عادل رؤوف
عبقرية متعددة المجالات
عقدان من الزمن مضيا على استشهاد المفكر الإسلامي آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، وهي فترة زمنية كافية لاختبار _ أو بالأحرى اكتشاف _ المفعول العكسي لحركة الزمن في التفاعل مع ظاهرته، إذ سنة بعد أخرى تتجلى هذه (العكسية) عبر المزيد من الاهتمام مع هذه الظاهرة فكرياً ومعرفياً وسياسياً، ففي الحالات الطبيعية تتراجع الآثار للأفكار لمجرد موت رموزها مع تقادم الزمن، أما في الحالات الخاصة والاستثنائية، تعمل الظاهرة الفكرية أو المعرفية بعكس ذلك، أي أنها تكشف عن أهميتها مع مرور الزمن حتى تتحول إلى قيمة ثابتة فيه، وتشكّل جزءاً جوهرياً من الخزين الكلي للمعرفة في التاريخ والتي تتوحد مع الحاضر بجدله الفكري والفلسفي والمعرفي، وبعبارة أخرى فإنها _ المعرفة التاريخية الجوهرية _ تتحول إلى شرط لإبداعات المعرفة الجديدة فتتجاوز بذلك الحدود القيمة الزمنية أو المرحلية لتأخذ صفة الخلود الفعال، أو على الأقل صفة الحضور الاضطراري في تحصيل المعرفة الجديدة أو الإبداع اللاحق. وهكذا عاش كل العباقرة والفلاسفة عبر التاريخ مع جدل المعرفة الحاضر من خلال قيمة ما قدّموه من إنجازات معرفية وعلمية أكبر من قدرة الزمن على إيقافها.
وحتى الآن فإن الشهيد محمد باقر الصدر، وبعد مرور عشرين عاماً على استشهاده، يزداد حضوراً في قلق المعرفة الإنساني من خلال الدراسات التي تناولته بشكل تصاعدي، ويزداد حضوراً من خلال تأثير أفكاره ونموها في الأوساط الاجتماعية.
ومن ثم تصاعد وتيرة الانتماء البشري لمشروعه لاسيما في الساحة العراقية التي جسّدت هذا الانتماء بشكل تصاعدي واضح خلال العشرين عاماً الماضية، إذ أن التيار الإسلامي العراقي _ الذي ازداد ولا زال يزداد نفوذاً واتساعاً _ هو تعبير حي وصارخ عن هذا الانتماء لمشروع الشهيد محمد باقر الصدر.
وما يخص الجانب الأول، وهو الجانب المرتبط بما كُتب عن فكر الشهيد محمد باقر الصدر من دراسات وقراءات، فإنه لا زال في مرحلة الإرهاصات المتصاعدة _ رغم كل ما كتب حتى الآن _ لأسباب مختلفة يختلط فيها السياسي باللاسياسي، كما أن بعض الكتابات جاءت مخففة لما يمكن تسميته العبقرية الخالدة للسيد الصدر.
ويقول واحد من نصوص هذه الكتابات:
ويُعرف الصدر، على نحو أفضل، من خلال آرائه في الفسلفة الواردة في كتاب فلسفتنا الذي تُرجم إلى الإنجليزية إلى عهد قريب، إلا أنه من الصعب الجزم بأن هذا الكتاب أثرى النقاش الفلسفي في العالم الإسلامي إلى حد كبير أو أنه على سوية مع كتابات الفلاسفة العظام في التاريخ.[1]
ويبرّر الدكتور شبلي الملاط هذا الاعتقاد بالقول:
صدر كتاب فلسفتنا عام 1959 كرد فعل على تعاظم التيار الشيوعي في العراق ونجاحه في أوساط الشيعة الأكثر حرماناً، وكان الهدف الأول للصدر صد ذلك التيار بتوفير فهم أفضل وتفحص أدق لمنهج الماركسية والمصطلحات الخاصة، ويبدو كتاب فلسفتنا كنقد مفصل من وجهة نظر إسلامية، لما كان يعتبر آنذاك في العالم العربي أكثر أساليب التعبير عن الفسلفة المادية حذقاً وحنكة _ كما يكشفه ملحق للطبعة الأولى من الكتاب _ في المصادر الماركسية للصدر، أما الجهد المبذول لهذا الكتاب بالنسبة إلى مجتهد شيعي فهو أمر لافت للأنظار بمنحاه الفذ، لكن إمكانات النجاح البعيد الأمد لكتاب بُني على أساس المادية الجدلية لستالين والشيوعي الفرنسي جورج بولتيز كان محكوماً عليها بالإخفاق، ولذا يشعر القارئ الآن بأن كتاب فلسفتنا تلك النكهة المميزة للغة تخطّاها الزمن.[2]
وليس هنا مجال مناقشة هذا النص بشكل مفصّل؛ لأن العامل الذي يتأسس عليه عدم خلود الصدر في هذا المجال، وهو عامل يتمثل (بمرحلية الفكر الفلسفي الماركسي الذي انهار والذي أعطاه الصدر أهمية قصوى). هذا العامل هو ذاته يكشف عن بعد آخر من أبعاد عبقرية الإمام الصدر، وسبب من أسباب عظمته وخلوده، إذ أن واقعية الصدر التغييرية المعاصرة، بقدر ما هضمت التاريخ الفلسفي وناقشته فإنها سعت إلى تغيير وجه العالم من خلال مناقشة آرائه وأفكاره الفلسفية التي تشكّل البنى السفلية لأنظمته السياسية التي تتحكم فيه. ولذا فإن الصدر ربط جهده الفكري والمعرفي بالواقع بغية تغييره، فهو لم يكتب بالفلسفة من أجل الفلسفة فقط، أو من أجل أن يتحول إلى رمز فلسفي خالد، ومع ذلك فإنه أبدى عبقرية قلّ نظيرها في المجال الفلسفي في مرحلته.
إن عبقرية الصدر الحقيقية هي عبارة عن المجموع الكلي لإبداعاته في المجالات المعرفية التي عالجها (الفقهيه والاقتصادية والفلسفية والتاريخية والمجالات الأخرى)، إنه لم يكن نابغة في أحد هذه المجالات، بل في كل هذه المجالات وهنا يكمن استثناؤه، في عبقريته الكلية التي شكّلتها عبقريات تخصصية متعددة، إذا صح التعبير، وباختصار فإنه (لا يدرك قيمة الجهود التي بذلها الشهيد الصدر سوى أولئك الذين آمنوا بالإسلام بكل جهودهم، ونشدوا عظمته وسيادته من جهة، وأحاطوا علماً بأوضاع عصرنا الراهن وظروفه المضطربة والمعقدة من جهة أخرى)،[3] وكل ذلك لا يعني بالتأكيد أن الصدر الأول تحوّل إلى رمز مقدس لا يمكن أن يناقَش أو يُنقد، لأن مثل هذا الاعتبار يخالف قناعات الصدر ذاته الذي يدعو منهجه العلمي دائماً إلى الجدال أو النقد.
المنهجية
لابد أولاً من تقديم تحديد لمجال منهجية هذا البحث _ المواجهة السياسية بين مشروع الشهيد محمد باقر الصدر الكلي، والأنظمة السياسية التي امتد هذا المشروع زمنياً لتغطيتها _ فبدون هذا التحديد سنكون أمام جملة من الأزمات المنهجية التي ترتبط بالمحتوى والمضمون الذي يعمل أي باحث في هذا الإطار على إظهاره، لاسيما وأن محور المواجهة السياسية هو محور مفتوح على وقائع امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً، فضلاً عن زمن تفاعلاتها التي سارت بصورة تصاعدية بعد استشهاد السيد الصدر، واستيعاب كل هذه الوقائع وتفصيلاتها يحتاج إلى عمل ضخم مغاير في حجمه لطبيعة البحث المحدود بمساحة محددة.
من هنا ولكي لا تكون قراءة المواجهة قراءة تسجيلية للأحداث أو قراءة يطغى عليها الجانب التحشيدي _ الحشري لأكبر عدد من الأحداث والتفاصيل _ لابد من تحديد منهج خاص بالبحث قادر على المعالجة التحليلية ويغطّي كل العناصر الداخلة في هذه المواجهة، ولكن بما يشكّل تكتيلاً للمضمون والهدف، حتى ولو على أساس تحاشي الخوض في الكثير من المفردات التي لا تساهم في إعطاء معرفة مهمة، أو أنها مكرورات روتينية.
وبهذا المنهج يمكن تحاشي ما وقعت به بعض البحوث _ حتى الموسّعة _ التي تناولت هذا المحور، حيث جاءت محصلة هذه البحوث على شكل سرد للوقائع أكثر مما هي معالجة للقضايا الجوهرية، أو المسائل الأساسية التي ترتبط بالمشروع الصدري.
وعليه فإن المنهج الذي سنعتمده يحاول أن يخلط بين شمولية العنوان وبين التفاصيل المنتقاة التي نعتقد بأنها تشكّل المادة الحيوية التي يمكن أن تفعّل تحليلياً بما يساهم في بناء التصورات النهائية أو الرؤية الإجمالية، فليس المطلوب في هذا البحث أن نعالج كل ما يدخل في حيز المواجهة السياسية للمشروع الصدري مع الأنظمة السياسية التي عايشها، ولا أن نعالج مرحلة من مراحل هذا المشروع المفترضة، فتسجيل الأحداث والوقائع عملية تم جزء منها في دراسات وبحوث ومعالجات سابقة، كما أن معالجة مرحلة من مراحل المشروع، حتى وإن كانت المرحلة الأخيرة من عمره التى احتشد فيها أكبر عدد من التفاصيل والأداءات _ وهي مرحلة السنة الأخيرة من عمر السيد الصدر _ سوف تقدّم قراءة مشوّهة أو غير مكتملة، وإذا كان الهدف من هذا البحث هو أن نخوض في قراءة نقدية _ تحليلية لأداءات الشهيد الصدر وأساليبه وآلياته السياسية وفكره السياسي الإسلامي فلا يمكن إنجاز هذه العملية دون رؤية البيئة الجغرافية والدينية التي تعرّض لها وتحكّمت بدرجة أو بأخرى بحركته وطبيعة الأنظمة السياسية التي واجهها.
ومن هنا تنبع شمولية المنهج البحثي لهذه القراءة التي ستكون على حساب الكثير من التفصيلات غير الفعالة في الوصول إلى الأهداف التي حصلت على مسار خط المواجهة الزمني بين مشروع الصدر والأنظمة السياسية التي عايشها. وعلى أساس هذا المنهج يمكن أن نبوّب القراءة من خلال المفردات التالية:
أولاً: الرؤية السياسية النظرية في مشروع الشهيد الصدر وأدوات هذه الرؤية التي عمل على تأسيسها ونقلها إلى الحيز التطبيقي أو التنفيذ الميداني، ومن ثم موقع هذه الرؤية والأدوات في السياق الكلي للمشروع بأبعاده الفلسفية والمعرفية والعلاقات الترابطية لها في نسيج هذا المشروع.
ثانياً: المسار الميداني للمواجهة من خلال مجموع المراحل التي أفرزها، وما تضمّنه المسار هذا من خطط ونشاطات ومنعطفات وأداءات سياسية سواء للشهيد الصدر أو الأنظمة التي واجهها.
ثالثاً: طبيعة هذه الأنظمة السياسية التي مثّلت طرف المواجهة الثاني، وخصوصيات بعضها التي سيكون لها تأثير في المحصّلات الكلية لتقييم مشروع الشهيد الصدر ومصيره السياسي.
رابعاً: المؤثّرات الداخلية والخارجية على حركة وطبيعة هذه المواجهة بما فيها مؤثر الثورة الإسلامية في إيران، والمؤثر المؤسسي الديني الداخلي، وسياسية الشهيد الصدر إزاءه، بالإضافة إلى مؤثرات سياسية خارجية. وتحديات أو مؤثرات من داخل دائرته _ أي الشهيد الصدر _ أفرزها فيما بعد المسار الميداني للمواجهة.
مشروع الصدر؛ المنهج، الأدوات، الملامح
قليلون جداً الذين أدركوا المنعطف الهائل والخطير الذي تعرّض له المسلمون في العالم في بدايات القرن الماضي وبالتحديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بانهيار الدولة الإسلامية المركزية وشيوع الفكر القومي وولادة الدولة القطرية، ومن ثم خضوع العالم الإسلامي إلى التيارات الفكرية الخارجية، إذ سارت تفاعلات هذه الفترة بسرعة كبيرة جداً فيما يتعلق بهيمنة هذه التيارات على العالم عبر تكتّلات ومن ثم أنظمة سياسية، فيما أن معظم الذين حاولوا تصحيح الخلل من المفكرين الإسلاميين _ المتمثل بإزالة الإسلام عن مسرح الحياة السياسية العالمية _ انتهوا إلى التسليم بـ(الأمر الواقع) الذي نشأ في ظل اندفاعة هيمنة الغرب السريعة.. .
وراجت في ظل انهيار التوازن هذا بالمقابل وبشكل تصاعدي مقولات فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن السياسية كتعبير عن دوّامة فكرية أو أزمة فكرية إسلامية، وما وراء هذه المقولات السياسية _ الفكرية، كانت هنالك مقولات دينية تتوالد وتنمو في ظل الانكسار النفسي العام لتُمثّل قوالب من المبررات أو أسباب الاحتماء هروباً أو عجزاً من إعطاء التفسيرات للواقع الجديد، كمقولة الإسلام دين عبادة، ومقولة التقية ومقولة الانتظار كحتمية للإصلاح.
وفيما أن وتيرة الحركة الفكرية في العالم تزداد سرعة وشعارات هذه الحركة السياسية وبرامجها تقتحم العالم الإسلامي لتحوّل ملايين الشباب فيه إلى امتداد لها، كان الفكر الإسلامي يزداد انحساراً ويتأخر عن تقديم شروحات لما يحصل أو إجابات على أسئلة العصر المتوالدة وتحدياته الحضارية والثقافية وجدله الفكري.
وفي العراق بالذات يتجلى المأزق بشكل أكبر من بلدان العالم الإسلامي، فمن ثورة المرجعية الدينية ضد الاحتلال الإنجليزي إلى عودتها من المنفى المشروطة بعدم التدخل في السياسة إلى آثار هذا الشرط الذي خلّف وراءه أمة وأجيالاً ضائعة عاشت خواءً فكرياً وفراغاً أيديولوجياً ومثّلت بشكل تلقائي وطبيعي مجالاً خصباً وحيوياً وحيوياً لانطلاق ونمو التيارات الفكرية الوافدة، ولم يصح الواقع الديني إلى هذا التحول الخطير إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن ملأ الفراغ الفكري المد الشيوعي الأحمر، والأحزاب العلمانية الأخرى.
ربما يكون مثل هذا التوصيف للنصف الأول من القرن الماضي مكروراً بأشكال محدودة من خلال أدبيات الحركة الإسلامية، إلا أن فهم المشروع الصدري يتطلب _ اضطراراً _ هذا التكرار؛ إذ أن وعي هذا المشروع وأبعاده وعمقه لا يتحقق باختصار ولادته من خلال أو في مقابل المد الشيوعي الذي كان إحدى النتائج الجاهزة في الشارع العراقي، حتى وإن عالج الشهيد الصدر بإسهاب التحدي المادي _ الشيوعي من خلال أعماله الفكرية والفلسفية والاقتصادية.
فالشهيد الصدر أعطى تفنيد هذا المد الشيوعي في العراق وفي العالم كله ما يستحقه في مجموع جهوده ومؤلفاته الفكرية، وإن هذا المد أخذ حيزاً مهماً من أعمال الشهيد الصدر؛ لأنه ينفرد بأساس فلسفي ورؤية للكون والحياة والمجتمع بخلاف الفكر الرأسمالي الذي لا يرتكز إلى بُنى فلسفية متينة وعلى أهمية هذا الجانب من أعمال الشهيد الصدر، إلا أن مشروعه الأساسي كان يتمثل ببلورة الفكر الإسلامي في شؤون الحياة المختلفة والارتباط العضوي لجوانب هذا الفكر بأساليب علمية متطورة وبما يعالج ضمناً مقولات الاسترخاء والخمول الدينية، وعليه فإن المهمة التي كانت تنتظر الشهيد الصدر مهمة عسيرة وشاقة وطويلة وهي مهمة تشمل:
أولاً: مناقشة المدارس الفكرية العالمية والمذاهب الفلسفية ودحضها وبأسلوب علمي وأدوات وتقنية بحثية متطورة معاصرة، وهي مناقشة لم يستطع مَن سبق الصدر الاقتراب منها؛ لأنها تحتاج إلى نبوغ ومؤهلات وإرادة. ولقد أنجز الشهيد الصدر هذه المهمة ببراعة منقطعة النظير بقيت يتيمة بنموذجها تقريباً حتى الآن، من خلال كتب فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء؛ وذلك لدحض (إمامة الغرب الفكرية) وتخليص العالم الإسلامي من التبعية له، حيث يقول الشهيد الصدر:
هذا في الوقت الذي نرى فيه انفتاح العالم الإسلامي على حياة الإنسان الأوروبي، والإذعان لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة، بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية؛ لأنه يرى أن الأسلوب الاقتصادي والالتحقاق بركب البلاد المتقدمة هو اتخاذ حياة الإنسان الأوروبي تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطواتها.
وقد عبّرت هذه التبعية عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً: التبعية السياسية والتبعية الاقتصادية والتبعية المنهجية، ولا تزال هذه الأشكال الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.[4]
ثانياً: وتشمل هذه المهمة التأسيس للفكر الإسلامي وللكلمة الإسلامية، وهو تأسيس يوجزه الشهيد الصدر في مقدمة كتاب فلسفتنا بالقول:
وليس هذا الكتاب إلا جزءاً من تلك الكلمة عولجت فيه مشكلة الكون كما يجب أن تُعالج في ضوء الإسلام وتتلوه الأجزاء الأخرى التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع لمختلف مشاكل الكون والحياة.[5]
ثالثاً: وهذا التأسيس للإسلام في مجالات المعرفة المختلفة اختزن معالجات ضخمة لاتجاهات فكرية _ دينية أرادت أن تبرر الواقع وأن تُقنّن العجز عن مواجهته أو التعامل معه. فلقد بذل الشهيد الصدر جهوداً جبّارةً في إطار مشروعه الكلي تساهم بالكشف عن هشاشة الأسس التي ترعرعت عليها هذه الاتجاهات. ولقد جاء هذا الكشف في سياق حركة عمله التأسيسي دون أن يحوّلها إلى عناوين معلنة أو مشاريع مستقلة يواجهها قبل أن يواجه التحديات الكبيرة؛ تحدي المدارس الفكرية العالمية وتحدي إرساء قاعدة معرفية وبناء فكري متكامل للمشروع الإسلامي، وقبل ذلك تحدي تأسيس حزب إسلامي.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى هذا المنهج الصدري في التعاطي مع الواقع الذي انطلق منه. فهو منهج واعٍ لأولويات الانطلاق، وهذا الوعي سيعطي المشروع فرص الانطلاق الطبيعية، ويؤهل المحيط الفكري الذي حوله نحو تجاوز المقولات الفكرية الخاطئة في داخله بهدوء نسبي؛ فالشهيد الصدر لم يدخل في مناقشات مع اتجاهات محيطه الفكري الخاطئة تلك كمداخل لمسيرته الفكرية؛ لأنه كان يدرك أن هذه الاتجاهات أفرزها واقع العجز المهيمن من ناحية وأفرزتها امتدادات الفكر الوافد إلى العالم الإسلامي من ناحية ثانية.
وعليه فإن الطرح الكلي الذي يدحض هذه الأفكار الوافدة، ويؤسس لأفكار إسلامية جديدة سيكشف ضمناً خطأ الكثير من الاتجاهات، دون أن يدخل صدامية منفصلة معها، نقول: لولا هذا المنهج المحكم لما كان ممكناً للشهيد الصدر أن يجتاز حتى المرحلة الأولى من حياته الفكرية والتي أنجز خلالها بعض مؤلفاته ونفّذ بعض خطط مشروعه التغييري. صحيح أن ظروفاً أخرى سهّلت إنجازه هذا، كتعاطف المرجعية الشيعية آنذاك مع جهوده الفكرية وإحساس هذه المرجعية بخطورة المد الشيوعي في العراق في تلك المرحلة، إلا أن امتدادات هذا المنهج اللاحقة للشهيد الصدر كشفت عن دوره _ أي المنهج _ في النجاح الذي حققه مشروعه بسرعة مذهلة في سنواته الأولى.
وسيكشف هذا البحث لاحقاً، فيما إذا كان الشهيد الصدر أدرك في الشهور الأخيرة من حياته أنه كان يتوجب عليه أن يوقف العمل بهذا المنهج عند تلك المرحلة الأولى، أم لا؟
لقد ربط الشهيد الصدر أجزاء عمله الفكري ربطاً محكماً، فجعل من أطروحة الدولة الإسلامية مدخلاً لهذا العمل وهدفاً نهائياً له، إذ (أن فكرة الحكومة الإسلامية هي محور البحث، وهي المفتاح لفهم آرائه السامية في الميدان الاجتماعي والاقتصادي).[6]
وهو إذا ما أشار في مقدمة كتاب فلسفتنا إلى كلمة الإسلام من الدولة فإن إنتاجه المعرفي انصبّ في أغلبه على الفكر القانوني والمؤسسي لهذه الدولة، فهو في تصوره الشامل للاقتصاد الإسلامي، (يصف جهده بأنه خطوة على طريق بلورة تصورٍ شامل للاقتصاد الإسلامي يكتسب معناه وإمكانية تجسيده في ظل قيام الحكومة الإسلامية)[7]، وبالإضافة إلى اتجاه إنتاجه المعرفي فإنه أشبع ظاهرة الدولة تنظيراً واعتبرها ظاهرة نبوية (وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولّى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة كداوود وسليمان وغيرهم، وقضى بعض الأنبياء حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى%، واستطاع خاتم الأنبياء- أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان وجسّدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً).[8]
إن همّ الدولة الإسلامية في جهود وكتابات الشهيد الصدر وكلماته والتأسيس لفكرها لم يأتِ في مرحلة من مراحل مشروعه التغييري، إنما هو همٌّ تجلّى مع انطلاقة هذا المشروع نتيجة استيعابه رضوان الله علیه لخلفية الأزمة السياسية _ الفكرية للعالم الإسلامي، التي طبعت النصف الأول من القرن الماضي الذي شهد انهيار الكيان المركزي للمسلمين. إلا أن عمق هذه الأزمة وتعقيداتها دفعاه إلى أن يشخّص الطريق لحلها بطريقة مغايرة عن السجال السطحي لعلاقة الدين بالسياسة كمقولة ذات منشأ غربي وَجدت من ينظّر لها في العالم الإسلامي في ظل مراحل الهزيمة والانهيار النفسي. فهذه المقولة ستبقى شاخصة ما لم تواجَه بطرح فكري بديل يزيل الشكوك النظرية بقدرة الإسلام الأبدية على إدارة الدولة.
وهذا العمل يتطلب التأسيس الشامل للبعد السياسي في الإسلام بالإضافة إلى التأسيس في المجالات القانونية والاقتصادية والمصرفية التي يمثّل الجانب السياسي في بنائها الإفراز العلوي، وهذا ما قام به الشهيد الصدر من خلال دراسته لفلسفة العبادات في الإسلام ودلالاتها وأبعادها السياسية.
فبعد أن أنجز الشهيد الصدر معظم أجزاء المنظومة الفكرية التي ترتبط ارتباطاً عضوياً في النظام السياسي وفلسفة الدولة وساهم مساهمات فعالة وجذرية في تأسيس حزب إسلامي، أخذ يؤصّل لواقع الإسلام السياسي من خلال فلسفة العبادات وموقعها في البناء الفكري الإسلامي العام الذي يتوقف فهمه واستيعابه على الشمولية وعلى واقع التركيب العضوي والتداخل والترابط بين أجزائه.
وإن التفكير بتأسيس حزب إسلامي وعمل منظم يتطلب الطاقات الشابة ويواجه الطرح الآخر للأحزاب العلمانية، ولو أنه كان همّاً مسيطراً على عدد من الرموز والشخصيات العاملة في الساحة الإسلامية، إلا أن طبيعة المساهمات الفكرية الحركية التي غذّته تدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الحزب ما كان له أن ينجح لو بقي فكره الحركي بعيداً عن رؤى وآراء الشهيد الصدر. فهذا الفكر الحركي أخذ منحى العمق والعمل التأسيسي المحكم على غرار المنهج الجذري الذي طبع كل جهود الشهيد الصدر الفكرية التي تلت تأسيس هذا الحزب، الأمر الذي يعزّز من الاعتقاد بأن الشهيد الصدر كان قد خطط لهذا الحزب أن يكون أداة العمل السياسية _ الاجتماعية في حركة الإسلام في الواقع السياسي الداخلي والخارجي.
ولقد استثمر الشهيد الصدر الظروف السائدة آنذاك _ ظروف المؤسسة الدينية _ استثمار ذكياً لإنجاز تأسيس هذه الأداة الحزبية، مترجماً بذلك شمولية تفكيره الإسلامي، الذي اعتمد التأسيس الفكري _ السياسي الإسلامي بشكل متزامن وناقش الأفكار الشيوعية والرأسمالية في لحظة التأسيس للإسلام وكتب دستوراً للدولة الإسلامية المفترضة في نفس الوقت والمرحلة. إنه أنجز معظم ملامح مشروعه في غضون أربعة أعوام (1957 _ 1961م) ودخل في نفس هذه المرحلة في نشاط مؤسسات أخرى ليمارس دور المحرك الأساسي فيها، وليخلق من هذه المؤسسات أدوات إضافية في حركة المشروع الإسلامي كتجمع العلماء المجاهدين ومجلة (الأضواء) التي كان يكتب افتتاحيتها تحت عنوان (رسالتنا) ولم يواجه الشهيد الصدر الصعوبات التي واجهته آنذاك من داخل وخارج المؤسسة الدينية بالانسحاب التام أو يؤدّي به ذلك إلى تقهقر طموحه في مواصلة المشروع وتأسيس أدواته. ولكنه التفت إلى داخل المؤسسة الدينية ليمارس عملية التجديد من داخلها _ بعد أن اضطر إلى ذلك _ وأنها مؤسسة مرتهنة إلى مناهج تدريس تقليدية وقديمة ولا تواكب حاجات العصر وتحدياته وهو يعلم أن العمل في هذا الاتجاه يحتاج إلى مزيد من الدقة والصبر والتأني. كما أنه عملٌ يجب أن ينصبّ على أكثر من محور، محور تطوير المنهج ومحور بناء نواة جديدة لجهاز الحوزة يخضع لنظام تدريس مغاير ومحور يعمل ببطء على تأسيس نظرية متكاملة حول المرجعية ويجعل من دورها أكثر اندكاكاً بالأمة وشؤونها السياسية _ الاجتماعية.
وبكل هذا يكون الشهيد الصدر بذل ما ينبغي من الجهود لتأسيس أدوات تنفيذ مشروعه التغييري؛ الأداة الحزبية التي تعمل في الوسط الاجتماعي وتقوم بمهمة تأهيل الكوادر الإسلامية ثقافياً والأدوات التي تنهض بواقع المؤسسة الدينية. وبالتأكيد فإن هذا التأسيس لم يتحرك بصورة كلية وفق خطط الشهيد الصدر كما افترضها، إنما جاء هذا التأسيس في حلقاته الأخيرة مرتهناً إلى ضغط الإشكالات الداخلية والخارجية التي واجهها، وهي إشكالات _ كما سنرى لاحقاً _ كبيرة وخطيرة.
وعودة إلى البعد السياسي الذي تَرجمَ منذ اللحظات الأولى انطلاقة الشهيد الصدر في فكر الدولة الإسلامية، فإنه واصل التنظير لهذا البعد من خلال فلسفة العبادات، إذ لا توجد فلسفة (أكثر واقعية وأكثر ثورية من فلسفة الإسلام ونظرية إلى الحياة والإنسان كما طرحها الشهيد. وتتجلى هذه الواقعية الثورية أو الجهادية في تحليل الشهيد للعبادات وعلاقتها بالحياة. إن العبادات التي تمثل أعلى مستوى من الروحانية والتجريد النفسي والفكري تلتصق وتتلاحم مع اهتمامات الأمة في الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية.
فالدين الإسلامي _ كما يرى الشهيد _ هو دين شمولي يؤطّر الممارسات ويجعل المسلمين ينطلقون دائماً من موقع العقيدة لا من الفوضى والغوغائية أو تمييع العقيدة والعبادات. فالإسلام _ كما يتجلى في فكر الشهيد _ رسم الإطار الذي يعيش فيه المسلم عقيدته وعبادته. هذا الإطار يتناقض مع كل الرؤى الفلسفية الغربية المادية والمثالية معاً. والعقيدة والعبادات يجب أن يعيشها المسلم في نظر الإسلام بأبعادها الروحية والاجتماعية، هذا هو الشرع وهذا هو المنهج).[9]
لقد اختار الشهيد الصدر أن يواجه الإشكالات والمقولات ذات الاتجاه التشكيكي أو الرافض لقدرة الإسلام السياسية أو المصوّر له بأنه دين عبادة فقط عبر تأسيس مُضنٍ عميق وجذري، لا لأنه أدرك بأن التناول المبسّط لهذه الإشكالات سوف لن يلبّي المطلوب ولن يملأ الفراغ الفكري الخطير فحسب؛ بل لأنه أدرك أيضاً خطورة القضية وأن المطلوب ليس فقط إثبات قدرة الإسلام الفكرية والسياسية، وإنما المطلوب خلق إرادة تنفيذ هذه القدرة سواء عبر الصفات الأخرى التي أسسها للفكر الإسلامي أو عبر تهيئة أدوات المواجهة العملية التي تنقل مشروعه من الحيز النظري إلى الواقع العملي على الأرض (فالشهيد لا يرى بعدم انفصال الدين عن السياسة فحسب، بل يرى أن السياسة جزء من الدين. ومعنى هذا أن المسلمين يجب عليهم أن يعيشوا الإسلام في إطاره الشامل الكامل. وعلى هذا الأساس طرح الشهيد العبادات كثورة على صعيد القيم والمفاهيم. لأن العبادات إذا فهمت واستنبطت في إطار شمولية الإسلام ترفع الأمة إلى مستوى الصراع الحضاري مع الغرب فتكون لها كلمتها في العلاقات غير العادلة بين المستكبرين والمستضعفين، ويكون للفكر الإسلامي كلمته القطعية فيما يخص الاستبداد الذي يسود العالم الإسلامي.
ونتيجة لذلك تتجلى فكرة الشمول كالأساس أو المعيار الذي يميّز فكر الشهيد _ من حيث هو فكر رسالي _ عن غيره. فكرة الشمول التي يؤخذ الإسلام بمقتضاها على أنه كل تترابط أجزاؤه، فالعقيدة والعبادة والشريعة يتداخل بعضها في الآخر. ومن هنا فلا مجال للفصل بين الدين والدنيا، بين العبادة والحياة الاجتماعية).[10]
وبالإضافة إلى ذلك ناقش الشهيد الصدر مفعول العاطفة المستمد من العقيدة الإسلامية، وعلاقتها بالأفكار والمفاهيم والارتباط الجدلي بينهما، فهو يقول في هذا المجال:
والسبب في هذا الربط بين المفاهيم والعواطف واضح كل الوضوح؛ لأن الإسلام لا يريد المفاهيم والأفكار بمعزل عن العمل والتطبيق، وإنما يريدها قوة دافعة لبناء حياة متكاملة في إطارها وضمن حدودها، ومن الواضح أن الأفكار والمفاهيم لا تصبح كذلك إلا حين تتخذ أشكالاً عاطفية حتى تخلق الانفعالات التي تناسبها والعواطف التي تساندها، متخذة من هذه العواطف موقفاً إيجابياً في توجيه الحياة العملية والسلوك العام..[11]
وبهذا التزاوج بين الأفكار والعواطف يأخذ الإسلام أحد أبعاد محتواه الثوري (ومن الملاحظ أن إنسان الدولة الإسلامية الذي انطلق في مطلع تاريخ هذه الأمة لكي يصنع التاريخ من جديد لم تنطفئ الشعلة في نفسه طيلة المدى الذي كان الله تعالى هدفه الحقيقي فيه، بل كان يستمد من العدل المطلق الذي يمثله هذا الهدف العظيم وقود معركته التي لا تنتهي وتحرّكه الذي لا يخمد ضد ظلم الظالمين وجبروت الطغاة، لا في قريته فحسب ولا في جزيرته خاصة ولا بين أفراد قومه فقط، بل في كل أرجاء الدنيا).[12] وهكذا تتراكم _ من خلال هذه الالتقاطات _ المواصفات الكلية لحركة الشهيد الصدر الفكرية والسياسية.. . ومن ثم المواصفات الكلية لرؤيته ومشروعه التغييري، فهو:
1 _ انطلق في مشروعه انطلاقة كلية بمعنى أنه لم يؤجّل جانباً من المشروع على حساب جانب آخر، وفي نفس الوقت لم يعدم أو يهمل الجانب التخصصي في أعماله الفكرية، كما أنه لم يضع مراحل منفصلة ومتباعدة بين الجانب التفنيدي للأفكار الشيوعية والرأسمالية وبين الجانب التأسيسي للفكر الإسلامي، بل جاء عمله على شكل واضح في أجزائه وعناوينه ومهامّه، ويربطها أيضاً نسيج واضح من المقاربات والمقارنات بين الفكر الإسلامي، والأفكار الأخرى.
2 _ إن المنهج الذي اعتمده هذا المشروع _ كما أشرنا _ تحاشى تناول المقولات السائدة في المحيط الإسلامي آنذاك، التي تشكك بقدرة الإسلام السياسية بشكل منفصل وسطحي، بل أوكلَ إسقاط هذه المقولات إلى جذرية عمله التأسيسي الفكري الضخم، وهو بهذا المنهج الجذري تحاشى ما استطاع إعطاء مشروعه صفة التنازع الإسلامي _ الإسلامي، وكشف بشكل لا يحرج الآخرين ضعف مقولاتهم حول (التقية) و(العلاقة بين الدين والسياسة) و(الإسلام دين عبادة).
3 _ نهض مشروع الشهيد الصدر على محور أساسي وهمّ أساسي، كان واضحاً منذ البدء، وهو محور الدولة الإسلامية، والتأسيس لكل ما يدخل في حيّز هذه الدولة من أفكار اقتصادية ومصرفية وقانونية ونصوص دستورية تراكمت بشكل يكمّل بعضها البعض الآخر.
4 _ بقدر ما أعطى الشهيد الصدر صفة الشمولية للإسلام في النظرية والتطبيق، فهو أعطاه الصفة الثورية من خلال التأسيس لهذه الثورية وربطها بجذور العقيدة الإسلامية وأصول الدين.
5 _ وأسس لهذه الثورية في السياق الكلي للمشروع، وبما يخلق قاعدة عقيدية وفكرية للانتقال به من حيّز النظرية إلى حيّز التطبيق، منظومة علاقاته بين فلسفة العاطفة والمفاهيم والأفكار الإسلامية التي ستبقى بدون هذه العاطفة فاقدة للحيوية والتأثير.
6 _ فيما أن السيد الشهيد الصدر جهّز هذا المشروع بعدة من الأدوات النظرية التي تترجم مضمونه الفكري في الواقع الاجتماعي والسياسي، كمساهمته الفعالة في اعتماد نظرية الحزب السياسي ووضع أطروحة للمرجعية مغايرة في وقتها لسياق العمل المرجعي ورصده لحركة المحيط الإسلامي وتنشيط العمل الفكري فيه من خلال إعطائه بعده السياسي _ الاجتماعي كدوره في مجلّة الأضواء ودوره في جماعة العلماء المجاهدين التي تأسست في نهاية الخمسينيات.
جهود تأسيسية
لا نسعى في هذا البحث أن نخوض في كل مسيرة الشهيد الصدر التاريخية ومفردات هذه المسيرة التي رصدتها الكثير من الكتابات بقدر ما نسعى إلى الوقوف على الفترة الزمنية التي تبلور فيها الشعور العام داخل الأوساط الدينية بضرورة تنشيط آليات العمل الإسلامي، والانتقال به إلى ما يتجاوز النمط الذي خلّفته أحداث ما بعد ثورة العشرين وتأسيس الدولة العراقية الحديثة. فلقد انتقل هذا العمل من ذروة فاعلة إلى خمول يشبه التوقف إذا ما قيس بالمقارنة مع حركة التيارات السياسية الأخرى؛ إذ بعد دورة كاملة من هذا الخمول تولّد الشعور بضرورة معالجة الواقع والسباق مع الزمن لتعويض تلك الفترة المنصرمة التي توقّف فيها الدور المرجعي عن الخوض في عالم السياسة، وما رتّبه ذلك من تراجع في العلاقة أيضاً بين المرجعية والأمة بعدما أصبحت هذه الأخيرة مجالاً حيوياً لتحرك السلطة من جهة والتيارات الفكرية والسياسية الأخرى من جهة أخرى.
وبهذه الصورة يكون العمل الإسلامي في العراق دخل النصف الثاني من القرن الماضي بهذا الخمول أو التوقف، ما عدا حالات من الشعور الشخصي والفردي وحالات من الشعور الشبابي المشترك المحدود _ المنظم وغير المنظم _ وتركة أطراف العمل الرجعي السياسي المحارب، بالحاجة إلى التفكير في إعادة قراءة الأوضاع السياسية والدور الإسلامي المغيّب في حركتها، ولقد تضاعف الشعور هذا وتكتّل واتسعت دائرته بسرعة ملحوظة ومرتهنة إلى سعة التطورات السياسية التي عاشها العراق في تلك المرحلة.
وبهذا يبدأ الشهيد الصدر دوره الفاعل عبر العنوان السياسي، والتعبير عن هذا العنوان لا يمكن أن يأتي دون مقدمات وهمّ مسبق، وتفكير مركّز بواقع المرحلة؛ ولهذا لا تبدو الصورة دقيقة للنص الذي يقول:
وكان السيد محمد باقر الصدر كطالب شاب ودارس للفقه منقطعاً لدراسته الدينية ولم يكن ضالعاً في الأمور السياسية خلال السنوات المضطربة التي أعقبت عام 1958م في العراق وكان يعتبر طالباً نادراً ونابغة في الحوزة.
وقد انغمس في العمل السياسي نتيجة تشجيع زميله السيد طالب الرفاعي الذي قدّمه إلى مؤسسي حزب الدعوة الذين رأوا فيه ملامح الفقيه الأخّاذ الذي يستطيع أن يُسبغ صفة الشرعية على نشاطهم السياسي داخل الحوزة.[13]
إن هذا النص لا يبدو أنه يعبّر عن صيرورة طبيعية للأشياء؛ لأن إسهامات الشهيد الصدر الكبيرة في الحزب لا يمكن أن تطفر دون مقدمات ذاتية وتفكير ذاتي في واقع الأوضاع السياسية من جهة وواقع الساحة الإسلامية من جهة أخرى التي لا زال الطابع العام فيها طابعاً رافضاً للنشاط السياسي والتفكير بالعمل الحزبي الذي كان رفضه يتأسس في أحد أسبابه على كونه صيغة أو أسلوباً غربياً في العمل لا يمكن استعارته.
وبالتأكيد إن هذا السبب قد يكون نابعاً في بعض الحالات من قناعة حقيقية، وقد يكون ذريعة أو حجة أو مبرراً لواقع الانكفاء على الدور التقليدي، والابتعاد عن السياسية التي غالباً ما تفرض استحقاقاتها وصعوباتها ومسؤولياتها، وبمعنى آخر فإنه قد يكون نوعاً من الهروب من المسؤولية، وهو هروب يحتاج إلى مبرراته ومقولاته.
ومن هنا بدأ الشهيد الصدر رحلته الطويلة القاسية الغارقة في المعاناة والمصحوبة بـ(عناد) وطاقة خلاقة وهمّ لا يمكن توصيفه أو فهمه إلا بتصور سرعة إنجازاته السياسية والفكرية. خلال ثلاث سنوات استطاع فيها بالإضافة إلى دوره السياسي في حزب الدعوة أن يُصدر كتاب فلسفتنا (1959م) وكتاب اقتصادنا (1961م)، إنها إنجازات وضعت الجميع أمام دهشة حقيقية، مع أنها كانت _ كما أشرنا _ مصحوبة بمعاناة (السياسة) والعمل الحزبي المرفوضين في الوسط الديني، وقد واجههما الشهيد الصدر بالتأكيد على (خطأ الفكرة القائلة برفض أي أسلوب غربي أو غير إسلامي بدعوى أنه أسلوب خاطئ ومناف للإسلام. فالأسلوب الذي يعتمده مبدأ من المبادئ ليس من الضروري أن يكون مرتبطاً بشكل مباشر أو غير مباشر بذلك المبدأ، وإنما يمكن توظيفه بالشكل الذي لا يتعارض مع أسس المبدأ أو العقيدة. فإذا كان التنظيم الحزبي هو الأسلوب الشائع في الأنشطة السياسية في الغرب، فإن ذلك لا يعني عدم إمكانية اعتماد هذا الأسلوب من قبل المسلمين، بل إن السيد الصدر يؤكد أن هذا الأسلوب ليس غريباً عن التراث الإسلامي.
فلو أن الرسول- كان في عصرنا لاستعمل بمقتضى حكمته الأساليب الإعلامية والتبليغية المعاصرة والملائمة، والحق أن أسلوبه- في الدعوة ما كان عن التنظيم الحلقي ببعيد).[14]
على أية حال، بموازاة هذا الجو البعيد عن السياسة في الأوساط الدينية، كان هنالك جو آخر ذا منحى إيجابي، هو الذي وظّفه الشهيد الصدر واستثمره استثماراً مذهلاً وسريعاً من أجل تحقيق منجزاته الفكرية والسياسية، جو إيجابي تشكّله جملة من المعطيات والظروف التي كانت سائدة.
أولاً: إن الشهيد الصدر انطلق برفقة نخبة من العلماء والشخصيات الإسلامية العاملة التي بإمكانها أن تعطيه بعض العمق، أو شيء من الغطاء من ناحية، وتعطيه بعض الأمل الذي يدفعه إلى مضاعفة جهده من ناحية ثانية، فهذه الدائرة مترابطة مع دائرة المرجعية العليا وممتدة إليها، ولو أن هذه المرجعية كانت مرجعية إصلاحية دينية وذات سياسة مطلبية.
ثانياً: وبهذا الامتداد يمكن استثمار الغطاء المرجعي، لاسيما وأن هذا الغطاء المرجعي _ المتمثل آنذاك بآية الله العظمى السيد محسن الحكيم _ كان واعياً لمخاطر المرحلة وبروز تيار فكري إلحادي بها ومؤمناً بمحاربة هذا التيار، الأمر الذي يتيح جدياً فرصاً أكبر للتحرك السريع والفعال.
ثالثاً: وبإمكان طبيعة المرحلة السياسية ومقدار المرونة الذي تتيحه تحالفاتها والفراغات السياسية بها أن تمنح الشهيد الصدر ظرفاً ملائماً آخر للفعل السياسي والفكري المركّز والسريع، وكان أثر الشهيد الصدر واضحاً في ملء هذه الفراغات، والقفز حتى على ظرف السلطة ومرونتها، بما يعبّر مبكراً عن وعي متقدم في آليات العمل السياسي. إذ في ظل وقوف الإسلاميين ضد الشيوعيين تحسنت العلاقة مع حكومة عبد الكريم قاسم (وردّاً للجميل سمح لهم النظام باستعمال الإذاعة الحكومية في أحاديث أسبوعية كان السيد الصدر يشرف على كتابتها ويقرأها السيد هادي الحكيم. وعلى أي حال فشهر العسل هذا لم يدم طويلاً فقد تأزمت الأمور ثانية بين المرجعية والزعيم قاسم عندما أصدر المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم فتواه المشهورة بتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي ووصفه الشيوعية بأنها كفر وإلحاد).[15]
رابعاً: وواصل الشهيد الصدر عطاءه وإنجازاته من خلال الأطر الأخرى التي أنتجتها مرحلة المواجهة مع الشيوعيين آنذاك، كإطار جماعة العلماء المجاهدين، ولعب دوراً فاعلاً في توظيفها توظيفاً سليماً في إطار حلقات مشروعه الفكري _ السياسي، وبرز نشاطه بشكل أكبر من خلال مجلة (الأضواء) التي كانت تصدرها الجماعة حيث كان يكتب افتتاحيتها بعنوان (رسالتنا).
هذه الظروف جميعاً أسست الجو الذي استطاع الشهيد الصدر أن يتحرك من خلاله وأن يراكم من عمله الفكري والسياسي بسرعة مذهلة بما شكّل أساساً متيناً للعمل الإسلامي في العراق بزمن قياسي، الأمر الذي أثار حفيظة بعض القوى من داخل وخارج المؤسسة الدينية، ودفعها لوضع حد لهذا الإنجاز الكبير والسريع، ولقد كتب الشهيد الصدر عن ذلك فيما كتب ويقول: إنني (لا أستيطع أن أذكر تفصيلات الأسماء في مسألة جماعة العلماء وحملتها على الأضواء، ولكن أكتفي بالقول بأن بعض الجماعة كان نشيطاً في زيارة أعضاء جماعة العلماء وإثارتهم على الأضواء وعلى رسالتنا، حتى لقد قيل: أن الشيخ الهمداني الطيّب القول قد شُوّهت فكرته عن الموضوع، وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل بالنسبة إلى جملة من الطلبة مع الاختلاف في بعض الجهات..).[16]
(وأما واقع الأضواء هنا فهو واقع المجلة المجاهدة في سبيل الله وقد هدأت _ والحمد لله _ حملة جماعة العلماء عليها بعد أن تم إشعارهم بأنهم المشرفون عليها، غير أن حملة هائلة _ على ما أسمع _ يشنّها جملة من الطلبة ومن يسمّى بأهل العلم أو يُحسب عليهم، وهي حملة مخيفة وقد أدّت _ على ما قيل _ إلى تشويه سمعة الأضواء في نظر بعض أكابر الحوزة، حتى كان جملة ممن يسميهم المجتمع الآخوندية المقدسين أو وجهاء لا يتورعون عن إلصاق التهم بالأضواء وكل من يكتب فيها..).[17]
ولا نريد أن نخوض في كل ملابسات الأضواء وتلك المرحلة التاريخية بقدر ما نريد أن نشير إلى إجبار الشهيد الصدر بالنهاية على التوقف عن هذا المسار؛ لأن هذا التوقف الذي انتهى بخروجه من حزب الدعوة الإسلامية، بأمر من المرجعية العليا _ مرجعية السيد الحكيم _ أبعد الشهيد الصدر عن جدل المخاض السياسي العلني الذي كان يختزن مقداراً كافياً من المرونة بما يواصل به مشروعه على نفس الوتيرة السابقة.
ولقد ظهرت في الفصل الأول خطورة هذا الإبعاد وعدم استثمار الظرف السياسي القائم آنذاك في العراق، لاسيما في فترة عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، فلقد ضيّعت هذه الفترة فرصاً كبيرة لعمل إسلامي من نوع آخر كان بإمكانه أن يعرقل مجيء حزب البعث ثانية إلى السلطة.
الصدر بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي
يمكن القول إن وفاة آية الله السيد محسن الحكيم أثّرت تأثيراً بالغاً على مرجعية الشهيد الصدر الذي ألف آليات التعامل معه، وترعرع نموه وإبداعه الفكري بالتزامن مع مرجعيته رغم سياسته المطلبية. فهذه الوفاة ستضع الشهيد الصدر أمام مرحلة جديدة وربما قاسية، فعليه أولاً أن يكتشف عبر المحاولة والتجريب آليات تعامل معالم المرجعية الجديدة _ مرجعية السيد الخوئي _ وعليه أن يفكر في ملء فراغات هذا التحول أو أن يواجه ما يفرضه من تحديات. وهذا يتوقف على الخط والمنهج المرجعي الجديد وما يتيحه من ممكنات تؤسس لتعاون إيجابي ينسجم مع مشروع الشهيد الصدر الذي تفصله فاصلة كبيرة في الطموح والمضمون عن الاتجاه الفكري والفقهي والسياسي القائم في الإطار المرجعي.
ولكي نعرف مدى الصعوبة التي واجهها الشهيد الصدر في هذا المجال لابد أن نعرف أولاً المشتركات والفوارق بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي، فهما يتقاربان في انتمائهما إلى ذات الاتجاه الفقهي الشيعي المتوارث مع بعض فوارق، وإلى فهم محدد لدور الفقيه في الأمة، ويتوحدان عملياً وليس نظرياً في عدم السعي إلى تأسيس الدولة الإسلامية أو خوض المواجهة السياسية مع السلطات المنحرفة إلى حد الحسم، ويَجرّ هذا التوحد الأخير إلى توحد جديد يتمثل بابتعادهما العلني عن فكرة العمل الحزبي.
ومع ذلك يبقى الفارق كبيراً ومهماً بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي وتبقى هنالك مسافات حتى في المشتركات؛ إذ تبدو الأولى _ من خلال السلوك الميداني والتجربة العملية _ أكثر مرونةً في النظرة إلى المجتمع _ ولكنها تبقى نظرة خائفة وحذرة ومشككة به _ والنظرة إلى ارتباط الفقيه فيه، وأيضاً آليات التعامل مع الظواهر السياسية القائمة في المحيط الإسلامي، وحتى في الرؤية الفكرية لتحديات الواقع الفكري العالمي.
ولعل الحوار الذي جرى في مرحلة مهمة بين الإمام الخميني وآية الله السيد محسن الحكيم حول دور الفقيه تسلّط الضوء على قناعات الأخير مثلما تشير إلى الإثنينية في أساس الفكر السياسي الشيعي تاريخياً.
فعندما دعا الإمام الخميني السيد الحكيم إلى التحرك بعد انتفاضة 15 خرداد أجابه:
إن الناس لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف، الناس يكذبون إنهم عبيد الشهوات ولا يفتحون صدورهم للدين.[18]
وأجابه الإمام الخميني بالقول:
كيف تقول إن الناس يكذبون؟ هؤلاء الناس ضحّوا بأرواحهم وتحملوا الاضطهاد والمعاناة وقد سُجنوا وأُبعدوا عن ديارهم وسُلبت أموالهم، كيف يكون مثل هؤلاء الناس الذين واجهوا الرصاص بصدورهم يكذبون؟[19]
إن مرجعية الحكيم ذهبت في سياستها الاجتماعية إلى حدود فكرية وثقافية محدودة،[20] إذ أنها حرصت على تأسيس مكتبات تثقيفية وواجهت بفتواها الشهيرة المد الفكري الماركسي الذي هيمن على الشارع العراقي خلال الخمسينيات، تلك الفتوى المعروفة والقائلة بأن: (الشيوعية كفر وإلحاد)، فلقد وجهت هذه الفتوى تنبيهاً مهماً إلى خطر الإلحاد الشيوعي، وربما حدّت من نفوذه هي والفتاوى الأخرى التي تطرّقنا لها، وبالتالي ربما كان لها مفعول سياسي غير مباشر على نفوذ الشيوعيين في العراق. كما أن طبيعة المرحلة السياسية في بداية النصف الثاني من القرن الماضي أتاحت لمرجعية الحكيم بعض المرونة أو حتى التعاطف مع التيار السياسي الإسلامي داخل الكيان الشيعي.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المرجعية كانت تهمها المظاهر الإسلامية وكانت انطلاقاً من هذا الهمّ ترعى الكثير من النشاطات والاحتفالات التي تقام وتمارس بعناوين متعددة.
ومن هنا يتجلى الفارق الكبير بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي الفقهية _ التقليدية البحتة في الناحية العملية، وليس في الناحية النظرية طبعاً، والتي انكفأت _ فضلاً عن النشاط السياسي _ عن أي نشاط آخر ثقافي أو فكري يحاكي الواقع الاجتماعي.
وفي ظل هذه الفوارق فإن التحدي الذي سيواجهه الشهيد الصدر ليس خسارة هذا المجال الحيوي من المرونة الذي انعدم في ظل مرجعية الخوئي فحسب إنما إمكانية وصول الأمور إلى التصادم مع مضمون مشروعه الإسلامي، وذلك عندما تفكر السلطة أن تدخل من خلال هذا الانعزال للمرجعية العليا إلى الضغط على ذلك المشروع. وهذا ما حصل فعلاً في أكثر من مرة، فتحت هذا الانعزال والانكفاء عن الواقع السياسي والإصرار الصارم في عدم الولوج فيه سيصبح من الممكن أن يتحول هذا الانكفاء إلى تصادم مع حركة مشروع الشهيد الصدر.. . وفي ظل الحذر الأمني الذي يدفع بالمرجعية العليا أن تقول: (بجواز الانتماء إلى حزب البعث)[21] سيقدم الشهيد الصدر على إصدار فتوى تحريم الانتماء إلى هذا الحزب، وستدخل المواجهة مع السلطة أطواراً أخرى خاضعة لطوارئ غير محسوبة في إستراتيجية كلية.
وهكذا يكون الشهيد الصدر الذي لم يفرغ بعد من استنفاد كل طاقاته من أجل تعبئة الوضع الشيعي في العالم للدفاع عن مرجعية السيد الحكيم أمام مضايقة وتحرّش وابتزاز بدأه الحزب الجديد القادم إلى السلطة، وانتهى مصدوماً بهذا الواقع، يكون الشهيد الصدر تعرّض إلى صدمة أخرى بوفاة السيد الحكيم لم يفصلها فاصل زمني كبير عن الصدمة الأولى، وهذه الصدمات ستكون مسؤولة إلى حد كبير عن انكفاء جديد داخل الحوزة مشفوعاً بمرور الزمن بسلسلة أخرى من الصدمات والتطورات السياسية دفعت الشهيد الصدر إلى التفكير بعمل استشهادي في العام 1976م لمعاجلة الضغوط التي يتعرض لها الواقع الإسلامي، وفيما أن انتفاضة رجب (1977م) أعطت أملاً ضعيفاً للشهيد الصدر، جاءت الثورة الإسلامية في إيران لتفتح داخل العراق ملفاً جديداً للشهيد الصدر والحركة الإسلامية برمتها.
نعود ونقول: إن الفتوى حول حزب البعث كمثل يمثّل مستوى متقدماً للتصادم الحتمي بين الشهيد الصدر ومرجعية الخوئي الذي يمكن أن يوجده اختلاف التوجهات وتفكير السلطة في محاولة استثمار هذا الاختلاف. أما ما قبل هذا المثل فإن هنالك أمثلة أخرى برزت على الفور لتخلق معنى الصدمة الثانية للشهيد الصدر بالمرحلة الجديدة. ففي 25/1/1971م كان السيد الخوئي يقول رداً على سؤال مفاده: (هل أن حكومة حزب البعث في العراق _ من وجهة نظركم _ قد عملت ضدكم أو ضد الحوزة العلمية أو الإيرانيين بما لا ينسجم مع الموازين الإنسانية علماً أن بعض المغرضين قد أشاعوا بأن الحكومة أساءت معاملتهم؟!) يقول: (بعد السلام، إنني لم أر غير الحسن من هذه الحكومة الموقرة، أما بخصوص الحوزة العلمية والإيرانيين _ بناءً على ما سمعته ممن أعتمد عليهم _ إن الحكومة قد أحسنت معاملتهم).[22]
وقبل ذلك وفي العام الذي أُعدم فيه الشهداء الخمسة وفي سياق مراسلات شفوية بين الإمام الخميني ومرجعية الخوئي الذي قال: (إنني لا أرى مصلحة في الصدام مع هذا النظام في هذه الظروف وإني أخاف..).[23]
خيار التصدي للمرجعية
لم يكن هنالك من خيار أمام الشهيد الصدر في ظل الظروف الصعبة والقاهرة التي حشره فيها ظرف المرجعية العليا والانكفاء الذي انتهت إليه، وظروف اندفاع السلطة إعلامياً واقتصادياً وأمنياً باتجاه المزيد من الضربات المحسوبة والمحدودة للتيار الإسلامي سوى التصدي للمرجعية لملء الفراغ الذي نشأ، وفي ظل التمايز والاختلاف بين مرجعيتي الحكيم والخوئي وما خلّفه من خلل كبير في توازن المواجهة بين السلطة والتيار الإسلامي، وبالتأكيد فإن تصدي الصدر للمرجعية بحد ذاته لم يكن خياراً سهلاً ومتاحاً ببساطة، بل هو خيار له جذور وحكاية وأمامه عقبات، فالجذور تعود إلى تاريخ خروجه من حزب الدعوة، وما رافق هذا الخروج من شروحات وروايات متعددة كان تصديه للمرجعية أحدها، ويقال: إن (بعض أساتذته نصحوه بالعدول عن دوره السياسي في حزب الدعوة وكتاباته في مجلة الأضواء؛ لكي يستطيع أن يهيء نفسه ليكون مرجعاً أعلى للشيعة في المستقبل).[24]
وتأخذ هذه الرواية مستوى الجزم وتعتبر أن:
انسحابه من الحزب مجرد عملية سياسية مرسومة تهدف إلى فتح الطريق أمامه لتقلّد منصب أعلى ورمزي للمسلمين الشيعة، ألا وهي المرجعية، حيث كان الفقهاء والعلماء الواعون وأبناء الحركة الإسلامية يأملون في أن يرتقي السيد الصدر سلّم المرجعية ويصبح مرجعاً أعلى للشيعة في كل مكان. كانت هذه المسألة تبدو مسألة وقت ليس إلا، حيث كان السيد الصدر يعتبر عالماً فقيهاً واسع الدراية في الحوزة.[25]
وبالتأكيد لا يرتقي هذا الحصر إلى مستوى السبب الكلي لتركه العمل السياسي والحزبي، فالطموح المرجعي كان مقموعاً لدى الشهيد الصدر، وهو لم يأخذ من تفكيره الكثير. كما أنه لم يكن مشدوداً إلى ذاتية التفكير بوضعه الشخصي، ومن أنه قام (بتأسيس أبنية نظرية لمرحلة يحقق من خلالها ذاته ويعمل إلى سدّة المرجعية).[26] بقدر ما كان الهمّ الإسلامي العام هو الذي يشغل وجوده. وكان هذا الهمّ هو الذي يدفعه لأن يقترح أن يطبع كتاب (فلسفتنا) باسم (جماعة العلماء المجاهدين). ولذا فهو حتى في تفكيره المستقبلي أراد أن يعالج خطر المرجعية الذاتية القائمة على جهاز (الحاشية) وأن يرتقي بها إلى حالة الهمّ الإسلامي العام.
وكان الشهيد الصدر مشدوداً إلى همّ توحيد الكيان الشيعي وتفعيله برمته؛ لذا فهو لم يتمرد إطلاقاً على المرجعيات بقدر ما مارس منهجاً تكاملياً معها (وبعد وفاة السيد الحكيم بدأت تقريباً مرحلة التصدي الفعلي لمرجعية السيد الشهيد، ولم يكن رضوان الله علیه راغباً بذلك؛ لأن الشهيد الصدر كان يؤمن بضرورة تكريس كل الطاقات وتوحيد كافة الصفوف باتجاه مرجعية واحدة، وهذا مبدأ عام يؤمن به وقاعدة أساسية يتبناها، يضاف إلى هذا أن الفراغ الذي تركه السيد الحكيم كان خطيراً إلى حد كبير)[27] وأنه (لم يُقدم على تحدي المرجع الأعلى في وقته السيد الحكيم ولا خليفته السيد الخوئي، وما أصدره من دراسات وبحوث حول المسائل الفقهية في منتصف السبعينيات لا تعتبر بحد ذاتها تحدياً أو استهجاناً لمواقف السيد الخوئي السياسية. وهو في الواقع برّر إعلانه غير المباشر برغبته في المرجعية؛ ليدرأ عن نفسه بطش وتعسّف السلطة، واعتقد أن الحكومة سوف تبقيه حياً، وحسب العادة المتّبعة تاريخياً من قبل الأنظمة القائمة في إيران والعراق بعدم المساس بحياة أي مرجع ديني قيادي.
والشيء بالشيء يذكر هو إبعاد النظام الإيراني للإمام الخميني في مطلع الستينيات إلى العراق، والذي يبدو أن السيد الصدر قد أخطأ في حساباته حول مدى تعقل النظام العراقي والتزامه بهذه الحكمة. وبالعكس كان النظام يعتبر أي خلاف سياسي تهديداً مباشراً لوجوده، وعليه فقد تعامل البعثيون بعنف ووحشية مع خصومهم السياسيين متجاهلين الضغوط الخارجية والرأي العام العالمي.[28]
وإذا كان هذا النص صحيحاً في جزئه الأول، فهو لا يبدو كذلك في جزئه الآخر. فالشهيد الصدر لم تشغله حصانة نفسه من خلال المرجعية؛ لأنه يعلم طبيعة الحكم القائم في العراق، إنما الذي دفعه للمرجعية حالة الفراغ الكبيرة بعد وفاة السيد الحكيم إذ (منذ العام 1970م / 1390ق عام وفاة السيد محسن الحكيم بدا خندق الشهيد الصدر مكشوفاً).[29]
والأصح هو أن المواجهة مع السلطة أصبحت غير متوازنة بشكل كبير، وأن انحدار المرجعية إلى المزيد من الصيغ الذاتية دفعته لأن يتصدى لها، وأن يطرح نظرية مغايرة للواقع المرجعي بما يجعل منه أكثر تمثيلاً للكيان الشيعي، وبما يضمن امتدادات هذا الكيان في الواقع الاجتماعي، ويحوّله إلى كيان علمي يواكب منهج العصر وتحدياته. وقطعاً أن هذا التوجه سيقود (حواشي) المرجعية العليا إلى وضع العقبات أمام تصديه للمرجعية، يحرّكها في ذلك خوفها من امتداده السريع في وسط الأمة، الذي يؤهله إليه مركزه العلمي والفقهي والفكري وجدارته البحثية التي ترشّحه للمرجعية دون أية مؤثرات أو حسابات أخرى. ولذلك كما يقول نص من النصوص:
إن أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد وكان يتكلم بانفعال وعصبية ويحاسب السيد الشهيد على تصديه للمرجعية وطبعه للفتاوى الواضحة.[30]
إن نبوغ الصدر هو الأساس الوحيد الذي رشّحه للمرجعية وهو الأساس الذي دفع (الحواشي) إلى مواجهة تصديه المرجعي، وإن هذا النبوغ ابتدأ قبل أن يدخل الشهيد الصدر سن الرشد، فهو (لم يقلّد أحداً في هذا السن).[31] لأنه كان مجتهداً قبل أن يدخله، وعدم التقليد هذا لم يكن تمرداً على المنهج الدراسي، إذ ليس (جواب الصدر على الحائري رفضه تقليد أي عالم هو شهادة بالتمرد)[32] بل إن الوصف يعبّر عن أزمة فهم مثلما أن نبوغ الشهيد الصدر تحوّل بحد ذاته إلى أزمة له وهو يتصدى للمرجعية وإلى مصدر استعداء وخوف.
سياسة الصدمات المحدودة للعمل الإسلامي
لابد لنا ونحن ندرس المشروع الفكري _ السياسي التغييري للشهيد الصدر أن نحيط بمجموع الإستراتيجيات والسياسات التي واجهت هذا المشروع وتعاطت معه من قِبل الأنظمة السياسية التي حكمت العراق، التي مثّلت الطرف الثاني في معادلة المواجهة، ولا شك أن هذه الأنظمة تمتد من نظام حكم عبد الكريم قاسم الذي ولد هذا المشروع في بواكيره الأولى وانطلق في أيامه إلى نظام صدام حسين الذي أعدم الشهيد محمد باقر الصدر. إلا أن ثقل هذا المحور الأساسي يقع في فترة نظام البعث الذي جاء ثانية إلى السلطة في العام 1968م، أما السنوات العشرة الأولى قبل هذا التاريخ فهي فترة حكَمتها:
1 _ المهمة التأسيسية، وهي _ كما مر معنا _ مهمة جذرية لا تكتفي بتعاطي السياسة ودخول معترك الصراع السياسي بشكل سطحي لا يرتكز إلى أسس فكرية متينة، وسط تعدد المدارس الفكرية التي أشرنا إليها والتي أفرزت أنظمتها السياسية، فهذا المنهج التأسيسي الجذري يحتاج بطبيعته إلى زمن تأسيسي طويل لمعالجة المشروع الصدري الشمولي.
2 _ كما أن المنهج الجذري هذا اعتمد أيضاً تأسيس قاعدة كادرية عريضة وكتلة واعية من أبناء المجتمع، وهذه المهمة أيضاً تتطلب زمناً تأسيسياً طويلاً لإنجازها.
3 _ كما أن الطموح الصدري في المشروع كان يَفترض أيضاً بناء مؤسسة الحوزة أو نواة لها مغايرة عن النمط الذي كان سائداً ورسم مناهج تدريس مغايرة _ أيضاً _ توّجت فيما بعد بـ(دروس في علم الأصول) وكل ذلك يحتمّ عدم التفكير في المواجهة الشاملة مع الأنظمة التي حكمت العراق في الفترة 1958 _ 1968م _ وهو تفكير كما أشرنا ضيّع بعض الفرص _ وإنما يفرض نشاطات سرية وعلنية محسوبة ومحددة ولا تؤدي إلى استفزاز السلطة التي هي الأخرى كان دورها في مواجهة الظاهرة الدينية دوراً محدوداً.
وما اختلف بعد العام 1968م يكمن في طبيعة النظام القادم ووعي هذا النظام لطبيعة الظاهرة الدينية وجذورها وقوة تأثيرها على الشارع العراقي، فالحزب الحاكم الذي جاء إلى السلطة في هذا التاريخ شكّل جزءاً من المعادلة السياسية أو من خريطة القوى السياسية الفاعلة في نهاية الخمسينيات، وفي فترة مواجهة المرجعية للمد الشيوعي، ولاحظَ خطورة الدور المرجعي عندما دخل ساحة المواجهة _ حتى ولو بشكل محدود جداً أو محسوب بدقة _ وقدرته على التعبئة الشعبية.
إن القادمين الجدد إلى السلطة كانوا يراقبون في هذه الحالة نمو الظاهرة الدينية سواء بعنوانها التنظيمي أو بخطرها المرجعي وحالات الامتداد لبعض رموز المؤسسة الدينية؛ ولذا فإنهم جاؤوا بخلفية واعية لحجم الحالة الإسلامية وخطرها السياسي المستقبلي على مستقبل حكمهم، حتى أنهم في تلك الفترة مارسوا اللعبة السياسية في بعض الأحيان من خلال توظيف المناسبات والشعارات الدينية.
ولقد كشفت الأشهر الأولى لحكمهم هذا المعنى من خلال ضربة محدودة وجّهوها للمؤسسة الدينية، وذلك من خلال اتهام الشهيد السيد مهدي الحكيم نجل آية الله السيد محسن الحكيم _ الذي كان يمثل أعلى موقع مرجعي آنذاك _ بالعمالة والجاسوسية مع كل ما يعنيه ذلك من تطاول وتحرش بالظاهرة الدينية. وهي ضربة يمكن أن تكون كافية في نظرهم في تلك المرحلة التي تحكمها استحقاقات داخلية أخرى، وتفرض اللجوء إلى سياسة التحالفات الداخلية مع بعض القوى الأخرى، وكافية لأنهم في سنواتهم الأولى كانوا يتحاشون المواجهة الشاملة لأخذ ما يكفي من الوقت لبناء أجهزتهم الأمنية الخاصة وتنظيم الجيش من الضباط غير المرغوب فيهم وتثبيت أركان حكمهم. ولا يعرف مدى صحة الاعتقاد الذي يرى بأن المؤسسة الدينية وقعت آنذاك بخطأ إستراتيجي كبير عندما امتصّت تلك الضربة وما سبقها، دون أن تتخذ قرار مواجهة علنية وشاملة مع السلطة لتفويت الفرصة عليها وعرقلة جهودها في تثبيت قواعدها.
والذي حصل فيما بعد هو احتجاب السيد الحكيم في (داره عقيب اتهام نجله الشهيد مهدي الحكيم بالجاسوسية في محاولة لضرب النجف وحوزتها العلمية ومرجعيتها الدينية للتعرف على قدراتها القتالية، وفي ظل هذه الظروف بادر السيد الشهيد إلى زيارة السيد الحكيم في داره وإظهار الولاء، فضلاً عن تفكيره الجاد في كسر العزلة والجمود الذي آل إليه وضع المرجعية، وكان قبل ذلك وفي ظل احتدام الصراع سافر إلى لبنان وتزعّم حملة إعلامية واسعة من هناك للدفاع عن النجف ومرجعيتها).[33]
ويُذكر أن آية الله السيد محسن الحكيم بقي محكوماً إلى نفس قناعاته التشكيكية بإمكانية تحرّك الجمهور مع المرجعية فيما لو هي اتخذت قرار المواجهة مع السلطة. فلقد اتضح ذلك من خلال التردد في الاحتكاك مع السلطة الذي سبق اتهام نجله مهدي الحكيم بالعمالة، واتضح قبل ذلك من خلال النقاش الذي دار بينه وبين الإمام الخميني حول ضرورة التحرك الثوري.
على أية حال إن نظام أحمد حسن البكر مارس سياسة الضربات المحدودة للمؤسسة الدينية والحركة الإسلامية في العراق، فبالإضافة إلى واقعة الشهيد مهدي الحكيم قام بتهجير أعداد كبيرة من طلبة الحوزة العلمية الإيرانيين وذلك في العام 1972 _ 1974م، بحجة انتمائهم إلى حزب الدعوة الإسلامية، وكان الشهيد محمد باقر الصدر أحد المعتقلين. ولقد توِّجت هذه الإجراءات بإعدام خمسة من قادة العمل الحركي هم (البصري، التبريزي، القبانجي، طعمة، جلوخان)، وكان إعدام الشهيد عبد الصاحب دخيل يدخل في إطار هذه السياسة التي مارسها نظام البكر ومنذ أن تُوفي المرجع آية الله السيد محسن الحكيم تركزت اهتمامات السلطة على الشهيد الصدر الذي تعرّض للاعتقال ثلاث مرات بين العامين 1972 _ 1979م، وهذه الاعتقالات بالإضافة إلى الاعتقالات التي طالت مئات من الكوادر المنظمة في العمل الحركي الإسلامي ومحاولات منع الشعائر الحسينية في شهر محرم هي الأخرى تندرج في إطار سياسة الضربات المحدودة التي اتصفت:
أولاً: بأنها سياسة قامت على تحالفات مع بعض قوى المعارضة الداخلية لضرب البعض الآخر.
ثانياً: وأنها تحاشت المواجهة الشاملة واكتفت بتجزئة الضربات للحالة الإسلامية من أجل عرقلة نمو التيار الإسلامي وعدم السماح له بإكمال بنائه الداخلي بما يؤهله ليشكّل ثقلاً مركزياً خطيراً.
ثالثاً: كما أن هذه السياسة ركّزت تركيزاً استثنائياً على الشهيد محمد باقر الصدر انطلاقاً مما أسميناه معرفة السلطة بخلفية دوره ونشاطه في الخمسينيات والستينيات في مواجهة المد الشيوعي وبروزه الفكري المتصاعد، وهذا ما عكسته اعتقالات السلطة المتكررة له.
رابعاً: كما أن ابتعاد مرجعية السيد الخوئي عن السياسة بعد وفاة آية الله الحكيم أعطى نظام البكر مرونة في تنفيذ سياسة الضربات المحدودة للتيار الإسلامي ومكّنه من التظاهر بأنه لا يواجه الإسلام وإنما يواجه تياراً مسيّساً من الإسلاميين.
خامساً: ولقد اقتضت سياسة السلطة هذه التدخل بشكل مباشر وغير مباشر بشؤون المؤسسة الدينية والمرجعية بما يكرّس تعدد الاتجاهات بداخلها بصورة سلبية تتيح لها أكبر قدر من المرونة التدخلية، لاسيما بعد أن تصدى الشهيد محمد باقر الصدر للمرجعية تحت ضغط رغبة التيار الإسلامي الذي يؤمن بتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي، فلقد حاولت السلطة أن تعزل مرجعيته وأن تضعها تحت ضغط الشائعات وبأنها مرجعية مراقبة وبالمقابل فإنها كانت تتظاهر بأنها تدعم الاتجاه الآخر في المرجعية وأن سياستها منفتحة عليه. وكان كل ذلك يحصل عبر جهاز من العملاء داخل أوساط الحوزة العلمية كان يغذّي هذا الواقع ويدفع به إلى ما يمكّن السلطة على اختراقه والتحكم به.
إن سياسة الضربات والصدمات المحدودة هذه انتهت لمجرد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما تلاها من مواقف تضامنية للشهيد الصدر مع هذه الثورة، وتعقدت الأمور أكثر بعد مجيء صدام حسين إلى سدّة الرئاسة. وتحولت إلى سياسة مواجهة شاملة وقاسية اختزنت كل الأساليب المباشرة وغير المباشرة، وبمعنى آخر أنها تحولت إلى سياسة إدارة أزمة مفتوحة مع التيار الإسلامي يمكن أن تخضع إلى سقف أو هدف أساسي يتمثل بالقضاء على هذا التيار قضاءً تاماً، إلا أنها عملياً ستخضع في آلياتها وأساليبها إلى اكتشاف واختبار وإجراءات تجريبية واحتياطات قصوى واستنفار عام وتجهيز أكبر للأدوات التي ستُدار بها هذه المواجهة وتُنفّذ بها مهمة القضاء على التيار الإسلامي.
ففي بداية السبعينيات وجد النظام نفسه أمام اختبار ناجح عندما أقدم على الضربة الأولى للمؤسسة الدينية دون أن يتلقى رداً مناسباً، إذ شجعه غياب هذا الرد على تكرار الضربات المحدودة كلما اقتضت الحاجة ذلك، وشجعه على تحويل الاختبار الأول إلى سياسة ثابتة.
ومن هنا ينبع مصدر ما أسميناه بالخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية عندما خضعت لتحرّش السلطة الأول دون أن تستنفر قواها لمواجهة هذا التحرش. فلو أن هذا الاستنفار قد حصل لم يكن مؤكداً أن النظام سيواصل ما أسميناه بسياسة الضربات المحدودة للمؤسسة الدينية، لاسيما وأنه _ أي النظام _ كان قادماً جديداً للسلطة، ولا زال لم ينجز بعد كامل سيطرته وإعادة هيكلته للمؤسسات الأمنية وبناءها الداخلي وفق الإستراتيجيات التي حددها، كما أنه كان يواجه أكثر من تحدٍّ داخلي وأن تحالفاته مع القوى الأخرى مهما كان هامش المناورة الذي أتاحته له، إلا أن أي مواجهة معه ستُضعف النظام في هذه التحالفات. وينسحب هذا الخطأ للمؤسسة الدينية إلى الوراء، إلى أيام حُكم عبدالرحمن عارف الذي لم تُبدِ فيه المؤسسة الدينية ما هو مطلوب من الرصد والحضور والمراقبة لتفاعلات الوضع السياسي الداخلي واحتمالات تطوراته، وفيما إذا كان مناسباً استباق هذه التطورات بتحرك إسلامي أكبر يسدّ الطريق على ما حصل بعد ذلك.
وعودة إلى مرحلة المواجهة الشاملة مع الحالة الإسلامية، فهي مرحلة _ كما أشرنا _ لا يمكن تحديدها بثابت في سياسة السلطة إزاء هذه الحالة، إلا ما أسميناه سقف القضاء عليها، أما الطرق والأساليب والآليات فبقيت متروكة لطبيعة المواجهة ومسارها وما تقتضيه من اختبار واكتشاف واختراق، وأنها مرحلة إدارة أزمة بكل ما للكلمة من معنى، كما أنه إدارة متوترة (مصدومة) بحدث الثورة الإسلامية في إيران، وملابسات حصول هذا الحدث والخوف من تفاعلاته على الساحة العراقية التي تعرف السلطة الكثير عن نشاطات التيار الإسلامي فيها، كما أنها مرحلة حكمت فيما بعد إلى (قائد) عصابي لاحدود لديه في ممارسة العنف وهو صدام حسين الذي كشفت السنوات فيما بعد كيف أنه بهذه العصابية قاد العراق إلى دمار هائل.
وكان مؤكداً أن تنتهي هذه المرحلة إلى إعدام الشهيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وقبل ذلك إلى اعتقال المئات بل الآلاف من كوادر الحركة الإسلامية ورموزها، وإصدار قرار بإعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية وبأثر رجعي وإلى شن حملة رعب شاملة ضد أي مظهر من مظاهر الظاهرة الدينية وإلى فراغ المساجد في معظم مدن العراق من المصلين ما عدا بعض كبار السن، فضلاً عن الرقابة الأمنية الكثيفة حولها وداخلها، والاستنفار الأمني في المدن المقدسة.
ولم تحسب السلطة لكل إجراءاتها تلك مثلما حسبت لإدارة الصراع مع مرجعية الشهيد محمد باقر الصدر، إذ أنها مارست سياسة جسّ النبض على أكثر من صعيد قبل أن تُقدم على إعدامه، وحاولت أن تؤجّل هذا الإعدام تحاشياً لردّات الفعل اللامحسوبة تارةً وتحاشياً لاستفزاز شيعة العالم تارةً أخرى، وذلك بعد أن وجّهت ضربات قاصمة للجهاز الحركي الإسلامي، وبعد أن اطمأنت إلى موقف النجف الذي عُزل تماماً عن تفاعلات قضية الصدر.
إن سياسة السلطة في هذه المرحلة إزاء ظاهرة الصدر كانت سياسة مزدوجة، تقوم في شقّها الأول على إبادة جهازه الحركي الحوزوي، وتقوم في شقها الثاني على مساومة الشهيد محمد باقر الصدر. وما بين هذين الشقين تجلّت درجات من قناعة السلطة بوصولها إلى طريق مسدود في سياسية المساومة، فحاولت التخلص منه بشكل غير رسمي عبر تدبير محاولات لاغتياله ثم التنصل عن مسؤوليتها بعد ذلك.
ولكن عندما فشلت هذه المحاولات وفشلت إجراءات الإقامة الجبرية والحصار ووصلت السلطة إلى يأس تام فيما يتعلق باستدراجه إلى (المصالحة) قررت إعدامه رسمياً بعد أن اطمأنت إلى أن هذا القرار سوف لن تكون له ردود فعل خارج السيطرة من قبل الشارع العراقي وسوف لن يدع مرجعية النجف العليا إلى اتخاذ أي إجراء استنكاري لهذا القرار أو تضامني مع الشهيد محمد باقر الصدر.
تغيير المنهج إزاء المؤسسة الدينية
لقد أشرنا فيما سبق إلى أن منهج الشهيد الصدر التأسيسي للمشروع الإسلامي تحاشى منذ البداية والانطلاق مناقشة المحيط الإسلامي، ومقولاته وواقعه الفكري، بل إنه ترك مهمة ذلك والتأسيس له في السياق العام للمشروع عبر تأصيل نظري فكري يفنّد ضمناً كل المقولات الخاطئة في هذا المحيط.
وحاول الشهيد الصدر أن يدفع بهذا المحيط ما أمكن نحو رؤاه الفكرية والسياسية وأن يستثمر الفرص المتاحة فيه وأن يتواصل مع حلقاته وينتمي إليه، بغية تغييره من الداخل عبر الوسائل المعرفية.
إن قوة شخصية الشهيد الصدر وطبيعة المرحلة التي انطلق فيها وضخامة إنتاجه الفكري والشعور بالافتخار بهذا الإنتاج سهّلت عليه تأسيس مشروعه من جهة وتمرير سياسته (التصالحية) مع هذا المحيط من جهة أخرى على الرغم من العقبات الجدّية الكبيرة التي وُضعت في طريقه. ولذا فإن هذا المنهج الصدري في التعامل مع المحيط الإسلامي نجح نجاحاً باهراً في المراحل الأولى لانطلاقة الشهيد الصدر، إلا قراءة ما بعد هذه المراحل ستوضّح أن تغييراً طرأ على هذا المنهج، رغم مرحلة (الصبر) الوسطية التي لم يصدر فيها أي حديث _ عن الشهيد الصدر _ صِدامي مع هذا المحيط أو سمّه حديثاً ناقداً صريحاً وعلنياً له، وقد يكون (خطاب المحنة) هو الخروج الأكثر وضوحاً على منهج عدم التعاطي العلني مع واقع المحيط الإسلامي، وهو خروج على ما أسميناه مرحلة (الصبر الوسطية التي أحس الشهيد الصدر بعدها أن التحدي الأخطر والأكبر في واقع المواجهة هو تحدٍّ داخلي هو تحدي المحيط ذاته، أو ما يسميه الشهيد الصدر بالإطار الحوزوي. ولقد تراكمت أسباب الشعور بهذا التحدي أمام الشهيد الصدر عبر مسيرة مضنية من المعايشة والاحتكاك وتجريب التغيير في الهيكل والمنهج ومواد التدريس وكل أشكال الخلل القائم داخل هذا الإطار.
وبالتأكيد إن خروج الشهيد الصدر على المنهج القديم كان ثقيلاً وحذراً؛ لأنه محكوم إلى الشعور باستهداف هذا الإطار خارجياً ومحكوم إلى همّه الدائم في السعي نحو تغيير واقعه، بالإضافة إلى طموح توحيده ضمن إستراتيجية موحدة.
وعلى ما يبدو أنه استنفد هذه العوامل ليقرّر قرار صرخة مؤلمة عبر (خطاب المحنة) الذي يحتاج إلى قراءة خاصة، إلا أننا سنكتفي هنا بإيراد بعض نصوصه:
الشهيد الأول رضوان الله علیه قبل قرون وقرون _ كما قلنا بالأمس _ فكّر في تنظيم شؤون الدين والمرجعية بشكل من الأشكال كما قلنا، ونقل الكيان الديني من مرحلة إلى مرحلة، لكن أليس بالإمكان أن يفكّر مئات العلماء الموجودين فعلاً ومئات العلماء الذين سوف يخلفون هؤلاء العلماء في تطوير أساليب الشهيد الأول في تحسينها في تنقيتها؟.. أليس بالإمكان هذا؟![34]
إذاً يجب أن نفكّر في أساليب العمل لا بالطريقة التي نفكر في علم الأصول، نغمض أعيننا ونجلس في الغرفة ونفكّر في أن الترتب مستحيل أو ممكن. نعم هذه هي الطريقة المفضلة في التفكير في أن الترتب مستحيل أو ممكن، أن نجلس في غرفة خالية ونقفل باب الغرفة ثم نفكر في أن الترتب مستحيل أو ممكن، لأنها مسألة نظرية تنبع من واقع الأمر ولا تنبع من الخارج.
وأما العمل الاجتماعي فهو بحاجة إلى حدس اجتماعي، والحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس، من خلال الاطلاع على ظروف العالم، من خلال الاطلاع على الملابسات.[35]
لماذا تعيش الحوزة العلمية في هذا البلد مئات السنين ثم بعد هذا يظهر إفلاسها في نفس هذا البلد الذي تعيش فيه!! وإذا بأبناء هذا البلد أو ببعض أبناء هذا البلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والحاسدين والمتربصين بهذه الحوزة!! ألا تفكّرون في أن هذه هي جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم! في أن هذه هي مسؤوليتنا قبل أن تكون مسؤوليتهم! لأننا نتعامل معهم، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولم نتعامل معهم! فهذه الأجيال التي تحقد علينا اليوم وتتربص بنا اليوم تشعر بأننا نتعامل مع الموتى لا نتعامل مع الأحياء! لأننا لم نقدّم لهم شيئاً، لأننا لم نتفاعل معهم.[36]
نصرف ثمانين بالمئة من قوانا وطاقاتنا بالمعارك داخل هذا الإطار، بينما هذه الثمانين بالمئة من قوانا وطاقاتنا بالمعارك داخل هذا الإطار كان بالإمكان _ لو أننا نتحلى بالأخلاقية والتضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة _ أن نحوّل هذه الثمانين بالمائة للعمل في سبيل الله بتدعيم الإطار ككل وترسيخه وتكديسه وتوسيعه. وبذلك _ لو كنا نعقل _ لكنا نستفيد أيضاً حتى بحساب المقاييس العاجلة أكثر مما نستفيد ونحن نتنازع ونختلف داخل إطار معرّض لخطر التمزق، داخل إطار مهدد بالفناء. إلى متى نحن نعيش المعركة داخل إطار يُحكم عليه بالفناء يوماً بعد يوم.[37]
وهكذا دخل هذا الكيان مرحلة أخرى هي مرحلة القيادة زيادة على استقطابه وتمركزه، وذلك منذ حوالي خمسين أو ستين عاماً، منذ أحداث دخول النفوذ الاستعماري إلى هذه المنطقة، في العراق وإيران ولبنان وغيرها من أنحاء العالم الشيعي. غاية الأمر أن هذه القيادة كانت تتذبذب بين مد وجزر، بين ظهور واختفاء، حسب الظروف والملابسات التي تُمنى بها خلال عملها. إذن كل هذا التاريخ، كل هذه الجهود، كل هذه التضحيات هي عبارة عن هذا الكيان الذي بأيدينا!! فهل بالإمكان أن يكون شعورنا تجاه محنة يتعرض لها هذا الكيان هو الشعور تجاه إنسان يفقد مصلحة شخصية محدودة فقط! يفقد نعمة الرخاء والدعة فقط! يفقد حياة الاستقرار فقط!؟[38]
إن نص خطاب المحنة بأكمله يمثّل صرخة بواقع المؤسسة الدينية في العراق آنذاك، إلا أن هذه المقاطع منه تشخّص أربعة من المحاور المهمة والحساسة التي ترتبط بوضع المؤسسة ودورها:
أولاً: هي تسلّط الضوء على الدور السياسي التاريخي وتراكُم هذا الدور وتخلّف الحوزة عن النهوض به في مرحلة كان الشهيد الصدر يراها غارقة في التحديات.
ثانياً: وتعتبر الدور الاجتماعي لها، والفاصلة الكبيرة بينها وبين الأمة، وتخلّف جهازها عن إنتاج الأساليب المعاصرة في التواصل مع البيئة المجتمعية والاندكاك بقضاياها، ومن ثم اعتبار ابتعاد الأمة عن مسؤوليتها تعتبر جريمة المؤسسة قبل أن تكون جريمة الأمة.
ثالثاً: ويضع الشهيد الصدر يده على مشكلة أكبر وأخطر وتمثّل أساس غياب الدورين السياسي والاجتماعي، وهي مشكلة تنظيم الحوزة. وتنظيم الحوزة عنوان يشمل كل المفردات التي تدخل في الجوهر، ابتداءً من مسألة القيادة، ومروراً بغياب نظرية معاصرة للمرجعية، وانتهاءً بحالة الجمود المعرفي المرتبط بالمنهج، ومن ثم تحويل هذا المنهج القديم إلى تقليد مقدس لا يمكن تجاوزه.
رابعاً: ونتيجة لانعدام الدور السياسي والاجتماعي، ومقاطعة التجديد، وعدم مواكبة سرعة الإنجاز المعرفي العالمي، والانكفاء على الماضي اختفت _ كما يرى الشهيد الصدر _ جذوة الإبداع وحوافزه، وتولّدت حالة من الفراغ، مُلئت بحالات من اللهو اللامشروع، وخلافات داخلية تستنزف ثمانين بالمائة من الجهد داخل الإطار أو الكيان الحوزوي، إن (خطاب المحنة) كان أول احتجاج صارخ وصريح من الشهيد الصدر ضد واقع هذا الكيان. وهو في نفس الوقت صفّارة إنذار من خطر (تهدد هذا الكيان بالفناء)، ودليل لا على وعي الشهيد الصدر على خطر المواجهة الأكبر وهو الخطر الداخلي، إنما على وعي ضرورة التصريح بهذا الخطر، لأن السكوت أثبت عجزه في تصحيح الواقع.
الموقف من الثورة الإسلامية في إيران
أشرنا فيما سبق إلى أن عمل الشهيد محمد باقر الصدر التأسيسي في الحقول الفلسفية والاقتصادية والقانونية والمعرفية والفقهية انصبّ منذ البداية حول محور مركزي وهدف أعلى تمثّل بإقامة الدولة الإسلامية ودراسة فلسفتها الإسلامية وتاريخها الإسلامي ونموذجها ومقارنتها بنماذج أخرى معاصرة، ومن ثم إنتاج فكرها الإسلامي المعاصر دستورياً ومعرفياً. ولذا فإن مشروعه الفكري والسياسي لا ينفك في الأساس عن هاجسها ابتداءً من مدخل هذا المشروع، وخطواته الأولى مروراً بكل تفصيلاته والطريق إليها، وانتهاءً بمضمونها وشكلها ومرجعية السلطة الفكرية والشرعية بما تضمنته من أطروحات الشورى وولاية الفقيه، وفي الدمج بينهما في النظرية السياسية، مع ما انتاب كل ذلك من خلفيات بحثية مضنية، وربما إشكاليات في سبيل الوصول إلى الشكل النهائي المستقر لنظرية السلطة التي تحكم هذه الدولة وتدير أمورها وفق فكر دستوري وقانوني، كان قد بذل جهوداً جبارة في بلورته خلال حياته الفكرية، وتوّجه بنصوص مركّزة من خلال سلسلة (الإسلام يقود الحياة) التي كتبها بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران قبل استشهاده.
.. فالدولة الإسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب بل هي إضافة إلى ذلك ضرورة حضارية؛ لأنها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإسلامية، وانقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع.[39]
كما أن هذه الدولة كنتيجة وضرورة تقود لها كل الأصول التأسيسية المعرفية للشهيد الصدر لم تكن دولة قطرية، إنما هي دولة إسلامية لكل العالم الإسلامي.
والدولة بهذا المعنى كانت بالنسبة للشهيد الصدر هاجساً لازمَ حياته الفكرية، وطموحاً يتصاعد في همّه وجهده النظري وسلوكه السياسي الميداني، ومشروعاً ما زال ينتظر تحقيقه على يديه، الانتصار على الكثير من العقبات والظروف السياسية والأمنية التي تحاصر العالم الإسلامي بصورة عامة والعراق بصورة خاصة.
وعندما لاح أمل تحقيق هذا المشروع (الدولتي) _ الحلم _ من خلال إرهاصات وأحداث الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، اندفع الشهيد الصدر إلى التفاعل معه بكل ما لهذا التفاعل من معنى، ناقلاً بذلك كل حلمه وجهده التأسيسي إلى إطار حركة هذا التطور الهائل، ومتجاوزاً كل ظروف بيئته السياسية وضغوطها وإسقاطاتها ورقابتها الصارمة لحركة هذا التفاعل، بادئاً بذلك سلسلة من تحديات هذه البيئة، وخطوات الولاء لحركة الإمام الخميني التي سترصد رصداً استثنائياً من قبل السلطة الحاكمة في العراق، التي أبعدت الإمام الخميني إلى منفى جديد، فيما الشهيد الصدر يخطو خطوته الأولى بذهابه إلى توديعه وإبداء تضامنه معه[40] ويتابعه إلى منفاه الجديد في باريس موجهاً له رسالة تضامنية مطولة جاء في قسم منها:
ومن تلك الحقائق أيضاً: أن المبارزة لكي تضمن وصولها إلى هدفها الإسلامي لابد أن تتوفر في ظلها نظرة تفصيلية واعية وشاملة لرسالة الإسلام ومفاهيمها وتشريعاتها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وبقدر ما تتوفر من أساس فكري ورصيد عقائدي للمبارزة _ أكثر من أي يوم مضى _ بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتها واكتسبت ولاء الأمة _ كل الأمة _ على الساحة، أقول إنها مدعوّة اليوم _ أكثر من أي وقت مضى _ إلى أن تنظر بعين إلى الحاجات الفعلية لمسيرتها، وتنظر بعين أخرى إلى حاجاتها المستقبلية، وذلك بأن تحدّد معالم النظرة التفصيلية من الآن فيما يتصل بأيديولوجيتها ورسالتها الإسلامية الشريفة، وكما أنها مرتبطة في النظرة الأولى إلى الحاجات الفعلية للمسيرة وتقييمها وتحديد خطواتها بالمرجعية الدينية المجاهدة، كذلك لابد أن ترتبط بالنظرة الثانية _ وفي معالم أيديولوجية إسلامية كاملة _ بالمرجعية الدينية الرشيدة التي قادت كفاح هذا الشعب منذ سنين؛ لأن المرجعية هي المصدر الشرعي والطبيعي للتعرف على الإسلام وأحكامه ومفاهيمه.
كما نرى أيضاً أن المبارزة الشريفة قد حققت مكسباً كبيراً حينما أفهمت العالم كله بخطأ ما كان يتصوره البعض من أن الإسلام لا يبرز للساحة إلا كمبارز للماركسية، وليس من همّه بعد ذلك أن يبارز الطبقة الأخرى، فإن هذا التصور كان يستغله البعض في سبيل إسباغ طابع التخلف والتبعية على المبارزة الإسلامية.[41]
وتواصل موقف الشهيد الصدر التضامني مع الثورة الإسلامية في لحظة انتصارها؛ ليتحقق بهذا الانتصار حلمه التاريخي وأنشودته المعرفية التي قضى حياته في طريق الوصول إليها. ولقد (أظهر السيد الصدر دعمه اللامحدود وتحمّسه الشديد للثورة الإيرانية بنشاطات عدة، أولها: أنه أصدر بياناً مطولاً يساند فيه الثورة الإسلامية والشعب الإيراني ويمجّد بالإمام الخميني الذي كان وقتها متواجداً في باريس.. . واعتبرت الحكومة البعثية هذين التصرفين خرقاً فاضحاً لسياستها، بالانتظار والتريث نحو مجريات الأحداث في إيران. زيادة على ذلك استنكر السيد الصدر سياسة حكومة البعث عندما أشعلت نار الفتنة والاضطرابات لدى عرب إيران بحجة المطالبة بحقوقهم من الحكومة الثورية لآية الله الخميني، وأرسل برقية معنونة إلى عرب إيران يدعوهم فيها إلى طاعة قادة الثورة الإسلامية وذلك باعتبار أن الجمهورية الإسلامية هي الحكومة التي أرسى قواعدها الرسول الأعظم- والتي تتعايش فيها كل الطوائف والجماعات العرقية بمحبة ووئام.. . وبادر السيد الصدر بكتابة ست بحوث متنوعة فيما يتعلق بإرساء قواعد الحكومة الإسلامية).[42]
لقد واصل الشهيد الصدر موقفه من الثورة الإسلامية والإمام الخميني بصورة من الاندكاك ونكران الذات والشجاعة خارج حدود المألوف، والتي لا تقارن بأي موقف من المواقف داخل وخارج العراق لمراجع أو مفكرين تفاعلوا مع هذه الثورة، بلحاظ خصوصية الشهيد الصدر المرجعية والفكرية والتاريخية، وبلحاظ تجاهله لصرامة وقساوة البيئة السياسية التي يعيش في داخلها. وهي بيئة يكاد يكون الشهيد الصدر أعرف الناس بقساوتها ورعبها، وهو ممن اطلع وعانى في معتقلاتها من همجيتها من خلال ثلاثة اعتقالات تعرّض لها من قبل نظامها السياسي. تجاهل كل ذلك ليواصل مسيرته التضامنية الداعمة وتفاعله مع تأصيل حركة الثورة ومعاناتها وحاجاتها الفكرية في لحظة تأسيسية غير عادية في حياتها، في السر والعلن.
فهو بقدر ما كان يدفع بالجميع إلى الاندكاك بالتجربة الإسلامية ويقول لطلابه ووكلائه المتواجدين في إيران أن يعيش كل واحد منهم (في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة، أن يبذل كل طاقاته وكل ما لديه من إمكانات وخدمات ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام ولا حد للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام.
ويجب أن يكون واضحاً أيضاً أن مرجعية السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفاف حولها والإخلاص لها وحماية مصالحها والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم).[43]
بنفس القدر كان يتابع تطورات الداخل الإيراني وتحدياته، فيقيم مجلساً للفاتحة على روح الشهيد المطهري في النجف الأشرف بعد أن استشهد بعملية اغتيال، وكان يقول مراراً وتكراراً:
لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما ترددت في ذلك، إن السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إلى تحقيقه..[44]
ويمثّل هذا النص توضيحاً ضمنياً لـ(لا مألوفية) تضامن الصدر مع الثورة. فهذا التضامن يجب فهمه في سياقه التفسيري المعقول، لا في سياقه التضامني العام الذي يؤطّر بالعاطفة حتى وإن بدت سلوكيات وسياسات الشهيد الصدر تفيض بهذه العاطفة، فالعواطف لديه تبقى مقدسة كتعبير نفسي _ عقيدي يترجم الأفكار والمفاهيم الإسلامية وينقلها _ كما أشرنا _ من حيز التنظير إلى حيز الفعل والمبادرة والتطبيق.
(إن السيد الخميني حقق كل ما أصبو إليه) هذه العبارة تشكّل أحد الأطر التي يمكن من خلالها فهم الاندفاع الصدري مع الثورة الإسلامية في إيران، وأنها الإطار الأكثر معقولية للتفسير. ويحاول الشهيد الصدرأن يقدّم أطراً أخرى للتفسير لمواقفه من الثورة رداً على التساؤلات الضخمة التي أُثيرت في سياق البحث عن هذا التفسير. وهي تساؤلات نابعة من أهداف وأغراض مختلفة، منها أغراض سلبية نابعة من تبرير تخلّف الكثيرين عن اتخاذ نفس الموقف الصدري من الثورة، ومنها أغراض حيادية وقد تكون أيضاً إيجابية، يدفع إليها الخوف على تجربة الشهيد الصدر، وما يمكن أن تؤدي إليه مواقفه من الثورة من تأثيرات بالغة على مشروعه الضخم، وبالتالي فإن هذا الخوف (الإيجابي) واستثنائية طبيعة السلطة في العراق وحساب الأمور حساباً قطرياً بحتاً وتصور إمكانية اتخاذ سياسات أخرى من قبل الشهيد الصدر لا تصطدم مع الثورة وإنما تقع في درجات محسوبة من الحيادية المبرّرة؛ من أجل أهداف لاحقة، كل ذلك يجعل من هذه التساؤلات، تساؤلات (مشروعة)، لاسيما بالنسبة لسياسات قائد ومفكر بحجم الشهيد الصدر الذي يفترض أن تنتظره أدوار لاحقة ومهامّ جسام كبرى، سواء بالنسبة للوضع الداخلي في العراق، أو بالنسبة لما يمكن أن يقدّم فكره من إضافات فكرية لاحقة تواكب أزمات الثورة وحاجاتها، وما تكشفه التجربة من جدل فكري _ سياسي داخلها يبقى الشهيد الصدر هو الأكثر قدرة في تلبيتها، فإزاء هذه التساؤلات يجب البحث عن أطر مكملة لتفسير السيد الصدر الآنف الذكر الذي يقول: (إن السيد الخميني حقق كل ما أصبو إليه)، وهو يعني فيه ما يتعلق بتأسيس الدولة الإسلامية. وهذه (الكل) التي تأتي في سياق النص تمثل كلاً أو سقفاً في إطار طموح الدولة، ولا تمثل (كلاً) مطلقاً؛ لأن الشهيد الصدر يدرك أن بناء هذه الدولة بقدر ما يرتكز إلى ثوابت دستورية، وأفكار اقتصادية وقانونية _ كان هو قد بادر إلى المساهمة بها _ فإن هذا البناء سيخضع إلى جانب متحرك ستبرزه حاجات الدولة والتطبيقات الميدانية والعملية لبعض الأطر الفكرية. ومن هنا فإن التساؤلات حول موقفه التضامني اللامحدود مع الثورة _ التي ستتحول إلى إشكالات كما بدا للبعض _ ستتراكم أكثر فأكثر.
ويحاول الشهيد الصدر أن يقدم إجابة مكملة لما اعتبرناه إجابة غير مكتملة في السابق حول تحقيق كل ما يصبو إليه على يد الإمام الخميني. فهو يقول رداً على هذه الإشكالات ما يلي:
إن هؤلاء الذين يطلبون مني أن أتريث وأن أتخذ موقفاً من الثورة الإسلامية لا يثير السلطة الحاكمة في العراق حفاظاً على حياتي ومرجعيتي لا يعرفون من الأمور إلا ظواهرها، إن الواجب على هذه المرجعية، وعلى النجف كلها أن تتخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلامية في إيران.. ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ؟ أليس هو إقامة حكم اللهÅ على الأرض؟ وها هي مرجعية الإمام الخميني قد حققت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرج ولا أتخذ الموقف الصحيح والمناسب حتى لو كلّفني ذلك حياتي وكل ما أملك؟![45]
وبهذه الإجابة يقدّم الشهيد الصدر رداً جازماً بصحة موقفه، وبأن القضية تتجاوز الظاهر الذي يدفع إلى هذه التساؤلات، وتمتد إلى العمق الذي يلامس معنى بناء السياج الخارجي الذي يحصّن هذا الإنجاز الثوري (الدولتي) الذي تحقق على يد الإمام الخميني من خلال وضوح موقف فقهي ومرجعي، يتكفل تقديمه هو كدعوة للآخرين من الفقهاء والمراجع. وهذا التصور سيبقى هو الآخر تصوراً نظرياً _ على الأقل بالنسبة إلى الساحة العراقية _ التي أراد الشهيد الصدر أن ينهض بموقف مرجعياتها إلى هذا الموقف المسؤول، لاسيما وأن نصه الذي يقول: (إن هدف المرجعيات على طول التاريخ هو إقامة الدولة الإسلامية) إن هذا النص يناقض الواقع الفعلي لكثير من المرجعيات، وربما يفسّر في إطار الاحتجاج عليها. إن الشهيد استطاع أن يحرج هذه المرجعيات عملياً وبشكل محدود جداً من خلال بعض الإجراءات التضامنية مع الثورة، إلا أن مسافات هائلة بقيت تفصل مواقف الشهيد الصدر عن مواقف تلك المرجعيات.
ويبقى هذان النصان على رغم ما يقدّمانه من معاني (الواجب الشرعي) و(الفهم العميق) لما حصل في إيران، وتحقيق (كل) طموح الصدر على يد الإمام الخميني، يبقيان بحاجة إلى تدعيم وشروحات أخرى، أو بالأحرى فهم آخر من خارج إطار الثورة الاسلامية، التي تداخل موقف الشهيد الصدر منها وفهمه لوقوعها الضخم مع قرار المواجهة الحاسم الذي اتخذه مع السلطة الحاكمة في العراق.
فتلك المواقف من الثورة ستؤدي حتماً إلى هذا القرار وستكشف عن الخيار الأخير الذي استقر عليه الشهيد الصدر بالنسبة لوجوده وحياته من جهة ومصير المواجهة الداخلية في العراق من جهة أخرى. فهو فيما يتعلق بالوضع العراقي رأى أيضاً بأن مجيء صدام حسين إلى السلطة يعزّز من التمسك بقرار المواجهة الذي كان قد اتخذه قبل هذا التطور في نظام الحكم، فهو يقول في هذا الإطار: (ما دام هذا الشخص في الحكم لا يمكننا عمل شيء، بل إذا سكتنا عنه فسوف يحطّم ويهدّم الكيان الإسلامي في العراق)[46] ويقول: (إذا سكتنا فسوف تقضي السلطة على الوجود الإسلامي في العراق).[47]
إن هذا الفهم لهذا العامل المساعد في تعزيز المواجهة لدى الشهيد الصدر مع السلطة، ربما يخفي فهماً سياسياً آخر للواقع العراقي، فهمٌ يمتد مع التجربة التي عاشها الشهيد الصدر مع النظام الحاكم في العراق، وسياساته الإيذائية والتحرشية له وللحالة الإسلامية برمتها. فالنظام _ كما أشرنا سابقاً _ مارس سياسة الضربات المحدودة للحالة الإسلامية بشكل عام، وهو سوف يكون في أقصى درجات الحساب والاستنفار لواقع هذه الحالة وملاحقتها بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والخوف من تفاعلها مع هذه الثورة، لاسيما في ظل علاقات تاريخية ودينية وجغرافية متداخلة بين العراق وإيران، وإن الساحة التي ستتلقى الصدى الأكبر لهذا الحدث الثوري هي الساحة العراقية.
من خلال هذه الخلفية يمكن أن يقرّر الشهيد الصدر بأن السكوت سوف لا يكون خياراً للحركة الإسلامية وللحالة الإسلامية بشكل عام، وإن هذا الخيار سوف لا يصمد طويلاً أمام السلطة الخائفة المستنفرة وذات السوابق الإيذائية، فكيف والحال أن تحولاً ثورياً هادراً قد حصل بالقرب منها، فهي عاجلاً أم آجلاً ستصفّي الحساب مع الوجود الإسلامي العراقي، سواء تحرّك هذا الوجود بوجهها أم لم يتحرك.
وفي ظل هذه المعادلة المقروءة على ضوء تاريخ السلطة وسايكولوجيتها وعدائها التاريخي لهذا الوجود ومعرفتها التاريخية الممتدة مع عمره وبدايات تكوينه وتأثيره ودوره.. في ظل كل ذلك يكون السكوت نوعاً من الانتظار الساذج لغدر أكيد قادم من السلطة.
إن افتراض عدم التضامن مع الثورة الإسلامية في إيران حتى لو تم جدلاً، فهو في أحسن الحالات سوف يُبقي الشهيد الصدر _ ربما _ على قيد الحياة، ولكن بعد تجريده من أي دور، وإيقاف مشروعه وتهديم كيان الحركة الإسلامية. لأن السلطة _ وحسب التجربة _ لا يمكن أن تهدأ دون الاطمئنان إلى التخلص من الخطر الإسلامي الداخلي الذي يشكّله وجود حزب إسلامي يعمل في الساحة لعشرين عاماً مضت آنذاك، وجهاز علمائي تابع للشهيد الصدر.
وبهذا التصور الذي يستند إلى حسابات واقعية سيكون كلام الشهيد الصدر حول عدم جدوى السكوت كلاماً واضحاً ومفهوماً في أبعاده وخلفياته ومبرراً كأساس للانطلاق بخطوات متتالية ومتلاحقة، وهذ الفهم والوضوح سيكون مطلوباً ومساعداً لقراءة الكثير من المفردات التي ستبدو بمعزل عنه مبعثاً للغرابة وعاكسةً لنوع من الارتباك في إدارة وضع هذه المواجهة الميداني.
إن أهم المفردات التي تحتاج إلى تسليط الأضواء في سياق المواجهة مع السلطة التي قرّرها الشهيد الصدر تتمثل في:
أولاً: بإفتائه بحرمة الانتماء لحزب البعث.
ثانياً: بقرار وفود البيعة للشهيد الصدر.
ثالثاً: ببرقية الإمام الخميني وجواب الشهيد الصدر عليها.
رابعاً: طريقة تعاطي الشهيد الصدر مع عروض السلطة.
خامساً: نداءاته إلى الشعب العراقي.
سادساً: محاولات اختراق السلطة.
إستراتيجية المواجهة
إن التحدي الأخطر الآخر الذي يفرض نفسه بعد اتخاذ قرار المواجهة مع السلطة كخيار لا بديل عنه _ من وجهة نظر السيد الشهيد محمد باقر الصدر _ يتعلق بخطط هذه المواجهة وإستراتيجيتها. ففي ظل التطورات البالغة السرعة، والاحتياطات الهائلة للسلطة ووتيرة التحديات التي وجد الشهيد الصدر نفسه داخلها لاتخاذ قرار المواجهة، ستدور شكوك كبيرة حول إمكانية رسم إستراتيجية محددة الملامح والخطورات لهذه المواجهة وحول السيطرة على توجيه الأحداث والسيطرة على التعامل مع مبادرات السلطة التحرشية، وسيكون من الصعب جداً بناء احتمالات معقولة للتحكم بمسار الأمور والأوضاع، وبالتالي فإن كل شيء سيحصل ضمن إطار الممكن، وإن الأزمة ستُدار وفقاً لطوارئها واحتمالاتها اللامعروفة.
فبالإمكان تصور استدعاء الشهيد الصدر لكل الأدوات التي يمكن توظيفها في إطار المواجهة، وهذا أمر بديهي ولكنه غير كاف بالتأكيد، وبالإمكان وضع سياسات عاجلة، واتخاذ إجراءات تجريبية وبالإمكان أيضاً تجريب ما إذا كان ممكناً إقحام المؤسسة الدينية في مستوى من مستويات هذه المواجهة والرهان نظرياً على درجة من درجات حضورها المحتمل، أو ربما حصول توقع أو شعور نفسي بحساب دور للثورة الإسلامية في إيران لا يمكن معرفة شكله، ولكن على الأقل يمكن حسابه احتمالياً بأن السلطة في العراق ستُدخل في عناصر تقديرها لهذه المواجهة مستقبل علاقاتها مع إيران الثورة، كل ذلك يدخل في حيز الإمكان النظري وبالتالي في حيز التقدير الذي ستؤسس على ضوئه إستراتيجية ما، ولكنها بالتأكيد إستراتيجية أقرب إلى الاضطراب منه إلى احتمال الضبط والسيطرة والإدارة المعقولة للمواجهة.
والمعنى الذي يقترب أكثر من توصيف هذه الإستراتيجية ربما معنى إدارة أزمة لقرار مواجهة فرضه مزيج من الأسباب المرتبطة بمشروع الشهيد الصدر وشخصيته وطموحه الذي تحقق عبر حدث الثورة الإسلامية في إيران، فقاده هذا الطموح والواجب الشرعي إلى الاندماج مع مسيرة الثورة بغية تحصينها وتعميمها، والارتماء بكامل ثقله وتراثه الفكري ومفردات مشروعه لإضافة عمق إستراتيجي إلى عمقها في عملية ذوبان إيمانية _ وجدانية أوصى بها الآخرين عندما قال: (ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام) ولا يجسدها إلا الذين التصقوا بالمبدأ وآمنوا به بشكل عصي على التوصيف؛ لاسيما وأن هذه الثورة حرّكت ربما وعي الشهيد الصدر باتجاه إمكانية دور الأمة في المواجهة، وثقل هذا الدور وأساسه الانتمائي العاطفي للإسلام؛ إذ أن عمق هذا الانتماء الذي كان يراه الشهيد الصدر من خلال التاريخ والتجربة التاريخية والبنى السلوكية والقيمية وينظّر له، أصبح يشاهده عبر كتل بشرية متوقدة تهتف بالإسلام وتقتحم ساحات الموت من أجله، وبقيادة فقهية أدركت فن التعاطي مع هذه الكتل البشرية وانتزعت ثقتها ورسمت لها معالم الطريق. هذه الصورة هي الأخرى دخلت كقيد ربما غير مرئي في قرار المواجهة أولاً، وكأمل محتمل للتجريب ما دام هذا القرار أصبح اضطرارياً بحكم الأسباب التي تطرّقنا لها فيما مضى.
إن قرار المواجهة مع السلطة كان لابد له أن يُنفّذ عبر كوادر وأبناء الحركة الإسلامية في العراق، وبالذات حزب الدعوة الإسلامية الذي رسم الشهيد الصدر نظريته الحركية في الخمسينيات على أساس الفكر المرحلي. وكان الحزب آنذاك لا زال يعيش مرحلته الأولى المسماة بالمرحلة التكوينية أو التغييرية، ولم يتضح بما فيه الكفاية قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران أن الحزب قد استنفد هذه المرحلة وأنجز بناءه الكادري بالعدد المطلوب الذي يرشّحه _ حسب نظريته _ أن يتحول إلى مرحلة جديدة من العمل الحركي، إلا أن الحزب حُشر هو الآخر في التطور الإيراني مثلما حُشر الشهيد الصدر الذي استدعى قيادته للاطلاع على ما يمكن عمله وعلى الإمكانات والاستعدادات داخل الحزب لخوض المواجهة.
ويقول بعض الحزبيين: إنهم أبلغوا الشهيد الصدر بأن الحزب غير مهيأ للانتقال إلى المرحلة السياسية، إلا أنهم خضعوا لرغبته ونزلوا ميدان المواجهة بعد ذلك مبلغين القواعد بقرار الانتقال إلى المرحلة الجديدة. ولقد أعدّوا برنامجاً من 60 فقرة وأعدّوا لجاناً لتنفيذ هذا البرنامج. وبذلك بدأت فصول مؤلمة من حرب الحركة الإسلامية بعدما عُرف بقرار وفود البيعة، نتيجة لعدم تكافؤ المواجهة من جهة، ونتيجة لدموية السلطة التي مارست هذه المواجهة بشكل مرعب ودون ضوابط من جهة أخرى، وفي غياب كامل للقانون وممارسة المحاكم الصورية والشكلية لتنفيذ الإعدام بكل من يُشك بأن له نشاطاً إسلامياً من أي نوع، ودون التأكد من الانخراط في صفوف التنظيم أم لا. ففي حالات لا حصر لها مُورس الإعدام بحق عناصر مشتبه بها بعد أن اعترفت تحت هول التعذيب بأن لها علاقة بالتنظيم، وواقع الحال أن هذه العناصر لا تعرف عن حزب الدعوة إلا الاسم.
وكانت السلطة تمارس ذلك في ظل غياب كامل لأي شكل من أشكال الإعلام حول ما تقوم به وما يحصل داخل العراق، وفي ظل وضع دولي متواطئ معها في التغطية على ما يحصل تحت هاجس رغبة التخلص من الإسلاميين في أي مكان، بعدما حصل في إيران من انتصار للتيار الإسلامي واندحار مرير للعالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي خسرت كامل نفوذها في إيران البلد الإستراتيجي في توازنات المنطقة وإدارة السياسة الأميركية فيها.
لقد كانت مواجهة الشهيد الصدر والحركة الإسلامية في العراق مع السلطة مكشوفة من الغطاء الخارجي أو العمق الخارجي الدولي أو العربي. فالعالم العربي كان هو الآخر وبجزئه الأكبر قد وقع تحت تأثير الحدث الإيراني. وكان خائفاً من مقولات تصدير الثورة، ومتحفزاً لمواجهة أي حالات تأثر داخلية في نهج الثورة الإسلامية في إيران. وعليه فإن العالم العربي _ باستثناءات قليلة _ إذا كان معنياً بشيء مما يحصل داخل العراق فهو معني بأن يرى النظام الحاكم وقد سدّد ضرباته للتيار الإسلامي. والطرف الخارجي الوحيد الذي كان يراقب ويغطّي إعلامياً وقائع المواجهة الداخلية بفصولها الدامية هي إيران نفسها المشغولة ببناء وضعها الداخلي والمستهدفة خارجياً، والتي لا زالت بعض مؤسساتها تعيش حالة من التجريب والأداء غير المحسوب، ونعني بهذه المؤسسات المؤسسات الإعلامية بالذات. وسنعرف لاحقاً كيف أن هذا الأداء الإعلامي الذي كان يدعم مواجهة الحالة الإسلامية ورمزها الشهيد الصدر ضد السلطة، مارس في بعض الحالات دوراً غامضاً أو غير محسوب بما فيه الكفاية، ربما وفّر أسباباً للسلطة في تسريع حملاتها ضد الإسلاميين وضد الشهيد الصدر.
إن هذه الصورة توضّح إلى حد بعيد كيف أن الحركة الإسلامية في العراق وقطاعات من الشعب العراقي كانت أول من تأثّر بالثورة الإسلامية ومن ثم دفع ثمن ولائه هذا قاسياً، وإن الكثير من أبناء هذه الحركة استشهدوا تحت التعذيب دون أن يسمحوا لأنفسهم أن ينالوا من الإمام الخميني، حيث كانت قوات الأمن العراقي تجبرهم على ذلك لكشف ولائهم للثورة الإسلامية.
قرارات قلقة
إذا كانت الخطوات الأولى في سياق المواجهة مع السلطة تمثلت بالتنسيق مع الحركة الإسلامية والتشاور معها حول ما ينبغي عمله، فإن الخطوة الأخرى التي ستثير نوعاً من التساؤلات تمثلت بقرار ما عرف بوفود البيعة. وهو قرار يقضي بتنظيم حزب الدعوة لوفود شعبية من مختلف مدن العراق، و(التوجه إلى مقر السيد الصدر في النجف لمبايعته. فبدأت الوفود الشعبية بالتقاطر إلى منزل السيد الصدر بعد يومين من تبادل البرقيات، وكانت تلك الوفود على قدر كبير من التنظيم، وضمّت كوادر الحركة الإسلامية إلى جانب الطبقات المختلفة من المجتمع العراقي.
وبعد تسعة أيام متتالية من وصول الوفود إلى النجف الأشرف أمر السيد الصدر بإيقافها؛ لأن الآلاف التي شاركت في الوفود من مختلف مناطق العراق ومدنه استطاعت التعبير عن موقف الشعب العراقي والتفافه حول المرجعية الدينية ورفضه للسلطة الجائرة كما كان السيد الصدر حريصاً على عدم كشف كافة الأوساط الموالية والمؤيدة، إذ أن السلطة كانت تراقب الوفود بدقة وتقتفي آثارها تمهيداً لحملة شرسة شنّتها، حيث اعتقلت الآلاف من الشباب بحجة الانتماء إلى حزب الدعوة، ثم أعلنت السلطة حالة الطوارئ ونزلت قوات الأمن والاستخبارات إلى الشوارع.
وقد أحسّت الحركة الإسلامية أن السلطة ربما تعدّ لاعتقال السيد الصدر نفسه، فاتفقت معه على إخراج تظاهرات فيما لو حدث الاعتقال. وفي مساء يوم الاثنين 12 حزيران (يونيو 1979م) بدأت قوات الأمن تكثّف من دورياتها ومراقبتها لمنزل السيد الصدر والأزقة القريبة منه، ثم منعت المارة من التجول في الزقاق الذي يقع فيه منزله.
وفي صباح اليوم التالي 13 حزيران المصادف 17 رجب جاء مدير أمن النجف وطلب اللقاء بالسيد الصدر وقال له: إن السادة المسؤولين يريدون الاجتماع بكم في بغداد، فأجابه السيد الصدر: (إن كنت تحمل أمراً باعتقالي فنعم أذهب وإن كانت مجرد زيارة فلا)، ثم خاطب مدير الأمن ومن معه قائلاً:
إنكم كممتم الأفواه وصادرتم الحريات وخنقتم الشعب، تريدون شعباً يعيش بلا إرادة ولا كرامة، وحين يعبّر شعبنا عن رأيه أو يتخذ موقفاً من قضية ما، حين تأتي الألوف لتعبّر عن ولائها للمرجعية والإسلام لا تحترمون شعباً ولا ديناً ولا قيماً، بل تلجأون إلى القوة لتكمّوا الأفواه وتصادروا الحريات وتسحقوا كرامة الشعب، أين الحرية التي تدّعونها.[48]
وبعد هذا الاعتقال حصل ما يمكن اعتباره الإجراء الثالث في خطة أو إستراتيجية المواجهة من قبل الإسلاميين، وهو الإجراء الذي تمثّل بتنظيم تظاهرات في عدد من مدن العراق شارك فيها أعداد من كوادر الحركة الإسلامية ووكلاء الشهيد الصدر في المناطق وعدد من العلماء. وكانت تظاهرات محدودة انطلقت في نفس اليوم _ 13 حزيران 1979م / 17 رجب 1399ق _ في عدد من الدول، الأمر الذي اضطر السلطات من جهة إلى إطلاق سراح الشهيد الصدر، وجعلها تتأهب من جهة ثانية لحملات واسعة من التصفية والإعدامات العشوائية.
وإذ ا كان إجراء التظاهرات إجراءً مفهوماً وطبيعياً ويأتي في سياق رد الفعل الطبيعي على اعتقال الشهيد الصدر من قبل السلطة ومحاولة الضغط عليها، فإن قرار وفود البيعة لم يكن بالقدر الكافي من الوضوح؛ إذ بغض النظر عمن اتخذ هذا القرار في الأصل، حزب الدعوة أم الشهيد الصدر، أم الاثنين معاً بعد التشاور والتنسيق، فإنه يعكس نوعاً من الإرباك في تسيير دفة الأمور، وقد بدا هذا الإرباك واضحاً من خلال قرار إيقاف هذه الوفود بعدما (لاحظ السيد الشهيد) أن هذا القدر من التحرك كان كافياً لتحقيق الهدف المقصود في تلك الفترة، فأوعز إلى بعض وكلائه ومحبيه أن يدعو الناس إلى الكف عن مواصلة مجيء الوفود إلى النجف حيث لا ضرورة تقتضي ذلك.
وكان وراء اتخاذ هذا القرار عدة أمور أشير إلى بعضها:
أولاً: أن السلطة أخضعت معظم الوفود لمراقبة شديدة، ففضلاً عن التقاط صورة فتوغرافية لهم، كانت مفارزها الأمنية في كافة الطرق المؤدية إلى النجف تضبط أسماءهم بدقة، وكانت هذه الإجراءات قد اتخذت تمهيداً لاعتقالهم فيما بعد..).[49]
إن سبب إخضاع السلطة الوفود للمراقبة، لا يقدّم شرحاً وافياً لملابسات ما حصل، فهذا السبب كان واضحاً منذ البدء ويندرج في إطار التوقع الطبيعي لموقف السلطة من هكذا فعل، وبالتالي فإنه لا يوجد شرح أو تفسير مقنع خارج تقرير حالة الإرباك في إدارة المواجهة؛ لأن قرار وفود البيعة إذا كان ضروررياً من باب إخافة السلطة أو تحديها، ومن باب جسّ نبض الشارع العراقي واستجلاء موقفه ومدى استجابته، فإنه بالمقابل قدّم كشفاً مجانياً وسهلاً للسلطة بالعناصر والكوادر الحركية وغير الحركية التي يريد القضاء عليها. وبالإضافة إلى هذا الكشف المجاني، فإن أحد أسباب قوة موقف الشهيد الصدر وحزب الدعوة يكمن في سرية هذا الحزب وعدم معرفة السلطة بحجمه الحقيقي، وحد هذا الكشف في بداية المرحلة السياسية من الضغط على السلطة في حرب الأعصاب التي تشكّل سرية الحركة الإسلامية أحد ركائزها.
إن القلق والإرباك الذي أظهره قرار وفود البيعة ربما اعتبر مؤشراً هاماً أو بداية لمرحلة لاحقة سوف يكون ضبط أية خطة أو إستراتيجية لها، مسألة تكاد تكون مستحيلة، لاسيما في ظل مؤثرات خارجية دخلت على خط المواجهة، وكان التعامل معها تعاملاً آنياً كمؤثر البرقية أرسلها الإمام الخميني إلى الشهيد الصدر قبل وفود البيعة بأيام قليلة.
إن عدم وجود إقناع واضح ولا يقبل الالتباس، يَبرز في فهم أو تحليل اتخاذ هذا القرار. فواضح من الروايات الإرباك وعدم الإقناع. فما ينبغي أن يكون مانعاً عن اتخاذ هذا القرار وهو كشف العناصر الإسلامية الحزبية والثورية للسلطة، هو نفسه أدّى إلى هذا المنع وإيفاف هذه الوفود، وكأن الأحداث الضخمة كانت هي التي تسيّر القيادة، وليس القيادة هي التي تصنع الأحداث. ولا يمكن لهذا الالتباس أن يخفّف إلا عبر تصور أن الشهيد الصدر كان يراهن ربما على حشر المرجعية الدينية في المواجهة؛ لأنه في فترة الحجز كان يكثر من ملاحظاته التي تنمّ عن هذا المعنى بشكل غير مباشر، وبعد أن اتخذت المرجعية العليا موقف الصمت السلبي من الأحداث.
طوارئ مجهولة في المواجهة
على الرغم من أن الشهيد الصدر أرسل ممثلاً له إلى إيران وهو السيد محمود الهاشمي إلا أنه لم تتمّ له فرصة التواصل والتشاور مع القيادة الإيرانية في ظل تلك الظروف الحرجة التي يمر بها العراق. وتعود أسباب ذلك إلى ظروف الثورة ومرحلة الانتقال من العهد القديم إلى إرساء المؤسسات الجديدة، وهي مهمة لم تكن يسيرة على الإطلاق من جهة، والظروف الأمنية الدقيقة التي يمر بها الشهيد الصدر من جهة ثانية. ومع ذلك لم يكن متوقعاً إطلاقاً أن يبادر الإمام الخميني إلى إرسال برقية علنية عبر إذاعة الجمهورية الإسلامية _ القسم العربي _ إلى الصدر يطالبه فيها بالبقاء في العراق وعدم مغادرته له لكي يقود الأحداث فيه، أما نص البرقية فهو:
سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته
علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث. إنني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية. وإنني قلق من هذا الأمر. آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[50]
والغريب في الأمر أن الشهيد الصدر لم يكن يفكّر إطلاقاً بمغادرة العراق، (ويظل مغزى هذه الرسالة والعوامل التي دفعت بالإمام الخميني إلى إرسال هذه البرقية بدون تفسير مقبول؛ إذ يحمّل البعض المسؤولين الإيرانيين مسؤولية دفع الإمام الخميني إلى إرسال البرقية، ويضع البعض اللوم على العاملين في القسم العربي لإذاعة طهران؛ إذ كان فيهم عدد من اللاجئين العراقيين كشفت الأيام أنهم لم يكونوا مسرورين لتصدي السيد الصدر للمرجعية ولقيادة التحرك الإسلامي في العراق، وكانوا على صلة وثيقة ببعض الشخصيات النافذة في قيادة الثورة الإسلامية في إيران).[51]
و(إلى اليوم لا تعرف الأوساط المقربة من الشهيد الصدر شيئاً دقيقاً عن حيثيات هذه الرسالة، وكيف اقتنع الإمام الخميني بإرسالها، ومن هو المدبّر لها. كان الشهيد الصدر ممتعضاً وتساءل مع نفسه ومقربيه عن حقيقة تلك الأنباء وكيف وصلت إلى السيد الخميني، وهل كانت ثمة دوائر لها صلات ما تخطط لعمل ما).[52]
بالطبع حاول السيد الشهيد الصدر أن يجد تفسيراً لذلك؛ لأن خطورة هذه البرقية لا تكمن في بعد واحد، فهي:
أولاً: سيكون لها بعد أمني مباشر من قبل السلطة على تحرك السيد الشهيد.
ثانياً: كما أنها ستقدّم دليلاً مغايراً للسلطة على نوايا الشهيد الصدر من خلال علاقته بإيران، فهي تقع في مضمونها خارج الخطوات التأييدية العلنية التي خطاها الشهيد الصدر إزاء الثورة.
ثالثاً: كما أن لها إسقاطاً على جزء من الشارع العراقي الذي كان يعيش آنذاك حالة من الترقب والتفاعل مع الثورة الإسلامية من جهة ويجد في الشهيد الصدر ملاذاً لتحقيق طموحاته في التخلص من كابوس السلطة من جهة أخرى.
رابعاً: ونتيجة طبيعية ومنطقية لكل ذلك فإن هذه البرقية ستؤثر على أية خطة أو إستراتيجية كان الشهيد الصدر قد وضعها لإدارة المواجهة مع السلطة، لأنها دخلت كطارئ ومؤثّر قوي في إعطاء وتيرة الأوضاع داخل العراق طابعاً آخر أكثر توتراً وأكثر حساسية.
وبالفعل لم يمض إلا يومان حتى دعا (الشهيد الصدر بعض طلابه والمقربين منه لدراسة هذه القضية، وما هو الموقف منها؟ وكيف نتعامل معها).[53]
وكان قبل ذلك قد قرر فوراً الرد على برقية الإمام ببرقية جوابية بتاريخ 5 رجب 1399ق، الأول من حزيران 1979م كان نصها كما يلي:
سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظله.
تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسّدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإني أستمدّ من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف، وأود أن أعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كله، وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خاصة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية، وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين، ونسأل المولى أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[54]
ومهما يكن من أمر فإن الشهيد الصدر لم يكن يملك من خيار إزاء برقية الإمام إلا هذا الجواب الذي يعبّر عن الكثير من الشجاعة والتفاعل والتحدي المنقطع النظير وتأكيد لمسات مشروعه الشمولي وأمله في التغيير الواسع، متجاوزاً بذلك واقع إشكالات سبب إرسال البرقية، متعاطياً معها بروح قيادية لم يُتح للعراق والعراقيين شبيهاً لها على طول تاريخهم المعاصر، وهو بهذا الجواب يتوّج تاريخه المليء بالتحدي والعمل والإصرار والعمق، ويقبل من جانب آخر بالآثار الإستراتيجية التي تركت أثرها بشكل فوري من خلال قرار وفود البيعة التي _ كما أشرنا _ عكست شيئاً من الارتباك في إدارة المواجهة.
إن إشكالية برقية الإمام الخميني أدّت فيما أدّت إليه إلى أخطاء مضخّمة في التحليل، لاسيما من قبل الذين هم خارج الحالة الإسلامية، ولا يحيطون بتفاصيل الواقع الشيعي. الأمر الذي دفعهم إلى تحليل هذه الإشكالية انطلاقاً من جو للصراع المرجعي _ المرجعي التقليدي، ليس فقط لم يكن موجوداً في العلاقة بين الإمام الخميني والشهيد الصدر، إنما بخلاف ذلك تكاد تكون العلاقة بينهما نموذجاً راقياً للتلاحم والإيثار، وتربطها وحدة هدف وإطار ومضمون لمشروعيهما، لاسيما في البعد السياسي _ الثوري _ التغييري.
فليس الأمر أن الإمام الخميني (لم يبادل الضيافة النجفية بالمثل)،[55] لأن الإمام الخميني بالذات جسّد قيماً عليا في قيادة الإسلام العالمي، ولأن الشهيد الصدر لم ينو أصلاً كما أوضحنا مغادرة العراق ولم يطلب من الإمام أو يستغيثه كما يصوّر النص التالي:
كان الطلب الأولي نداء استغاثة؛ لأن وضعه في النجف أصبح عصيباً. فبعد العديد من الاعتقالات وتصاعد حدّة التوتر على أثر الثورة الإيرانية والمشاكل الداخلية لحزب البعث، صارت الضمانة الأمنية للصدر المستمدة من مركزه كزعيم روحي عديمة الجدوى ولم يبق أمامه سوى التفكير جدياً في المنفى، تفادياً للمجابهة الوشيكة مع الحكومة. ومن ذلك المنطلق استنجد بالخميني متوقعاً بالطبع رداً إيجابياً واستجابة فورية. فمثل هذا النمط معروف ومترسخ جداً منذ العشرينيات، والعديد من أبرز العلماء اختاروا طريق المنفى، قبل مدة طويلة من نفي الخميني من إيران وإقامته المطولة في النجف. ولذا كان جواب الخميني غريباً، ينبع جزئياً من اعتقاده بأن حزب البعث لن يجرؤ أو يتجاسر على إذلال الصدر أكثر مما فعل حتى ذلك الحين. لكن إساءة التقدير من الخميني ربما لم تكن فقط نتيجة خطأ سياسي.
ثمة بُعد لبرقية الخميني أكثر غموضاً في دلالته وأبعد غوراً، فالصدر خاطب الخميني معترفاً بشهرته واللقب الأرفع يتكرر في رسالة العالم العراقي، كما أورد الصدر لقب الإمام دليلاً على كلية الإجلال والامتثال. وتبدو هذه المخاطبة أكثر وضوحاً في المغايرة مع خطاب التهنئة الذي وجهه آية الله الخوئي إلى الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، إذ اقتصرت المخاطبة على لقب حجة الإسلام، مع أن المتوقع كان آية الله، ولا غرابة إذن في أن هذه المسألة أحدثت صدمة في الدوائر الشيعية.[56]
أما تفسير الألقاب من داخل تصوير يوحي بالصراع أو المنافسة فهو الآخر يشير إلى عدم معرفة بمرحلة بداية الثورة، وخلط كبير بين حالات العلاقات بين المراجع، والنظر إلى هذه العلاقات بنسق واحد وخلفية واحدة تنطلق من الصراع والتنافس. ولا يمكن لأحد أن ينفي حالات التغاير والاختلاف والتنافس وحتى الصراع في بعض العلاقات المرجعية إلا أنه في مثال الشهيد الصدر والإمام الخميني تنعدم كل هذه الحالات، لا بل هنالك ما يغايرها جملة وتفصيلاً، وهنالك حالة من أرقى الحالات في المضمون (المشروعي) وفي المواقف العلنية والسرية. ولم يكن موضوع الأعلمية مطروحاً بأي شكل من الأشكال في تلك المرحلة، كما تصرّح تكملة النص المتقدم التي تقول: (لكونها عنت أن الخميني _ بالرغم من أي فوز أو انتصار يحققه _ يبقى ثانياً بالنسبة للخوئي في الأعلمية بعد كل آيات الله المعترف بهم وبعد الخوئي نفسه.
ويتّسم التخاطب بين الصدر والخميني بالمزاج نفسه وباللهجة عينها. فالخميني لم يقابل بالمثل اللقب الذي كُرِّم به، وخاطب الصدر بلقب حجة الإسلام وكونت هذه المخاطبة لعالم مثل الصدر سبق له حتى ما قبل عام 1979م أنه أسهم في انبعاث التبحر العلمي الإسلامي أكثر من أي كاتب آخر في هذ ا القرن، فصلاً من حياته محطاً من القدر، وبالفعل محيراً. ففي الدول ذات النسب المرتفعة من الشيعة يكشف جحد الخميني الصدر درجة الاجتهاد العليا عن جفاء مرتبك معهود في المنافسة بين العلماء. وكما في حالة الخوئي والخميني، وفي القضية الأحدث عهداً بين الخميني ومنتظري، فإن المزاحمة على نيل الاعتراف بمركز الفقيه الأعلم تطورت إلى أعلى الدرجات والمستويات بين العالمين الأساسيين المقدّمين على الجميع في إيران والعراق، وكانت نتيجتها المحركة للنفس والمشاعر وقوع محمد باقر الصدر في شرك التصادم المميت مع البعث. وتزداد المفارقة في سخريتها، بالنظر إلى اللقب الذي ناله الصدر بعد وفاته من الخميني، إذ اعترف به الزعيم الإيراني في رسالته الموجهة في 22 نيسان، كآية الله العظمى وجائزة العَلم الإسلامي)[57]
إن الغموض الذي أحاط بأسباب برقية الإمام الخميني إلى الشهيد الصدر قد يحتاج إلى دراسة أكثر عمقاً إلا أنه بالتأكيد لا علاقة له بهذه التحليلات التي تنطلق _ كما أشرنا _ من قصور في معرفة الواقع الشيعي معرفة دقيقة، ومهما يكن من أمر، فإن برقية الإمام كان لها أثر كبير في مسار المواجهة بين الشهيد الصدر والحركة الإسلامية في العراق من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى.
موقف المرجعية من الصدر
كان للشهيد الصدر مشروع مغاير تماماً في كل مجالاته ومفرداته ومضمونه وآلياته عن المشاريع المرجعية السائدة في محيطه، وكلما تراكمت صيرورة هذا المشروع ومسيرته كلما برزت أوجه المغايرة فيه بشكل أكبر؛ إذا أن الشهيد الصدر _ وكما أشرنا _ كان يخطط للنهوض بالكيان الحوزوي من واقعه عبر منهجية تكاملية مع رموزه المرجعية تقتضي التنسيق والتواصل والتخطيط المشترك، حتى لو تطلّب منه ذلك التنازل والسكوت على ما يحصل داخل هذا الكيان من أنماط تنافسية سلبية بين المواقع المرجعية، فهو دائماً التزم مبدأ تحويل السلبي إلى إيجابي، إلا أن هذا الالتزام استنزف الشهيد الصدر وصبره الهائل مثلما استنزفت الخلافات الداخلية 80% من جهود الكيان بالنهاية.
وفي وقت متأخر استسلم الشهيد الصدر لهذا الواقع المرير ليقرّ بحقيقته، وهو استسلام يعبّر أو يستبطن إشارات على مراجعة الشهيد الصدر لواقع العلاقات الداخلية في الكيان المرجعي، وتطور هذا الاستسلام في أيام المواجهة الساخنة مع السلطة إلى قناعة بمراجعة جذرية لمجمل إستراتيجيته الداخلية والاجتماعية. فلقد أحس الشهيد الصدر أن حذره الكبير في عدم التوسع اجتماعياً خوفاً من استفزاز المرجعيات الأخرى في أحد أسبابه كان غير مبرر.
ويعزز هذه القناعة لديه تجربة الثورة الإسلامية في إيران بقيادة مرجعية الإمام الخميني، فهي كذلك كانت مرجعية محاربة، إلا أن إستراتيجيتها الاجتماعية استطاعت أن تعبّئ كل المجتمع الإيراني بعيداً عن حساسية أو عدم حساسية المواقع المرجعية الأخرى وأن حلم الدولة الإسلامية وهمّها الذي كان يرهق الشهيد الصدر منذ انطلاقته الفكرية، لم يتحقق عبر الاجتماع المرجعي أو إجماع رموز الكيان والإطار، وإنما استطاع الإمام الخميني أن يؤسس علاقات متراكمة مع الأمة وأن يكتشف أساليب مؤثرة في تعبئتها وأن يعمل بنظرية حركية فاعلة إزاءها وأن يكتشف لنفسه نمطاً خاصاً في علاقاته المرجعية، بدا أنه نمط أكثر جرأة في مُساءلة المرجعيات حول سبب سكوتها على واقع الأمة السياسي، وأكثر جرأة في انتقاد المرجعيات التي تروّج لمقولات (فصل الدين عن السياسة) فلقد بدا هذا المنهج في إدارة العلاقات مع المراكز المرجعية في الكيان الشيعي أكثر صرامة، وهو منهج انصبّ رهانه على الأمة وبكل ما يفعّل دورها، ويؤدي إلى التلاحم معها ويضخّها بخطاب يعيد إليها ثقتها بنفسها ولا يقف عند شريحة معينة منها.
إن ظروفاً أخرى حكمت تجربة الشهيد الصدر سياسية وغير سياسية. وهو عمل على المنهج الفكري واختاره كمدخل وصولاً إلى المنهج الثوري، وهو منهج فرضته ظروف النجف بشكل خاص، وظروف العراق الذي انكفأ فيه العمل المرجعي منذ ثورة العشرين، بخلاف الساحة الإيرانية التي كانت المرجعية فيها أكثر ديناميكية وتواصلية، كل ذلك فرض عليه المنهج التأسيسي الجذري للقواعد، وهو منهج يحتمّ عليه إلى حد ما إدارة مغايرة لعلاقاته مع رموز الكيان،، إدارة تقوم على التكامل معها والتنسيق والتواصل بما يقتضيه كل ذلك من صبر وتحمل.
وقد يكون لفارق السن بين الشهيد الصدر والإمام الخميني حسابه، فالإمام الخميني استنفد هو الآخر مراحل من الصبر على واقع الكيان، حتى استقر على خياره التعاملي النهائي معه. فيما الشهيد الصدر وهو يعايش مرارة الواقع الداخلي تفاجأ هو الآخر بالتجربة الإسلامية في إيران، كتجربة اختزنت منهجاً أتاح تصور إمكانات هائلة لدور الأمة فيما لو اندكّ المرجع بها وصبّ رهانه عليها. ولذلك فإن الشهيد الصدر وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران ومعايشته لمواقف المرجعيات الأخرى إزاءه، اتخذت نشاطاته وقناعاته منحىً أكثر تلاحماً وتعاطفاً مع المجتمع العراقي.
أولاً: فلربما كان قرار وفود البيعة له يعبّر في أحد أشكال التعبير عن التوجه للأمة، لاسيما وأن الحوزة في جزئها الأكبر قد خذلته وتركته هدفاً لحرب نفسية قاسية.
ثانياً: وبعد هذه الوفود وإيقافها كان الشهيد الصدر، يعبّر عن رضاه عن دور الشعب العراقي، رغم أن هذا الدور كان محدوداً ومحاطاً بظروف أمنية قاسية و(أن الجماهير رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها السلطة لمسخ هويتها وإرادتها وكرامتها ما زالت حية تستجيب لنداء الحق حتى وجدت القيادة الرشيدة والواعية).[58]
وكان همّه الكبير في البحث ينصبّ على الاستفادة من القوى الجماهيرية في هذا المجال، وقد قال في بداية الحجز:
إن الحجز سيحقق لنا الفرصة المناسبة لبحث هذا الأمر، ولكن بمرور الوقت بدأت آماله تتضاءل في أن يتمكن من تحقيق ذلك، لا لأن الشعب العراقي غير مستعد أو متجاوب، بل لأنه أحس بعدم اهتمام أو تجاوب من كان يعتمد عليه في هذا المجال.[59]
ثالثاً: لقد أبدى الشهيد الصدر انتباهاً لافتاً إلى قطاعات أخرى من الشعب العراقي، غير تلك القطاعات المعروفة بالتدين، وقال في فترة الحجز عنها:
لو قدّر للحجز أن يفكّ عنا وتعود الأمور إلى طبيعتها فسوف أصرف قسماً كبيراً من الحقوق الشرعية على تربية هؤلاء، إنهم يملكون الشجاعة التي نحتاجها في مسيرتنا الجهادية، هؤلاء أفضل عند الله من الذين تخلّوا عنا أو الذين اتهمونا ببعض التهم ونحن نعاني ما نعاني في الحجز.[60]
إن المرجعية الشيعية في العراق هي التي تخلّت عن الشهيد الصدر، كما أن الأوساط الدينية المحيطة بها هي التي اتهمته، فيما أن هؤلاء الشباب كانوا يفكّرون متطوعين في الدفاع عن الشهيد الصدر، الذي تكرّست قناعاته بشكل أكبر بدورهم وبما يترابط مع دور المؤسسة الدينية آنذاك وخذلانها. فهو مثلما قارن في النص المتقدم بين دور هؤلاء الشباب ودور هذه المؤسسة أخذ يردّد أحاديث المقارنة بشكل أوضح ويقول:
سوف أعتمد في العمل على أمثال أصحاب الرسالة. إن هؤلاء أسخى لله تعالى بدمائهم من أجل الإسلام والقيادة الإسلامية، وسأبذل معظم الحقوق الشرعية على تربيتهم، إن الإسلام اليوم بحاجة إلى المضحّين الفدائيين، إن واحداً من هؤلاء يستطيع بعمل تضحوي ما أن يغير وضعاً قائماً كان يبدو من المستحيل تغييره، ولا يستطيع أن يفعل ذلك مَن بذَلنا الكثير من أجله.[61]
لا، بل إن الشهيد الصدر ذهب بعيداً في تعاطفه مع الأمة وأوساطها، إنه التفت حتى إلى كادر جهاز السلطة، بل حتى إلى القوات التي تطوّق منزله، ليجد لها مبرراً يقاسمها مسؤولية الدور الإجرامي الذي كانت تنفذه بحق رجل لم يلد العراق مفكراً طوال قرن مثله بوعي أو بدون وعي لهذا الدور، فهو يعيد كلمته العامة التي قالها في (خطاب المحنة): (أليست هي جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم)، إنه يعيد هذا القول إزاء دائرة أخص أو مجموعة محددة من أدوات السلطة كانت تنفذ إرادتها في حصاره وحجزه وتجويعه، فيقول: (يجب أن نعطف حتى على هؤلاء، إن هؤلاء إنما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم تتوفر لهم الأجواء المناسبة للتربية الإيمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم الله تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين).[62]
لا يوجد مجال بعد هذه النصوص للشك في قناعة الشهيد الصدر المطلقة التي تبلورت في نهاية حياته في إعادة قراءة منهج التعاطي لديه مع محيطه، وإذا كان (خطاب المحنة) عالج تخلّف المؤسسة الدينية عن حركة المجتمع وإنتاج آليات التواصل والتعامل معها، وكشفَ عن النزاعات في داخله، فإن نصوصه في فترة الحجز كانت أكثر جذرية والتصاقاً بتجربته الشخصية ومشروعه الخاص، وأكثر مقارنة بين المجتمع من جهة وبين المؤسسة الدينية من جهة أخرى في سياق هذه التجربة وهذا المشروع. وهذا ما يرتبط بشكل أو بآخر بإستراتيجيته الداخلية التي مارسها في المراحل السابقة من حياته، وبالتحديد في سياساته مع مراكز وأطراف هذا الإطار أو الكيان الحوزوي. فلقد حدّت هذه السياسة التصالحية الصبورة المتحملة من إمكانية اندفاعه الاجتماعي، وخيارات العمل المفتوح الآفاق في أوساط الأمة. وذلك لأن تصدي الشهيد الصدر للمرجعية بحد ذاته كان مشكلة لهذا الإطار، ولأن امتداد هذه المرجعية هو مشكلة أخرى كان يحاول اكتشاف أفضل الصيغ لتحاشيها ولو على حساب هذا الامتداد نفسه.
إن الشهيد انتبه متأخراً أن سياسة النفَس الطويل مع الكيان ربما ضيّعت عليه فرصاً مهمة للعمل في أوساط الأمة، لاسيما وأن هذه الأمة كانت خياراً ناجحاً وجباراً في تجربة الإمام الخميني ومنهجه، وأن صبر الشهيد الصدر عرقل كثيراً نفوذه المرجعي في الوسط الاجتماعي، ولم يعوّضه الكيان عن خسارة هذا النفوذ بقدر ما وضع هدفاً لحرب نفسية شعواء. وكانت هذه الحرب النفسية محصّلة يجب أن تحصل وتقع في ضوء _ ما أشرنا إليه _ من مغايرة مشروع الشهيد الصدر عن المرجعيات الأخرى. فهو مشروع لتأسيس الدولة في أهدافه النهائية بما تتطلبه من جهود فكرية جبارة لإدارة هذه الدولة، ولدحض الخيارات الفكرية الأخرى. فيما أن الواقع المرجعي الذي صبر عليه الشهيد الصدر، لا يؤمن بالعمل على تأسيس دولة ولا يتعاطى السياسة بأي شكل من الأشكال، سوى السياسة المطلبية التي أشرنا إليها. وهذا وحده كان كافياً لوصول سياسة الصبر والمدارة إلى طريق مسدود، لاسيما بعد نزول المشروع الصدري إلى ميدان المواجهة التي لا يريد أن يخوضها الطرف الآخر تحت أي سبب من الأسباب. ففي ظل هذه المواجهة بدا الاحتكاك واضحاً بينه وبين الوجود المرجعي، وأن (محاولات التنسيق التي قام بها الشهيد الصدر أقبرت دونما شعور بالمسؤولية أو الغيرة على هذا الكيان العظيم، فيما كان ضمير الصدر يعتصر ألماً على ما آل إليه الكيان المرجعي الذي يراه غريباً وسط أهله).
كانت هذه المشاريع _ أعني مشاريع التنسيق _ تحمل في داخلها بذور الفشل؛ لأنها كانت تتم وفقاً لآليات متخلفة وعقليات متنافرة، فسرعان ما تهتز وتُعلن عن فشلها إلى الملأ. ففي الوقت الذي ينسّق فيه السيد الشهيد مع مرجعية السيد الخوئي وجهازه الخاص على مستوى توزيع ممثلي المرجعية، يُباغَت بتصريح غير مسؤول يطال أحد مقربيه، والذي تم بتنسيق السيد الخوئي تعيينه في المجر ممثلاً للمرجعية. ونزعت منه الشرعية وفقاً للبيان التالي (السيد محمد الغروي ليس وكيلنا في المجر). طبعاً هذا البيان كان بمثابة قنبلة فجّرت الموقف وكشفت عن الاحتقان الداخلي الذي يختزنه المشروع. وشكّل هذا البيان سداً جديداً بين المرجعيتين يصعب تجاوزه، ليمهّد للقطيعة التي تحكم علاقتهما.
ويعتقد بعض الباحثين أن أحد أسباب القطيعة يبدو مع تصريح للسيد الخوئي أدلى به لمراسلي الصحافة ذكر فيه أن الشيعة في العراق بخير، في وقت كانت فيه جراحات انتفاضة صفر حاضرة ولم تندمل بعد.
وقد يكون آخر مظهر من مظاهر القطيعة هو ذلك الموقف الذي اتخذته مرجعيات النجف تجاه السيد الشهيد، ليس السلبي وحسب، بل المعاند أيضاً. إذ لم ينتظر السيد الشهيد في موقفه الأخير من النظام العراقي أي شكل من أشكال الدعم والمساندة من مرجعيات النجف، ولم يكن يأمل أي شيء من هذا القبيل، وكان لفتواه بحرمة الانتماء للحزب الحاكم الأثر الفعال في مواجهة النظام والضغط عليه، وتشجيع الناس على التمرد، إلا أنه شعر أن مرجعية النجف ليست سلبية وحسب بل تتعمد مواجهته بالذات بدلاً من أن تسانده في مواجهة السلطة. كان ذلك إثر جواب صدَر من المرجع العام والذي نفى بمقتضاه أن يكون حرّم الانتماء إلى الحزب الشيوعي فكيف بحزب السلطة، قد لا يكون المرجع واعياً لآثار ما قال ومدركاً لأبعاد مقالته، إلا أنه بالتأكيد يكشف عن وضع جد خطير يُنذر بالانهيار والتلاشي في وقت يفترض فيه أن تكون المرجعية واعية لأبعاد قراراتها.[63]
كما أن مشروع الشهيد الصدر غاير التقاليد المعمول بها في الكيان وتعامله المعرفي، حتى في طبيعة الخطاب الفقهي الذي أرسى أساس تعاط ديني أسهل، وبالتالي فإن هذا الاحتكاك وتطوره كان قدَراً حتيماً، أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه من تجاذب سلبي في لحظة مواجهة مصيرية مع السلطة، فهذه السلطة أصبح بإمكانها أن تواجه الشهيد الصدر، ولا تواجه الكيان المرجعي، وأن يخلق ذلك المزيد من الاطمئنان لها في عزل حالته عن العنوان العام للمرجعية، ومن ثم ممارسة سياسة استفراد به وتجرّؤ على إعدامه لاحقاً.
إن الصراع مع السلطة أخذ طابعاً اثنينياً واضحاً وأصبح على الشهيد الصدر أن يواجه السلطة من ناحية وأن يبتكر أساليب لتصحيح ما يراه خطيراً ومؤثراً في دور المرجعية العام الواعي أو اللاواعي، والذي يؤثّر على المواجهة أو إستراتيجيته في هذه المواجهة. وتعتبر فتوى تحريم الانتماء إلى حزب البعث واحدة من أكثر إجراءات التصحيح شجاعة وخطورة، فرضها تحدي تفاعلات الجبهة الإسلامية العام، وانعكس كإجراء في السياق العام للصراع مع السلطة.
لقد بدأت الأمور تنهار بشكل فعلي داخل الكيان ولو بصورة مجردة من العناوين العلنية فبُنى الصراع الداخلي في هذا الكيان راحت تنعكس بشكل عنيف على شكل الصراع مع السلطة، ليفتح أمامها فرصاً كبيرة لإدارة هذا الصراع. وفي نفس الوقت ينكشف الأمر عن عمق الأزمة وجذورها الغائرة في البُنى الفقهية وعلاقاتها بالواقع السياسي. فمثلما كانت السياسة المحور الأساسي في التفاعل والتجاذب السلبي الداخلي داخل الإطار، كانت أيضاً عنواناً لمحاربة الشهيد الصدر وأداةً لهذه المحاربة؛ إذ (أن الجهل الذي كان يملأ قلوبهم، أو قل الحقد الذي أعماهم وأضلهم كان يُخيّل لهم أن المسألة محدودة بالشهيد الصدر فقط ولن تتعداه إلى سواه، فإذا كان اتهامه بالحزب خير وسيلة للقضاء عليه فليكن هو الأسلوب المتّبع.
وكان) حينما تبلغه الاتهامات والافتراءات التي توجه إليه من قبل بعض الأطراف في الحوزة، يقول:
إن السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين إلا بسبب ظروفي وأوضاعي الخاصة، وإلا فإن هدفها أكبر وأشمل، إنها استهدفت الوجود العام كله، المرجعيات كلها والحوزات كلها بغض النظر عن فكرة الاتهامت الحزبية، وما ذريعة الحزب إلا أداة لتضليل الناس.[64]
لقد كشف الجدل العنيف الذي رافق تجربة الشهيد الصدر عن ملابسات مناهج الإصلاح والتغيير في الواقع الإسلامي. فالواضح أن المنهج الذي ينظر إلى هذا التغيير، انطلاقاً من التحدي الخارجي وتشخيصه والإحاطة به ومواجهته لا زال يحكم الواقع، فهذا المنهج غالباً ما يؤجّل المشكلات الداخلية ويعتمد مقولات المؤامرة ويحلّل الواقع انطلاقاً من معطيات حركة الخارج، وبالتالي فإنه يُحيل أسباب الفشل إليه، وواقع إحالة رؤية التغيير يجب أن تخضع إلى قراءة داخلية وإلى إيجاد واقع داخلي متماسك بإمكانه أن يخلق توازنية في آفاق هذا التغيير.
خطاب المواجهة
لم يتح للشهيد الصدر أن يقدّم خطاباً متكاملاً للمواجهة مع السلطة، فحركة هذه المواجهة العلنية السريعة ووقتها الذي قضاه بين الاعتقال والحجز ورقابة وضغوط السلطة القاسية، كل ذلك حال دون توفر الفرص للشهيد الصدر لكي يخوض المواجهة بخطاب علني يمكن أن يتحول إلى مرجع لاستنباط الكثير من الرؤى السياسية حول الأزمة العراقية وخصوصياتها، إذ يبقى للخطاب السري الحركي مجالاته وأهدافه المغايرة عن الخطاب العلني الذي يخوض في قضية بلد بتركيبته وتنوعه القومي _ الديني، وللخطاب الفكري أيضاً موضوعاته المغايرة، ومع ذلك فإن ثلاثة من البيانات التي سرّبها الشهيد الصدر إلى الشعب العراقي وهو في بيته المحاصر يمكن أن تقدم إلمامات عبقرية تحاكي وتكمل عبقريته في كل المجالات التي خاضها.
فنصوص هذه البيانات جاءت أشبه بالطلقات الموجهة إلى أكثر مفاصل بناء السلطة النفسي والأمني حساسية، فهي كلمات محسوبة على مقاس السلطة ومقولاتها السرية والعلنية التي تحاول أن تأخذ منها الشرعية وعوامل القوة والبقاء، وأن تغذّي بها سياسة التعبئة الداخلية وأن تؤسس من خلالها أدواتها في إدارة الأوضاع الداخلية والأمنية وإدارة الدولة بشكل عام، وهي _ أي هذه البيانات الثلاثة _ عندما يُعاد قراءتها الآن سنجد أنها تدخل في صميم أزمة الواقع العراقي، ومسائله العقدية التي عرقلت وصول المعارضة العراقية بتياراتها الرئيسية إلى إطار يحقق وحدتها الوطنية.
وهذا إذا كان يدلّل على شيء فهو يدلل أيضاً على عمق نظرة الشهيد الصدر قبل عشرين عاماً إلى ما يمكن أن يتحول إلى عُقد في معارضة السلطة ومواجهتها. فالطائفية مثلاً هي واحدة من ثلاثة أو أربعة محاور أعطتها بيانات الشهيد الصدر الثلاثة حيزاً واسعاً من الاهتمام والتركيز، أو أنها تكون مجالاً لمساحة بيان كامل من هذه البيانات، وهي _ أي الطائفية _ بقدر ما كانت تشكّل ركيزة غير معلنة من ركائز السلطة، فإنها تحولت فيما بعد إلى واحدة من المسائل الخلافية الواضحة في خطاب المعارضة العراقية السياسي، واختلفت أشكال التعاطي معها، حتى في الخطاب السياسي الإسلامي الذي يحاول كل أطرافه أن يستمدوا مشروعيتهم من مدرسة الشهيد الصدر الذي يقول في إطارها ما يلي (وأريد أن أقولها لكم _ يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر _: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، إن الحكم السني الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأول _ أبي بكر _ وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي.
إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة _ قبل نصف قرن _ بوجوب الجهاد من أجله وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام.
إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً، وإن كانت الفئة المتسلطة تاريخياً تنتسب إلى التسنن، إن الحكم السني لا يعني حكم شخص وُلد من أبوين سنيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر، الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق في كل تصرفاتهم، فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة علي وعمر معاً في كل يوم وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية).[65]
ولا يشكّل هذا النص كل ما جاء في البيان الثالث للشهيد الصدر حول الطائفية، بل _ كما أشرنا _ إن نص البيان بالكامل يتمحور حول هذه الطائفية، وبالتأكيد إن هذا البيان موجّه إلى أهل السنة في العراق قبل الشيعة، وهو يحاول أن يلامس العقل السني كوعاء تحاول السلطة أن تملأه بقناعة الشعور بأن حكم صدام حسين يشكّل تحقيقاً للإرادة السنية ومكسباً للتسنن، وهي _ أي السلطة _ تحاول من خلال هذا التوجه اللامعلن أن توجِد لنفسها عمقاً تعبوياً داخلياً تتخندق فيه وتغذّيه في نفس الوقت بشعور الخوف من خطر شيعي وهمي قد ينفلت عليها ليسحب منها احتكار السلطة ومواقعها العليا كامتياز رافقها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
يسعى الشهيد الصدر ليس فقط إلى تجريدها من هذا العمق، إنما يذهب بعيداً إلى معالجة هذا الشعور لدى بعض أهل السنة الذين وقعوا ضحية له، من خلال تلقين تربوي امتدت جذوره مع عمر الأنظمة التي حكمت العراق بعد ثورة العشرين. ويكشف من خلال استدعاء التاريخ واقع ما هو حاصل من وهم في الصراعات القائمة على أساس طائفي (إن الحكم السني ليس حكم شخص ولد من أبوين سنيين) إنما هو حكم (أبي بكر وعمر).
وعلى هذا الإحساس يحدّد الشهيد الصدر أساساً لخطاب المواجهة مع السلطة يتجاوز ظاهر الإشكاليات إلى مضمونها الجوهري الذي يُفترض أن يعالجه هذا الخطاب، ووفق هذا المضمون سيكون خطاب مواجهة السلطة التي تحتمي بالتسنن والذي يعالج الإحساس الخاطئ لدى السنة الذين يرون ضرورة التضامن معها على هذا الأساس، سيكون هذا الخطاب أو يُفترض له أن يكون بعيداً عن اعتماد مقولة مظلومية الشيعة؛ لأن الوجه الآخر لمقولة الشهيد الصدر سيصبح (إن الحكم الشيعي ليس حكم شخص ولد من أبوين شيعيين) إنما هو حكم علي%.
ورغم هذا الأساس الذي وضعه الشهيد الصدر إلا أن فصائل التيار الإسلامي في العراق اختلفت في منطلقاتها للتعاطي مع الطائفية، لاسيما بعد أن استعداها صدام حسين بشكل أكبر مع مرور الأيام وفي لحظات ضعفه في صراعه مع المعارضة، فدخلت الأمور في حيز الفعل وردود الفعل، وابتعد التفكير عن المضمون انحيازاً لما هو حاصل في الواقع من أن البعض حوّل التسنن إلى قبلية وليس انتماءً دينياً.
إن الشهيد الصدر استبق بوعيه الخطورة المخبوءة في واقع القضية العراقية، من خلال محاولته تجريد السلطة من مقولة الحكم السني، المقولة غير المعلنة في حينها، كما أنه حاول من خلال خطاب المواجهة أن يكشف مقولتها الحزبية، وهي المقولة التي تغذّى بها الحزب كأداة معلنة في إدارة أوضاعها فهو يقول:
إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوة والإكراه، وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوة؟! إنهم أحسوا بالخوف حتى من الحزب العربي الاشتراكي نفسه الذي يدّعون تمثيله، أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب ليفقد أي مضمون حقيقي له.[66]
وبقدر ما يمارس هذا النص حرباً نفسية كبيرة على السلطة فهو يقوم على هدف تفكيكها، وهو نص موجّه إلى البعثيين الحزبيين ليستنهض في دواخلهم شعور المراجعة على أساس من المضامين الخطيرة التي يختزنها، وهي مضامين ستضعهم أمام مأزق جدي، لا في عدوان السلطة على انتمائهم النابع من قناعة وطنية، بل أيضاً فيما سيؤول إليه مصيرهم في ظل سلوكية الحزب الإكراهية التي ستُراكم عداءً مطلقاً لهذا الحزب، وستجعلهم ضحايا مؤجّلين في هذه المسيرة مع السلطة.
إن المحور الثالث في سياق تفكير الشهيد الصدر بالإضافة إلى المقولات الطائفية والحزبية هو محور يلامس ويكشف عن زيف الإنجاز الداخلي الذي راحت السلطة تسوقه في أدواتها الإعلامية نحو الشارع العراقي. وهو إنجاز أتاحته طفرة أسعار البترول في السبعينيات، ومن ثم التحسن النسبي في المستوى المعيشي، إذ كانت سياسة السلطة تقضي بالتغطية على الواقع الأمني، وسياسة القبضة الحديدية وموازنتها بهذا الإنجاز المعيشي.
والشهيد الصدر الذي أقلقه هذا الواقع في حينه كان قد ضمّن مقولاته المضادة له من خلال بياناته المحدودة إلى الشعب بما يضرب على عصب مقولات السلطة على هذا المحور من خلال الوجه الآخر للحالة، وإثارة مسألة الحرية ولاسيما الحرية الدينية وسياسات السلطة في المجال الديني، وأخيراً تبويب قائمة من المطالب بقدر ما تفضح هذه السياسات، فإنها في الوقت نفسه تشكّل حاجات حقيقية للأمة، ومن ثم إلفات نظر مركّز إلى خطورة إهمالها، فهو يقول:
إذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي، فلتجمّد أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس أن يعبّروا خلال أسبوع عما يريدون…
إني أطالب باسمكم جميعاً، أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية، وشعائر الإمام أبي عبدالله الحسين% وأطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة.
وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات.. .
وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسّفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.
وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً باسم القيم التي تمثّلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقه في تسيير شؤون البلاد وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس يمثّل الأمة تمثيلاً صادقاً.
وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلّفني غالياً وقد تكلّفني حياتي، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد لتموت بموته، وإنما هذه الطلبات هي مشاريع أمة وإرادة أمة، ولا يمكن أن تموت أمة تعيش في أعماقها روح محمد وعلي والصفوة من آل محمد وأصحابه.
وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات، فإني أدعو أبناء الشعب الأبي إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن؛ لأن هذا دفاع عن النفس وعن الكرامة وعن الإسلام، رسالة الله الخالدة، والله ولي التوفيق.[67]
إن هذه القائمة كانت تكشف عن الوجه الآخر للسلطة المخبوء وراء مقولاتها وإنجازاتها، وبقي جزء من طلباتها خالداً في ضمير الأمة على طول خط المواجهة، بعد إعدام الشهيد الصدر الذي كان يقرأ الأفق بدقة ويقرر أنها إرادة أمة لا يمكن أن تموت، وعندما يسقط هذا النص على الواقع الحالي للعراق سيكشف صيرورة هذه الإرادة بمحطاتها المضنية خلال عشرين عاماً، فهي إرادة عبّرت عنها مئات الآلاف من شهداء الشعب العراقي قاتلوا السلطة وواجهوها تحت شعار هذه الطلبات، وإيماناً بضرورة تحقيق الجزء الأكبر منها أو الجزء الذي يشكّل أساساً مشتركاً لمعنى الحرية ولمقولة الحرية التي واجه بها الشهيد الصدر منظومة مقولات السلطة.
وإحساساً من الشهيد الصدر بحاجة الوحدة الوطنية في مقابل سياسة السلطة التي تستبطن عوامل التفكيك، وتوجّساً من تصعيد مستقبلي في تفعيلها لهذه العوامل، بادر إلى الوصية بالتمسك بهذه الوحدة تاركاً في بياناته الثلاثة بصمة انتماء لهذا الوطن واعتزاز وافتخار به، في إشارة إلى أن شمولية الإسلام التي يؤمن بها إلى حد الاستشهاد لا تلغي أولوية الوطن وتحصينه وبناءه، إنما هي تبدأ منها، إنها بصمة محفورة في لغة الشهيد الصدر في خطاب المواجهة الذي عكسته البيانات الثلاثة فهو يقول:
وإني في الوقت الذي أدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمر بك يا شعبي، يا شعب آبائي وأجدادي، أؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدك إلا صموداً وتصميماً على المضي في هذا الطريق حتى الشهادة أو النصر.[68]
إن الاستشهاد لم يترك فرصة للسيد الصدر لكي يدير مواجهة يُنتج خطابها بالشكل الكافي، ولكن مع ذلك فإن بياناته الثلاثة أوجزت أخطر مضامين واقع وآفاق هذه المواجهة.
المصالحة أم الاستشهاد
لم يكن توقيت المواجهة التي خاضها الشهيد الصدر مع السلطة الحاكمة في العراق توقيتاً مناسباً، لا على الصعيد الداخلي حيث إن هذه السلطة واقعة تحت هاجس خطر واحتمال انتقال آثار الثورة الإسلامية إلى العراق، ولا على الصعيد الخارجي حيث إن الغرب بزعامة واشنطن كان يعيش مرحلة إعادة قراءة لواقع المنطقة العربي والإسلامي على ضوء حدث الثورة، وما يجب أن تواجه به امتداداتها من إستراتيجيات جديدة، ولم يكن هذا التوقيت مناسباً أيضاً حتى لحسابات دعم الثورة الإيرانية لمواجهة عراقية داخلية؛ لأن الثورة _ كما أشرنا _ كانت في بداياتها تواجه تحديات ضخمة، عليها تجاوزها من أجل الوصول إلى نوع من الاستقرار الداخلي وبناء نظامها ومؤسساتها.
ومع كل ذلك فإن المواجهة ستحصل كنتيجة حتمية واضطرارية لمجرد وقوع حدث الثورة في جزء منها وكنتيجة لفهم الشهيد الصدر في تحديد الواجب الشرعي في اتخاذ الموقف إزاءها، وما ستقود إليه لمواجهة هذه المواقف من ردود فعل السلطة، ستؤدي لا محال للمواجهة في الجزء الآخر، ومع أنه لم يكن من الممكن رسم إستراتيجية دقيقة لهذه المواجهة، ولكن حتى هذه الإستراتيجية غير الدقيقة كانت عرضة لطوارئ وإسقاطات وعوامل من الصعب التحكم بها. الأمر الذي دفع بالأحداث إلى ما حصل من اعتقال للسيد الشهيد ومن ثم الحجز والحصار، ومع حتمية اضطرارية تحولت إلى واقع. فإن فرصاً وخيارات أخرى للتحكم بها كانت متاحة من وجهة نظر البعض، أو على الأقل إن إعادة قراءة الأحداث _ بعد مرور أكثر من عشرين عام _ ولّد بعض القناعات بأن مثل هذه الفرص والخيارات كانت متاحة في ظل العروض التصالحية التي قدمتها السلطة للشهيد الصدر في بعض أوقات المواجهة، والوساطات المتكررة التي حصلت سواء عبر مسؤوليها مباشرةً أو عبر بعض الأسماء الدينية،[69] وكانت أهداف السلطة من هذه الوساطات والعروض متعددة، فهي:
1 _ كانت تحرص على تأجيل إعدام السيد الشهيد أطول فترة ممكنة لتجزّئ المواجهة، وسيكون هذا التأجيل لصالحها، بعد أن قضت على معظم جهاز الشهيد الصدر، إعداماً واعتقالاً، وكذلك معظم أبناء الحركة الإسلامية.
2 _ كما أن ما حصل في انتفاضة رجب كان مخيفاً لها، وربما دفعها هذا في حينه إلى عدم التفكير في الدخول بمجازفة إعدام الشهيد الصدر خوفاً من مضاعفات ذلك.
3 _ وأرادت السلطة أن تجرّب اختراق الواقع الديني، ومن ثم محاولة توظيف ورقة الشهيد الصدر ضد الثورة الإسلامية في إيران من خلال تقديم أكبر قدر من الإغراءات والامتيازات.[70]
4 _ أرادت السلطة أيضاً على ما يبدو إسقاط الهالة الثورية المبدأية لشخصية الشهيد الصدر أو تجريده منها من خلال طبيعة الطلبات التي عرضتها عليه كشروط لرفع الحجز عنه وتطبيع العلاقات معه. وهي شروط يوردها الشيخ محمد رضا النعماني الذي رافق الشهيد الصدر طوال فترة الحجز على الشكل التالي:
1 _ عدم تأييد الثورة الإسلامية في إيران والاعتذار عما صدر منكم من مواقف بهذا الخصوص من خلال بيان يصدر منكم.
2 _ وأن يتضمن البيان شجباً صريحاً للوفود التي جاءت لتأييد كم في رجب.
3 _ أن تُصدر فتوى خطية تعلن فيها حرمة الانتماء لحزب الدعوة.
4 _ التخلي عن فتواكم حول حرمة الانتماء لحزب البعث.
5 _ إصدار بيان تؤيد فيه السلطة ولو في بعض منجزاتها كتأميم النفط أو منح الأكراد الحكم الذاتي أو محو الأمية.[71]
إن طبيعة هذه الشروط توضّح أحد أمرين: إما غباء السلطة وإما نيتها في الدخول في حوار مطوّل على طريقة الحوارات السياسية التي تبدأ بالحد الأقصى من المطالب وصولاً إلى الحد الأدنى، كأمر تتطلبه الآليات التفاوضية المعمول بها. فالشهيد الصدر خاض المواجهة مع السلطة إلى النهاية، وهو كفءٌ لهذه المواجهة في تاريخه وشجاعته وموقعه وما قطعه من شوط تأسيسي لفصول العمل الإسلامي في العراق. وبالتالي فإن توقّع استسلامه من قبل السلطة هو نوع من الغباء المحض.
وعليه فإن تطورات الأحداث وتبخّر هذه الشروط والاكتفاء بشيء واحد لا يرتقي إلى مستوى الشرط، إنما هو يدخل في حيّز الإشارة، سيمثل مجالاً حقيقياً لدراسة خيارات الشهيد الصدر في المواجهة. فالواضح أن السلطة ومن خلال جولات أخرى للحوار اكتفت بموافقته (على إجراء مقابلة مع صحيفة أجنبية، وإن شئت أن تكتب الأسئلة بنفسك فلا مانع _ حتى لو كانت فقهية _ ولكن بشرط أن تؤكد في المقابلة أن لا عداء بينكم وبين السلطة).[72]
ومع ذلك فإن الشهيد الصدر رفض الاستجابة إلى هذا الشرط _ الإشارة _ مثلما رفض الشروط الأولى. وهو بقدر ما أبكى مندوب السلطة ألماً لخسارة هذا العملاق المتوحد مع المبدأ، فإنه حرّك إمكانية التفكير والتساؤل لدى الشيخ النعماني والشهيدة بنت الهدى، وذلك لأن العرض يتحمل التأمل والتفكير فعلاً. القضية ما باتت أن يكون الشهيد الصدر أو لا يكون في شخصيته الثورية _ المبدأية أو في مصداقيته، إنها فتحت أطواراً أخرى من الممكنات، ممكن المنفى والتفكير به والتهيؤ له، وممكن التقاط الأنفاس لترتيب أوضاع الحالة الإسلامية المحاصرة المأزومة، وممكن مخادعة السلطة من خلال تحييدها لفترة زمنية معينة، وممكن طغيان الشعور بالحاجة الحقيقية لفكر الشهيد الصدر الذي لا يجاريه فكر في خدمة الثورة الإسلامية والحركة الإسلامية بشكل عام، اللتين كانتا بأمس الحاجة إليه في تلك المرحلة.
إن هذه الممكنات وممكنات أخرى غيرها هي التي دفعت بمرافقه الشيخ النعماني وأخته الشهيدة بنت الهدى أن يقولا له:
إن الشرط الأخير لا يعتبر مهماً، ولا يفسر قبولكم به على أنه تنازل، ثم مَن لا يعذركم وأنتم تعيشون هذه الظروف القاسية وقد تخلّى عنكم الجميع، إن حياتكم أهم للإسلام وللعمل الإسلامي في العراق، وإذا كان الحجز قد كشف لكم عن حقائق هامة، وغيّر من تصوراتكم عن بعض القضايا فمَن سيستفيد من هذه التجربة إن أنتم استشهدتم.. . إنني أرى أن نستفيد من هذه الفرصة ونهيئ أنفسنا للفرار من العراق، وإذا كنتم لا ترغبون بالخروج من العراق فلنذهب إلى منطقة آمنة في شمال العراق، فمن هناك يمكن أن تقودوا العمل بشكل أفضل مما هو في الحجز. لقد تحدثتُ معه رضوان الله علیه كثيراً حول هذا الموضوع وتحدثت معه أيضاً الشهيدة بنت الهدى، ولكن دون جدوى.[73]
إن أحداً لا يمكن أن يحزر بالضبط كل ما كان يدور في خلد الشهيد الصدر وهو يصرّ على هذه الكلية الصارمة، إلا أنه توجد أسباب أخرى _ كما أشرنا _ إلى التفكير بشكل جاد _ على ضوء العروض الأخيرة _ إلى تحديد هذه الصرامة وتحجيمها، بما يفتح آفاقاً جديدة لرؤية مسارات المواجهة اللاحقة على ضوء هذا التحجيم، أو لتصور إستراتيجيات جديدة قد ضيّعت، لاسيما وأن الشهيد الصدر اكتشف وهو لا يزال في الحجز ضرورة إعادة قراءة الواقع من حوله، ورسم معالم خطط أخرى على ضوء هذه القراءة _ كما أشار النص المتقدم للشيخ النعماني _ وهذا ما يضيف سبباً أكثر أهمية وجوهرية من المفروض له أن يدفع الشهيد الصدر إلى تأمل في عرض السلطة الأخير، وأن لا يرفضه فوراً على نفس وتيرة الرفض التي مارسها في الحوارات مع السلطة، تلك الوتيرة الصارمة والجازمة _ الكلية، التي تبدو وكأنها منظومة إجابات جاهزة، بلا فواصل للتفحص، وبلا هامش مناورة، وبلا تأجيل لتقليب أغراضها بشكل أكثر جذرية، إنها وتيرة من إجابات التحدي والذهاب بمبدأ استفزاز السلطة إلى أقصاه (أنا حاضر للإعدام، افعلوا ما شئتم، مستعد للذهاب معك إلى بغداد لتنفيذ حكم الإعدام، لا جواب آخر عندي، إذا كان الحل لهذه الأزمة هو الإعدام فأنا مستعد لذلك).[74]
إنه نسق واحد من الإجابات، لا يتأثر بطبيعة العرض أو مضمونه أو شكله. وتحليله يتطلب رؤية شمولية لكل جوانب الشعور، والإحساس المبدئي والنفسي للشهيد الصدر، لا في لحظة إدارة الحوارات وأجوائها النفسية المأزومة، وإنما ما يتراكم من كل تاريخه وإسقاطات هذا التراكم الشعورية على تلك اللحظة الحوارية.
وإلا فإن منهج الحوار الفكري للشهيد الصدر ينفتح على الإنسانية إلى مداه الأقصى في قراءة المقولات الفكرية وتفحصها ومناقشتها والتبحر فيها بأسلوب علمي حضاري معاصر، ألا ينبغي لهذا المنهج بالتعاطي أن يدفع باتجاه منهج مشابه في الحوار السياسي مع السلطة؟ قد يبدو هذا التساؤل هو الآخر مبرراً لمعرفة: إما انفعالية مفترضة وإما عاطفة قُصوى، وإما تكاملية نادرة في فلسفة اللين والصرامة وموقعها السلوكي من طبيعة الموضوع والمرحلة.
وتساؤل آخر إزاء هذا النسق من الإجابات ليس فقط المنحازة إلى الإعدام، بل الهاجمة عليه هجوماً كلياً. فالشهيد الصدر الذي قضى ما يفوق على العشرين عاماً من حياته التأسيسية للمشروع الإسلامي والعمل الإسلامي قبل لحظة إعدامه هو الذي أسس لمقولات الصبر السلبي والصبر الإيجابي والزهد السلبي والزهد الإيجابي انطلاقاً من مرارة التأسيس وما تحتاج إليه من تأنٍّ وفرز دقيق، مرارة عاشها صبراً على محيطه الإسلامي التقليدي، وصبراً على الأنظمة السياسية التي عايشها، وصبراً على ما تقتضيه عملية التأسيس من إنجاز بطيء، هذا التمرين القاسي في الصبر هل يتلاءم يا ترى مع هذا النسق من الإجابات اللاصبورة في الهجوم على الإعدام في سياق الحوار مع السلطة في مرحلة غاية في الحساسية والدقة؟
ثم تساؤل ثالث من منظومة هذه التساؤلات المغايرة عن منظومة التساؤلات النابعة من طبيعة عروض السلطة وممكناتها في إستراتيجية المواجهة التي تحدثنا عنها، تساؤل ثالث نابع من شخصية الشهيد الصدر الجذرية ومنهج تغييره الجذري ومشروعه الإسلامي الجذري الذي يتطلب بشموليته وطبيعته تغييراً كلياً يستبطن محطات ومراحل وصيرورات متعددة، ألا تستوعب هذه الجذرية ذات المنحى التأسيسي البطيء هذه الأزمة، كما استوعبت أزمات قبلها بروحية من التكتيك الأقوى الذي لا ينقص الشهيد الصدر براعة إنتاجه؟
إنهما منظومتان إذن من التساؤلات والأسباب التي تدفع بالسؤال حول إستراتيجية المواجهة التي اعتمدها الشهيد الصدر مع السلطة إلى مداه الأبعد، منظومة ما أسميناه (الممكنات المضيّعة) ومنظومة الأسباب المستمدة من الرؤية الشمولية للشهيد الصدر في تاريخه وفكره ومشروعه ومناهجه في العمل التأسيسي، وتجربته التي اختزنت حالات مختلفة من السكوت المدروس إزاء السلطات وحالات من التأجيل المدروس لمواجهات أو صدامات متوقعة معها أو حالات من التعايش المؤقت مع الأمر الواقع بسبب عدم نُضج الظروف المحيطة بالعمل الإسلامي والمتداخلة معه والمؤثرة فيه.
ويمكن استدعاء مثال على هذا الشكل الأخير من داخل مرحلة ما بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة في 1968م والاحتكاكات التي حصلت بين مرجعية السيد محسن الحكيم وهذا الحزب، وانتهاء هذا الاحتكاك إلى تحرّش السلطة القاسي باتهام الشهيد مهدي الحكيم بالعمالة. فالشهيد الصدر الذي خاض أكثر من غيره دور المواجهة للسلطة في تحريض الأجواء وخلقها والمبادرة إليها، انكفأ بعد ذلك مضطراً إلى إكمال شوطه التأسيسي للمشروع الإسلامي، وخضع إلى قساوة المرحلة التي أحس أنها غير ناضجة لمواجهة تحرّش السلطة بما يناسبه من إجراءات. فعلى (ضوء ذلك تم تهريب السيد مهدي الحكيم خارج القطر، وسافر السيد مرتضى العسكري إلى لبنان، وانسحب السيد محسن الحكيم إلى النجف، وتوفّي بعد أشهر قليلة وتسلّم بعده مقاليد المرجعية السيد الخوئي الذي رفض التورط بأي نشاط سياسي ضد حكومة البعث).[75]
إذن مرة أخرى يبرز السؤال الكبير ويتجذر حول الإستراتيجية التي عمل بها الشهيد الصدر في تلك الأزمة الخطيرة. وللإجابة على هذا السؤال لابد أن نتصور إطاراً لصراع داخلي بين كتلتين من العوامل والمفاعيل المتنازعة بين التأمل بين خيار التفاوض مع السلطة وتغيير مجرى الإستراتيجية على ضوئه، وبين الخيار الذي عمل به واختاره في نهاية المطاف. وإذا كان لنا أن نتصور ذلك الإطار ونصل إلى هاتين المجموعتين من العوامل والمفاعيل من خلال نصوص السيد الشهيد، فسوف لا نجد ما يكفي من نصوص المجموعة الأولى، أي النصوص التي يُفترض بها أن تناقش عروض السلطة، فهو قد واجه هذه العروض كما قلنا بـ(لاءات) صارمة، ولم يبق إلا أن تقف على المجموعة الثانية التي دفعته إلى أن (يهجم) على الإعدام بلا تردد، وبإصرار منقطع النظير، وهي مجموعة أسباب تدور بين الطموح والواجب.
أولاً: إن الشهيد الصدر _ كما قلنا سابقاً _ عاش همّ الدولة الإسلامية منذ انطلاقته الفكرية، كمدخل لهذه الانطلاقة، وكفكر دولتي أرسى بناءه، وكطموح بالنهاية وضعه هدفاً أعلى لأي فقيه، وعندما تحققت هذه الدولة على يد الإمام الخميني، فهذا التحقق بقدر ما دفع الشهيد الصدر إلى الدفاع عنه وتحصينه بالموقف المرجعي برمّته لإنجاز هذه الحصانة، إذ (ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ؟ أليس هو إقامة حكم اللهÅ على الأرض).[76] فإنه أشبع طموحه إلى حد ربما أنه ما كان يتصور سرعة تحقيق هذا الهدف. فعامل المفاجأة لحدث انتصار الثورة، وتحولها إلى دولة مثلما واجه الجميع، فهو واجه الشهيد الصدر بوقع أكبر كما تعبّر عن ذلك إيحاءات تفاعله العالي مع هذا الحدث، وهو _ أي الشهيد الصدر _ صرّح بمعنى تحقيق طموحه الدولتي بشكل واضح، وبما يرتبط بصبره على فصول المواجهة أو التأسيس لمشروعه الإسلامي قبل انتصار الثورة في إيران فهو القائل (لقد حقق الإمام الخميني ما كنت أسعى إلى تحقيقه).
كذلك كان هنالك عامل نفسي ساعد في إعادة تفكير السيد الصدر بخطته الاستشهادية ذلك (بأن قد شهد بأم عينيه مولد الجمهورية الإسلامية التي كان يصبو إليها طيلة حياته كما أن رؤيته للمرجعية الموضوعية الرشيدة قد أصبحت حقيقة واقعة في إيران بمرجعية آية الله الخميني، حيث إن هذه المرجعية قد حققت هدفها بإقامة الحكومة الإسلامية، وبما أنه قد أحس أن استشهاده ضروري لديمومة الحركة الإسلامية أبلغ وسيط النظام البعثي الشيخ عيسى الخاقاني: كل ما كنت أصبو إليه في حياتي هو جعل الحكومة الإسلامية حقيقة على أرض الواقع، وبعد أن تحقق هذا الحلم في إيران وبقيادة الإمام الخميني فلا يهمني الآن أن أموت أو أن أحيا ما دام الحلم الذي أردت تحقيقه قد أصبح حقيقة واقعة والحمد لله).[77]
ثانياً: إن طموح إقامة الدولة الإسلامية يترابط لدى الشهيد الصدر مع طموح الاستشهاد، إذ أن إنساناً بمواصفاته الفكرية والأخلاقية والروحية، وبمسيرته الشائكة المضنية، وبقيمه وسلوكه يبقى هاجس الشهادة يشده دائماً إلى ترقّب لحظتها بقوة مشفوعة بوعي لمفعول هذه الشهادة، لا في العالم الأخروي، بل في عطائها الدنيوي للمسيرة التي يقودها، ولقد كان الشهيد الصدر واعياً لهذا المفعول ومصرّحاً بنصوصه الكثيرة في هذا الاطار، إذ هو لم يفكر بهذا الاستشهاد كمكسب شخصي، إنما فكر به في إطار المواجهة ما بعد حياته، ومصير هذه المواجهة التي تحتاج حسب كلامه إلى رتل من الدماء (إذن لابد من حسين جديد لهذه الحركة ولابد من زينب، فلا يمكن لأي إنسان أن يمتلك كل هذه المواصفات التي يمتلكها الحسين%، ولا مقولات ثورته بالكامل، وإذا كان الأمر مستحيلاً فلابد من قطار من الدماء ورتل ضخم من التضحيات تشكّل بمجموعها جزءاً من مقومات مأساة الطف، لتحرّك ضمير هذه الأمة الميتة وتوقظ مشاعرها وأحاسيسها، وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الإسلام متى استنصرهم لنصرته، لعل في قطار الدم عودة إلى الواقع الرسالي الكريم).[78]
إن خيار الدم والاستشهاد لم تكن خلفياته ومعالمه برزت في الواقع بعد انتصار الثورة الإسلامية لدى الشهيد الصدر، بل إن من يواكب تاريخ حياته بقدر ما يكتشف الانفتاح والطموح والحوار والصبر على التأسيس وسرعة إنجاز مفردات مشروعه واستثمار الظروف المحيطة به، فإنه بالمقابل يكتشف الجرأة والمبادرة والتحدي ومقاومة السلطات في لحظات مصيرية.
إن النص المتقدم يوضّح إلى حد بعيد انحيازه إلى هذه الخيار الاستشهادي، كما هي عشرات النصوص الأخرى التي قالها في حياته. وفي العام 1976م وحتى قبل أن تبدأ إرهاصات الثورة الإسلامية في إيران كان الشهيد الصدر يقلّب إمكانيات هذا الخيار التنفيذية ولكن ليس بشكل غير واع، إنه يريده استشهاداً موظفاً في إطار المواجهة مع السلطة أو صادماً لهذه المواجهة وناقلاً إياها نحو طموحه التغييري للواقع الفاسد إلى واقع رسالي كريم، (ولم يكن استشهاد السيد الصدر حصيلة من محصّلات الثورة الإيرانية، ولكنه أمر تعود جذوره إلى منتصف السبعينيات عندما عزّز الحكام البعثيون قوتهم من خلال بعض المنجزات الاقتصادية التي رفعت من مستوى معيشة الفرد العراقي، رافقتها إجراءات قسرية ضد خصومهم السياسيين، إضافة إلى تطبيق سياسة خارجية متطرفة لقيت حماساً جماهيرياً في العراق وعلى امتداد العالم العربي في ذلك الوقت، وبالتحديد عام 1976م تولّدت فكرة السيد الصدر بمحاكاة الإمام الحسين% لتثوير الشعب ودفعه إلى القيام بأعمال مضادة للحكومة، خصوصاً وأن الناس وقتها لم يكونوا ميّالين للثورة والقيام بأي عمل ضد سلطة تمارس طمس الحقوق السياسية للأفراد ومنعهم من حرية التعبير.
كانت الخطة تقضي بأن يقود السيد الصدر وبقية العلماء الموالين له مظاهرة جماهيرية في مرقد الإمام علي% في النجف، يلقي خلالها الصدر خطاباً يهاجم فيه سياسة الحكومة بخرقها لحقوق المواطنين الدينية والاجتماعية، ويقوم الآخرون بتحريك الجماهير في الصحن الشريف.
واستنتج السيد الصدر بأن تقوم قوى الأمن بردّ عنيف على المظاهرة وتمضي الاضطرابات إلى أن يستشهد. ويستمر بقية المريدين في الخطة وعلى رأسهم الموسسة الدينية في النجف بتعبئة الجماهير في أعمال مناهضة للحكومة، مثل الاضطرابات والتظاهرات وبقية أعمال الرفض الأخرى.[79]
إذن خلفية التفكير الصدري هي خلفية تستبطن خيار الدم والاستشهاد من أجل التغيير، من أجل الإنجاز الإسلامي ودفع عجلة المواجهة إليه، فهو في العام 1976م ورغم الأشواط الكبيرة التي قطعها في العمل، إلا أنه يعود لقراءة الواقع السياسي الذي يحيط به، فيلاحظ خللاً في توازن المواجهة لصالح السلطة، فيلجأ إلى التفكير بمعالجة هذا الخلل عبر الاستشهاد، استشهاد الطليعة، النخبة، القيادة؛ لأن له وقعاً أكبر في التعبير من استشهاد القواعد والكوادر الأخرى.
وهذه الرؤية لم تكن مستمدة من المنطق الطبيعي للأشياء، إنما هي مستمدة من أمثلة تشكّل قيماً عليا في البناء الثقافي الشيعي أو التراث الشيعي الذي استبطن خيارات ومدارس أخرى غير الاستشهاد، إلا أنه طابع المعارضة وسحر الثورة والإحساس بالظلم بقي هو الذي يشكّل لمسة الخلود أو الوعي بالرضا الذاتي ورضا الأمة، إن الشهيد الصدر انتمى إلى الخالدين في التاريخ الشيعي، وتوّج التراث الشيعي بلمسة أخرى مضافة إلى قيمة الاستشهاد القيادية العليا في هذا التاريخ، تلك القيمة التي اصطبغت بُنيته الثقافية بها. ورغم أن الشهيد الصدر كان قد اقتنع بضرورة إعادة النظر ببعض مفردات إستراتيجيته السابقة أثناء فترة الحجز والحصار، إلا أن هذه القناعة لم تُثنه _ كما ثبت من خلال نصوصه سابقاً _ بفعل الأسس الراسخة لثقافة الاستشهاد وقيمته العليا عن قراره الاستشهادي. فإن فلسفة الدم في صناعة الأشياء في الدنيا قبل الآخرة كانت فلسفة راسخة بوعي عميق في وجدانه، إذ:
_ سوف أظلّ أتكلم وأتهجم على السلطة وأندّد بجرائمها وأدعو الناس إلى الثورة عليها، إلى أن تضطر قوات الأمن إلى قتلي في الصحن الشريف أمام الناس، وأرجو أن يكون هذا الحادث محفّزاً لكل مؤمن وزائر يدخل الصحن الشريف؛ لأنه سيرى المكان الذي سوف أقتل فيه فيقول: ها هنا قتل الصدر، وهو أثر لا تستطيع السلطة المجرمة محوه من ذاكرة العراقيين.[80]
_ أريد أن أجبر السلطة على قتلي، عسى أن يحرّك ذلك الجماهير للإطلاحة بالنظام وإقامة حكم القرآن في العراق.[81]
إن هذا الأجل المقدس الذي أسس له الشهيد الصدر فكرياً ومعرفياً قبل أن يؤسس له جسدياً، والذي يمثّل نقطة الترابط بين الشهادة وتأسيس الدولة في الحلم الصدري، والذي خضع إلى حسابات في دائرتين: دائرة الأمة ودائرة النخبة التي ساهم الشهيد الصدر في إعدادها، سوف يصطدم أيضاً بالواقع في لحظة من اللحظات، بما يجعل من قراءة هذه اللحظة أمراً مطلوباً أيضاً في سياق رصد مسار الإستراتيجية التي اعتمدها.
فما يخصّ الأمة أو الشعب العراقي كان الشهيد الصدر راضياً عنه، إذ مَن كان يظنّ أن الجماهير ستستجيب إلى هذا الحد وتتوافد إلى النجف الأشرف تطلب مني أن أبقى معها أو أن تعلن عن بيعتها على الموت في سبيل الله تعالى).[82]
أما فيما يخصّ دائرة النخبة، فإنها بقدر ما عضدت الشهيد الصدر فإنها صدمته أيضاً بعنف أدّى به إلى أول إحباط من نوعه في تاريخ حياته، إذ أنه قال إزاء واقعة من الوقائع: (لقد تبددت كل التضحيات والآمال، أنت تعرف أنني سوف لن أتنازل للعفالقة وسوف أقتل.. أنا لا أريد أن أقتل في الزنزانات _ وإن كان ذلك شهادة مقدسة في سبيل الله _ بل أريد أن أقتل أمام الناس ليحرّكهم مشهد قتلي ويستثيرهم دمي، هل تراني أملك شيئاً غير سلاح الدم، وها أنا ذا قد فقدته).[83]
إن هذا النص للشهيد الصدر يختصر الكثير ويوضّح الكثير من ملابسات المواجهة وطبيعتها. فالصدر الذي يختزن مشروع الاستشهاد في داخله كطموح وثقافة وكقيمة عليا وبُنية وعي شيعي _ إسلامي حالت ربما _ كما يعتقد الكثيرون _ دون ما يكفي من الخيارات أو القناعات الفقهية الوسطية في تاريخ الفقه الشيعي، كان يريد أن يضع هذا الاستشهاد في إطار محصّلات المواجهة وتسريعها، ولذا فهو عندما قامت الدولة في إيران تعزّز الاستشهاد لديه كخيار، ليساند به ويحصّن هذه الدولة بسياج تأييدي خارجي عراقي، يحصّن المحصلة الكبرى الدولة الإسلامية بمحصلات سريعة عبر خيار الدم، إلا أنه وبناء على النص المتقدم ماذا يقول:
تبدّدت الآمال والتضحيات.
لا أملك إلا سلاح الدم، وها أنا ذا قد فقدته.
إنه إحباط عميق وكبير وربما إحساس بخلل ما في منظومة عوامل الرهان أو أدوات المواجهة القائمة على توظيف الدم، لا في مبدئها، إنما في توقيتها.
ثالثاً: ويتبدى من نصوص الشهيد الصدر عامل ثالث في إصراره على خيار الدم والاستشهاد، إنه عامل عرضي للوهلة الأولى، إلا أنه جوهري في حسابات الشهيد الصدر ومبادئه الأخلاقية، فهذا العامل يتمثل بـ(الدخول فعلاً في مواجهة مع السلطة)، لا تسمح الظروف بعد ذلك مبدأياً وأخلاقياً بالانسحاب إلى إستراتيجية ثانية، كأن تكون إستراتيجية تأجيلية للصراع مع السلطة. إذ أن عروض السلطة، وبالأخص العرض الأخير الأكثر إغراءً جاء بعد فصول من المواجهة الدموية بين أنصار الشهيد الصدر وبين السلطة وأجهزتها. وأدت هذه الفصول الدامية إلى وقوع ضحايا بالآلاف أو استشهادهم تحت هول التعذيب أو تنفيذ حكم الإعدام بهم، وهذه الحالة ستوجد ضغطاً أدبياً وأخلاقياً ووجدانياً بالنسبة لشخصية مثل شخصية الشهيد الصدر، يحول دون التفكير بعروض السلطة التصالحية أو الخيارات المتاحة لإيجاد ممكنات جديدة للمواجهة فهو يقول:
حتى لو أن السلطة فكّت الحجز عني فسوف أبقى جليس داري؟ فليس منطقياً أن أدعو الناس إلى مواجهة السلطة حتى لو كلّفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أولهم سبقاً إلى الشهادة، في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال المرحوم السيد قاسم شبر الذي جاوز التسعين من عمره.[84]
إن هذا النص يقدّم توصيفاً دقيقاً لأزمة عانت منها الحركة الإسلامية في العراق مذ استشهاد الصدر الأول وحتى استشهاد الصدر الثاني، وهي أزمة الشعور القيادي بالتمايز والأهمية، ومن ثم تحول ذلك إلى شيء من الانفصام بين القائد أو القيادة وبين الكوادر والأمة، وكأن الشهيد الصدر الأول أراد أن يقدّم تجربة في المقاومة تقطع الطريق على احتمالات ومفاعيل هذا الانفصام الذي وقع فعلاً، لاسيما في حدث انتفاضة آذار/ شعبان 1991م، حيث إن الكم البشري الهائل الذي انتفض ضد السلطة، كان يبحث عن قيادة تقوده، فيما قيادات الخارج ولأسباب متعددة كان ضمنها الشعور التمايزي، تخلفت عن قيادته ميدانياً.
إنها مفارقة مذهلة في تاريخ العمل الإسلامي في العراق، في المحصّلات الكبرى. فالشهيد الصدر (القيادة) كان يبحث عن أمة ثورية، وفي العام 1991م كانت الأمة تبحث عن قائد حقيقي ميداني ثوري.
وقد تراجعت المفارقة في العام 1999م في ظاهرة الشهيد محمد صادق الصدر، عندما جمعت هذه الظاهرة الأمة والقيادة، إلا أنها بالنهاية خضعت إلى أجواء ضاغطة، سبقتها ظاهرة الصدر الأول بالتعرض لها. فحالت دون وصولها إلى الانتصار المادي إلا أنها وضعت لبنة خطيرة وكبيرة في التأسيس الكلي للعمل الإسلامي في العراق.
[1]. التجديد في الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، د. شبلي الملاط، ص 16، ط1، 1998م، ترجمة غسان غصن، دار النهار.
[2]. م. ن.
[3]. بيم موج، محمد خاتمي، المشهد الثقافي في إيران، مخاوف وآمال، ص 94، ط3، 1999م، دار الجديد.
[4]. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، عن قضايا إسلامية، العدد 1، ص 74، 1415 ق _ 1994م.
[5]. فلسفتنا، محمد باقر الصدر، المقدمة.
[6]. بيم موج، محمد خاتمي، ص 99.
[7]. م. ن.
[8]. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، نقلاً عن مجلة قضايا إسلامية.
[9]. الطرح الفلسفي للعبادات عند الإمام الشهيد، مجلة الفكر الجديد، العدد 11 _ 12.
[10]. م. ن.
[11]. رسالتنا، محمد باقر الصدر، نقلاً عن مجلة الفكر الجديد، العدد 11 _ 12.
[12]. الإمام الشهيد الصدر.. من فقه النص إلى فقه النظرية، السيد سلام زين العابدين، نقلاً عن مجلة قضايا إسلامية، العدد 1.
[13]. الحياة السياسية للإمام الصدر، ضمن كتاب محمد باقر الصدر؟ق؟ دراسات في حياته وفكره، ملا أصغر علي جعفر، ص 505.
[14]. حول الاسم والشكل التنظيمي لحزب الدعوة الإسلامية، من فكر الدعوة، ص 10.
[15]. الحياة السياسية للإمام الصدر، ملا أصغر علي جعفر، ص 469.
[16]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، عرض لسيرته الذاتية ومسيرته السياسية والجهادية، الشيخ محمد رضا النعماني، ص 157.
[17]. م. ن، ص 159.
[18]. نهضت إمام خميني، حميد روحاني، ج 2، ص 151 _ 152.
[19]. م. ن.
[20]. وما يؤكد هذا المعنى أيضاً القول الذي ينقله المرحوم محمد صالح الأديب ومفاده: (ولما كنا من مقلدي السيد محسن الحكيم وهو يقول بعدم إقامة دولة إسلامية، لذا ذهبنا إليه وتكلمنا معه لإقناعه بموقفنا ولكنه بقي مصرّاً على رأيه ولم نقدر أن نقنعه في هذا المجال حيث كان يقول: إن تكليفنا ليس إقامة دولة إسلامية وإنما هو نشر التدين.. وننتظر الإمام الحجة. حتى يظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وعندما كان يشرح هذا الموضوع كنا نعرف بأن ثورة العشرين هي السبب في ذلك، فقد كان يتحدث عن مواقف العشائر في تلك المرحلة عندما كان يذهب هو أو السيد الخوئي إليهم حيث يقول: كنا نذهب نحن العلماء إلى العشائر ونتكلم معهم فيقفون معنا، وبعد ذلك ينقلبون علينا. كان السيد الحكيم يؤكد على هذا المعنى ويقول: أنتم لا تعرفون الشعب العراقي، وكان يذكر قضية الإمام علي؟ع؟ والإمام الحسن والإمام الحسين؟عهما؟. لذلك كان لا يؤكد على الحزب وإنما على أفراد ينشرون التدين والإسلام. وكان يقول: تكليفنا هو أن ننشر التدين وننشر الإسلام فقط، وننتظر ظهور الحجة. وليس تكليفنا أن نقيم دولة). صفحات من حياة الداعية المؤسس الأستاذ الحاج محمد صالح الأديب، الصادق العهد، ص 56.
[21]. انظر الشهيد الصدر وسنوات المحنة: 162.
[22]. الشهيد الصدر بين أزمة التاريخ وذمة المؤرخين، مختار الأسدي، ص 210، نقلاً عن حميد روحاني، نهضت إمام خميني، ج 3، ص 448.
[23]. م. ن، نقلاً عن نهضت إمام خميني، ج 3، ص 491 _ 492.
[24]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره نخبة من الباحثين، ص 473.
[25]. م. ن، ص 506 .
[26]. الفقيه والدولة والفكر السياسي الشيعي، فؤاد إبراهيم، ص 347، ط1، 1998م، دار الكنوز الأدبية.
[27]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، ص 161.
[28]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 507.
[29]. م. ن، ص 96.
[30]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 177.
[31]. التجديد في الفقه الإسلامي، ص 50.
[32]. م. ن، ص 51 .
[33]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 93.
[34]. المحنة، محمد باقر الصدر، المحاضرة الأولى.
[35]. م. ن.
[36]. م. ن.
[37]. م. ن.
[38]. م. ن.
[39]. الإسلام يقود الحياة، ص 13، دار التعارف للمطبوعات، لبنان _ بيروت.
[40]. راجع: الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني.
[41]. م. ن، ص 253.
[42]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 493.
[43]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 164.
[44]. م. ن.
[45]. م. ن، ص 248.
[46]. م. ن، ص 193.
[47]. م. ن، ص 263.
[48]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 539 _ 540 .
[49]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 277.
[50]. نص البرقية موجود في معظم الكتب التي طبعت عن الشهيد الصدر الأول، بما فيها كتاب د. شبلي الملاط (التجديد في الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم)، أما نصها فقد أذيع عبر إذاعة الجمهورية الإسلامية، القسم العربي.
[51]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، ص 538.
[52]. م. ن، ص 98.
[53]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 267.
[54]. قرئ جواب الشهيد الصدر من خلال إذاعة الجمهورية الإسلامية في إيران، القسم العربي.
[55]. التجديد في الفقه الإسلامي، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، د. شبلي الملاط، ص 72.
[56]. م. ن، ص 73.
[57]. م. ن، ص 74.
[58]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 273.
[59]. م. ن، ص 278.
[60]. م. ن، ص 108.
[61]. م. ن.
[62]. م. ن، ص 104 _ 105.
[63]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة فى الباحثين، ص 79.
[64]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 176.
[65]. البيان الثالث.
[66]. البيان الثالث.
[67]. البيان الأول.
[68]. البيان الثاني.
[69]. راجع: الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، للاطلاع على هذه الأسماء.
[70]. راجع: م. ن.
[71]. م. ن، ص 317.
[72]. م. ن، ص 319.
[73]. م. ن، ص 319.
[74]. م. ن.
[75]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة فى الباحثين، ص 48.
[76]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وايام الحصار، الشيخ محمدرضا النعماني، ص 248.
[77]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة فى الباحثين، ص 501 .
[78]. محمد باقر الصدر، خطاب المحنة الثاني، (المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1410ق _ 1990م.
[79]. محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، نخبة فى الباحثين، ص 501 .
[80]. الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، ص 309.
[81]. م. ن، ص 214.
[82]. م. ن، ص 273.
[83]. م. ن، ص 310.
[84]. م. ن، ص 104.