بقلم: غالب حسن (أبو عمار)
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنَّ الَّذينَ يَكفرُوُنَ بَآياتِ اللهِ وَيَقتُلُونَ النَّبيينَ بِغَير حَقٍّ وَيَقتلُوُنَ الَّذينَ يأمُرُونَ بالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِرهُمْ بِعَذابٍ أليم..)
آل عمران: 21
الفصل الأول: جولة سريعة في حياة الشهيد السعيد
الولادة والأسرة
ولد المرجع الشهيد في مدينة الكاظمية ببغداد العراق في 25/ذي القعدة/1353 هجرية، 1935ميلادية، من إحدى الأسر المعروفة بتأريخها العلمي والجهادي، فوالده السيد (حيدر الصدر) كان فقيهاً أصولياً ومحققاً بارعاً، له آثار قيمة في ميادين متعددة على صعيد الفكر الإسلامي وعمه السيد (محمد الصدر) من أبرز المساهمين في ثورة العشرين الإسلامية، وعرف مواقفه الجريئة الرافضة لممارسات الحكم الملكي المباد، ومن أسرته المرحوم الإمام (عبد الحسين شرف الدين) الذي ساهم بشكل فعال في مقارعة الاستعمار الفرنسي في الشام، وأخوه السيد (إسماعيل الصدر) من رجالات المدرسة الإسلامية الأفذاذ، يشهد له بذلك تعليقته القيمة على كتاب (التشريع الجنائي في الإسلام) لمؤلفه الشهيد (عبد القادر عودة).
اليتيم
توفي والده عن عمر يناهز الثامنة والأربعين، تاركاً الشهيد وعمره لا يتجاوز الـ 4 سنوات، فتولته أمه المؤمنة الصالحة بالرعاية والعناية والتوجيه، يعاضدها في ذلك أخوه السيد (إسماعيل الصدر) وخاله المحقق الكبير الشيخ (محمد رضا آل ياسين) وهو من مراجع الدين البارزين في وقته.
النشأة الأولى
لوحظت على شهيدنا علامات النبوغ والعبقرية منذ نعومة أظفاره، ولقد ارتأى بعض أفراد أسرته الكريمة، في أن يلتحق الشهيد بالمدارس الحكومية علَّه يحصل على درجة علمية رفيعة أو يوفق لاختراع أو اكتشاف يضعه في مصاف العلماء العظام في التاريخ، ولكن خاله (محمد رضا آل ياسين) مانع في ذلك وامه الصالحة أبت واصرت على أنْ يسير على خط أجداده الكرام، ويروي أحد العلماء أن السيد (إسماعيل الصدر) كان يحبذ للشهيد الدراسة الحكومية علّه بعد تخرجه يتحمل أعباء الأسرة المحرومة من الناحية المعاشية، إلا أن الطفل النابغة رفض ذلك وقد اجاب أخاه حينذلك (إن الله تعالى لم ينس أن يوفر لأحقر مخلوقاته غذاءه، فكيف بالإنسان وهو أعز ما خلق[1]…) وقد اصطدم السيد (إسماعيل) بهذا المنطق القوي فأضطر على أثره بالنزول عند إرادة أخيه وامضى رغبته. ورغم ذلك فإن السيد الشهيد دخل المدارس الحكومية في سني حياته الأولى. ويحدثنا عنه في هذه الفترة أحد اساتذته حيث ما يزال على قيد الحياة، فيقول: (… وجدت فيه نبوغاً عجباً وذكاء مفرطاً يدفعان على الاعتزاز به ويرغمان على احترامه وتقديره. كما شهدت كل المدرسين أيضاً يكنون له هذا الاحترام وهذا التقدير.. كان شغوفاً بالقراءة محباً لتوسيع دائرة معرفته، ساعياً بجد إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة لا تقع عيناه على كتاب إلا وقرأه وفقه ما يحتويه في حين يعز فهمه على كثير من انهوا المرحلة الثانوية.. وحدثني عنه مدرس اللغة قائلاً: والله لولا الأنظمة والقوانين ولو كانت هناك حكومة تقدر النبوغ والكفاءة لمنحته الشهادة الثانوية، وفتحت له أبواب الكليات ليختار منها ما يشاء وكفته أمر الذهاب إلى المدرسة والعودة منها للبيت، إن المامه بعلوم اللغة العربية يفوق حد التصور لطفل في سنه، وكم من مرة جعلني أقف أمامه محرجاً لا أجد جواباً فاضطر أن أؤجل الجواب على سؤاله إلى يوم آخر لئلا أكون في موضع العاجز عن الجواب أمام تلامذتي، وقال هذا الشيء عينه مدرس الدين وأضاف أنه يصلح أن يكون مدرساً للدين وأصوله، وقال كذلك مدرسو العلوم الأخرى مبدين دهشتهم وحيرتهم في نبوغ هذا الطفل ومستواه. خائفين أن يقتله ذكاؤه… كان في الصف الثاني ابتدائي… يستظهر قصيدة تضم ثلاثين بيتاً أو أكثر أو كلمة عن ظهر قلب خلال ربع ساعة، بعدها يتلوها علينا بكل فصاحة متجنباً اللحن حتى إذا قرأت له ملحونة[2]..).
كان المرجع الشهيد يتلقى علومه الدينية على يد أخيه السيد (اسماعيل)، رغم انشغاله كـ(طالب) في مدرسة حكومية، وقد اتقن في السنين العشر الأوائل من عمره الشريف الكثير من المقدمات في سائر العلوم الإسلامية، وفي الحادية عشرة درس علم المنطق وألف كتاباً في هذا العلم يحتوي على مؤاخذات لمجموعة من المباحث المنطقية[3]، وفي اوائل السنة الثانية عشرة درس علم الأصول على يد أخيه السيد (اسماعيل الصدر).
الهجرة المباركة
ولم يكن بامكان (الكاظمية) ان تستوعب طاقات السيد الشهيد ولا طموحاته التي هي طموحات رجال عظام ونوابغ كبار.
فهاجر إلى مدينة العلم والجهاد، أي مدينة (النجف الأشرف) وقد بلغ من العمر اثني عشر عاماً. وبداية الهجرة كانت منعطفاً عظيما في حياة الشهيد العظيم، ومنذ ان حط رحاله على أعتاب هذه المدينة المقدسة بدأ جهاده ونشاطه بدون كلل أو ملل.
الصبا والشباب
في السابعة عشرة من عمره كان قد اشترك السيد الشهيد مع العلامة الشيخ (عباس الرميثي) بتحشية أحد البحوث[4]، وفيها اخرج كتابه المشهور (فدك في التاريخ)[5] إلى الوجود حيث تعرض بعمق نادر لهذه القضية في التاريخ الإسلامي، وفي هذه السنة بالذات الف كتابه الأصولي (غاية الفكر في أصول الفقه)[6]، وفي هذه الفترة شرع بدراسة كتاب الأسفار، والعجيب ما يذكره في هذا الصدد أستاذه المعروف بالشيخ (صدرا) معلم الفلسفة الكبير في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف (اشترط علّي أن لا يتابعني في التدريس الرتيب لهذا الكتاب، بل طلب مني أن يقرأ علّي كل يوم صفحات من هذا الكتاب، ويسألني عما أشكل عليه فقبلت. وانها دراسة الكتاب بسرعة على هذا الشكل)[7].
تدرج المرجع الشهيد في العلوم الإسلامية المختلفة، وخطى بسرعة مذهلة مدارج التحصيل الفكري والعلمي حتى أصبحت له القدرة الكاملة على استنباط الأحكام الشرعية من أصولها المعتبرة، فاستطاع أن يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق ولم يتجاوز عقده الثاني من العمر، ولذا فقد سجل فتاواه في هذه الفترة وما زالت مخطوطة وتعد من نفائس المذخورات العلمية في مكتبته التي لا نعرف مصيرها على يد (البعث الكافر)[8].
ولم يكن الشهيد السعيد رحمه الله تعالى في هذه المرحلة المبكرة من حياته بعيداً عن أجواء عصره، فهو أبداً لم يرض لنفسه أن يحصر فكره واهتماماته في أجواء العلوم الدينية وجدران الحوزة العلمية، بل كان على اتصال حيوي متفحص لما يجري على ساحة العالم الإسلامي، ولذا فليس غريباً أن ينقل إلينا بعض تلامذته أن السيد الشهيد كان يتابع الكتب الإسلامية الحديثة الصادرة في الأربعينات، وكذلك بعض الصحف والمجلات كجريدة الساعة وغيرها[9].
بريء المسؤولية الاجتماعية
لم يكن الشهيد قد تخطى العقد الثاني بسنوات قليلة حتى قام انقلاب 14 تموز1958 الذي قاده العميل الأميركي (عبد الكريم قاسم)، وقد كان لهذا الانقلاب أثره في صنع مناخات جديدة، استطاعت من خلالها الحركة الشيوعية ان تطوي خطوات سريعة على صعيد الميزان الشعبي، الأمر الذي شجعها أو كان من الأسباب التي شجعتها على أعلان كفرها والحادها، واندفع الشيوعيون برعونة زائدة في اهانة الإسلام وعلمائه البررة، وفي هذه الأجواء الضاغطة ظهر الشهيد الصدر لأداء دوره المطلوب، فبادر إلى تأسيس (جماعة العلماء) لتقوم بدور فعال في نشر الفكر الإسلامي، ومواجهة المد الأحمر الذي استشرى خطره آنذاك، وقد عملت هذه الجماعة على الاتصال بقطاعات الشباب من أجل توعيتهم على خط الإسلام العزيز، واصدرت مجلة الأضواء الإسلامية باشراف لجنة توجيهية مكونة من شباب العلماء كان لها اتصال وثيق بالسيد الشهيد[10].
وفي هذه الفترة أصدر السيد الشهيد كتاب (فلسفتنا)، كان ذلك في حدود 1380هـ/1961م، أي عندما بلغ من العمر سبعاً وعشرين عاماً، واتبع هذا السفر الرائع بكتابه (اقتصادنا) من جزئين و(المدرسة الإسلامية) و (البنك اللاربوي في الإسلام)، حيث صارت هذه الكتب مادة الحركة الإسلامية في العراق للعمل بها على أساس المجابهة الفكرية والسياسية، وفي هذا الأثناء كان الشهيد السعيد قد بدأ بالقاء المحاضرات المتنوعة من حياة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على تلامذته في الحوزة، تلك المحاضرات التي تنتظر من يطبعها لأنها ما زالت مخطوطة لدى طلابه.
الاهتمامات الحوزوية
جاء البعثيون إلى الحكم مرة ثانية في إنقلابهم العسكري عام (1968)، ولم يمر على انقلابهم سنة واحدة حتى اصطدموا بالمرجعية الدينية التي مثلها يومذاك السيد (محسن الحكيم) رحمه الله تعالى، وقد كان هذا الاصطدام عن تخطيط مسبق أعده البعثيون لضرب الحوزة العلمية وتسربت الأخبار التي تؤكد بان العصابة المجرمة عازمة على تصفية الحوزة، فحدى ذلك بالسيد الشهيد إلى مواجهة المؤامرة، وكان ذلك بانصرافه إلى الحوزة وشؤونها، وقد زاد من توجهه هذا وفاة السيد (الحكيم) في (26/ ربيع الأول/1390)، (1/حزيران/1970) وقد طرحت في الأثناء مسألة المرجعية، فوجه السيد الشهيد الأمة إلى تقليد: (ابو القاسم الخوئي)، إلا أن جماعات كبيرة من الواعين والمتحركين أعلنوا عن تقليده رحمه الله، فكانوا يتناقلون فتواه شفاهاً أو كتابة بخط اليد.
في عام (1972 ـ 1973) دعا السيد الشهيد مجموعة من تلاميذه لوضع دراسات عن تفسير القرآن الكريم والأخلاق والعقائد والسيرة، وعيّن مسؤولين إداريين عن طلاب الحوزة، وفي (1397 ـ 1398)هـ، (1977 ـ 1978) م وضع السيد الشهيد كتبه الأصولية الثلاثة (دروس في علم الأصول).
المرجعية الدينية
بدأت الأمة تتفتح على السيد الشهيد وذلك نظراً لعطائه الفكري العزيز، ومواقفه الصلبة اتجاه الفكر ـ وسنأتي على بيانها ـ ، فاتسعت قواعده الشعبية الأمر الذي اضطره إلى طبع فتاواه، وكانت في البداية تعليقة على (منهاج الصالحين) بجزئيها في (1394 ـ 1395)هـ، ثم طبعها في رسالة عملية مستقلة اسماها (الفتاوى الواضحة) وذلك في (2/ جمادي الثاني /1396)هـ، وبعدها أصدر دراساته الفقهية الاستدلالية في أربع مجلدات (بحوث في العروة الوثقى) وفتح السيد الشهيد بابه للأمة ساعتين في كل يوم من أيام الجمعة، وراحت مختلف طبقات الناس تزوره بلهفة وشوق. تسأله عن أمور دينها ودنياها، وتستخرج رأيه في جهادها ونشاطها، وتستلهم من توجيهاته الرأي السديد والموقف الحكيم.
الاستشهاد السعيد
كان السيد الشهيد قد رفع لواء المعارضة السياسية منذ ان تولى المرجعية وان كانت له مواقف في هذا المضمار قبل ذلك ـ سنفصل فيها ـ ، وهذه المعارضة أدت على اعتقاله أكثر من مرة.
أعتقل في عام (1972)م
واعتقل في عام (1977)م
واعتقل في عام (1979)م
وقد جاءت الانتفاضة الإسلامية في إيران، ومنذ لحظاتها الاولى وقف السيد الشهيد إلى جانب الثورة وقيادتها العظيمة، بل وأسرع في تعبئة الجماهير لثورة شعبية عارمة تطيح بحكم البعث الكافر، ومن أجل اقامة الحكومة الإسلامية على ارض العراق الجريح، واحست الحكومة البعثية المنحرفة بان البساط راح ينسحب من تحت اقدامها، وان هذا السيد الصدر يهددها في عقر دارها، فاعتقلته في (5/4/1980) لتقتله بأيدي جناتها المجرمين في (8/4/1980).
الفصل الثاني: (العطاء الفكري العظيم)
ج ـ السيد (أبو القاسم الخوئي) المعروف بالاستاذية والتحقيق في علمي الأصول والفقه ودرايته المتقدمة في علم الرجال.
هذه هي الخلفية الفكرية لشهيدنا الغالي، وقد اكتسبها في وقت مبكر من حياته، ومن المعلوم أن الدراسات الدينية على صعيدها الحوزوي تشكل طاقة علمية هائلة، سواء من حيث السعة أو العمق، لأنها حصيلة جهود فكرية اجتمعت خلال مئات السنين لمجموعة من فطاحل الفكر والعلم. ولذلك فان الحصول على هذه (الخلفية الفكرية)، يعد في حد ذاته كسباً موفقاً ورائعاً، والتمكن منها في مدة قياسية دليل نضج عقلي عال وجهد ذاتي دؤوب، وهذا ما حصل لشهيد الإسلام السيد الصدر، فقد شهد له الشيخ (عباس الرميثي) بالاجتهاد وهو دون العشرين وحرم عليه التقليد، وذلك بعد ان اشترك معه في نقاش واستخلاص الرأي في فتاوى الشيخ (محمد رضا آل ياسين) والتعليق على رسالته الفقهية (بلغة الراغبين)[11].
الذكاء الخارق
ليس من الصعب أبداً اكتشاف تلك الطاقة العقلية الهائلة التي كان يتمتع بها الشهيد الغالي السيد الصدر، فتلك مسألة يشهد له بها أقرانه وتلامذته، كذلك كتبه وآثاره. بل وسيرة حياته الذاتية.
يقول استاذه الذي درسه في المرحلة الابتدائية (.. وكثيراً ما كنا نفتقده متغيباً لشهر أو حواليه من المدرسة، ثم إذا به يحضر عند الامتحان فيؤديه فينال الدرجة العليا، ولو كانت هناك درجة أعلى لاستحقها بجدارة..)[12]، ويروي أخوه السيد (إسماعيل الصدر) أنه كان يشرح له مبحث الضد وهو من أصعب المباحث الأصولية وذلك في أوائل السنة الثانية عشر من عمرة، فأورد له رأي (صاحب المعالم في المسألة وتقضي بأن ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر. فاعترض الشهيد على الرأي المذكور بايراد كان قد أشار إليه صاحب (الكفاية) ولم يكن الشهيد النابغ قد اطلع عليه من قبل[13].
ويشهد للسيد الصدر في ذكائه الخارق هذا الانتاج الفكري الغزير العميق في مدة زمنية وجيزة جداً.. لقد كتب (فلسفتنا) في ستة أشهر فقط، وكتب (البنك اللاربوي) في أسبوع واحد فقط، وعالج أعقد المسائل الرياضية المعاصرة وقدم تفسيره المنطقي المبدع لهذه المسألة في حين لم يتلق أي تدريس في مادة الرياضيات هذه، واجتهاده في هذه السن المبكرة السريعة دليل قاطع على مواهبه العقلية الفذة. وسيرة حياته الذاتية بما انطوت عليه من عصامية واعتماد على النفس تشير إلى القدرة غير العادية التي يتمتع بها الشهيد السعيد من الناحية الفكرية.
التطلع الرسالي المبكر
لم يكن السيد الشهيد ابن بيئته الخاصة أصولاً وفقهاً وحديثاً، بل كان رحمه الله يتطلع خارج الحدود المادية والفكرية التي تحيط به، كان يطالع المجلات والجرائد كمجلة (الساعة) وغيرها، وفي يوم من الأيام وفي مرحلته الابتدائية طلب من استاذه الكتب الماركسية ليقرأها فجلبها إليه الاستاذ وبعد مدة أسبوع واحد أعادها إليه وطلب غيرها.. طلب منها ما هو أكثر موضوعية وأعمق شرحاً وعرضاً، وهنا يقول الاستاذ المذكور (.. أحببت أن اعرف ما الذي استفاده هذا الطفل من قرائته لهذه الكتب، وإذا به يدخل في شرح الماركسية طولاً وعرضاً فأخذت عن شرحه لها كل ما غمض على معناه عند قرائتي لها، فعجبت لهذا الطفل المعجزة وهو لما يزل في المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائية…)[14]، ومن دلائل ذلك أيضاً ما يذكره الأستاذ نفسه (…ما طرق سمعه اسم كتاب في ادب أو علم أو اقتصاد أو تاريخ إلا وسعى إلى طلبه، كان يقرأ كل شيء..)[15].
وكان للشهيد صلة قديمة بالحركات الإسلامية الأولى.
والواقع ان الشهيد لو لم يكن في تطلعه أكبر من البيئة التي عاش بها لما قام بهذه الأدوار الهائلة على صعيد الجهاد الإسلامي والتي سنتكلم عنها لاحقاً ان شاء الله. ولما أعطى هذا الانتاج الغزير ذي العمق والأصالة والشمولية، ولما تبنى أسلوب بل ومسؤولية العمل الإسلامي الحركي.
هذه الأمور الثلاثة، (الخلفية الفكرية الحوزوية) و (الذكاء الخارق) و (التطلع الرسالي المبكر) اجتمعت في شخصية الشهيد. وانفجرت في وقتها المقدر لها فكان عطاؤه الفكري الفريد.
فكر الشهيد العزيز يتميز بخصائص، وكان لذلك أثره البليغ في يقظة الأمة ونهضة شبابها وثورة أبنائها في العراق الجريح، يجدر بنا أن نقوم بجولة سريعة حول هذه الخصائص كمقدمة لدراسة دورها في خلق الوعي الإسلامي سواء في وطنه العراق وغيره.[16]
أ ـ الغزارة
تعد الغزارة صفة مميزة إذا كان الفكر المطروح عميقاً وأصيلاً، ولكنها لا تعد كذلك إذا كان الفكر سطحياً وذيلياً. وفكر الشهيد أعمق ما طرح إسلامياً. كما سنبينه عاجلاً، ولذا فان غزارته في التأليف تكوّن خصيصة لفكره وعلمه، وتتأكد قيمة هذه الصفة، إذا علمنا أن عمر الشهيد لم يتجاوز ( ) سنة، وكان مشغولاً إلى حد كبير في التدريس والتوجيه، وقد لاقى مضايقات شديدة، سواء من الحكومات الكافرة التي تعاقبت على العراق أو من الوسط الحوزوي الذي يحيط به ـ بعضه وليس كله بطبيعة الحال ـ ، بل وحتى من بعض دعاة الإسلام على المستوى البسيط جداً جداً سنذكره مفصلاً.
1ـ فلسفتنا.
2ـ اقتصادنا (جزءان).
3ـ المدرسة الإسلامية.
4ـ أطروحة البنك اللاربوي في الإسلام.
5ـ الأسس المنطقية للاستقراء.
6ـ بحث حول المهدي.
7ـ بحث حول الولاية.
8ـ مقدمة الصحيفة السجادية.
9ـ دروس في علم الأصول.
10ـ بحوث في العروة الوثقى (أربع مجلدات).
11ـ تعليقة على منهاج الصالحين.
12ـ الفتاوى الواضحة.
13ـ البنك الإسلامي.
14ـ منابع القدرة في الدولة الإسلامية.
15ـ خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.
16ـ صورة مفصلة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
17ـ صورة مختصرة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
18ـ لمحة فقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية.
19ـ السنن التاريخية في القرآن الكريم.
20ـ المرسل والرسالة والرسول.
21ـ نظرة عامة في العبادات الإسلامية.
22ـ أطروحة المرجعية الموضوعية.
23ـ رسالتنا.
24ـ دور الأئمة في الحياة الإسلامية.
25 ـ الأفاق المستقبلية لحركة الاجتهاد.
26 ـ الحرمةُ في القرآن الكريم.
27 ـ العمل الصالح في القرآن الكريم.
28 ـ غاية الفكر في أصول الفقه خمسة أجزاء.
29 ـ أطروحة الاعلام في المواجهة.
30 ـ فدك في التاريخ.
31 ـ المنطق الوضعي واليقين الرياضي في الفلسفة.
هذا إضافة إلى محاضراته القيمة في حياة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والتي القاها على تلامذته في الستينات ولم تطبع إلى الآن.
ب ـ الشمولية:
لقد كتب السعيد للأمة الإسلامية في كل حقول المعرفة الدينية والفكرية، مراعياً مختلف قطاعات الأمة ـ كما سنوضح ذلك إن شاء الله.
كتب لها في نظرية المعرفة وتفسير الكون ووجود الله تعالى بأسلوب المقارنة مع المدارس المضادة كالمدرسة الماركسية والمنطقية الوضعية، (فلسفتنا)، (الأسس المنطقية للاستقراء) (المنطق الوضعي واليقين الرياضي)، وغيرها. وكتب لها في تفسير التاريخ والحركة الاجتماعية (السنن التاريخية في القرآن).
وكتب لها عن المهدي على أساس الحقائق العلمية والعقلية في إطار المسيرة العامة للبشرية، مجيباً على كل الأسئلة المطروحة في شخص المهدي وموضوعه (بحث حول المهدي).
وكتب لها حول الولاية معطياً التفسير الصحيح للتشيع باعتباره الأطروحة الإسلامية الحقيقة، منطلقاً في اثبات ولاية (علي) ـ عليه السلام ـ لا من النص مباشرة بل من واقع الظروف التي كانت تعيشها الرسالة بعد وفاة الرسول وكذلك المجتمع مما يؤكد ضرورة النص بصورة غير مباشرة (بحث حول الولاية).
وكتب لها في الرسالة والرسول مثبتاً بالأدلة القاطعة ربانية الإسلام ونبوة (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله، مخاطباً في ذلك تلك الجماعات التي تفاعلت مع الفكر الحديث القائم على منطق الحسابات والأرقام (المرسل والرسالة والرسول).
وكتب لها في العبادة الإسلامية، وأوضح بأن العبادة ضمن إطار الحاجات الثابتة التي يواجهها الإنسان في جميع العصور على أساس حاجته للارتباط بالمطلق مع الإشارة إلى الدور الاجتماعي في العبادة ذاتها (نظرة عامة في العبادات الإسلامية).
وكتب لها حول الدولة الإسلامية ومسيرتها التي لا تنفذ، لأنها تقوم على كلمات الله التي لا تنفذ ولأنها تهدف إلى مثل أعلى لا ينفذ (الله)، (لمحة تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية) (منابع القدرة في الدولة الإسلامية) وكتب لها في الاقتصاد الإسلامي. ولكن ليس على شكل متفرقات اقتصادية هنا وهناك. كما كتب (سيد قطب)، (أبو الأعلى المودودي)، (مصطفى السباعي). (حسن البناء).. رحمهم الله تعالى. وإنما كانت محاولة لاستخراج نظيرة الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة باستعراض تفاصيلها جمع فيها بين الفقه ومصطلحات هذا العلم ـ أي الاقتصاد ـ وعلى أساس المقارنة العلمية الرصينة بالماركسية والرأسمالية (اقتصادنا جـ1،جـ2). (المدرسة الإسلامية). (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، جـ1،جـ2)،(البنك اللاربوي في الإسلام)، (البنك الإسلامي) وكتب لها عن المجتمع الإسلامي بوجود المعصوم وأثناء غيبته على أساس المفهومين أو الخطين القرآنيين (الخلافة) و (الشهادة). ضمن الإطار الذي يجمع بين القيادة، (النبي) أو (الإمام) أو (المرجع) والقاعدة (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).
وكتب لها في الفقه وأصوله مستهدفاً تبديل النزعة الفردية إلى الاجتماعية وادخل حساب الاحتمالات في الأصول (الفتاوى الواضحة)، (بحوث في العروة الوثقى) (الأفاق المستقبلية لحركة الاجتهاد).
وكتب لها عن حياة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ منهجاً ومضموناً، مبدياً رأيه بضرورة النظرة الكلية للأئمة وان حياتهم ملحمة جهادية (دور الأئمة في حياة المسلمين)، (محاضرات في حياة الأئمة لم تطبع).
وكتب لها في نظام المرجعية الموضوعية حيث بيّن النظام الأمثل لجهاز المرجعية الدينية إذا أريد له أن يلعب دوراً يتناسب مع حجم الإسلام وحجم مرجعيته بالذات (أطروحة المرجعية الموضوعية).
وأخيراً كتب لها عن ولاية الفقيه في (لمحة تمهيدية…).
هذا هو فكر الشهيد العزيز بشموليته الرائعة العجيبة.
جـ ـ العمق والأصالة:
نستطيع أن نتلّمس العمق والأصالة في فكر السيد الشهيد من عدة حقائق واضحة في كل اطروحاته التي قدمها للأمة الإسلامية.
1: لم يعتمد الشهيد في كل كتبه ودراساته موقفاً تبريرياً، بل كان يعرض كل مسائل الفكر الإسلامي بانها الحقائق التي يقرها العقل والمنطق.
2: لم يخف السيد الشهيد كل مؤآخذة على الإسلام، بل عرضها أحسن مما كان يعرضها أصحابها وأهلها. وعمل على تفنيدها بأساليبه العلمية البارعة.
3: ابتعد عن كل محاولة تشهيرية تتنافى مع الأذواق العلمية بل أربأ بنفسه وفكره أن يكون مشهراً[17].
4: لم يتكئ فكره على أي تبرير استعارة من النظريات الغربية أو بعض اللقطات الفكرية لهذا المفكر الغربي أو ذاك.
5: لغته لغة الدليل، وبيانه بيان البرهان. ولم يمر على أي نقطة دون اشباعها من هذه الناحية، ولعل اهتمامه بنظرية المعرفة ومنطق البرهان أثر إلى حد كبير في فكره من هذه الناحية ويتجلى هذا بوضوح في كتابه (بحث حول المهدي)، إذ أن الموضوع نقلي اخباري روائي إلا أن السيد الشهيد طرح هذه المسألة بلغة برهانية صارمة، مستمزجاً الجمع بينها وبين الدلائل النقلية.
6: عرضه للإسلام كـ (إسلام) أوحى به الله تعالى إلى نبيه الكريم (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله. ولم يخلطه بشيء على الإطلاق، ولعل كونه رحمه الله (مرجعاً) دينياً له أثر كبير في هذا الصفاء الفكري الفريد.
7: الجرأة في طرح الفكر الإسلامي من علامات الأصالة والاعتزاز الذي لا تزلزله وحشة الطريق ولا عنف المستعمر الكفار، ولا إعراض الجاهل المتعنت. ومن دلائل الأصالة أنه سئل رحمه الله يوماً عن بواعث تأليفه لكتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) فأجاب (ان مرحلة الاستيراد في العالم الإسلامي من الغرب يجب أن تنتهي، وعلينا أن نصدر ابداعنا إلى الغرب)[18]. واذن فان العمق والأصالة والاستغلالية تنبع من ذات الشخصية الحرة التي يمتلكها الشهيد السعيد.
د: العالمية:
فكر الشهيد السعيد السيد (محمد باقر الصدر) كان عالمياً. ليس لأن الدعوة الإسلامية عالمية بطبيعتها، بل لأنه كتب الفكر الإسلامي بغية قيادة المسيرة البشرية عبر صراع لا يعرف الهوادة مع المدرستين الغربيتين (الماركسية) و (الرأسمالية)، ولذا جاءت أطروحاته وهي تعتمد الموازنة الدقيقة والمقارنة العلمية الصارمة والقوية بين الإسلام وغيره على جميع الأصعدة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهذه (العالمية) في أهدافه من كتابة الفكر الإسلامي كانت واضحة من البداية فقد قال في (فلسفتنا) وهو يتحدث عن صراع الأفكار الوافدة على الوطن الإسلامي على حساب أرضه وأهله وتاريخه (وكان لابد للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير وكان لابد ان تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة، للكون والحياة والإنسان والمجتمع والدولة والنظام، ليتاح للأمة أن تعلن كلمة الله في المعترك وتنادى بها. وتدعو العالم إليها. كما فعلت في فجر تاريخها العظيم)[19].
وفهمه المرجعي للإسلام حتماً قد ساهم إلى حد كبير في هذا الطرح وأسلوبه وغاياته.
هـ ـ الحركية:
لم يكن السيد الشهيد يكتب للترف أو المجد الشخصي، وإنما للأمة الإسلامية بهدف التحرك الفكري والسياسي والاجتماعي والجهادي ومن أجل تحقيق الحكم الإلهي العادل، ولذا تميزت كتاباته بالروح الحركية بل طرحها لتكون أداة حركة قال الشهيد في مقدمة فلسفتنا (وكان لابد للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير ـ الصراع الفكري على أرض الإسلام ـ .. ليتاح للأمة أن تعلن كلمة الله وتنادي بها وتدعو إليها كما فعلت في فجر تأريخها العظيم وليس هذا الكتاب الا جزء من تلك الكلمة..)[20]. وكان الإمام الشهيد يراقب تحرك الأمة على ضوء ما يطرح، ولذلك يقول في مقدمة الطبعة الثانية لاقتصادنا (يسرني أن اقدم للطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا وقد ازددت إيماناً واقتناعاً بأن الأمة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلها الإسلام وتدرك بالرغم من الوان التضليل الاستعماري ان الإسلام هو طريق الخلاص..)[21].
على ان متانة الفكر الذي طرحه السيد الشهيد، وما يتضمن من قوة هائلة في الاقناع تكفي لتحريك الإنسان للعمل وفق الإسلام وفي سبيل الإسلام، لأن الحقيقة تملك صلاحية ذاتية على البعث والتحريك على ان صفة الحركية كانت واضحة جداً في كتبه الأخيرة (الإسلام يقود الحياة) التي اخرجها في خضم الثورة الإسلامية في إيران، خاصة عندما يتحدث عن الإسلام كثورة، وعن خصائص الثائر النبوي، والثائر النبوي في قصد الإمام الشهيد كل من تجسدت فيه روح الرسالة الإسلامية وأهدافها الكبيرة[22].
و ـ الحيوية والتجديد:
ولكي يجابه الإنسان المسلم أعداءه بالمنطق الذي تفرضه المرحلة التي يعيشها، ولكي يطرح الإسلام بمنطق يتناسب وروح العصر، كانت كتابات الشهيد السعيد ثرية بالحيوية وتجديدية بمعنى الكلمة. فأسلوبها يتمتع بالسبك اللغوي المتين، ومنهجيتها حديثة عصرية، فهي لم تتبع الأسلوب الذي درج عليه الأسلاف وفق قاعدة (فان قلتَ قلتُ). وتبرز الحيوية والجدّة بشكل واضح وعملاق في كتابه (الفتاوى الواضحة). فقد أغنى المسلم من الرجوع إلى الشرّاع ليبينوا له وجه المسألة الشرعية واحتمالاتها المتداخلة ومعاني ألفاظها الغامضة، بل يستطيع (المقلد) أن يفهم هذه المسائل ببساطة وسهولة. ويجد نفسه ضمن تسلسل مستلّ من واقع الحياة، والواقع أن الحيوية والتجديد في الرسالة العلمية يشكل في حد ذاته جرأة علمية وموقفاً صعباً. لأن المنهجية المعقدة وصعوبة ألفاظها وغرابة مسائلها في أحيان كثيرة أصبحت من المألوفات التي قد تدل في العرف السائد من هذه الناحية على القدرة والتمكن، وقد أشار رحمه الله تعالى إلى ضرورة الحيوية والتجديد في الرسائل العملية في مقدمة ضافية لفتاواه الواضحة، جاء فيها (… وحينما صدّرت تعليقتنا العملية على منهاج الصالحين أحسست احساساً واضحاً من خلال مراجعات القارئين وأسئلة السائلين بما كنت على إيمان به من ضرورة… وضع رسالة عملية تتقيد بمنهج سليم في الغرض من الناحية الفنية وتلتزم بلغة مبسطة حديثة، وتبدأ في العرض من العنصر، وتحاول أن تعرض الأحكام من خلال صور حية وتطبيقات منتزعة من واقع الحياة، وتتجه إلى بيان الحكم الشرعي لما يستجد من وقائع الحياة. ولهذه الفتاوي الواضحة تحقيق لذلك بالقدر الذي اتسع له المجال واتاحته الفرصة..)[23].
الفصل الثالث: الشهيد الصدر واليقظة الإسلامية المعاصرة
بداية التحرك الفعلي
ذكرنا في حديث سابق أن السيد الشهيد قد اكتسب (العلم الحوزوي) بأرقى درجاته (الاجتهاد) قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره الشريف، وانه كان ذا تطلع رسالي مبكر، كما ان الله وهبه ذكاءً حاداً مفرطاً، ورجل من هذا الطراز لا بد أن يصنع شيئاً، لابد أن يستلم المبادرة ويخلق أمراً له شأنه في التاريخ، هذا الأمر ينبغي أن يكون تاريخياً، والعمل التاريخي في تصور السيد الشهيد، عمل غائي مستقبلي وذو قاعدة موجبة على حد تعبيره[24]، وقد شاءت الأقدار أن تتوفر الظروف الملائمة بل والموجبة، اعني أن الأجواء التي عاشها العراق بعد انقلاب 14 / تموز / 1958 وما صاحبه من أحداث كانت من العوامل المشجعة والمحركة لأن ينهض هذا السيد العملاق بمشروع تاريخي كبير، فبعد هذا الانقلاب الأمريكي حدثت هزة في الأوضاع والقيم والأفكار السائدة وطغت على السطح ألوان من الفكر الغربي وخاصة الماركسي منه، وتحرك الشيوعيون بسرعة محمومة للسيطرة على الشارع العراقي، وأُعلن الكفر والالحاد، واهين المراجع الكبار… هنا بدأ السيد الشهيد يتحرك!!
على أن السيد الشهيد كان على نية التحرك قبل هذا الانقلاب وقبل الأجواء التي صنعها!! يحدثنا أحد تلامذته فيقول (..ولقد أظهر براعة فائقة في هذه الفترة من عمره ـ وكان سنه سبعة عشر عاماً ـ في مجال إدارة الحلقات الخاصّة العلمية منها والفكرية، وبحث الموضوعات التي تتعلق بمصير الأمة وغياب الإسلام عن حكم الحياة وتشخيص وتحليل المشاكل والعقبات التي تعاني منها الأمة وكيفية تذليلها.. وكان يطرح سؤال ما العمل؟ على رواد مجلسه ورواد المجالس التي يزورها بغية بث الوعي عند قادة الامة وولاة أمورها…)[25].
ولكن كانت البدايات الفعالة لتحرك السيد الشهيد بعد الانقلاب القاسمي وعلى اثر المستجدات التي احدثها.
الجهاد الانقلابي
لقد كان الواقع مريراً حقاً.. لم تكن المسألة منحصرة في هذه الهجمة الشرسة التي قادها الشيوعيون ضد الإسلام والعلماء، بل هي اعقد من ذلك بكثير وكثير.
هناك الفهم التقليدي للإسلام في أوساط الأمة، فهو دين عبادات وطقوس وتعاليم روحية وجملة أحوال شخصية..
وهناك الآفاق الضيقة التي تعيشها بعض رجالات الحوزة، وهناك المد الشيوعي الذي استفحل خطره وطغى على البلاد، وهناك الواقع الاجتماعي المتردي وخاصة على صعيد الفتيان والشباب، وعليه فإن (العمل) يجب أن يكون انقلابياً شاملاً، وأي محاولة إصلاحية يبتلعها هذا الجو الرهيب. وهكذا فعل السيد الشهيد.. لقد قرر أن يعمل على كل الجبهات.
لقد جاهد على صعيد (المرجعية) و(الأمة).
وجاهد (فكريا) و (سياسياً) و (تنظيمياً).
ان عمل السيد الصدر بهذه الروح الانقلابية الشاملة جاء بعد ادراك عميق لحقيقة الواقع السائد آنذاك، فقد كان مريضاً بكل ابعاده، مرفوضاً بكل صوره وأشكاله، وحتى الوسط الذي كان الشهيد ينتمي إليه فكرياً ومعنوياً كان يعاني من نقاط ضعف شديدة، اذن لابد من جهاد (انقلابي).
فكر وطليعة
كل قيادة فكرية وسياسية تريد التغيير الكلي الشامل، التغيير الهادف إلى صنع مجتمع متكامل فكرياً وسياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، كل قيادة من هذا النوع تحتاج إلى فكر كوني مستنير وطليعة واعية على فكرها ومهماتها وقاعدة شعبية عريضة، وبطبيعة الحال أن القاعدة الشعبية (تتكون وتتأسس بعد توفر (الفكر) و(الطليعة) وتفاعلهما معاً وتحركهما على صعيد الأمة. ولذا توجه السيد الشهيد وقبل كل شيء آخر إلى توفير القاعدة الفكرية والطليعة الواعية، وكان في الوسط الحوزوي بعض الرموز المتحررة والمتطلعة، وقد جمعتها مع السيد الشهيد ظروف الدراسة والتقاء التطلعات والوعي المشترك، وان كان السيد الشهيد اوعاها وادراها واسبقها في كل مضمار، فيمم المرجع الكبير اهتمامه إلى هذه الثلة من الشباب المتحمس وقرر أن ينطلق منها ـ في بعض ما ينطلق ـ مستثمراً الأحاديث التي كانت تدور آنذاك حول الحاجة إلى تنظيم إسلامي فجشع على الفكرة وباركها، وصار بيت الشهيد أحد المكانات التي تتم فيه اللقاءات والمباحثات حيث كانت النتيجة الاتفاق على تأسيس (تنظيم) حركي فعال، اقترح له الشهيد الكبير اسم (حركة الدعوة) أو (حزب الدعوة)[26]. وكتب لها في الأثناء (أسس الدولة) و (شرح الأسس). وراح بنفسه يشرف على التنظيم الجديد الذي راحت حلقاته ودوائره وخلاياه تتسع شيئاً فشيئاً[27] في أوساط الأمة وجماهيرها وبالأخص القطاع الجامعي.
على ان هنا حقيقة مهمة يجب أن نذكرها، أن (المرجعية) آنذاك والتي كان السيد (محسن الحكيم) يمثلها ويجسدها في العراق كانت متحسسة للواقع الجديد وقد اكتشفت ان من الضروري ان يطرح الإسلام كقوة فكرية، وسياسية أصيلة لقيادة الأمة، فولدت من أجل ذلك أطروحة (جماعة العلماء) ولم يكن السيد الشهيد ببعيد عن هذه الأطروحة الرائعة في وقتها، فهو وان لم يكن أحد أعضائها اختلاف طبقته العلمية إلا أنها ارتبطت بشكل رئيسي بعقلية السيد الشهيد وكان له دور رئيس في تحريكها وتوجيهها[28]. وقد باشرت هذه الجماعة باصدار مجلة (الأضواء الإسلامية) وتولت تقريباً العمل العام بينما تولت (الدعوة) العمل الخاص. والسيد الشهيد وراء الجميع محركاً ومغذياً وموجهاً.
وبقيت مسألة (الفكر) حتى تكتمل العدة، فكتب (أسس الدولة الإسلامية وشرح الأسس) وغذى الأضواء بنفحات قلمه الشريف وطرح (فلسفتنا) و (اقتصادنا) ولأن ما طرحه السيد الشهيد كان عميقاً رسالياً هادفا، فان ذلك شكل مادة جاهزة للتحرك والعمل والجهاد.. وكان ذلك.
واينعت الثمار
بسرعة مدهشة برزت آثار تلك البداية المباركة، وأدخلت الرعب قلوب أعداء الإسلام وأعداء الأمة الإسلامية، وقد بدى ذلك من جملة مظاهر محسوسة، فالمساجد معمورة بالشباب والدراسات فيها مستمرة وقد كان عطاء السيد الفكري مادة الحلقات الدراسية، ومسيرات عاشوراء بجماهيرها الشابة شعاراتها الإسلامية الخالصة أكدت وجود تيار جديد في وسط الأمة، وان هذا التيار سوف يستلم المبادرة آجلاً أم عاجلاً، والكتب الإسلامية بمختلف المواضيع اخذت طريقها إلى البيوت والمدارس والدوائر، والحقيقة ان الدوائر الاستعمارية ادركت بوادر هذا الخط منذ الشهور الأولى من تأسيسه، ولذا بادرت إلى محاربته بشتى الصور والأساليب، وكان السيد الشهيد هو المستهدف الأول من وراء ذلك كله، لأنهم أدركوا بأنه هو (العقل المفكر والمدبر).
الحملات المسعورة
لقد بدأت هذه الحملات بعيد عام (1382هـ) ، (1962م)[29] وكانت على عدّة أصعدة ومن جهات متعددة.
كانت هناك الحملات التي يشنها بعض (رجالات الحوزة) ممن آثروا القعود واستمروا حياة الكسل والابتعاد عن عموم الرسالة والمسلمين وكانت هناك الحملة الشرسة من قبل البعثيين بعد مجيئهم في انقلاب (1963) والتي قادها المدعو: (حسين الصافي) أحد عناصر الحكم البعثي وأخيراً وليس آخراً، فان (احدهم) تصدى لفكر السيد الشهيد.. فقد شنع بكتاب فلسفتنا واقتصادنا، وراح يحرض ممن افتتنوا بحلاوة كلامه الظاهرية على مهاجمة هذا الفكر باعتباره ليس قرآنياً.. وان السيد الشهيد قد أخطأ بالفكر الذي يجب أن يطرحه، وراح جملة من المغرر بهم يزورون السيد الشهيد في بيته لـ (يناقشوه) في هذا الفكر الذي اتعب فيه واضر به الأمة.. ، وان الواجب عليه ان يكتب بالقرآن وان يترك هذه الأضاليل التي تعمي الأجيال ولا تنير لهم الطريق.
الشهيد يخطط للمستقبل
تفاقمت الحملات المسعورة على السيد الشهيد، فكان لابد من خطة دقيقة لا لايقاف هذه الحملات الظالمة، بل للحفاظ على الآثار المباركة التي انتجتها يده البيضاء وقلمه الشريف وجهوده البناءة، فماذا فعل رحمه الله؟ ترك العمل العضوي في التنظيم السالف الذكر[30]، وركز نشاطه الفكري والعملي في الحوزة[31] حيث خفت الحملة ضده إلى حد ما، ولكنه رحمه الله لم يترك الوعي الإسلامي داخل المجموعات الشابة دون غذاء وعطاء وامداد، فبالمقدار الذي انصرف فيه إلى الدراسات والمشاريع الحوزوية كان يطرح الفكر الإسلامي بلغة العصر ويجيب على كل الأسئلة التي تراود شباب الأمة حول دينهم وجهادهم ومواقفهم حيث فتح باب بيته لذلك، وخصص وقتاً كافياً لهذا الخصوص، بل كان خلال هذه الفترة يرصد الوعي الإسلامي بدقة وبصيرة وتقييم، وأكبر دليل على ذلك مقدمة اقتصادنا للطبعة الثانية والتي أشار في مستهلها إلى ان الوعي السياسي للأمة بدأ يتعمق ويتصاعد، كما أنه ضمنها نقداً لاذعاً لفكر الاشتراكية العربية التي تبناها البعثيون[32]. ان هذه المقدمة كانت تحليلاً رائعاً لأصحاب هذه الاشتراكية في قلقهم واضطرابهم وواضح توقيتها جداً، إذ هي جاءت يوم بدأ الفكر القومي باشتراكيته هذه يتحرك على الساحة كبديل عن الرأسمالية والماركسية في ضدودهما المعروفة، فلابد أن يوفي السيد الشهيد (المادة) لأبنائه العاملين على الصعيد الإسلامي لمواجهة البدعة الجديدة.
اذن كان الشهيد العزيز على اتصال بالمعركة ولكن بأسلوب جديد، أسلوب فرضته الأوضاع المستحدثة والملابسات التي سادت آنذاك، وقد كان رحمه الله يصرح، ان موقفنا من (الأحزاب الإسلامية) كموقف الأئمة من الثورات العلوية، أي نؤيدها ونسندها ونمدها ولكن لا ندخل فيها[33]، ونعم ما فعل والأسباب واضحة لكل ذي عقل لبيب. ولابد أن نذكر هنا النتائج التي آلت إليها جهوده في الحوزة بعد أن صرف القسم الأكبر من اهتماماته إليها، فنقول:
لقد أحدث السيد الشهيد هزة قوية داخل الحوزة الدينية في النجف الأشرف، والحديث في هذا سيأتي بشكل أوسع في الفصل الآتي إن شاء الله.
نتائج وتقويم
1ـ توفر السيد الشهيد على تقديم أطروحة فكرية متكاملة عن الإسلام بلغة العصر منهجاً وأسلوباً وقد اثبت من خلال هذا الطرح احقية الإسلام في جميع الحقول والمجالات.
2ـ بنى بذرة العمل الإسلامي على صعيده التنظيمي، ويعد المؤسس والباني لركائز العمل الحركي في هذا الميدان.
3ـ احداث هزة (داخل) الحوزة غيرت إلى حد بعيد أسلوب العمل والتفكير والأهداف والأجواء والتصورات ـ وسنفصل في ذلك ـ إن شاء الله.
وإذن الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر هو الباعث والمؤسس الحقيقي لليقظة الإسلامية المعاصرة في العراق وثورة الشعب المسلم في عراقنا الجريح اليوم هي من بركات جهوده الكبيرة وسوف تتأكد هذه الحقيقة إذا تابعنا موقف السيد الشهيد من الثورة الإسلامية في إيران، ودوره العملاق في تعبئة الجماهير العراقية من أجل الإطاحة بحكم البعث الكافر وإقامة حكومة العدل الإلهي.
الفصل الرابع: الشهيد الصدر والمرجعية الدينية
المرجعية في فكر الشهيد
المرجعية الإسلامية عقل المجتمع الإسلامي وروحه وقلبه، فهي مسؤولية خطيرة لأنها تعبير آخر عن قيادة الإنسان المسلم والأمة الإسلامية صوب الأهداف الربانية الكريمة، وهي التي تتولى مهمة الوصاية على الرسالة أثناء غيبة الإمام فتمارس دوره في حفظ المسيرة وصيانة حركتها من كل انحراف يمكن أن يطرأ من أي جهة كانت، ولهذا يشترط فيها الأعلمية والعدالة التي تقربها من المعصية والكفاءة النفسية والوجدانية والوعي على الواقع القائم[34]، وعليه فان المرجعية حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمة تقوم على أساس الموازين الشرعية العامة، وهي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية[35].
وعليه فان المرجعية في فكر الشهيد (قيادة) فكرية وسياسية واجتماعية، قيادة تستوعب الأمة على كافة الأصعدة، وليست كما تصورها البعض مجرد (هيكل) يمارس بعض النشاطات الهامشية التي لا تمس جوهر التاريخ وضمير الحياة والمجتمع، وذلك من اصدار بعض الفتاوى وتوزيع الحقوق وغيرها من النشاطات التقليدية المعزولة.
اسناد ودعم وتأييد
ولقد كان السيد الشهيد يعمل لمثل هذه (المرجعية) الاجتماعية الفعالة المؤثرة، والقسم الغالب من جهوده في هذا المضمار يصب في صنع (مرجعية) من هذا الطراز الفريد، ومن أجل ذلك قام بما يلي:
1ـ اسند مرجعية المرجع الأعلى السيد (محسن الحكيم) رحمه الله باتجاه التصدي لقضايا الأمة العامة كنشر الوعي الإسلامي في الأمة ومطالبة السلطة بمطالب لمصلحة المسلمين ومواجهة بعض مواقفها المعادية للإسلام والمسلمين وقد أخذ عدد من افكار الشهيد مجراه في نشاط المرجعية ومواقفها[36]. والسيد الشهيد بهذه المحاولات الجريئة يحاول ان يعطي للمرجعية مكانتها الموضوعية ويعمل على ايجاد الجسور بين الأمة وقيادتها الحقيقية التي اراد الاستعمار الخبيث تقطيع اواصرها الروحية المتينة.
2ـ كانت فكرة الشهيد تطعيم الحوزة العلمية بعناصر جامعية شابة، تحمل شيئاً من العلوم الحديثة والشهيد اراد بذلك ردم الهوة بين الحوزة والجامعة، وقصد توفير الوقت الكثير، لأن طالب الجامعة أو الثانوية يملك أهلية أكبر في تلقي الدروس بفعل ما اكتسبه من مرونة عقلية خلال هذه السنين الطويلة من الدرس، وعلينا ان نتصور كمية الوقت والجهد والمال الذي سيتوفر إذا علمنا ان الحوزة اعتادت تبني الطالب من تعليمه القراءة والكتابة حتى مرحلة الاجتهاد.
ولقد شهدت حوزة السيد الشهيد هذه الناحية، فقد كانت تضم المهندس والمدرس وطالب الثانوية والمحامي، وهكذا.
3ـ وقد حاول السيد الشهيد تنظيم (الحوزة) إذ هناك بعض الفوضى او عدم التنظيم المضبوط، الأمر الذي تضيع معه الكثير من الجهود، ولذا وضع السيد الشهيد مشروع (الدورة) القاضي بتقسيم الدروس إلى سنوات دراسية، على ان يتم خلال ذلك امتحانات متناوبة وفق مقاييس معلومة ومحدودة وبالفعل تم افتتاح (دورة) من هذا القبيل على عهد السيد الحكيم وكان الشهيد يعطيها الكثير من دعمه الفكري والنفسي والمعنوي، الا أنها اغلقت بعد وفاة الحكيم رحمه الله وقد كان لذلك أبلغ الآثار المريرة في نفس السيد الشهيد.
4ـ شجع السيد الشهيد تلاميذ الحوزة على تشديد الروابط الاجتماعية والأسرية فيما بينهم وتجذير العلاقات النسبية وتوسيعها، محاولة منه رحمه الله لتكثيف الكتلة الحوزوية ورص صفوفها وجمع كلمتها وتوحيد ارادتها.
5ـ كان السيد الشهيد يحث تلامذته ومريديه ومحبيه على اقامة جسور العلاقات الفعالة مع جماهير الأمة وخاصة في الأوساط النجفية، وذلك بعد ما رأى ان هناك أياد خفية تعمل على زرع الحدود والفواصل المصطنعة بين الأمة والحوزة وكان البعثيون انشط من غيرهم في هذا المضمار.
6ـ تبنى السيد الشهيد نفسه مواقف عملية معروفة وقف بها إلى صف الأمة في مواجهة الطاغوت، وتصدى بقوة وعنف وشجاعة لأعداء الإسلام من الحكومات الجائرة، وخاصة حكومة البعث الكافر بعد مجيئها للحكم في 17/تموز/ 1968 وسوف نفصّل في هذه المواقف ان شاء الله تعالى، وهذه الممارسات بطبيعة الحال تقدم (المرجعية) خطوات عملاقة على صعيد توثيق الأوامر بينها وبين الأمة وتؤكد موقعيتها الموضوعية الاجتماعية في أوساط الجماهير.
7ـ ونظراً لما كتبه السيد الشهيد في قضايا العصر وهموم الأمة الإسلامية، بل هموم الإنسان كلها على ضوء الفكر الإسلامي، ولأنه رحمه الله رجل حوزوي من الطراز الأول، ولعمق ما طرح في هذا المجال ما آل إليه من نتائج باهرة. كل ذلك ساهم إلى حد كبير على تشجيع الطلاب الحوزويين على ورود هذا النوع من التفكير، وهذا اللون من الكتابة والطرح، الأمر الذي ادى إلى انفتاح (الحوزة) على الفكر المعاصر وعلى العالم وسبب انفتاح الأمة في الوقت نفسه على (المرجعية) وطلابها.
8ـ بعث الاهتمام الكبير من جديد في الوسط الحوزوي بالنسبة للكثير من الدروس والعلوم التي صارت شبه ثانوية أو مهملة، حيث الأولوية للأصول والفقه بحيث يستوعبان القسم الأكبر من الجهود والبذل وهكذا كلف تلاميذه باعداد دراسات معمقة وشمولية عن الأخلاق والتفسير، ومن البديهي ان مثل هذه الموضوعات تجعل طلاب (الحوزة) أقرب إلى مشاكل الأمة وهمومها وعلى تماس بالأوضاع التي يعيشها الإنسان المسلم وما يجب أن تفعله (الحوزة) في هذا الخصوص.
9ـ كتب رحمه الله في (علم الأصول) دراسات معمقة ووفق منهجية متقدمة، وادخل في هذه الدراسات حساب الاحتمالات، وضمنها العديد من الآراء المستحدثة، ومن البديهي ان اهل الاختصاص ادرى بالآثار التي سوف تترتب على الطرح الجديد للسيد الشهيد في هذا المجال، ولكن هناك اقبال شديد على دراسة تلكم الحلقات الثلاث، وهي اليوم منتشرة بين تلامذة الحوزة ولابد ان يكون ذلك لأسباب علمية ومنهجية وذوقية، مما يؤكد تميزها وتفردها ولو ببعض الخصائص.
مرجعية السيد الشهيد
بدأت تظهر مرجعية السيد الشهيد رحمه الله بعد وفاة السيد (محسن الحكيم) وقد كان لموقعه الفكري والنفسي في وجدان الشباب وقلوبهم الأثر الفعال في توجههم إليه، ولذلك ظهرت مرجعيته في بادئ الأمر في أوساطهم وصفوفهم، ثم اتسعت شيئاً فشيئاً، وذلك بعد ما لمست جماهير الأمة ان هذا العالم المفكر يمثل طموحاتها وأهدافها، خاصة بعد اكثر من موقف كان قد تفرد به رحمه الله تعالى رغم الظروف الصعبة والأجواء الخانقة التي كانت سائدة آنذاك.
يحدثنا أحد تلاميذه عن مرجعيته فيقول:
كان الإمام الشهيد يهدف إلى خلق مرجعية من نوع جديد.. مرجعية ليس عملها الافتاء والقضاء فحسب، بل مرجعية تمارس كامل صلاحيتها النابعة من فهم أطروحة ولاية الفقهية في الحكم مرجعية جديدة كل الجدة في بناءها الهيكلي وأحكام العلاقات الداخلية بين المرجع ووكلائه.. كان يربي وكلاءه على يده إذا صح التعبير، حتى تصبح علاقته بوكلائه كعلاقته بابنائه، علاقة الحب والود والتفاني، وليست علاقة الأوامر والتنفيذ.. وكان يشترط في وكالته العلم والجهاد والتقوى، والقابلية على العمل الاجتماعي، وبعد ان يضع الشخص المقصود تحت التجربة عدة مرات، بعدها يعطيه وكالة عنه لينقل افكاره في الفقه إلى الناس في تلك المنطقة التي يسكنها الوكيل.. كان الحصول على وكالته امنية يتمناها الكثير من علماء الدين والعاملين، وفي نفس الوقت كانت وكالته محنة وتكليفاً وواجباً لا يقوى على القيام به الا النزر القليل، حتى بات من المعهود ان الإمام الشهيد عندما يرسل وكيلاً إلى منطقة يصبح ذلك الوكيل ليس عالماً دينياً لتلك المنطقة حيث يؤدي الناس خلفه الفروض الإسلامية، لكن يصبح وفي زمن قصير قائداً اجتماعياً ومحوراً يدور الناس حوله..).
وقد كان البعثيون يتخذون من وكالة هذا العالم او ذاك للسيد الشهيد دليلاً لادانته بالعمل ضد السلطة، وانه حتماً وراء كل نشاط يقوم به شباب ذلك المسجد أو تلك الحسينية، ولذا كانت وكالته تهمه في دوائر الأمن العام في العراق وإشارة خطر.
الفصل الخامس: مواقف مشهودة
الموقف الأول
على أثر الأحداث التي تفجرت في (15 / خرداد /1384)هـ في إيران ووصول خبر قدوم الإمام (الخميني) إلى النجف الأشرف وتفاوت الرأي هناك حول استقبال الثائر الكبير وتأييده.. كان للشهيد رحمه الله دور بارز واتصالات مكثفة كي تستقبل المرجعية والعلماء والحوزة والأمة الثائر العملاق السيد (الخميني) دام ظله، ومما كان يقوله في تلك الفترة (فيما مضى ـ يقصد فترة ركود الحوزة ـ كان التحسس فيما يخالف الإسلام محصوراً بالأمور اللصيقة والجزئية، فكان الاستنكار يحدث لرفع صوت الراديو بالغناء مثلاً في الشوارع والأسواق المحيطة بصحن المشهد الشريف لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أما الآن فقد أصبح تحسس المرجعية والأمة على مخالفات الإسلام لسلوك الحكام في سياسة الأمة وارتباطهم بالمستعمر كما حصل في إيران)[37] ، واصل السيد الشهيد اتصالاته في النجف.. وتم انجاح استقبال الإمام (الخميني) في بغداد وكربلاء والنجف استقبالاً حافلاً وكبيراً في ذلك الوقت[38].
الموقف الثاني
اقترن التسفير الجماعي للجماهير العراقية إلى إيران في عام (1970) بمرض السيد (الخوئي) الذي كان في أحد المستشفيات ببغداد.. وقد سافر السيد الشهيد بنفسه إلى بغداد واجتمع (بالخوئي) داخل المستشفى، وقد تم الاتفاق في الوقت على الحيلولة دون تفسير طلبة الحوزة[39] وذلك حماية لها من التمزق التي هي غاية البعث في حينه من كل العملية، واصدر السيد الشهيد أوامره إلى الطلبة في نفس الوقت ضرورة التمرد على أوامر السلطة الجائرة إلا إذا حملوا حملاً إذ لا حيلة ولا قوة بعد ذلك.
الموقف الثالث
عندما شنت السلطة البعثية الغاشمة حربها ضد المسلمين الأكراد في عام (69 ـ 70) جمع السيد الشهيد خيرة تلاميذه متحدثاً عن مشاكل وأوضاع الأمة، تطرق إلى هذه الحرب الظالمة وطلب من هؤلاء التلاميذ ان يتحسسوا الآلام والمحن التي يعيشها شعبنا الكردي المسلم[40] ومن المعروف أن السيد الشهيد امتنع عن اعطاء فتوى في مقاتلة الأخوة الأكراد حيث طلب إليه البعثيون ذلك كما انه حرم على كل ضابط أو جندي المشاركة الفعلية بشكل وآخر بهذه الحرب، وأكد على ضرورة التخلص من هذا المأزق الشرعي.
الموقف الرابع
في عام (1972م) كانت الأوضاع في العراق تنذر بالانفجار، فالنظام الطاغوتي كان قد اثقل كاهل الشعب المحروم بالضرائب الباهضة، وكمم أفواه الناس بالحديد والنار، وصادر جميع الحريات بالقوة الغاشمة.. كل ذلك عرض النظام إلى الاهتزاز وكمحاولة منه لاستدراك وضعه المتزلزل، بعث عضو ما يسمى بالقيادة القومية، المدعو (زيد حيدر) لزيارة السيد الشهيد لعله في ذلك يخفف من نقمة الجماهير التي كان يعاني منها، وكان النظام الجائر بعقليته المتخلفة يتصور أنه بهذه الزيارة قد يكسب عطف السيد الشهيد او يثنيه عن مواصلة الجهاد المقدس، وفي لحظة لقاء مبعوث الحزب العميل (زيد حيدر) مع السيد الصدر، كان المبعوث المذكور قد ابدى عنجهية طاغيه، ظناً منه ان هذا قد يدخل شيئاً من الرعب في روع الشهيد الصدر وقد بدأ حديثه بمعاتبة السيد الشهيد لعدم زيارته ما يسمى بمجلس قيادة الثورة فرد عليه السيد بما معناه على العموم (يقول رسول الله إذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا نعم العلماء ونعم الملوك، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا بئس العلماء وبئس الملوك، ـ واستطرد الشهيد ـ إذا كنت أنت وحكومتك لك سلطان على أجساد الناس، فإن لي سلطاناً على ارواحهم وضمائرهم، فعليكم ان تعرفوا من أنتم ومن أنا ـ ثم عرج بحديث طويل عن دور علماء الإسلام في الجهاد ضد الاستعمار والغزاة مخاطباً المبعوث البعثي بالقول ان رجل الدين في اوربا غيره في الإسلام فلا تختلط عليكم التصورات وكونوا على حذر ـ وضرب له أمثلة قريبة في هذا الصدد، فذكره بالمجاهد عبد الحسين شرف الدين الذي حارب الفرنسيين، وبقائد ثورة العشرين الشيخ محمد تقي الشيرازي وغيرهما من مراجع الدين الإسلامي الذي ضربوا أروع الأمثلة في ميادين الجهاد، ثم تحدث الإمام الشهيد عن المظالم التي يقترفها حزب البعث بحق العراق وسرد له نماذج منها[41]، وخرج (زيد حيدر) من بيت السيد الشهيد وقد خاب ظنه بما كان يتوقعه من لقائه بالسيد المجاهد الجليل. والجدير بالذكر أن هذ المقابلة شاعت في وقتها بين الناس وصارت مدار حديثهم.
الموقف الخامس
سأل الإمام الشهيد من قبل مدير الأمن العام في بغداد عن تأييده وتعاطفه مع الثورة الإسلامية في إيران وقيادتها المظفرة، خاصة وان بغداد لم تعلن رأيها بعد، فأجاب السيد الشهيد (اني مرجع للمسلمين واتصرف كما يمليه علي ديني الإسلامي وموقعي القيادي في الأمة واني غير مرتبط بموقف حكومة ما ولا مسؤول أمامها عن تصرفاتي)[42].
هذه جملة مواقف سريعة وسنأتي على غيرها ان شاء الله تعالى وهي في محصلتها ومجملها تشير إلى ان السيد الشهيد كان يعيش قضية الإسلام والأمة في ضميره وفكره وإحساسه وانه عازم على النهوض بهذا المجتمع على أساس الشريعة المحمدية الغراء من أجل تطبيق حكم الله ورفعة الأمة.
الفصل السادس: الشهيد الصدر والبعث الكافر
عود على بدئ
بينا في الفصول السابقة ان السيد رحمه الله تعالى كان قد وضع بذرة العمل الإسلامي الأولى في العراق، سواء على صعيد الفكر او التنظيم والتوجيه, وعرفنا أيضاً أن السيد الشهيد عندما ترك عضويته الفعلية في التنظيم الذي وضع اسسه واركانه انما انصرف في القسم الأكبر من جهوده نحو (الحوزة العلمية) ولكن رغم ذلك لم يترك الإمام الشهيد مسألة الوعي الإسلامي سائبة، بل كان يرقبها من بعيد ويرصدها عن كثب، بل ويكتب لها، وكما قلنا ان مقدمة اقتصادنا في طبعته الثانية كانت تتصل بهذه المهمة، ولهذا الهدف. وقد كان البعثيون يؤكدون باستمرار ان السيد الشهيد وراء كل هذا النشاط الإسلامي الذي كان قوياً أو جارفاً آنذاك، وذلك على الرغم من ان المعلومات التي توفرت لدى أجهزتهم تؤكد بأن السيد الشهيد لم يعد يرتبط بأي تنظيم. وكانت عدة مشاهد توحى لهم بهذا التصور ولعل منها:
1- ان قطاع الشباب كان مجمعاً على تقليد السيد الشهيد وهو رحمه الله لم يطبع رسالته بعد، وأجهزة الأمن كانت على علم بذلك.
2ـ دليل الاستصحاب إذا صحّ التعبير، حيث تعلم هذه الأجهزة ان السيد الشهيد كان رائد هذه النهضة وباني أسسها.
3ـ الطرح الفكري الذي كان يواصله باستمرار، وما يحتويه هذا الطرح من مادة إسلامية ناضحة يمكنها ان تحرك الشباب.
4ـ بيت السيد الشهيد كان ملتقى فكرياً عامراً للشباب العاملين في سبيل الله والإسلام.
5ـ حوزة السيد الشهيد كان تضم خيرة الطلبة المتحركين. ومما بلغت الانتباه فيها هذا الخط الجديد من الرواد، (مهندس)، (مدرس)، (طالب جامعي).
6ـ مواقف السيد الشهيد نفسه وما انطوت عليه من رسالية صارمة لا تعرف التردد والضعف والهوان.
7ـ وأخيراً وليس آخراً.. الوشاة وأهل الحسد من الحاقدين على السيد الشهيد لسبب أو لآخر.
هذه الأسباب وغيرها كانت توحي للبعث الكافر بأن السيد الشهيد وراء ما تشهده الساحة العراقية من نشاط إسلامي وتحركات إسلامية.
وقد كان البعثيون على حق في تصورهم هذا، إذ ان السيد الشهيد كان رمز الحركة الإسلامية وفارسها بصورة غير مباشرة، وكان أملها المرتجى.
الاشاعة والتشهير
سجل البعثيون في قوائمهم السوداء اسم السيد (محمد باقر الصدر) باعتباره العدو الأول للحزب العميل، فلابد من تصفيته بشكل أو أخر، وقد اتجهوا أولاً إلى محاولة تحجيمه وتطويقه فأشاعوا بين الأوساط الحوزوية والدينية بأن السيد (محمد باقر الصدر) رجل حزبي، ولذا فان (الحوزة) في خطر والدين في خطر والإسلام في خطر!! وقد أراد البعثيون بذلك ان يقلصوا دور السيد الشهيد في (الحوزة) وبالتالي يعملون على ضرب مرجعيته التي بدت تلوح في افق المستقبل.
وقد جند البعثيون لهذه الحملة بعض الحاقدين فضلاً عن شرطتهم وأفراد حزبهم ولم يستخدموا الإشاعة الكلامية فحسب، بل راح بعضهم يكتب هذه التهم الباطلة ويبعث بها على شكل رسائل إلى المساجد والحسينيات والمكاتب والمدارس ولكن هذه الإشاعات كانت تصطدم بوعي الشباب الأمر الذي يزيدهم إصراراً على الالتفاف حول مرجعية السيد الشهيد، وعليه فقد سقط هذا الأسلوب الهابط بأيدي البعث الكافر ولم ينفعه بشيء على الإطلاق. وللحقيقة والتاريخ ان تلامذة السيد الشهيد ضربوا مثلاً رائعاً في الصمود والثبات والاخلاص فلم يعطوا اذنا لتلك الحرب النفسية الظالمة ولم يثنهم أي شيء من معاضدة السيد الشهيد رغم انهم حوربوا حتى بأرزاقهم.
والغريب هنا ان الحرب النفسية هذه امتدت وامتدت حتى شملت كتبه وفكره، فبعضهم يقول انها لا تنفع الإسلام والمسلمين بشيء ولو كان هذا (السيد) قد اهتم بالقرآن لكانت الفائدة أعظم وأكبر، وشن هذا البعض حملة ظالمة على كل من يطالع كتب السيد الشهيد بل وأمر بمقاطعته فكرياً وعدم الاقتراب منه لأن عقله مشبع بفلسفتنا واقتصادنا. وبعضهم يقول.. ان هذا الفكر فكر جرائد وصحف وليس هو ذلك الفكر العلمي العظيم خاصة وانه لا يمت بصلة إلى الفقه والأصول.
ولكن السيد صمد وانتصر، وفكره هو الآخر صمد وانتصر وخاب ظن كل منافق.
الاعتقال الأول (1972)
كان اعتقال السيد الشهيد الأول في عام (1972) ونظراً لمرضه لم يتجرأ على ايداعه السجن فأدخلوه المستشفى وقيدوه بالسلاسل الحديدية إلى السرير[43]، وقد منع الجميع من زيارته إلا من قبل خاله الشيخ (مرتضى آل ياسين) الذي التفت في حينه إلى شرطة الأمن المحيطين بالسيد الشهيد بعد خروجه منه قائلاً لهم (ان صاحبكم لعظيم)[44].
وشاع في وقته ان لقاء حصل بين السيد الشهيد ومدير أمن بغداد آنذاك، وقد سأله عن رأيه في الأحزاب الإسلامية، فأجاب بما معناه: اننا نؤيدها لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ولا يخفى ان في اعتقال السيد الشهيد احتجت جماهير شعبية غفيرة وخاصة في الرميثة وقد اطلق سراحه على أثرها.
نكبة: (1974) م
في عام (1974م) تعرضت الحركة الإسلامية في العراق لحملة ظالمة شرسة للغاية، اعتقل على اثرها المئات من طلائع الدعوة الإسلامية، وتعرضوا لشتى صنوف التعذيب والارهاب، حيث انتزعت الاعترافات بقوة الحديد والنار.
وكانت نتائج هذه الاعتقالات ان حكم الكثير من المجاهدين بمدد متفاوتة تتراوح بين المؤبد ولخمسة عشر عاماً، واعدم منهم خمسة من العلماء والمثقفين، وهم (الشيخ عارف البصري) والسيد (عماد الطباطبائي) و (السيد عز الدين القبانجي) و (الاستاذ حسين جلوخان) و (الاستاذ نوري طعمة).
لقد تركت هذه الحملة العدوانية على الحركة الإسلامية آثارها البليغة في نفوس كل الطلائع المؤمنة والجماهير التي ارتبطت بالقيادة الإسلامية المظفرة، وعلى أثرها تقاطرت الوفود على المراجع في النجف الأشرف تطالبها باتخاذ المواقف الحاسمة ضد هذه الاجراءات التعسفية بحق الإسلام ورجاله، وكان الإمام القائد (الخميني) موجوداً في حينها بالنجف الأشرف، وفي لقاء أحد الوفود مع الإمام القائد في خصوص هذه القضية قال: (يبدو أن هؤلاء ـ أي البعثيين ـ لا يفهمون لغة الكلام) رأيي يجب أن تزاولوا الكفاح المسلح، وفي لقاء آخر ذكر بأن بعث على المسؤولين البعثيين وافهمهم بأن هذه الأساليب ستجعل من نظرة الشعب العراقي إليهم كنظرة الشعب الإيراني إلى الشاه المقبور وأبيه.
أما بالنسبة إلى السيد الشهيد فقد تعرض للتهديد والاحتجاز[45]، وفي ظروف هذه المحنة صدر السيد الشهيد فتواه (بحرمة انتماء طلبة الحوزة الدينية إلى حزب الدعوة) ولقد أثير حول هذا الفتوى لغط كثير جهلاً أو تجاهلاً، والواقع ان السيد الشهيد بموقفه هذا ضرب مثلاً رائعاً في القدرة على المناورة السياسية والتكتيك النضالي، وهنا نحن نشير إلى جملة حقائق في هذا الخصوص.
1ـ ان السيد الشهيد وقبل ان يصدر هذه الفتوى كان راغباً في عدم انخراط طالب الحوزة في أي تنظيم حزبي، حتى يبطل أحد العلل التي قد يتذرع بها البعثيون في ضرب (الحوزة العلمية).
2ـ ان السيد الشهيد في هذه الفتوى لم يحرم العمل على غير الطالب الحوزوي، فيما كان البعثيون يجهدون للحصول على فتوى بهذه السعة وهذه الشمولية.
3ـ ان السيد الشهيد في هذه الفتوى لم يقدح بذات العمل الحزبي لا من حيث المبدأ ولا الفكرة ولا الطريقة.
4ـ ان السيد الشهيد لم يوجه أي لوم او قدح بأي طالب علم او عالم دين كان قد مارس العمل الحزبي من قبل، والبعثيون كانوا يرغبون بذلك كي يستخدمها البعثيون ورقة رابحة في اعدام الشهداء الخمسة، ولكن خابت آمالهم.
5ـ ان السيد الشهيد بهذه الفتوى سد نافذة التهمة الأولى التي كان البعثيون يلاحقونه بها، الا وهي تهمة (الحزبية) بل سد باب التهمة التي كان الأعداء والحساد والحاقدون والجهلة يروجونها بحقه وحق تلامذته.
من كل هذه الحقائق نفهم بأن خطوة السيد الشهيد لم تكن عن ضعف أو جبن أو خوف، بل كانت تدبيراً محكماً أقدم عليها عن سابق إدراك وتصور.
ورغم كل هذه الضغوط والأجواء الخانقة التي كان يعانيها السيد الشهيد، فان بعث على زيد حيدر وابلغه استنكاره لهذه الجريمة بحق الإسلام وعلمائه وشبابه.
الاعتقال الثاني (1977م)
في عام (1977) شهد العراق الجريح نهضة شعبية عارمة، وذلك بمناسبة المسيرة السنوية في النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة بذكرى اربعينية الإمام الحسين عليه السلام، وعلى اثر الصدام الذي حصل بين جلاوزة البعث الحاكم والجماهير الإسلامية الثائرة تم اعتقال (13000) مجاهد من مختلف أبناء العراق، وقد مورس بحق المعتقلين أشد صنوف التعذيب، ولذا استشهد العديد من شباب الإسلام، ومنهم الشهيد السعيد (عبد الوهاب الطالقاني)، وقد كان السؤال الرئيسي بعد التحقيق مع كل مجاهد آنذاك (من تقلد؟ وما هي علاقتك بالصدر؟) وكاتب هذه السطور سمع باذنه المخابرات التلفونية بين ضابط التحقيق ووزير الداخلية وكانت تدور حول اسمين (السيد الشهيد) وتلميذه البر حجة الإسلام محمد باقر الحكيم، حيث كان الضباط يرددون هذين الإسمين، ولم أكن أميّز فحوى الكلام في وقتها لاختلاطه بأصوات المعذبين، وأصداء الأسواط وأجواء الإرهاب التي كانت تسود غرفة التعذيب العجيبة التي تعيق الانتباه والتركيز.
تعرض الشهيد العزيز إلى الاعتقال في هذا المرة أيضاً[46] وطلب اليه ان يبعث ببرقية إلى الجهات المسؤولة ـ أي البكر وصدام ـ يؤيدهم فيها على اجراءاتهم هذه، فبعث رحمة الله عليه ببرقية من طراز آخر، ولكن البعثيين مزقوا البرقية، ورغم ذلك لم يظهر فيها أي تأييد او اسناد بل بالعكس كانت تتضمن مطالبة الدولة باحترام الشعائر الإسلامية، كما انه طلب إلى الجماهير ان تتقيد بالاسلام في مثل هذه المناسبات وليس في ذلك أي ضير بل هو نوع من التوجيه الديني والسياسي من خلال الأعداء، وتلك براعة سياسية رائعة.
وللحقيقة والتاريخ ان نذكر ان السيد (محمد باقر الحكيم) كان شريك الشهيد في محنته بتلك الفترة العصيبة، وقد ضغط عليه البعثيون لكي يقول شيئاً بحق أنصار الحسين ـ عليه السلام ـ وتعرض في الأثناء لتعذيب شديد، ولكنه أبى بقوة ايمانية حديدية الأمر الذي سبب ايداعه السجن حيث حكم عليه بالمؤبد.
عاش السيد الشهيد بعد هذه الفترة مهموماً، ذلك ان الذين اعدموا على اثر هذه النهضة او الانتفاضة من أبناء جلدته ومن محبيه، وان السيد (محمد باقر الحكيم) الذي حكم عليه بالمؤبد انما هو عضده الأيمن على حد تعبيره في مقدمة كتابه (اقتصادنا)، فكيف لا يهم ولا يحزن، وفعلاً لوحظت على السيد الشهيد علامات التعب منذ ان حلت تلك الكارثة في الشعب المسلم بالعراق إلى ان اختاره الله إلى جواره.
الاعتقال الثالث (1979)
وكان الاعتقال الثالث حزيران (1979) ولكن الانتفاضة الشعبية العارمة والمظاهرات الصاخبة التي عمّت أرجاء العراق والخليج وإيران ولبنان والباكستان، اجبرت السلطة الغاشمة على إطلاق سراحه في نفس اليوم[47] ومن المعلوم ان مظاهرات الاحتجاج في مدن العراق كالكاظمية والنجف وبغداد وغيرها كانت قد أبرزت اسم (السيد الشهيد) كقائد جماهيري، إذ هتفت الجماهير باسمه (عاش عاش الصدر.. والدين دوماً منتصر) ولم تكن جماهير العراق تغفل من ان تقرن قائد الأمة الإسلامية بمفجرة الثورة الإسلامية في العراق، ولذلك هتفت (عاش الخميني والصدر، الإسلام دوماً منتصر)، وسنأتي على تفصيل الحديث في هذا الصدد ان شاء الله تعالى.
الاحتجاز والاقامة الجبرية
بعد ان اطلق سراح الإمام الشهيد فرضت عليه الإقامة الجبرية في بيته من حزيران (1979) إلى نيسان (1980).
وفي فترة الاحتجاز كان السيد الشهيد على صلة مستمرة بالعاملين، تصله كل الأنباء كما تتسرب منه التوجيهات عن طريق احد تلاميذه وبعض المقربين اليه ممن لم يغادر دار السيد الا بعد اعتقاله[48]، وسنتطرق إلى هذه النقطة في الصفحات المقبلة.
الاعتقال الرابع
وأخيراً يعتقل السيد الشهيد في 5/4/1980 في السبت، ليقتل على يد العصابة البعثية الكافرة في يوم الثلاثاء (8/4/1980)، ويدفن في النجف الأشرف فجر يوم الأربعاء (9/4/1980)[49] وذهب الإمام ليترك الأمة في أحلك ظروفها وأصعب مراحلها، ولكنها ستهتدي بفكره وجهاده حتى النصر المؤزر ان شاء الله.
الفصل السابع: الشهيد الصدر يفجر الثورة الإسلاميّة في العراق
اليوم في العراق ثورة
لا يرتاب الإنسان المراقب للأوضاع التي تجري في العراق من ان هناك (ثورة).. ثورة إسلامية خالصة، والدلائل واضحة وبينة:
1ـ مزاولة الكفاح المسلح وقد استطاع المؤمنون ان يمارسوا هذا اللون من الكفاح، وقد اعترف بذلك البعثيون بما صدر عنهم من مواقف وحشية تجاه المؤمنين والذي اختتم باصدار حكم الاعدام على كل منتمي إلى حزب الدعوة لهذا الحكم أثر رجعي.
2ـ اعطت الحركة الإسلامية منذ عام ونصف أكثر من 10.000 شهيد، وقد جاء ذلك من خلال صراعها العنيف مع الحكم البعثي في العراق.
3ـ والآن تضج السجون البعثية في العراق بمئات الألوف من الشباب المؤمن ولا يعرف مصير العشرات منهم.
4ـ والعديد من المجاهدين العراقيين يرابطون اليوم على الحدود الإيرانية العراقية للقتال إلى صف الحق ضد الباطل.
5ـ وفي هذه الأيام تسعى الدوائر الاستعمارية لإعداد البديل لصدام التكريتي خوفاً من ان تستلم القوى الإسلامية في العراق زمام الحكم.
6ـ والحركة الإسلامية في العراق اليوم لها قواعدها التي امتدت وامتدت حتى غطت الساحة كلها، ولعل في اعتراف الأسرى العراقيين ما يدل على ذلك وبعد كل هذه الحقائق الملموسة التي يعرفها كل أبناء الشعب العراقي.. ماذا نفهم يا ترى؟!
الذي نفهمه ان هناك ثورة.. ثورة إسلامية شعبية تبغي الإطاحة بالطاغوت وتسعى لاقامة حكم الله على أرض العراق.
هذه الثورة من الذي فجرها؟! الجواب في السطور التالية:
السيد الشهيد قبل الثورة الإسلامية الإيرانية
قبل ان ينتفض الشعب المسلم في إيران ويثور على الطاغوت الشاهنشاهي، حيث هبت رياح هذه الثورة على كل بقاع المنطقة وخاصة العراق.. قبل كل هذا نقول:
ان السيد الشهيد وكما ذكرنا سابقاً قام بما يلي:
1ـ أسس نواة التحرك الإسلامي على الصعيد التنظيمي.
2ـ طرح الفكر الإسلامي متدرجاً مع حاجة الحركة الإسلامية وفق مبادئ التطور الذاتي والموضوعي للحركات السياسية (عقيدة) (نظام) (تصورات حركية) وغيرها.
3ـ وضع نواة وجود (حوزوي) جديد ذي تطلعات اجتماعية ثورية يريد تغيير الأمة وفق معايير الإسلام.
4ـ رعاية الحركة الإسلامية عن كثب ومن بعد، وذلك بالطرح الفكري المستمر وبالاجابة على الاسئلة المطروحة وغيرها.
5ـ ارسال الممثلين ـ الوكلاء ـ إلى بعض المناطق للقيام بالدور الديني الاجتماعي المطلوب بين صفوف الأمة.
الحركة الإسلامية العراقية قبل الثورة
اما الحركة الإسلامية فهي الأخرى كسبت مهارة جهادية إلى حد ما، كما انها عرفت إلى حد كبير في صفوف الأمة: وجربت حياة السجون والملاحقة والتعذيب والهجرة، وراح الوعي السياسي يدب في أوساطها، ولعل انتشار ظاهرة الحجاب في الجامعات وكذلك عدد المصلين وقلق الحكومة البعثية أزاء ذلك دليل قاطع على ما نقول، وكان التواصل موجوداً بين السيد الشهيد والفصائل المجاهدة…
في بداية الثورة الإسلامية
وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران ادرك السيد الشهيد ان رياح هذه الثورة سوف تهب على العراق فقام بما يلي:
1ـ بعث السيد الشهيد رسالة مطولة إلى الإمام الخميني وهو في باريس يعلن عن تأييده المطلق للثورة وللإمام، وبهذا يكون السيد الشهيد قد اعلن عن موقفه الايجابي من الثورة وقيادتها، وبذلك يكون قد ادان اجراءات العراق التعسفية ضد الامام وحركته.
2ـ صار بيت الشهيد مقراً للنقاش والمحاورة بين السيد الصدر وجموع المجاهدين التي أخذت تتقاطر على السيد الشهيد، وكانت النتيجة التي يصل إليها الجميع أن ثورة الإمام الخميني ثورة إسلامية ويجب مساندتها بكل غال ورخيص.
وانتصرت الثورة
هنا قفز السيد الشهيد خطوات أكبر على صعيد التخطيط والعمل حيث قام بما يلي:
1ـ حرم السيد الشهيد الانتماء إلى حزب البعث، وقد استدعى من قبل الجهات المتسلطة بسبب هذه الفتوى فكان جوابه (ساخراً ـ انها فتواكم التي امرتم بها بفصل الدين عن السياسة حيث قلتم لا نسمح لحاكم ان يتدخل في شؤون العالم ولا نسمح لعالم ان يتدخل في شؤون الحاكم لذلك فقد افتيت بان قلت للمسلمين لا تنتموا إلى سياسة اولئك وحكمهم، ولم اسمح لاتباع الإسلام بان ينتموا إلى أتباع الحاكم الجائر الظالم من أمثالكم)[50].
2ـ قام السيد الشهيد بتعبئة جماهيرية وذلك ان بعث بتلاميذه إلى كافة مناطق العراق والحضور في وسط الأمة وخلال فترة شهرين اتجه اكثر من (30) مبلغ ديني من تلاميذ السيد الشهيد واخذوا مواقعهم التوجيهية في وسط جماهير العراق.. وكمثل بسيط على حجم النشاط التبليغي نذكر ان ستة من وكلاء السيد الشهيد استقروا في شارع واحد من شوارع مدينة الثورة في بغداد[51].
3ـ ارسل السيد الشهيد برقية رائعة إلى الإمام الخميني يعلن فيها عن تأييده المطلق له حيث جاء فيها (.. وانا من نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة ونضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير..)[52] وكانت تعني هذه البرقية خلق حالة من التطلع إلى حكم إسلامي في العراق.
4ـ طرح السيد الشهيد فكراً إسلامياً جديداً يتعلق بطريق الثورة والتحولات الاجتماعية عن طريق تفسيره للآيات القرآنية المتعلقة بسنن التاريخ وذلك في محاضرات علنية على المئات من علماء الدين، وقد اتخذ من ذلك منبراً علنياً للاطاحة بحكومات الطواغيت.
5ـ ارسل على قيادة الاسلاميين العاملين وطرح عليهم فكرة الثورة للاطاحة بالحكم الجائر واقامة الحكم الاسلامي، وطلب اليهم وضع كل طاقاتهم تحت قيادته.. وكان ذلك.
6ـ بعث بعض تلاميذه الأعزاء ومنهم السيد محمود الهاشمي إلى خارج العراق ـ إيران ـ بالخصوص للتنسيق السياسي ولتعبئة الطاقات الموجودة خارج العراق.
أسبوع الوفود الشعبية
لقد بلغت الإمام الخميني في إيران أنباء تقول:
ان السيد الصدر يواجه ضغوطاً من حكومة البعث التكريتي، وربما يفكر بالهجرة من العراق وحيث ان الإمام الخميني قد تحمل مهمة قيادة العالم الإسلامي، فقد ابرق للسيد الشهيد على الفور[53] يطلب إليه البقاء في النجف الأشرف لحماية الحوزة ورعاية شؤونها، وقد أجاب السيد الشهيد الإمام القائد ببرقية مطولة أكد فيها للإمام عن عزيمته للبقاء في العراق شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة إزاء الأمة والكيان العلمي للنجف الأشرف.
وفور انتشار اصداء هذه البرقية في أوساط الشعب العراقي، استغل وكلاء السيد الشهيد ذلك فأقبلوا مع جموع الشعب على شكل وفود جماهيرية ضخمة من مختلف مدن العراق، وازدحمت على دار السيد الشهيد تعرض عليه وفائها له والإخلاص لحركته، والتضحية في سبيل الإسلام الذي يحمل رايته وتطلب منه عدم مغادرة العراق[54]، وقد أكد السيد الشهيد لهذه الوفود بأنه معها ولم يتركها، وقد كانت طبيعة اللقاءات تشير إلى ان السيد الشهيد يريد الاطاحة بحكم الطاغوت، وظهرت بوادر واضحة بأن السلطة تريد اعتقال السيد ولعل اعتقاله قد يطول وقد يعقبه ما يعقبه، ولذا اتفق السيد الشهيد مع العناصر الفعالة في العراق على الخروج بتظاهرات شعبية فور اعتقاله، وقد حدث ما كان متوقعاً، ففي 17 / رجب ـ 1979 تسورت دار السيد الشهيد بسلطات الأمن العراقي واعتقلته.
وعلى اثر الاعتقال الظالم انفجرت الأوضاع في العراق، إذ حصلت تظاهرات شعبية في النجف وبغداد وبعقوبة والخالص والفهود، وذلك بعدما سربت خبر اعتقال اخته الشهيدة (بنت الهدى)، ولذا لم تمضي على اعتقاله خمس ساعات حتى اطلق سراحه.
ومنها بدأ الكفاح المسلح يأخذ طريقه وتفجر بشكله الواسع على أثر الاعتقال الأخير الذي اعقبه الاستشهاد العظيم وما يزال إلى الآن حتى تحقيق النصر الالهي ان شاء الله.
الفصل الثامن: الشهيد الصدر والثورة الإسلامية
تمهيد سريع
لموقف السيد الشهيد من الثورة الإسلامية آثار كبيرة وخطيرة. سواء كان هذا الموقف سلبياً أو ايجابياً. والأسباب واضحة جداً. فان السيد الشهيد من مشاهير الفكر الإسلامي، بل ألمَعهُم في الأوساط التي تهتم بقضايا الثقافة الإسلامية والإنسانية. ولانه من المراجع الذين يملكون رصيداً عريضاً من المقلدين وخاصة على صعيد الشبيبة المؤمنة، فضلاً عن كونه المؤسس الحقيقي للحركة الإسلامية في العراق، وعليه فان لنوعية موقفه آثار مهمة وانعكاسات لها وزنها وثقلها.
وقد كان السيد الشهيد يرقب الثورة بكل أحاسيسه ومشاعره وهواجسه، ويتتبع تطوراتها خطوة خطوة، ويتحرك اتجاهها بلحاظ المراحل التي مرَّت بها. ولم يكن رحمه الله يبالي او يصغي لأراجيف المشككين ولا لتهديدات الأعداء والبعثيين.
ومواقف السيد الشهيد من الثورة وقيادتها اتخذت أكثر من صيغة وأكثر من طابع.. ذلك ان مواقفه كانت:
أ ـ الاعجاب والتقدير.
ب ـ التأييد المطلق.
ج ـ التسديد والتنظير.
ولنأخذ كل موقف على حدة من خلال الوقائع والاحداث التي شهدها كل من عاش احداث الثورة وتطوراتها.
الإعجاب والتقدير
ابدى السيد الشهيد اعجابه الكبير بالثورة وشعبها وقائدها منذُ الأيام الاولى، فبعد ان هاجر الإمام القائد (الخميني) من النجف الأشرف إلى (فرنسا) ليقود المعركة المقدسة من هناك. بعث اليه السيد الشهيد ببرقية طويلة سطر فيها تقديره العظيم للنهضة المباركة بقيادة المرجعية الرشيدة.
جاء في الرسالة التاريخية (… ان المبارزة الشريفة قد حققت مكسباً كبيراً حينما أفهمت العالم كله بخطأ ما كان يتصوره البعض من أن الإسلام لا يبرز على الساحة الا كمبارز للماركسية وليس من همه بعد ذلك أن يبارز الطبق الآخر)[55] وينطلق السيد الشهيد في اعجابه هذه ليس من التجربة الحالية، بل من تجارب سابقة خاضها الشعب الإيراني البطل. وفي ذلك يقول (… ونحن إذا لاحظنا مسيرة هذا الشعب النضالية خلال الفترة المنظورة من هذا القرن. وجدنا انه خاض بكل بطولة وايمان عدداً من المعارك الباسلة في سبيل الحفاظ على كرامته وتحقيق ما آمن به من طموحات خيرة وأهداف عالية. فمن قضية التبغ التي استطاع فيها هذا الشعب العظيم ان يكسر الطوق الذي اراد حكامه ومخدوموهم المستعمرون ان يطوقوا به وجوده، إلى قضايا المشروطة التي قاوم فيها الشرفاء الأحرار من أبناء هذا البلد الكريم ألوان التحكم والاستبداد.. إلى الممارسات الفعلية لهذا الشعب المكافح التي قدم من خلالها حجماً عظيماً من التضحيات ولا يزال يقدم وهو يزداد يوماً بعد يوم، إيماناً وصموداً وتأكيداً على روحه النضالية)[56].
التأييد المطلق
وعندما انتصرت الثورة المقدسة واستلم الشعب المسلم الحكم بقيادته الرشيدة بادر السيد الشهيد بارسال برقية إلى الإمام (الخميني) يعلن فيها عن تأييده المطلق للثورة الإسلامية. هذا ما تكشف عنه البرقية التاريخية التي بعث بها السيد الشهيد إلى الإمام.
(انني اكتب اليكم في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ امتنا الإسلامية لأعبر عن اعتزاز لاحدّ له بما حققه المسلمون من انتصار باهر بقيادتكم الرشيدة، إذ استطعتم ان تقدموا اطروحة الإسلام للعالم كله كبديل منقذ عن الحضارتين المتصارعتين يكفل للبشرية سعادتها وكرامتها. وبما حققه الشعب الإيراني العظيم بقيادتكم البطولية من ملاحم النصر التي كان على رأسها تطهير الأرض الطيبة من شبح الطاغية واستعادة الأمة لارادتها وكرامتها، وبما حققته الروحانية بقيادتكم المرجعية من تلاحم فريد ووحدة روحية وفكرية وعملية لم يسبق لها نظير في تاريخ علماء الإمامية، وهذه الوحدة هي سلاح الشعب والضمان الأكيد لقوته وانتصاره، وإنا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير ونبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى ان يديم ظله ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم..[57].
إن هذا التأييد الذي بدر من السيد الشهيد لم يكن بالأمر الهين والشيء السهل في ظل الظروف الخانقة التي كان يتعرض لها من قبل الحكومة الكافرة، وكانت بمثابة الضوء الأخضر للشعب المسلم في العراق لإعلان تأييده للثورة الإسلامية في إيران، وفعلاً وعلى أثر ذلك خرجت المظاهرة الأولى من جامع الخضراء في النجف الأشرف، تضامناً مع الثورة الإيرانية حيث قمعها البعثيون بقوة، وقد قيل في وقتها (ان جماعة الصدر خرجوا بمظاهرة تأييد للخميني)، وهو صحيح، لأن البرقية كانت إشارة من السيد الشهيد في هذا الخصوص.
التسديد والتنظير
لم يكن السيد الشهيد سياسياً فحسب، بل كان فكرياً، فمنذ الأيام الأولى التي انطلقت فيها الثورة أخذ السيد الشهيد يقدم الزاد الفكري للثورة ويعرض على قيادتها أفكاره وتصوراته، ويقدم للشعب المسلم توجيهاته السياسية، القيمة التي لو نظرنا اليها بعين الدقة لوجدناها تسديداً رائعاً لهذا الشعب في جهاده وسيرته، ففي الرسالة التاريخية التي بعث بها إلى قائد الأمة وهو في فرنسا بيّن للشعب الإيراني المسلم الشرط الأساسي في ضمان انتصاره الإسلامي، حيث اكد بأن هذا الهدف الكبير لا يمكن ان يتحقق الا بالمزيد من الالتفاف حول المرجعية الرشيدة مشيراً إلى ان التجارب التي مر بها هذا الشعب تؤكد هذه المقولة وتسندها فضلاً عن سندها الفكري الواضح (… ان الشعب الإيراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحية ومرجعيته الدينية الرشيدة التحاماً كاملاً. واستطاع هكذا ان يحول الشعار الذي نادى به إلى حقيقة، وما من مرة غفل فيها هذا الشعب المجاهد عن هذه الحقيقة او استغفل بشأنها الا وواجه الضياع والتآمر…)[58].
وفي مجال التسديد والتنظير يقول الإمام في رسالته الانفة أيضاً (…ان المبارزة الشريفة لكي تضمن وصولها إلى هدفها الإسلامي لابد ان تتوفر في ظلها نظرة تفصيلية واعية وشاملة لرسالة الإسلام ومفاهيمها وتشريعاتها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وبقدر ما تتوافر من أساس فكري ورصيد عقائدي للمبارزة، هذه النظرة التفصيلية التي تميّز المعالم الفكرية للهوية النضالية التي تكسب المبارزة القدرة أكثر فأكثر على ممارسة التغيير وتحقيق أهدافها الإسلامية وحماية شخصيتها العقائدية من تسلل الآخرين، وهكذا نرى ان المبارزة الشريفة التي تقود الشعب الإيراني المسلم في كفاحه مدعوة اليوم أكثر من أي يوم مضى…) ان تنظر بعين إلى الحاجات الفعلية لمسيرتها وتنظر بعين اخرى حاجاتها المستقبلية وذلك بان تحدد معالم النظرة التفصيلية من الان فيما يتصل بايديولوجيتها ورسالتها الاسلامية الشريفة. وكما انها مرتبطة في النظرة الأولى إلى الحاجات الفعلية للمسيرة وتقييمها وتحديد خطواتها بالمرجعية الدينية الرشيدة التي قادت كفاح هذا الشعب منذ سنين، لأن المرجعية هي المصدر الشرعي والطبيعي للتعرف على الإسلام وأحكامه ومفاهيمه…)[59].
وقد يتصور البعض ان هذه مجرد توجيهات بسيطة وعادية!! ولكن الواقع على خلاف هذا التصور الساذج البسيط، فمنذ الشرارات الأولى للثورة حاولت القوى الوطنية والقومية استلام المبادرة وعزل المرجعية، ومن هنا جاء تحذير السيد الشهيد مذكراً الشعب المسلم بتجاربه السابقة كما ان الكثير من الناس ولأسباب متباينة كانوا يتسألون في الأيام الأولى من عمر الثورة عن برنامج القيادة الجديدة واطروحتها في إدارة المجتمع والحكم!! ومن هنا ندرك عمق الوعي للسيد الشهيد وقدرته على استباق الأحداث.
ويصل السيد الشهيد الذروة في هذا الميدان عندما يطرح الخطوط العريضة لدستور الجمهورية الإسلامية، وقد ارسل نسخته الخطية إلى الإمام (الخميني) بيد أحد تلامذته حيث طبعت أخيراً على شكل كراس مستقل بعنوان (لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران)، وقد بدأها بمقدمة رائعة عن الدولة في نشأتها وأصلها مشيراً في الأثناء إلى جهود الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بصدد تأسيسها وتكوينها[60].
والسيد الشهيد بهذه الخطوة قام بعمل جبار لا يفهم أهميته إلا القلة النادرة، فنحن نعلم أن البعض إذا لم يكن يشكك بأن الإسلام نظام اجتماعي كامل، إلا أنه كان يشك بالقدرة على تنظير هذا النظام على شكل دستور، بل ان (الدستور الإسلامي) اصبح من المشكلات الكبيرة التي تهمّ المفكرين الاسلاميين كتب بعضهم في ذلك. ومنهم المرحوم العلامة (أبو الأعلى المودودي).
ولاحظوا معي التواضع الرائع للسيد الشهيد عندما يقدم أفكاره في هذا الصدد باعتبارها مقترحات لخدمة الثورة وبوصفها (…اقتراحات نظرية قابلة للدرس والتطبيق وتلقي ضوء اسلامياً على الموقف)[61] والسيد الشهيد في ذلك لا ينطلق من ضرورات أخلاقية فحسب بل من تصورات فكرية إذ يقول رحمه الله في صدد أحكام الدستور (… نتحدث .. ببضع كلمات قد نلقي ضوء في هذا المجال وتساعد على طرح افكار بمستوى مفاهيم الإسلام وافتراضات قابلة للتطبيق إسلامياً التأكيد على هذا الامام المجاهد الذي رفع هذه الراية ـ راية الجمهورية الإسلامية ـ واستطاع أن يحقق لها النصر هو صاحب الكلمة العليا وسيد الموقف الفصل بشأنها..)[62].
المواكبة المستمرة
لقد كان السيد الشهيد يواصل مواقفه الإيجابية من الثورة ويسهم قدر الإمكان في تسديدها ودعمها بأي شكل تسمح به ظروفه، فها هو مثلاً يخاطب الشعب الإيراني في احدى المناسبات قائلاً (اني اشعر باعتزاز كبير يغمر نفسي وأنا أتحدث إلى هذا الشعب الإيراني المسلم الذي كتب بجهاده ودمه وبطولته الفريدة تاريخ الإسلام من جديد، وقدم للعالم تجسيداً حياً ناطقاً لأيام الإسلام الأولى بكل ما زخرت به من ملاحم الشجاعة والإيمان)[63] ولم يغب عن ذهن المفكر الإسلامي الشهيد ان يواكب الشعب الإيراني وهو يخوض جولته الانتخابية. فقد خاطبهم في احدى رسائله الشريفة جاعلاً مشاركتهم في الانتخابات عملاً عبادياً وواجباً مفروظاً (.. ولاشك إنكم باختيار الجمهورية الإسلامية منهجاً في الحياة واطاراً للحكم تؤدون فريضة من اعظم فرائض الله تعالى وتعيدون إلى واقع الحياة روح التجربة التي مارسها النبي الأعظم وكرس حياته من أجلها وروح الأطروحة التي جاهد من أجلها الإمام أمير المؤمنين، وحارب لحسابها المارقون القاسطين وروح الثورة التي ضحّى الإمام الحسين آخر قطرة من دمه الطاهر في سبيلها…)[64].
وغداة التصويت على مشروع الدستور تحدث السيد الشهيد إلى الشعب البطل مذاكراً إياه بمسؤوليته العظيمة إذ (بحمله لهذا المنار وممارسته مسؤوليته في تجسيد هذه الفكرة وبناء الجمهورية الإسلامية يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه فحسب بل كقاعدة للاشعاع على العالم الإسلامي وعلى العالم كله..)[65] وعندما حصلت بعض الاضطرابات بفعل الدسائس التي كان الاستعمار وعملاؤه يحوكونها ليل نهار في ربوع الجمهورية الفتية، ارسل السيد الشهيد برقية إلى ذوي الشأن يوصيهم بضرورة المحافظة على وحدة الصف بظل القيادة الشرعية التي تجسدت في الإمام القائد.هذا هو السيد الشهيد، لم يكن موقفه من الثورة مجرد عاطفة عابرة بل ساندها بقلمه وفكره وروحه ومشاعره.. ساندها في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ولم يضع في حسابه أي شيء سوى مرضاة الله تعالى. وقد كان ذلك أحد الاسباب التي كلفته حياتهُ الشريفة العزيزة.
الفصل التاسع: السيد الشهيد والإمام الخميني
قبل ثمانية عشر عاماً للسيد الشهيد رأي بالإمام الخميني قبل الثورة الإسلامية وقبل ذلك بكثير، رأيه هذا مسجل في وثيقة جاهزة إلى اليوم، إنها الرسالة التي بعث بها إلى أحد تلامذته في إيران حيث يتحدث فيها عن الإمام القائد أبان انتفاضة (15خرداد) الشهيرة.
يقول السيد الشهيد (… وأما بالنسبة إلى إيران فلا يزال الوضع كما كان، والسيد الخميني مبعد في تركيا من قبل عملاء اميركا في إيران، وقد استطاع السيد الخميني في هذه المرة ان يقطع لسان الشاه الذي كان يتهم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر، لأن خوض معركة ضد اعطاء امتيازات جديدة للاميركان المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم أن يصفها بالرجعية والتأخر…)[66].
هذا هو رأي الشهيد الرابع السيد الصدر في قائد الثورة الإسلامية قبل ثمانية عشر عاماً. رأي ينم عن تقدير عظيم واعجاب كبير بالإمام القائد ودوره في التاريخ الإسلامي المعاصر. هذا في وقت كان فيه الوعي الاسلامي بالعراق قاصر عن فهم النهضة الخمينية آنذاك ولم تجد فيه هذه النهضة الأذن الصاغية لدى الكثير من العلماء والمفكرين وأصحاب المقامات الدينية!! هو هو رأي الشهيد في الإمام الخميني وقد كان عمره الشريف لا يتجاوز العقد الثالث او يشارفه. فكم كان على اتصال وثيق بالحركة الخمينية اذن؟ او كم كان يراقبها ويرصدها؟!
القيادة المطلقة
وعندما استطاع قائدة الأمة الإسلامية تحطيم عرش الطاغية المقبور واستلم الإسلام الحكم من خلال جدارة رائعة ابداها هذا العلوي الرمز، اقر السيد الشهيد بقيادته المطلقة. هذا ما يظهر من ذيل البرقية التاريخية التي بعثها إليه غداة الانتصار الاسلامي الساحق (…وانا إذ نتطلع إلى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة ونضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، نبتهل إلى المولى سبحانه وتعالى ان يديم ظلكم ويحقق املنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم)[67] ليست هذه الكلمات تعبيراً مزاجياً أو فورة عاطفية او اعجاب انفعالي، إنما هي كلمات مرجع من الطراز الرفيع يزن كلماته بميزان من ذهب خاصة في مجال هو من أخطر المجالات، فقيادة الأمة مسألة حساسة للغاية تستوجب الدقة بالموقف إلى أبعد الحدود على الصعيد الإسلامي.
ويكرر السيد الشهيد هذا الرأي أكثر من مرة وخاصة في اطروحته عن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.
امتداد النبوة والإمامة
ويمضى السيد الشهيد في تصوراته الفريدة عن الإمام قائد الثورة فيضعه على امتداد الحركة النبوية عبر مسيرتها المظفرة بواسطة الأئمة الهداة والمراجع العظام، ولكن باعتبار خاص ذلك إن هذا العلوي الرمز حقق ما كان الأنبياء يصبون إليه والأئمة يعملون عليه والمراجع يجاهدون في سبيله بشكل وآخر.
إنهُ يقول (… ولم يكن الإمام الخميني في طرحه لشعار الجمهورية الإسلامية إلا استمراراً لدعوة الأنبياء وامتداداً لدور محمد وعلي ـ عليهما السلام ـ في إقامة حكم الله على الأرض)[68].
وبذلك اعطى السيد الشهيد للإمام القائد موقعه العلمي والجهادي والتاريخي بالوزن الذي يتناسب مع عمله الانقلابي الكبير.
الأبوة الروحية
وتنكشف هنا علاقة السيد الشهيد بالإمام الخميني عندما تدخل نطاقها الوجداني وأبعادها العاطفية.. تنكشف على مستوى الذروة وتأخذ كامل أوجها الإمام الخميني بالنسبة للسيد الصدر أب روحي، أب معنوي، أب يشكل مسنداً روحياً ومعنوياً لابنائه ومحبيه ورواده.
ففي البرقية الجوابية التي بعثها الشهيد السعيد إلى قائد الثورة عندما طلب إليه البقاء في النجف الأشرف .. جاء ما يلي (…تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت أبويتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف..)[69].
وفي البرقية التي أرسلها عن طريق المخابرة التلفونية من إيران والتي اذيعت في (راديو إيران القسم العربي) إلى الإمام القائد، رداً على استفساره عن مصيره وصحته، في هذه البرقية يشير السيد الشهيد إلى أن إمام الأمة يحمل اتجاهه هذا الشعور الأبوي الطافح بالرعاية فقد جاء في مقدمتها (.. اشكر لكم تفقدكم الأبوي..)[70] ولقد قالها السيد الشهيد يوم كان سجيناً في بيته لا يرى أحد ولا يراه أحد كما ذكرت البرقية المذكورة وفي ذلك يتجلى هذا الشعور الصادق من الشهيد السعيد اتجاه القائد الكبير.. شعور البنوة المخلصة المتواضعة من الأبوة الكبيرة. وفي الحقيقة ما ان يفكر المسلم في هذا الاحساس (الصدري) من الامام حتى تأخذه الحسرة الحَّرى لفقدان هذا الإنسان النبيل بمعنى الكلمة.. هذا الإنسان الذي ضرب المثل الأعلى في التواضع رغم علمه الجم وفكره الذي ملأ الخافقين وجهاده المتواصل.
المنار العظيم
وأخيراً وليس آخراً فان الامام الخميني في تصور السيد الشهيد هو المنار الذي سوف يضيء الطريق لطلائع الإسلام على مدى التاريخ، هذا ما جاء في البرقية الجوابية التي رد بها على الإمام القائد حين استفساره عنه في فترة الاحتجاز:
(…وليس للإنسان الا بمقدار ما يعطي من وجوده وحياته وفكره، ولقد اعطيتم من وجودكم وفكركم ما يجعلكم مناراً عظيماً على مدى الأجيال..)[71].
الفصل العاشر: شهادته الكبرى، الدوافع والدلالات
لماذا قتلوه؟!
من الخطأ الكبير إذا تصورنا بان البعثيين اقدموا على قتل السيد الشهيد لأنه افتى بحرمة الانتماء لحزب البعث، أو لأنه أيد وساند الثورة الإسلامية في إيران، لا، وإنما أقدم البعثيون على هذه الجريمة النكراء لأكثر من سببٍ وآخر، وكلها تصب في مخطط استعماري جهنمي أعدته الدوائر الغربية للقضاء على الحركة الإسلامية. ولذا فان الاوساط الواعية من أبناء هذه الأمة لم يفاجئها نبأ الفاجعة الكبرى لأنها عارفة بأسبابها وبواعثها، وهي باختصار شديد تعود إلى ما يلي:
1ـ ان السيد الشهيد احد مراجع التقليد في العراق وخارج العراق. والمرجع يمثل نقاء الإسلام وصفاءه فكراً وسلوكاً، ولذا فان قتل السيد الصدر يعني عند هؤلاء اطفاء نور الإسلام واستئصاله من الوجود.
2ـ ان السيد الشهيد تقدم بالفكر الإسلامي خطوات كبيرة إلى الأمام، لانه استطاع بجدارة فائقة ان يعرض الإسلام عرضاً شاملاً وبلغه العصر ومنطقه، وان يسدد في نفس الوقت سهام نقد صارمة إلى الفكر الغربي الاستعماري، والنظام الحاكم في بغداد وأسياده المستعمرون لا يرتاحون إلى مثل هذه الشخصيات اللامعة ويشعرون أزاءها بالضعف كما أنها تشكل خطراً على وجودهم، ولذا فمن الطبيعي ان يبادر صدام التكريتي وصناعه إلى تصفيتها بشكل أو آخر
3ـ والسيد الشهيد إضافة إلى كونه مرجعاً إسلامياً ومفكراً من الطراز الرفيع لم يحن رأسه الشريف لزمرة صدام، وقد صمد في وجه الطغيان البعثي وقاوم ضغوطهم الارهابية، وزمرة النظام التكريتي يغضبها مثل هذا المؤمن الصلب، لأنه سيكون قدوة وأسوة للآلاف من أبناء شعبه، ولذا قرروا الاسراع بانهائه.
4ـ والمفكر الصدر وقف إلى صف الحركات الإسلامية، يسندها ويباركها، وبقاؤه على قيد الحياة يعني اعطاء مدد هائل من القوة والمعنوية والأمل لهذه الحركات المجاهدة، وهذا يتعارض ومهمات النظام العميل لأنه من صنع الغرب. وقد جاء به لضرب الإسلام وحركته الصاعدة، ولذلك لابد ان يقدم على قتل السيد المجاهد.
5ـ والمجاهد الصدر كان المرآة التي تنعكس عليها مواقف الشعب المسلم في العراق ازاء الاحداث، فهذا الشعب كان ينتظر كلمة زعيمه الصدر حتى يبادر إلى اتخاذ موقفه المسؤول، والنظام العميل يسعى لان تكون الساحة خالية من مثل هؤلاء القادة. لأنهم يسلطون الاضواء بجداره على الطريق الذي يجب ان تسلكه الان، ومن هنا لابد ان يعزم النظام المأجور على هذه الجريمة الشنعاء.
6ـ والسيد الشهيد تصدى ببسالة نادرة لارهاب البعث الكافر واستهتاره بحقوق الامة، وكان لسان الجماهير المعبر عن استيائها من النظام وطغيانه وهذا لا يروق لانظمة طاغوتية متجبرة فثأر لطغيانه وجبروته بسفك هذا الدم الطاهر الزكي.
7ـ ولقد خشى الاستعمار ان تستلم الجماهير الأسلامية في العراق الحكم. وعندها سيفقد ابرز وأخطر مواقعه في المنطقة فقرر ان يقتل عقل الحركة وقلبها ففعل هذه الجريمة على خادمه المطيع صدام التكريتي.
8ـ موقف السيد الشهيد المؤيد والمساند للثورة الإسلامية في إيران وتأييده المطلق لقائد الأمة الإسلامية الإمام الخميني حفظه الله ورعاه. كما ان اعترافه واعلان التأييد للدولة الإسلامية حال قيامها قد أثار حكومة البعث الكافر. واعتبرته تحدياً صارخاً لسياستها الدائرة في فلك الاستعمار.
9ـ وقد فكر هذا النظام المنحرف بان قتل السيد الشهيد سيخنق الحركة الإسلامية في العراق، وسيدخل الارهاب والفزع والخوف في نفوس الشباب المؤمن.
دلالات الشهادة وافاقها
1ـ ان استشهاد السيد الصدر برهن بالارقام القاطعة على ان المرجعية الدينية تشكل الخطر الحقيقي الذي يهدد الأنظمة الطاغوتية المتسلطة على رقاب الشعوب المستضعفة، وهذا بحد ذاته سيؤكد دور هذه المرجعية في المستقبل ويحذر اهميتها وخطورتها في ضمير الأمة الإسلامية، الأمر الذي سوف يصعد من عملية التلاحم بين الطرفين المذكورين.
2 ـ ان استشهاد السيد الصدر بلور مفهوم الشهادة على الصعيد العملي بأنها أسمى هدف يجب أن يسعى الإنسان المسلم في اتجاهه، وإنها الغاية المثلى التي ينبغي ان يعمل لها، أي ان السيد الصدر في هذا الصدد بعث في صفوف الأمة المثل الحسيني لأنه امتداد الأئمة الشرعي بحسب موقعه المرجعي، وقد ظهرت آثار هذه الحقيقة بسرعة مذهلة إذ سارعت جحافل الشباب المؤمن في العراق على طريق الشهادة في سبيل الله بعد أن أعطى الصدر دمهُ رخيصاً على طريق الإسلام العظيم.
3ـ ان استشهاد السيد الصدر قدم البرهان الكامل على مدى الوحشية التي تتمتع بها أنظمة الكفر والانحراف، فهي لا تقيم وزناً لعلم أو فكر أو نبوغ إذا تعرضت لخطر الزوال أو زاحمتها قيادات مخلصة، وهي لا تتورع عن اقتراف ابشع الجرائم بحق أعظم المفكرين وأقدسهم. وبذلك اماط استشهاد الصدر اللثام عن كل عقد النقص ومركبات الحقد الاسود التي يعيشها الطغاة. وعرى تماماً حقيقة الأنظمة الوضعية القاسية، ولم تعد مثل هذه الأنظمة بقادرة على ستر هويتها الدموية وطبيعتها التصفوية.
4ـ ان السيد الصدر بشهادته سيكون رمز المستقبل الحي لكل عمل ثوري على طريق الحق والعدل، ولكنه رمز موضوعي وليس رمزاً شخصياً، أي ان الصدر كـ (كيان) سيصبح دليلاً ومرشداً على دروب الثورة ضد الظلم والطغيان، وبهذا سيشهد المستقبل مدرسة خاصة في الجهاد عنوانها الكبير (مدرسة الصدر) ويكفيه ذلك فخراً في الدنيا وعزاً في الآخرة.
المغزى الكبير للشهادة
لشهادة المرجع الديني الكبير السيد الصدر مغازى كبيرة ودلالات عظيمة، وهي لا تشير إلى حتمية الصراع بين الحق والباطل، ولا إلى الهلع الذي انتاب النظام الطاغوتي في العراق، ولا إلى خطورة المرجع الشهيد على الكفر والظلم، أنها لا تسير إلى هذه الحقائق فحسب، بل إلى ما هو اعمق واغنى، فان شهادته رحمه الله جاءت استمراراً لخط الشهادة المقدسة، ذلك الخط الذي بدأه أمير المؤمنين عليه السلام، ثم صار سنة في تأريخ الحركة الإسلامية.
فدماء السيد الشهيد تجديد لدماء علي والحسين، وبعث الدماء (حجر بن عدي) و (ميثم التمار) و(رشيد الهجري) ونقطة انطلاق لسيل هادر من الدماء الزكية على طريق الحق حتى تتحقق دولة العدل الالهي.
لقد أثر عن أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ: ((ما منا الا مقتول أو مسموم)) ولذا فان السائرين على دروبهم اللاحقة لابد ان يعيشوا المعاناة ولابد ان يكتووا بنارها الحارقة، ذلك ان السائر على درب قوم يعاني ما يعانون ويعيشون، والسيد الشهيد ابن الأئمة الهداة نسباً وفكراً وتربية وطريقاً، فليس غريباً أن يستشهد وانما الغريب إذا مات على الفراش وقد كان (الصدر) يتمنى الشهادة من صميم قلبه وقد خاطب تلاميذه مرة وقال (يا ليت هؤلاء يقتلونني حتى تؤجج دمائي ثورة الإسلام في العراق)، واذن فقد كان المرجع الجليل يُدرك جيداً دور الشهادة وخطرها، إنها ارادة الفكر وسيفه، ولذا كان يتمناها من كل قلبه ووجدانه، بل كان يسعى لها، والا ماذا كان ينتظر المرجع الكبير من طغمة الأشرار وهو يدعو إلى الثورة الإسلامية؟! ماذا كان ينتظر غير الشهادة المقدسة؟!
من أقوال المرجع الشهيد محمد باقر الصدر
1ـ الثائر النبوي هو ذلك الإنسان الذي يؤمن بأن الإنسان يستمد قيمته من سعيه الحثيث نحو الله / واستيعابه لكل ما يعنيه هذا السعي من قيم إنسانية / ويشن حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال باعتباره هدراً لتلك القيم وتحويلاً للانسانية من مسيرتها نحو الله / وتحقيق ؛ أهدافها الكبرى، والهائها بالتكاثر وتجميع المال. ـ والذي يحدد هذا الموقع للثائر النبوي مدى نجاحه في الجهاد الأكبر (جهاد النفس) لا موقعه الاجتماعي والانتماء الطبقي).
2ـ (إن أصول الدين الخمسة التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الإسلام، / والمحتوى الأساسي لرسالة السماء، / هي في نفس الوقت تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد الثورة الاجتماعية التي قادها الأنبياء، الثورة المتكاملة لأسس هذه الثورة وترسم للمسيرة البشرية معالم خلافتها العامة على الأرض).
3ـ (ان الثورة الحقيقية لا يمكن ان تنفصل بحال عن الوحي والنبوة ومآلها من امتدادات في حياة الإنسان، كما إن النبوة والرسالة والربانية لا تنفصل بحالٍ عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف؛ والطغيان).
4ـ (إن صراع الأنبياء مع الظلم والاستغلال لم يتخذ طابعاً طبقياً كما وقع لكثيرٍ من الثورات الاجتماعية لانه كان ثورة إنسانية، ولتحرير الإنسان من داخل قبل كل شي، ولم يكن جانبه الثوري الاجتماعي الا بناء علوياً لتلك الثورة، حتى إن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، اطلق على ثورة التحرير من الداخل / اسم الجهاد الأكبر، وعلى ثورة التحرير من الخارج اسم الجهاد الأصغر).
5ـ … العدل والعلم والقدرة والرحمة والجود / تشكل بمجموعها هدف المسيرة للجماعة البشرية الصالحة، / وكلما اقتربت خطوة نحو هذا الهدف وحققت شيئاً منه، / انفتحت امامها آفاق أرحب، وازدادت عزيمةً وجذوة).
6ـ (إن إنسان الدول الإسلامية الذي انطلق في مطلع تاريخ هذه الأمة، لكي يصنع التأريخ من جديد، / لم تنطفيء الشعلة في نفسه طيلة المدة التي كان الله تعالى هدفه الحقيقي فيها، / بل كان يستمد من العدل المطلق الذي يمثله الهدف العظيم وقود معركته التي لا تنتهي،/ وتحركه الذي لا يخمد ضدّ ظلم الظالمين وجبروت الطغاة لا في قريته فحسب ولا في جزيرته خاصةـ / ولا بين أفراد قومه فقط،/ بل في كل أرجاء الدنيا).
7ـ (ان المسلم حينما يقاوم الظلم في قريته او في بلده، أو في بني قومه ـ /مثلاً ـ / لا يعزل هذا الظلم عن أي ظلم آخر يمارسه الجبارون على الأرض، / ولا يجعل إزالة هذا الظلم خاصة هدفاً نهائياً ومطلقاً له، / لأن في ذلك إقراراً ضمنياً بما يمارس من ظلم في أرجاء العالم، / وإنما يقاوم الظلم الذي يواجهه في محيطه، بوصفه ظلماً من الإنسان لأخيه الإنسان).
[1] نجسم عن ذكر اسم هذا العلم خوفاً على حياته لأنه ما يزال في العراق
[2] لمحات من طفولة الشهيد الصدر، مجلة صوت الأمة ـ العدد (13)، كتبها استاذه في الابتدائية أبو براء ص (20 ـ 21).
[3] يذكر ذلك كل تلامذته تقريباً، ومنهم (أبو علي) في مجلة طريق الحق عدد (7) ص11. كذلك (الشهيد الصدر رائد الأسرة الكريمة) ورقة (11) / لم يطبع بعد.
[4] طريق الحق عدد (7) ص 11 من مقالة بقلم أحد تلاميذه المقربين.
[5] ن.م. ص 12. من المقالة السابقة.
[6] ن.م. ص12. من المقالة السابقة.
[7] نقلاً عن تلميذه السيد نوري الاشكوري في مقال له بمجلة الجهاد عدد 13.
[8] الصدر رائد الأسرة العريقة / لم يطبع/ ورقة (11) كذلك طريق الحق من المقالة السابقة.
[9] من مقالة للشيخ علي الكوراني في مجلة الجهاد العدد 13.
[10] من مقالة لحجة الإسلام محمد باقر الحكيم في مجلة الجهاد العدد 13.
[11] م.ن. ص: 15.
[12] من مقالة لاستاذه في منتدى النشر بالكاظمية / صوت الأمة / عدد 13 ص: 21.
[13] من مقالة في مجلة المنطلق اللبنانية / العدد العاشر / ص: 14 هيئة التحرير.
[14] من مقالة في صوت الأمة بقلم أحد معلميه عدد 13 ص: 21.
[15] المصدر السابق ص : 20.
[16] نبراس الشهادة ـ إصدار الهيئة العلمية العراقية في قم المقدسة.
[17] اقتصادنا / ج1/ ص1.
[18] من مقالة في الجهاد لأحد تلامذة الشهيد / الصدر ناقد فلسفي / العدد 13 ص38.
[19] فلسفتنا جـ 1 العاشرة . ص: 6.
[20] ن. م. ص: 6.
[21] اقتصادنا جـ1 ـ الطبعة العاشرة ص: 7.
[22] راجع لمحة تمهيدية، صورة مختصرة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، السنن التاريخية في القرآن / موانع متفرقة.
[23] الفتاوى الواضحة ط1، المقدمة ص: 14.
[24] راجع السنن التاريخية في القرآن ص:
[25] من مقالةٍ لأحد تلاميذه في مجله (طريق الحق) العدد السابع ص: 12.
[26] من مقالة لأحد تلامذته في مجلة الجهاد، عدد 13، ص: 42، كذلك من مقالة في المجلة المذكورة للأخ عز الدين سليم ص: 35.
[27] من مقالةٍ لأحد تلامذته في مجلة طريق الحق العدد السابع ص: 16.
[28] من مقالة للسيد محمد باقر الحكيم، مجلة الجهاد عدد 13 ص: 21.
[29] من مقالةٍ لأحد تلامذته في الجهاد، العدد 13، ص: 43.
[30] من مقالة لأحد تلامذته في الجهاد، عدد 13 ص: 44.
[31] ن. م. ص 44.
[32] اقتصادنا ط2 ص (7 ـ 25).
[33] نقلاً عن أحد تلامذته، نحجم عن ذكر اسمه لأسباب أمنية.
[34] خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء ص: (25 ـ 27).
[35] لمحة فقهية تمهيدية ص (25 ـ 27).
[36] من مقالة لأحد تلاميذه ـ الجهاد / عدد 13 ص: 42.
[37] من مقالة لأحد تلامذته، الجهاد ، العدد 13، ص: 43.
[38] ن. م ص: 43.
[39] كراس الإمام الصدر في أعماله السياسية ص: 13.
[40] ن.م ص: 14.
[41] هذا الموقف تناقلته الألسن في وقته واصبح متواتراً.
[42] من مقالة في مجلة سروش للعالم العربي عدد 3 ص: 26.
[43] من مقالة لأحد تلاميذه / طريق الحق / عدد 7 ص: 20.
[44] من مقالة في (سروش للعالم العربي) عدد 3 ص: 30.
[45] من مقالة في المنطلق البيروتية / عدد10 / ص: 30.
[46] كراس: الإمام الصدر في أعماله السياسية: 15.
[47] من مقالة لأحد تلاميذه / طريق الحق /عدد 7 ص: 20.
[48] كراس: الإمام الصدر في أعماله السياسية ص : 22.
[49] من مقالة لأحد تلاميذه / طريق الحق / عدد 7 ص: 20.
[50] من مقالة في مجلة (سروش للعالم العربي) عدد 3 ، ص: 31.
[51] الامام الصدر في أعماله السياسية ص: 17.
[52] من نص البرقية.
[53] كراس: السيد الصدر في أعماله السياسية ص: 19.
[54] كراس: السيد الصدر في أعماله السياسية: ص 20.
[55] من الرسالة وقد نشرتها مجلة (صوت الشهادة) عدد 10 / 11 ص: 22.
[56] من الرسالة التاريخية. م.ن ص: 20.
[57] نص البرقية.
[58] من الرسالة. صوت الشهادة. عدد 10 / 11 ص: 22.
[59] ن. م. ص: 22.
[60] لمحة فقهية تمهيدية ص (10 ـ 13).
[61] لمحة فقهية تمهيدية ص: 38.
[62] ن.م ص: 10.
[63] (سروش للعالم العربي) ـ مجلة إيرانية باللغة العربية عدد 3 ص 25.
[64] ن. م. ص: 25.
[65] لمحة تمهيدية فقهية ص: 16.
[66] نشرت المنطلق البيروتية قسماً من هذه الرسالة في عددها العاشر ص: 33. نشرت المنطلق البيروتية قسماً من هذه الرسالة في عددها العاشر ص: 33.
[67] من نص البرقية التأريخية.
[68] صورة مختصرة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي ص: 40.
[69] من نص البرقية الشريفة.
[70] من نص البرقية الشريفة.
[71] من نص البرقية.