأوا دار الشهيد والزقاق المؤدي إليه بالمرتزقة وأفراد الأمن والمخابرات، خرجت بنت عصرها لتواجه مدير الأمن ومعاونه وبقية أفراد الزمرة المجرمة قائلة دون خوف أو وجل: (بماذا ستجيبون رسول الله- يوم القيامة؟ ما الذي جناه أخي، ما ذنبه كي تأتوا لاعتقاله في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح؟ إنه لم يبلّ ريقه بشيء من الفطور بعد.. إن مجيئكم في هذه الساعة دليل على خوفكم من السيد وخوفكم من الشعب. ماذا عند أخي حتى تخافوا منه كل هذا الخوف وتأتوا بهذه القوة والعدد من أجل اعتقال رجل واحد؟ ادخلوا، فتّشوا البيت، فليس عندنا قنابل ولا دبّابات ولا أي سلاح وأنتم تعلمون ذلك جيداً. ليس لدى السيد سوى أم وأخت وزوجة وأطفال.. ليس لديه أي سلاح إلا سلاح الإيمان بالله، وأنتم تخافون من هذا.. إنكم برغم ما أنتم عليه من قوة وسلاح تخافون هذا الشعب الأعزل، وإلا لماذا تأتون لاعتقال السيد في هذا الوقت المبكر؟ أليس لأن الناس نيام ولأجل أن لا يعلم أحد من الشعب؟ ولكن اعلم يا أبا سعد إن الناس لابد أن يستيقضوا، إنهم لن يبقوا نياماً، وإذا اعتقلتم أخي في هذا الوقت فسوف يعلمون.. افهم كلامي يا أبا سعد، إن الناس سوف يستيقضون من نومهم ويهبّون من سباتهم).

وعندما أخذوا السيد, أصرّت الشهيدة على مرافقته. غير أنهم منعوها قائلين: أنه (ليس لديهم أوامر باصطحابها، وأنهم لو اصطحبوها فلن يبقوها معه عند استجوابه).

حينئذ قالت الشهيدة: (لابد من شخص يصحب السيد في ذهابه)، فذهب معه أحد مريديه.

وعندما أخرج السيد من داره معتقلاً، خرجت زينب العصر وبطلة النجف في أثره إلى حرم جدها أمير المؤمنين% مارّة بسوق العمارة، رافعة صوتها بالتكبير منادية: (الله أكبر.. الله أكبر..) حتى وصلت إلى ضريح أميرالمؤمنين% فصرخت صرختها الزينبية الثائرة وصاحت: (الظليمة.. الظليمة.. أيها الناس لقد اعتقل مرجعكم، هتك دينكم، يا أبناء علي، يا أبناء الإسلام، أيها المسلمون الغيارى، اعتقل مرجعكم، انتهكت حرمة مقدساتكم، الظليمة، الظليمة.. يا جداه، يا أميرالمؤمنين، يا أبا الحسن.. إليك أشكو ظلمنا، وإلى الله مشتكانا، يا جداه، يا علي.. لقد اعتقل مرجعنا الصدر).

وهكذا أجّجت المشاعر وهزّت الضمائر بصرختها تلك، وقد حاول أحد خدام الحرم الشريف منعها من الكلام قائلاً لها: اسكتي لا تثيري ضجّة؟ فقالت له: (أنت خادم الحرم، ومحسوب على الإمام، ماذا قلتُ حتى تحاول منعي من الكلام؟ لقد جئت أشكو ظلامتي إلى جدي أميرالمؤمنين، وإني لأرجو الله أن يأتي اليوم الذي تنال فيه جزاءك العادل، وإني لأرى ما تضعه على رأسك هذا يداس بالأقدام).

ثم عادت الشهيدة إلى خدرها بعد أن أدّت واجبها تجاه دينها ومرجعها، وقد كان بعض الشباب المجاهد في دار السيد الشهيد الصدر!، وعند مجيء الزمرة المجرمة كانوا نياماً في السرداب، فذهبت إليهم العلوية الشهيدة فأيقظتهم بقولها: (يا إخوتي، يا أبنائي، أيها المؤمنون، استيقظوا من نومكم، لقد اعتقل مرجعكم)، فنهضوا وخرجوا من الدار وكأن كل واحد منهم بركان ثائر، ليشتركوا فيما بعد في التظاهرة الجسورة.

وما هي إلا ساعات قلائل وإذا بأبناء النجف الأشرف يهبّون مستنكرين لاعتقال مرجعهم وهتك حرمة الإسلام رجالاً ونساءً، وهم يكبّرون ويهللون ويستنكرون أعمال صدام الإجرامية الوحشية واعتداءه على القائد المرجع الشهيد آية العظمى السيد محمدباقر الصدر, واعتقاله، فكان لهذه التظاهرة الكبيرة الأثر البالغ حيث شاع خبرها في جميع أرجاء العراق تقريباً، مما اضطر السلطة الغاشمة بعدها أن تفرج عن الشهيد الصدر, في ذلك اليوم نفسه، ولكن العملاء في الحزب الكافر اتخذوا قراراً إجرامياً بتصفية أبناء الإسلام من أتباع الشهيد الصدر, وتلامذته ووكلائه، فأعدم الكثير منهم واعتقل الآخرون حتى امتلأت السجون بالمعارضين من أبناء الشعب العراقي المسلم الأبي.

وقد ضيّق على الشهيد وأهله في داره لعدة شهور، وكان العدو يخطّط في الخفاء لقتل المرجع الكبير وأخته الطاهرة، حتى جاء يوم العشرين من جمادى الأولى 1400ق المصادف 5 نيسان 1980م فاقتحم جلاوزة البعث المجرم دار السيد الصدر وقاموا باعتقاله مع شقيقته المجاهدة بنت الهدى، حيث كانت الشهيدة واقفة إلى جانب أخيها فشعرت أن أخاها سوف لن يعود. وما إن خرجوا به حتى عاد أحد الجلاوزة ليخبر العلوية بقوله: (إن السيد أبا جعفر يودّ أن يراكِ فتفضّلي معنا).

عند ذلك علمت الشهيدة1 أن الأمر لم يكن عادياً، وإنما هو مخطّط مدروس، وأن العدو لن يقرّ له قرار إلا بتصفيتهم والقضاء على منابع الوعي الإسلامي كما هو الحال مع أجدادهم الطاهرين من أئمة أهل البيت(، لكنها نذرت نفسها وروحها لرسالتها وعقيدتها فشعرت أنها ستخرج ولا تعود، فودّعت الدار ومن فيها وخرجت ترافق أخاها في مسيرته وجهاده حتى آخر لحظة من حياتها، فكانت المجاهدة الشامخة شموخ الأبطال حيث دخلت التاريخ من أوسع الأبواب.

ب ـ مواساتها لعوائل المؤمنين

في تلك الفترة العصيبة من أيام المحنة _ أيام الاحتجاز في داخل الدار _ لم تكن الشهيدة لتعتزل عملها السياسي والاجتماعي ولم يكن دورها الجهادي لينتهي بالحجز. فقد حاولت بما تيسّر لها من وسائل أن تواسي المؤمنات اللواتي اعتقل أو استشهد أزواجهن أو أبناؤهن أو آباؤهن أو إخوانهن، فكانت تقول: (أتمنى أن أكون حمامة لأتخلّص من هذا السجن كي أستطيع مواساة كل امرأة مؤمنة فقدت زوجاً أو أخاً أو ابناً عزيزاً، أتمنى أن أصل إليهم، حتى إذا لم أكن أعرفهم من قبل لأشاركهم آلامهم وأضمّد جراحهم وأخفّف من مصابهم..).

وكانت الشهيدة حينما تستمع إلى أخبار المؤمنين وما يلاقونه من النظام الحاكم، من سجن أو إعدام أو مطاردة تقول: (أما نحن فليس بنا شيء، نأكل ونشرب.. سوى أننا محجوزون في البيت. هنيئاً لكل شهيد قدّم نفسه قرباناً للعقيدة السمحاء وللإسلام العظيم).

لقد كانت عينا الشهيدة تفيضان بالدموع كلما سمعت باعتقال إخوة مؤمنين، رحمة بهم ورأفة بحالهم وإشفاقاً عليهم مما ينتظرهم من تعذيب. إنها لا تنسى المؤمنين المعتقلين، فهي تتألم لهم وتتصورهم أمامها وهم يعذّبون بسياط الجلادين، وتسمع صرخاتهم وأنّاتهم، لقد كانت دائمة البكاء من أجلهم، مشاركة ومواساة لهم ولعوائلهم وكأنها هي المفجوعة بهم، حتى أنها كانت وأخاها يستعملان الأقراص المهدّئة بسبب ذلك. لقد كانا حقاً مملوءين رأفة ورحمة بالناس كل الناس، حتى الأعداء منهم، فكانا ينسيان مصابهما فيبدوان كأنهما في منأىً عن المحنة ومعزل عن المصاب، ليواسيا جميع من نالهم ظلم الحاكم الكافر الجائر.

لقد كانت الشهيدة تستفسر دائماً عن أحوال المؤمنين ممن تعرفهم وممن لا تعرفهم وكانت ترددّ: (يجب علينا أن نتألم للمؤمنين ونواسيهم سواء ربطتنا بهم رابطة معرفة أم لا، يجب أن تكون درجة المواساة والتألم نفس تلك الدرجة التي نتألم بها لأقاربنا أو أحبتنا).[3] وكانت@ تناجي ربّها قائلة: (إلهي، ما عدت أرغب إلا في رضاك، ولا أطمع إلا في عفوك. وما العمر إلا لحظات سوف أفنيها من أجلك وفي سبيلك. ما أهون الصعاب في سبيلك يا رب، وما أروع العذاب من أجلك، وما أيسر العسر في طريقك، وما أحلى المرّ في الوصول إليك..).

وحينما كانت العلوية الشهيدة تقرأ واقع المرأة المسلمة وما فرض عليها من حجر من ناحية أو من انفتاح لا التزام فيه فإنها كانت ترثي لحال المرأة المسلمة وتقول:

(إنني حينما أراجع سير النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهن ومواقفهن أكاد أسأل جادة: هل نحن ملسمات حقاً؟)[4]

ثالثاً: الجانب الاجتماعي والأدبي

أ ـ نشاطها التربوي

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: <وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ> صدق الله العلي العظيم.

المرأة هي المدرسة الأولى في حياة الإنسان، وهي أحد العنصرين الأساسيين في المجموعة البشرية. وحينما نذكر المرأة فإننا نرى أنها مصنع الأجيال، وهي نقطة الانطلاق في تكوين المجتمع البشري، وهي الرصيد الدائم في عملية بناء ذلك المجتمع، ولولاها لما كانت هنالك حياة على الأرض.

وقد أدركت الشهيدة هذه الدرجة من الأهمية التي تتمتع بها المرأة، وأدركت بالتالي ما يترتب عليها من دور كبير في تنشئة الجيل باعتبارها السبب في ديمومة العنصر البشري ورفده بما يحتاج من حنوّ ورعاية، وذلك دور قيادي يأخذ بيد الأجيال نحو أهدافها.

ولقد عملت الشهيدة على أساس أن المرأة _ ولكي تكون بالمستوى المطلوب للقيام بتلك المهام _ يجب أن تُعدّ إعداداً مناسباً لتتقلد المسؤولية المناطة بها بوعي وإدراك، كما يجب أن تتحلى بأعلى مستويات الأخلاق والتعقل لتكون عنصراً إيجابياً نافعاً في عملية تربية الأجيال وإعدادها لتحمّل المسؤولية في مسيرة الأمة. وهكذا ينبغي للمرأة أن تطّلع على تعاليم الإسلام الحقة المتعلقة بالمرأة وشؤونها، فتكون مربّية قديرة سديدة التفكير والسلوك، تحسن كل أشكال التعامل المطلوب مع الطفل الصغير والشيخ الكبير، ومع طلائع المجتمع في قيادة المسيرة نحو بناء مجتمع سليم متكامل تدرك فيه المرأة جيداً ما لها من حقوق. فهي بمثابة المدرسة الأولى للفرد والمجتمع، وحقاً قال الشاعر حين قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها   أعددتَ شعباً طيّب الأعراق

 

ولقد كنا نلمس _ نحن القريبات من الشهيدة1 _ أنها فائقة العناية بأوضاع المرأة المسلمة المؤمنة، وبالإضافة إلى ما ألمحنا إليه من مساهمات الشهيدة الشخصية في مجال العمل السياسي والاجتماعي، فإنها _ وباعتبارها من دعائم وروّاد النهضة الفكرية المعاصرة _ قد أسهمت في نشر الثقافة الإيمانية وتبنّي الأهداف الإسلامية، وقد عملت جاهدة على إنشاء المدارس النسوية الدينية في النجف والكاظمية وغيرهما من مدن البلاد، وهي كما قيل لو أن النساء كمثل هذه الفاضلة (لفضلّت النساء على الرجال).

وهكذا فإن الشهيدة1 كانت متحمّسة لمساهمة المرأة في طلب العلوم الدينية، وكان رأيها ضرورة معالجة دخول المرأة إلى المدارس الدينية لأجل العلم والعمل لوجه الله تعالى ورفع مستوى المجتمع النسائي، وذلك بإدخال المرأة في الوسط العلمي والعمل الجاد ولأجل توعيتها واطلاعها على شؤون العالم الإسلامي وتهذيبها ولكي تكون واعية فاهمة مطلعة في موقع الأم أو الزوجة أو الأخت أو البنت.

ولقد ألمحت الشهيدة في كتابها (الباحثة عن الحقيقة) الذي سبق ذكره إلى مواقع المرأة المذكورة وجوانب دورها الفعال في تلك المواقع، مركّزة على دور الأم، وقالت الشهيدة في هذه المناسبة: (إن الإسلام يعطي للأم مقامها الرفيع ويضع لها الحقوق الكاملة بالنسبة لأولادها) ثم قالت: (إن الإسلام قال على لسان نبيه- إن الجنة تحت أقدام الأمهات) وبهذا جعل طريق الوصول إلى الله تعالى رضاء الأم، وهذا يدل بوضوح على تركيز وجود الأم في حياة الأبناء والاعتراف بدورها الفعال في ذلك.

وبالتالي فإنه ينبغي لها أن تطّلع وتدرك أمور دينها ودنياها لتتمكن من الجهاد وتخوض خضم هذه الحياة المليئة بالمآسي والأحزان، ولكي تتّضح لها كل أمور حياتها فلا تظلّ قابعة في ركن بيتها بحيث لا تعلم شيئاً من حياتها إلا ما تؤدّيه من أعمال داخل البيت.

إن على المرأة إذن أن تتعلم لتؤدّي واجبها بالشكل الأفضل في تربية الأجيال تربية سليمة وفق منهج وأخلاق أهل البيت(.

وبالتالي فإن من الواجب _ من وجهة نظر الشهيدة1 _ إقامة الحوزات العلمية ومراكز ومعاهد التعليم لتتلقّى فيها النساء المؤمنات المعارف والعلوم الإسلامية بمختلف أنواعها بما يفيدها في الدنيا والآخرة.

ولعل الذي قدّمناه من ذكر لجهاد العلوية بنت الهدى1 كان كافياً لنأخذ فكرة عن مساهمات العلوية بنت الهدى1 الجهادية، فقد أسهمت بالجهاد في معناه الحرفي الدقيق حتى دفعت حياتها ثمناً لذلك، غير أن جهاد العلوية لم يتوقف عند مساندتها لأخيها المرجع الإمام الصدر، وإنما تعدّى ذلك إلى ممارسة أشكال من الأنشطة الاجتماعية والأدبية، وقد سخّرت الشهيدة طاقاتها في هذا الجانب لخدمة قضية الأمة ومواجهة تحديات الحاكم الكافر.

ب ـ بين القصة والشعر

لقد مارست الشهيدة الكتابة الأدبية ونظّمت الشعر وكانت في كل ذلك إنسانة مؤمنة هادفة. فلم تكن المهام التي اضطلعت بها الشهيدة1 لتمنعها من التفكير الجادّ فيما يصلح المجتمع النسوي وقد رأت أن الحاجة كانت ماسّة إلى توعية القطاع النسوي وتثقيفه إسلامياً وسياسياً. وعلى هذا فقد قرّرت الكتابة لهذا القطاع الحيوي من المجتمع الإسلامي، وقد وجدت أن الأسلوب الأمثل لاستقطاب النساء _ لاسيما شابّاتهن _ هو الأسلوب القصصي، وقد استفادت من فترات الليل للانصراف إلى هذا العمل المهم؛ إذ كانت أوقات النهار مليئة بالعمل، فكتبت مجموعة من القصص صدرت تحت العناوين التالية: كلمة ودعوة، الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع من واقع الحياة، الباحثة عن الحقيقة، لقاء في المستشفى، ذكريات على تلال مكة، بطولات المرأة المسلمة، المرأة مع النبي- وغيرها.

لقد أجتذبت هذه القصص بأسلوبها البسيط مختلف الطبقات من القطاع النسوي وبمختلف اختصاصاتهن وأعمالهن واتجاهاتهن ومستوياتهن الثقافية. ومع أن الشهيدة لم تكن تلك الأديبة المتخصصة بالتأليف والكتابة إلا أنها سلكت هذا السبيل إحساساً منها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها واستطاعت أن تحقق ما تصبو إليه، فنالت إعجاب الجميع إذ أغنت المكتبة الإسلامية بإنتاجها وبفعالياتها الثقافية وبالعديد من المؤلفات، متحدية بذلك ألوان الثقافة الشرقية والغربية الدخيلة على قيمنا ومبادئنا الحقة.

ولم تقتصر الشهيدة على ما تقدم، وإنما حاولت تنويع اهتماماتها الأدبية، وللغايات المذكورة في أعلاه، فمضت إلى نظم الشعر. ولا يسع هذا المجال إلا لذكر بعض أمثلة من ذلك كنماذج:

  1. تقول الشهيدة عما ينتظر العاملين على درب الحق:
أنا كنت أعلم أن در   ب الحقّ بالأشواك حافلْ
خالٍ من الريحان ينـ   شر عطرهُ بين الجداولْ
لكنني أقدمت أقـ   فو السير في خطوِ الأوائلْ
ولطالما كان المجا   هدُ مفرداً بين الجحافلْ
سأظل أشدو باسم إسـ   لامي وأنكر كل باطلْ

 

  1. كما أوضحت أن الطريق إلى الله لا يخلو من المصاعب والمعوقات التي لابد أن تواجه المؤمن المجاهد لتزيده إيماناً وثباتاً لتحمّل مشاكل الطريق الشائك، كما تريد أن تزيد المؤمن تعلقاً بربه وثقة بإرادته لبلوغ الأهداف الإلهية المقدسة، ليكون سيد نفسه، وعضواً فاعلاً في الهيئة الإيمانية العاملة لتثبيت دعائم الدين الحنيف وتحكيمه على أرض الواقع.

والشهيدة بنت الهدى1 كانت رمزاً نسوياً جديراً بأن يُقتدى به، فكانت تحثّ النساء على الصبر وتحمّل المشكلات التي قد تواجههن في مسيرتهن الإسلامية فكتبت في هذا المجال قصيدة (لن أنثني) تقول فيها:

قسماً وإن ملئ الطريق   بما يعيق السير قدماً
قسماً وإن جهد الزمان   لكي يثبّط فيّ عزماً
أو حاول الدهر الخؤون   بأن يريش إليَّ سهماً
وتفاعلت شتى الظروف   تكيل آلاماً وهمَّاً
فتراكمت سحب الهموم   بأفق فكري فادلهمَّا
لن أنثني عمّا أروم   وإن غدت قدماي تدمى
كلا ولن أدع الجهاد   فغايتي أعلى وأسمى

 

حتى أن إحداهن قالت: (إننا جميعاً نجد في (لن أنثني) حلاوة التحدي وطعم المواجهة..).

  1. وعندما يوجّه الانتقاد إلى الدين الإسلامي والعقيدة نسمعها تقول:
إسلامنا أنت الحبيب   وكل صعب فيك سهلُ
ولأجل دعوتك العزيزة   علقم الأيام يحلو

 

  1. وعند زيارتها لضريح العقيلة زينب& في بلاد الشام تقف بنت الهدى1 أمام ضريحها المقدس بكل خشوع وإجلال وإكبار مدركة أن لصاحبة هذا المقام دوراً عظيماً مكمّلاً لثورة الدم على السيف، وإن كلمات العقيلة زينب& كانت مشعلاً وضاءً أيقظ الأمة من غفوتها، ونبّهها إلى ابتعادها عن الإسلام، فتقول متأثرة بهذا المشهد المؤلم منشدة:
قف خاشعاً بتضرع وتأدّب   واخفض جناحك إنه حرم النبي
فهنا عقيلة حيدر وحفيدة الـ   هادي، وأخت مخلّد الطفّ الأبي
أكرم وأعظم بالمجاهدة التي   صمدت وما لانت ولم تتهيّبِ
نهضت بعبء عيال سِبْطِ محمد   يوم استبيح رحاله للأجنبي
إبّان هاجمت الوحوش خيامها   ومشت على جسد الصبية والصبي

 

  1. وحين بلغها أن طالبة جامعية ارتدّت الحجاب داخل الجامعة والفصل الدراسي غير عائبة بسخرية الطالبات السافرات والأساتذة والطلبة مبرهنة لهم أن الحجاب لا يحول دون ممارسة الدراسة أو العمل أو الوظيفة، بل على العكس من ذلك، فإنه يمثل الصدفة التي تُحمي اللؤلؤة من الخدش، خاطبتها الشهيدة من دون أن تعرف اسمها أو نسبها أو بلدها، بالقول:
رجعية إن قيل عنك   فلا تبالي واصمدي
قولي أنا بنت الرسالة   من هداها أهتدي

 

كلمة الختام

لقد حاولنا في اللمحات المتقدمة أن نعرض لبعض جوانب حياة الشهيدة العلوية بنت الهدى1، الثرية بالدروس والعبر، تلك الجوانب التي عشناها عن قرب وتفاعلنا معها بعمق، حتى إذا غابت تلك الشخصية الفذّة عنا لتتركنا في فراغ كبير لم يستطع أحد أن يملأه بعدها، شعرنا بفداحة الخسارة وخطورة الحدث.

إن العقل يقضي باحترام العظماء وتبجيلهم أحياءً وأمواتاً، ومن ذلك تجديد ذكراهم واستعراض سيرهم والاعتبار بتجاربهم. وإن احتفاءنا بذكرى رحيل العالمة الإسلامية والمربّية الجليلة بنت الهدى إنما يأتي في هذا الإطار، اعترافاً بفضلها على أجيال المرأة المسلمة، لاسيما في العراق، وتخليداً لتضحياتها وتمثّلاً لدورها في مسيرة الأمة نحو أهدافها على النهج الإسلامي، نهج أهل البيت( الذي يضمن للإنسان سعادة الدارين.

لقد لاحظنا خلال هذه اللمحات كيف نشأت الشهيدة في كنف عائلة علمية معروفة، وكيف تتلمذت على أخيها الإمام الشهيد محمدباقر الصدر,، ورافقته في حياته العلمية والجهادية حتى أصبحت منهلاً لا ينضبّ من مناهل الرفد الفكري، حيث أغنت بإنتاجها وفعالياتها الثقافية المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات متحدية بعملها الفكري ألوان الثقافة المادية والغربية الدخيلة على قيمنا ومبادئنا الرسالية، فكانت من دعائم وروّاد النهضة الفكرية المعاصرة في نشر الثقافة الإسلامية والعمل على إنشاء المدارس الدينية النسوية في النجف الأشرف والكاظمية والحي. وكان لها دور في الإشراف عليها، كما كان للشهيدة دور مشرَّف في المدّ الإسلامي الذي شهده العراق وما يزال يعيشه، إذ مارست ألوان العمل النسوي الإسلامي، مشكّلةً محور حركة نشطة في خطوطها ومنهجها وتطلعاتها، وفي الحقيقة فإننا والأخوات المؤمنات السائرات على نهج أهل البيت( نشعر بعمق كم نحن مدينات إلى ما قدمته لنا هذه المجاهدة الفاضلة التي آلت على أن تنهج بأخواتها المسلمات نهج الهدى والصلاح مهما عزّ الثمن وغلت التضحيات.

[1] . الفجر: 27-30.

[2] . الباحثة عن الحقيقة، الشهيدة بنت الهدى، ص 94، دار التعارف للمطبوعات، ط2، بيروت، 1980.

[3] . عن كتاب (بطلة النجف)، الأخت أم فرقان بتصرف وتلخيص.

[4] . المرأة مع النبي؟ص؟، الشهيدة بنت الهدى، ص 35، دار الكتاب الإسلامي، 1981.