أُلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ هذا البحث يأتي في سياق دراسةٍ تناولت مسألة الحسن والقبح في عرضٍ مقارنٍ بين رؤيتيّ الشهيد السيد محمد باقر الصدر والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي. ولقد خُصِّص أحد فصولها ـ وهو هذا البحث ـ لعرض رؤية الشهيد الصدر ـ كما فهمها الكاتب ـ من دون الدخول في عملية نقدٍ لها ضمن هذا الفصل، مع الاكتفاء بذكر بعض الملاحظات في ضمن التعليقات، ومن الله أسأل الهداية والغفران.
تمهيد
لم يكن الشهيد محمد باقر الصدر بعيداً عن أجواء الحوزة العلميّة حين تعرّض لهذا البحث، فقد سبقه إلى ذلك أعلام كبار، تشهد بذلك مجالس درسهم وكتبهم ومنقولات تلاميذهم. ولكن ولعبقريّةٍ استثنائيّةٍ وُجِدت في شخص الشهيد الصّدر كان تناوله لمسألة الحسن والقبح ذا طعمٍ خاصّ ونكهة خاصّة، حاله كحال سائر ما تعرّض له عَلَمُنا الكبير حتى غدا وبحقّ رائد مدرسة علميّة يُشار إليها بالبنان، وتستحقّ على الأقلّ من الآخر القراءة بتمعّنٍ وموضوعيّة.
لقد كبُرت في شخصيّة شهيدنا الكبير روحٌ توّاقة إلى العلم ونشر الدّين، وصبغت ملامحه أخلاقيّة هي شعاعٌ من أخلاقيّة النبيّ والآل. ولم تكتفِ هذه الروح المجبولة بكلّ هذه المعاني بالكتابة والتأليف والتدريس، بل دفعت صاحبها وبوعيٍ لروح المسؤوليّة للنزول إلى الميدان ومقارعة الظالمين. لقد كان لحقّ الطاعة ـ الذي هو أحد أبرز آثار تلك الصّبغة الأخلاقيّة ـ أثر كبير في محمد باقر الصّدر، فلم يترك له ليلاً ولا نهاراً، بل جعل كلّه لله إلى أن كرّسه شهيداً فغدا وبحقّ شهيد حقّ الطاعة.
وفي مقام دراسة رؤية شهيدنا العظيم للحسن والقبح ارتأينا أن نتعرّض لعدّة اُمور:
الأمر الأوّل: نستعرض الآراء العلميّة المرتبطة ببحثنا للأعلام الذين كانت لأفكارهم حضور كبير لدى الشهيد الصدر.
الأمر الثاني: نتعرّض بالتفصيل لرؤية الشهيد الصّدر فيما يرتبط بالحسن والقبح.
الأمر الثالث: نحاول التعرّف على الآثار التي تركَتها تلك الرؤية في أفكاره وطروحاته.
الأمر الأوّل الحسن والقبح عند الأعلام
الحسن والقبح عند الميرزا النائيني
يرى الميرزا النائيني أنّ اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح أمر مدرَكٌ للعقل بالضرورة والوجدان. فوجود الحسن والقبح في الأفعال أمر لا ينبغي الشكّ فيه، هذا أولاً. وثانياً بعد الفراغ من ثبوتهما في أنفسهما يرى أنّ العقل قادر على إدراكهما وإثباتهما للأفعال ولو على نحو الموجبة الجزئيّة وإلاّ للزِم الوقوع في محاذير كثيرة أهمّها: عدم إمكان إثبات أصل الديانة والنبوّة العامّة والخاصّة الثابتة بظهور المعجزة على يد مدّعيها.
أمّا عدم إمكان إثبات النبوة العامّة فلأنّها مبنية على إدراك العقل لقاعدة وجوب اللّطف بناءً على أنّ اللّطف حسَن. وأمّا عدم إمكان إثبات النبوّة الخاصّة بظهور المعجزة على يد مدّعيها فلأنّها مبنية على حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب.
وعليه فادّعاء عدم قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح بنحو القاعدة الكلّية يلزم منه تلك المحاذير الخطيرة. يقول «… إنّ العقل وإن لم يكن له إدراك جميع المصالح والمفاسد إلاّ أنّ إنكار إدراكه لهما وبنحوٍ الموجبة الجزئيّة منافٍ للضرورة أيضاً، ولولا ذلك لما ثبت أصل الديانة،ولزم إفحام الأنبياء، إذ إثبات النبوة العامّة فرع إدراك العقل لقاعدة وجوب اللّطف، كما أنّ إثبات النبوة الخاصّة بظهور المعجزة على يد مدّعيها فرع إدراك العقل قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب، ومع إنكار العقل للحسن والقبح بنحو السالبة الكلّية كيف يمكن إثبات أصل الشريعة فضلاً عن فروعها؟!».
وعندما نقول إنّ العقل قد حكم على فعلٍ بأنّه حسَن أو قبيح نعني بذلك أنّ العقل قد أدرك استحقاق فاعله للمدح والثواب أو للذمّ والعقاب، ومن الواضح أنّه لا بدّ في استحقاقهما من صدور الفعل عن قصدٍ والتفات، ومن دون ذلك لا يكون الفعل مورداً لحكم العقل.
والذي يظهر من ثنايا كلامه أنّه يربط باب الحسن والقبح في الأفعال بباب المصلحة والمفسدة، إذ يرى أنّ حكم العقل بحسن بعض الأفعال أو قبحها مرجعه إلى إدراكه للمصالح أو المفاسد التي تترتّب عليها.
وأمّا الأثر المباشر الذي يستفيده ممّا تقدّم، فهو الحكم بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وذلك في حال استقلّ العقل بحكمه، أي في مورد إلغاء احتمال وجود المزاحم.
يقول ـ حين تعرّضه لبحث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ـ : «هذا حاصل ما أفاده «صاحب الفصول» في وجه منع الملازمة. ولا يخفى عليك ضعفه، فإنَّ الكلامَ إنّما هو في المستقلاّت العقليّة، والعقل لا يستقلّ بحسن شيء أو قبحه إلاّ بعد إدراكه لجميع ما له دخلٌ في الحسن والقبح، ودعوى أنّ العقل ليس له هذا الإدراك ترجع إلى منع المستقلاّت العقليّة، ولا سبيل إلى منعها، فإنّه لا شبهة في استقلال العقل بقبح الكذب الضارّ الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفعٍ إلى الكاذب، ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكماً قطعيّاً بحرمته شرعاً؛ لأنّ المفروض تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد …» .
وممّا ينبغي إلفات النظر إليه قيام الميرزا بتقسيم الحسن والقبح إلى فعلي وفاعلي، وذلك في معرض حديثه عن التجري واستحقاق فاعله للعقاب، حيث يخلص هناك إلى أنّ المتحقق في مورد التجري ـ حيث لا قبح في الفعل لعدم كونه معصيةً وذا مفسدة ـ هو القبح الفاعلي الكاشف عن سوء السريرة دون الفعلي، بخلاف مورد المعصية حيث يتحقق فيها كلا القبحين. وكلامنا السابق في قاعدة الملازمة طرفه في الواقع هو القبح الفعلي بالخصوص.
الحسن والقبح عند المحقق العراقي
تعرّض المحقق العراقي لمسألة الحسن والقبح في العديد من المواضع ضمن أبحاثه الأصوليّة، ويظهر ذلك جليّاً في تقريرات بحثه «نهاية الأفكار»، وكتابه «مقالات الأصول». والذي يمكن استخلاصه من كلامه ما يلي:
أوّلاً: ينبغي التمييز بين الحسن والقبح العقليّين أو ما يُعبَّر عنه بالتحسين والتقبيح العقليّين وبين الحسن والقبح الواقعيّين. فإنّ المراد من الحسن العقليّ هو ملائمة الشيء للقوّة العاقلة وحصول صفة الانبساط لديها، والمراد من القبح العقليّ هو منافرته لها وحصول صفة الاشمئزاز لديها. وهذه الحالة من الأحكام العقليّة الوجدانيّة التي لا يمكن تطرّق الشكّ إليها لعدم وجود واقع لها وراء صفة الانبساط والاشمئزاز الوجدانيّة.
يقول: «فإنّ حقيقة الحسن العقليّ ليس إلاّ عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوّة العاقلة، كسائر ملائمات الشيء لدى سائر القوى من الذّائقة والسّامعة والشامّة ونحوها مما هو في الحقيقة من آلات درك النفس وجنودها قبال منافرته لدى القوّة العاقلة المسمّى بالقبح ومن الواضح استحالة تطرّق التخطئة في مثل هذه الإدراكيات الوجدانيّة؛ لأنّه ليس لها واقع محفوظ وراء حصول صفة الانبساط والاشمئزاز الوجدانيّة» .
أمّا الحسن والقبح الواقعيّان، فهما أمران خارجان عن نفس الإنسان المدرِك، وهما مع المصالح والمفاسد الواقعيّة النفس الأمريّة مناط للأحكام العقليّة بالحسن والقبح، ولذا فقد يعرض للإنسان شكٌّ فيهما كما يعرض له الشكّ في كون الفعل الفلانيّ ذو مصلحة أو مفسدة واقعيّة، ولذا فهما قابلان للتخطئة بخلاف الأحكام العقليّة بالحسن والقبح.
يقول ـ بعد كلامه السابق ـ : «… نعم ما هو قابل للتخطئة ولتطرّق الشكّ إليها إنّما هو مناط حكمه بالحسن والقبح من المصالح أو المفاسد الواقعيّة النفس الأمريّة، وكذا الحسن والقبح الواقعيّان» .
ثانياً: يظهر من بعض كلماته التفريق بين باب الحسن والقبح الواقعيّين وبين باب المصالح والمفاسد الواقعيّة النفس الأمريّة وإن كانا يجتمعان في بعض الأفعال، وهذا الاستظهار منشؤه عطفه في عدّة مواضع الحسن والقبح الواقعيّين على المصلحة والمفسدة الواقعيّة ممّا يشعِر بتغايرهما.
يقول: ـ في معرض حديثه عن إمكان عروض التخطئة على غير الأحكام العقليّة الوجدانيّة ـ : «… لأنّ الملازمة الواقعيّة بين الشّيئين وكذا الاستحالة الواقعيّة للشّيء قد يدركها العقل فيحكم بها وقد لا يدركها أو يدرك عدمها، وكذا المصلحة والمفسدة الواقعيّة والحسن والقبح الواقعيّان قد يدركهما العقل وقد لا يدركهما أو يخطئ عنهما فيحكم بِعَدمِهما …».
ويمكن ملاحظة النّص المتقدّم أيضاً كشاهد على ذلك.
ثالثاً: إنّ الأحكام العقليّة بالحسن والقبح التي تقع طرفاً للملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع، ينبغي أن تكون ناشئةً عن المصالح والمفاسد في نفس الأفعال، وإلاّ فلا يصحّ جعلها طرفاً للملازمة.
يقول ـ في معرض نفيه لكون حكم العقل بقبح التجرّي أو العصيان مستلزماً لحكم شرعيّ على وفقه ـ: «وأمّا ثانياً فلعدم صلاحيّة مثل هذا القبح العقليّ في المقام (المتعلّق بعنوان التجرّي) لاستتباع التكليف المولوي على وفقه، لأنّ الحسن والقبح العقليّين إنّما يستتبعان التكليف المولوي على الملازمة إذا كانا ناشئين عن مصلحة أو مفسدة في نفس العمل ومثله غير متصوّر في المقام، إذ لا يحدث من قَبلِ طروّ عنوان التجري والانقياد وكذلك الإطاعة والعصيان مصلحة أو مفسدة في نفس العمل، كي بذلك يكون مثل هذا الحسن أو القبح العقليّ مستتبعاً على الملازمة للحكم الشّرعيّ».
الحسن والقبح عند المحقق الإصفهاني
للمحقّق الإصفهاني باعٌ طويل في علوم الحكمة والفلسفة والفقه والأصول. ولذلك فإنّ ما أفاده فيما يرتبط بالحسن والقبح ليس بالشيء اليسير، إلاّ أنّنا سنحاول هاهنا عرض حاصل ما ذكره في المقام مستعينين بما أفاده في تعليقته على الكفاية المسمّاة بـ «نهاية الدراية» مع التنبيه إلى أنّ التعرّض لجميع ما ذكره يحتاج إلى بحث مستقلّ وتحقيق خاصّ نسأله تعالى أن يوفّقنا لإنجازه.
يرى محقّقنا العظيم أنّ شأن القوّة العاقلة هو الإدراك وتعقّل ما هو ثابت من ناحية غير الجوهر العاقل، لا البعث والزّجر وإصدار الأحكام، والفرق بين العقل النظري والعقل العملي إنّما هو بتفاوت المدرَكات، فإن كان المدرَك ممّا ينبغي أن يُعلَم فالمدرِك له هو العقل النظري وإن كان ممّا ينبغي أن يُعمَل ويؤتى به، أو لا يؤتى به فالمدرِك له هو العقل العملي. وإنّ من أحكام العقل العمليّ القضايا المسمّاة بالمشهورة والآراء المحمودة كقضية حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان. ولقد قام البرهان على أنّ هذه القضايا ليست من القضايا البرهانيّة، وممّا يدلّ على ذلك أنّ المعتبر في المواد الأوّليّة للقضايا البرهانيّة مطابقتها للواقع ونفس الأمر والمعتبر في القضايا المشهورة والتي منها قضيتا حسن العدل وقبح الظلم هو مطابقتها لما عليه آراء العقلاء، فإنّه لا واقع لها غير توافق الآراء عليها.
ثمّ يزيد المحقق الإصفهاني الأمر وضوحاً فيقول: إنّ الكلام ليس في كون العدل والإحسان ممّا يوجب اغتباطاً لدى النّفس، وكون الظلم والعدوان ممّا يوجب اشمئزازاً لديها، فإنّ هذا الأمر مدرَك بالوجدان وهو من الواقعيّات، وإنّما الكلام في كون العدل داعياً إلى مدح فاعله والظلم داعياً إلى ذمّه، فهل هذا أمر واقعيّ أم هو ممّا توافقت عليه آراء العقلاء بما هم عقلاء وليس وراء هذا التوافق أيّ واقعيّة في البين؟ المدّعى هو الثاني؛ وذلك لأنّ: «اقتضاء الفعل المحبوب والفعل المكروه للمدح والذّم على أحد نحوَين:
إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبّبه والمقتضي لمقتضاه، أو بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.
فالأوّل: فيما إذا أساء إنسان إلى غيره، فإنّه بمقتضى ورود ما ينافره عليه وتألّمه منه ينقدح في نفسه الدّاعي إلى الانتقام منه والتشفّي من الغيظ الحاصل… فالسببيّة للذمّ هنا واقعيّة وسلسلة العلل والمعلولات مترتّبة واقعاً.
والثاني: «فيما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذّم حفظ النظام وبقاء النوع بلحاظ اشتمال العدل والإحسان على المصلحة العامّة والظلم والعدوان على المفسدة العامّة، فتلك المصلحة العامَّة تدعو إلى الحكم بمدح فاعل ما يشتمل عليها وتلك المفسدة تدعو إلى الحكم بذمّ فاعل ما يشتمل عليها».
ولهذا ترى العقلاء يمدحون فاعل العدل ويذمّون فاعل الظلم وإنّما يقومون بذلك حرصاً على حفظ النظام وبقاء النوع.
وما يصحّ نسبته إلى العقلاء وإلى الشارع بما هو رئيس العقلاء هو القسم الثاني. أمّا القسم الأول فلا يصحّ نسبته إليهم ،فإنّه لا يناسب الشارع ولا العقلاء بما هم عقلاء لكون الدّاعي إليه حيوانيّاً، إذ هو ناشئ عن انفعالٍ نفسانيّ.
وعليه، فالمراد من قولهم إنّ العدل مما يستحقّ فاعله المدح والظلم مما يستحقّ فاعله الذّم هو أنّهما كذلك عند العقلاء وبحسب تطابق آرائهم لا في الواقع ونفس الأمر.
وإذا سألنا هذا المحقّق العظيم ـ بناءً على ما تقدّم ـ عمّا هو المراد من قولهم بكون التحسين والتقبيح ذاتيّين أو عرضيّين، فجوابه أنّ كونهما ذاتيّين هو بمعنى عدم الحاجة إلى الواسطة في العروض في مقابل العرضيّين،«فمثل العدل والإحسان والظلم والعدوان بنفسهما لا من حيث اندراجهما تحت عنوانٍ آخر محكومان بالحسن والقبح، بخلاف الصّدق والكذب فإنّهما مع حفظ عنوانهما يوصفان بخلافهما».
وأمّا المراد من العلّية والاقتضاء في بعض العناوين للحكم بالحسن والقبح، فهو أنّ بعض الموضوعات وحيث أنّه يترتّب عليها بنفسها مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة، تدعو العقلاء إلى الحكم بحسنها أو قبحها بخلاف بعضها الآخر حيث أنّها وإن كانت بنفسها ممّا تقتضي الحكم بحسنها أو قبحها إلاّ أنّه قد تبتلى نتيجةً لبعض العوارض بضدّ حكمها الأوّليّ، وإلاّ ففي الحقيقة لا علّية ولا اقتضاء حقيقيّين في البين .
هذا ويرى المحقّق الإصفهانيّ أنّه لا ملازمة بين أحكام العقل العمليّ وأحكام الشرع؛ لأنّ ملاكات كلّ واحد منهما تختلف عن ملاكات الآخر. فـ «المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعيّة المولويّة لا يجب أن تكون من المصالح العموميّة التي ينحفظ بها النّظام ويبقى بها النّوع، كما أنّ الأحكام الشرعيّة غير منبعثة عن انفعالات طبيعيّة من رقّة أو حميّة أو أنفة أو غيرها، ولا ملاك للحسن والقبح العقليّين إلاّ أحد الأمرين» .
نعم، للأحكام العقليّة معنى آخر غير التحسين والتقبيح العقلائيّين، وهو إدراك ما يؤثّر من الأعمال في كمال النّفس وتهيئتها لتتجلّى لها المعارف الإلهية التي هي الغاية من وراء الخلق والإيجاد. وهذه الأحكام موسومة بصفة الضرورة واللاّبدّية، ولكن هذا النحو من الأحكام ـ بنظر المحقّق الإصفهاني ـ أجنبيّ عن التحسين والتقبيح العقلائيّين.
الحسن والقبح عند السيد الخوئي
لا يختلف السيِّد الخوئي كثيراً عن اُستاذه الميرزا النائيني في تناوله لهذا الموضوع، إلاّ أنّ لمسلكه في المقام نكهة خاصّة، ولذلك سنقوم بعرض وجهة نظره من خلال إطلالنا على تقريرَي بحثه في الأصول عنيت «دراسات في علم الأصول» و«مصباح الأصول».
يطرح السيد الخوئي التساؤل التالي: هل أنّ الحسن والقبح ذاتيّين للأشياء نظير خواصّ الأشياء وآثارها المترتّبة عليها، أم أنّهما بحكم الشرع ومع قطع النظر عن ذلك فليس في شيءٍ حُسن ولا قبح، أم أنّهما بحكم العقل ويختلفان بالوجوه والاعتبارات؟
يجيب بأنّ الحقّ هو الاحتمال الأخير، ويقوم بذكر الدليل على ذلك مع إبطاله للاحتمالين الأوّلين.
أمّا الدليل على كونهما يختلفان بالوجوه والاعتبارات فهو ما نراه بالوجدان من اختلافهما باختلاف الموارد، فالكذب إن كان منجياً فهو حسن وإلاّ فهو قبيح. وإيلام المولى وهتكه في نفسه قبيح وأمّا لو كان بعنوان إنجائه من القتل فهو حسن يُمدح عليه فاعله.
ومن هنا يتّضح بطلان القول الأوّل، فإنهما لو كانا ذاتيّين من قبيل خواصّ الأشياء لما كانا قابلين للتخلّف والاختلاف. وأمّا بطلان الاحتمال الثاني فلاستلزامه «لسدّ باب نبوّة الأنبياء، وما أخبر الله تعالى به من الوعد والوعيد، إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة المترتّبة على إنكار الحسن والقبح العقليّين التي لا يمكن الالتزام بها من عاقل» .
وببطلان الاحتمالين الأوّلين يثبت الاحتمال الأخير، وهو أنّهما بحكم العقل ويختلفان بالوجوه والاعتبارات. نعم، ما دام حسن الفعل وقبحه يعني إدراك العقل لاستحقاق فاعله للمدح والثّناء أو للذمّ والعقاب لزم أن يكون الفعل المتّصف بأحدهما اختيارياً، وإلاّ لما صحّ المدح والذم.
أمّا ملاك كون الفعل حسناً أو قبيحاً فهو «بانطباق عنوان العدل والظلم عليه، فما يكون حسَناً بحكم العقل أوّلاً ومن دون حاجة إلى أن يدخل تحت عنوان آخر هو العدل، وما يكون قبيحاً كذلك هو الظلم، والأوّل هو الحسَن ذاتاً كما أنّ الثاني هو القبيح ذاتاً، بخلاف سائر الأُمور والأفعال، فالقبيح منه لا يتّصف بالقبح عقلاً إلاّ بعد انطباق عنوان الظلم عليه، والحسن منه لا يتّصف بالحسن إلاّ بعد انطباق عنوان العدل عليه، والعدل لغةً بمعنى الاستقامة، واستقامة كلّ شيءٍ يكون بحسبه …» .
أمّا قضيّة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشّرع فيحقّقها السيد الخوئيّ بتقسيمه الحكم العقليّ ـ بمعنى إدراك العقل ـ إلى أقسام ثلاثة.
الأوّل: حكم العقل بوجود مصلحة أو مفسدة في فعل من الأفعال، وهذا شأن العقل النظريّ، وهاهنا قد يتوهّم ثبوت حكم شرعيّ بالوجوب أو الحرمة نتيجة للقول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد عند أكثر الإماميّة والمعتزلة، إلاّ أنّ الصحيح هو عدم ثبوت مثل هذا الحكم الشرعي لعدم قدرة العقل على الإحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع التي هي مِلاك للحكم الشرعيّ بعد حصول الكسر والانكسار بينها.
الثاني: حكم العقل بحسن فعل أو قبحه كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية، وهذا شأن العقل العمليّ، وهذا الحكم لا شكّ فيه إلاّ أنّ قاعدة الملازمة لا تجري فيه؛ لأنّ «هذا الحكم العقليّ في طول الحكم الشرعيّ وفي مرتبة معلوله، فإنّ حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية إنّما هو بعد صدور أمر مولويّ من الشارع، فلا يمكن أن يستكشف به الحكم الشرعيّ.
الثالث: حكم العقل في أمر واقعيّ نظير إدراكه لاستحالة اجتماع النقيضين، وللملازمة الواقعيّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته وأمثالهما من الأحكام التي هي من شأن العقل النظريّ. وفي هذا القسم لا ينبغي التوقّف في جريان قاعدة الملازمة .
الأمر الثاني رؤية السيد الشهيد في الحسن والقبح
تعرّض لهذا البحث بشكل مسهب في أبحاثه الأصوليّة خاصّة على ما هو المنقول عنه في تقريرات بحثه «مباحث الأصول»، وبنحوٍ أقلّ نوعاً ما في التقرير الآخر «بحوث في علم الأصول». ونجد هذا البحث أيضاً في كتابه الحلقة الثانية والثالثة بنحو موجز ومختصر. وسنحاول هاهنا عرض نظريّته بنحوٍ مفصّل إن شاء الله ونمنهج الكلام ضمن عدّة محاور:
ـ المحور الأول: تعريف العقل النظري والعقل العملي وبيان وجه امتيازهما عن بعضهما البعض.
ـ المحور الثاني: مناقشة المنطق الأرسطيّ في أدوات بناء المعرفة البشريّة وتكوّنها.
ـ المحور الثالث: وقفة مع أدلّة القوم على الحسن والقبح العقليّين والرأي المختار.
ـ المحور الرابع: بيان ملاك حكم العقل بالحسن والقبح.
ـ المحور الخامس: حقّانية العقل العمليّ: السلطنة، لوح الواقع.
المحور الأوّل: العقل النظري والعقل العملي، تعريفهما وبيان المائز بينهما
دأب المشهور من المتكلمين والأصوليين على تعريف العقل النظري بأنّه المدرِك لما ينبغي أن يُعلَم، بخلاف العقل العملي حيث إنّه المدرِك لما ينبغي أن يُعمَل. إلاّ أنّ السيد الشهيد خالفهم في ذلك وذكر تعريفاً خاصّاً لهما ينسجم مع مبانيه في المقام.
يقول: إنّ الحكم العقلي ينقسم إلى قسمين: الحكم النظريّ وهو شأن العقل النظري، والحكم العمليّ وهو شأن العقل العمليّ.
والمراد من الأول ـ الحكم النظريّ ـ هو إدراك ما يكون واقعاً بنحو لا يقتضي بذاته جرياً عمليّاً على وفقه وإن اقتضى ذلك بالواسطة، وذلك «كإدراك العقل لوجود الله الذي يؤثّر في مقام العمل بتوسّط إدراك حقّ المولويّة له سبحانه.
والمراد من الثاني ـ الحكم العمليّ ـ هو إدراك ما ينبغي أن يقع ـ وهو الحسن ـ أو لا يقع ـ وهو القبيح ـ .
وهذان الأمران: انبغاء الوقوع وانبغاء عدمه صفتان واقعيّتان للأفعال ثابتتان في لوح الواقع. ومن هنا يتبيّن أنّ امتياز العقل النظري عن العقل العمليّ ليس في كون المدرَك في الأوّل أمراً واقعيّاً بخلافه في الثاني ـ كما لعلّه يُفهم من تعريف المشهور ـ وإنّما هو في كون العمليّ يقتضي بذاته ومباشرةً جرياً عمليّاً على وفقه،بخلاف النظريّ.
وينبغي الإشارة هاهنا إلى أنّ إدراك وجود المصلحة أو المفسدة في شيء من الأشياء هو من مدرَكات العقل النظري لعدم اقتضائهما بذاتهما ومباشرةً للجري العمليّ، ويختصّ الحكم العمليّ من العقل بإدراك الحسن والقبح.
المحور الثاني: مناقشة المنطق الأرسطيّ في أدوات بناء المعرفة البشرية وتكوّنها
يقسّم المنطق الأرسطيّ القضايا ـ سواء كانت يقينيّة أو غير يقينيّة ـ إلى ما تكون في حدّ نفسها مستغنيةً عن البيان والحجّة وإلى ما تكون محتاجة إلى البيان والحجّة. فالمقدّمات أو القضايا المستغنية تسمّى بـ «مبادئ المطالب» أو «مبادئ الأقيسة»، وهي تنقسم إلى ثمانية أصناف:
يقينيات، مظنونات، مشهورات، وهميات، مسلّمات، مقبولات، مشبَّهات ومخيّلات.
والمراد من اليقينيّات في المقام اُصول اليقينيّات وهي البديهيّات،فإنّ اليقينيّات مطلقاً تنقسم إلى قسمين: بديهيّة ونظريّة. أمّا البديهيّة فهي التي لا يرقى إليها الشكّ في ذاتها،وأمّا النظريّة فهي التي لا تكون مضمونة الصحّة بذاتها، وإنّما تثبت حقّانيّتها برجوعها إلى القضايا البديهيّة بواسطة قيام الحجّة عليها.
والبديهيّات ستة أنواع بحكم الاستقراء: أوّليات، فطريّات، حسّيات، تجريبيات، حدسيّات ومتواترات.
وأمّا الحجّة فتنقسم ـ باعتبار هيئتها ـ إلى ثلاثة أقسام وهي: القياس والاستقراء والتمثيل، ولا قيمة للأخيرين ـ بحسب هذا المنطق ـ ما لم يرجعا إلى الأول على تفصيل ليس هاهنا محلّه.
وللقياس أيضاً تقسيمان، أحدهما باعتبار صورته والآخر باعتبار مادّته.
فباعتبار صورته ينقسم إلى قسمين؛ اقترانيّ واستثنائيّ. وللاقترانيّ ـ الحملي والشرطيّ ـ أربعة أشكال ثلاثة منها ترجع إلى الشكل الأول الذي هو بديهيّ الإنتاج، فإن الحدّ الأوسط فيه محمول في الصغرى وموضوع في الكبرى، وثبوت الأكبر للأصغر في النتيجة يكون عن طريق «تطبيق الأكبر على الأوسط، وهو بديهيّ ومضمون الحقّانيّة. وتطبيق الأوسط على الأصغر، وهو بديهيّ ومضمون الحقّانية، فينطبق الأكبر على الأصغر بحكم آخر للعقل بديهيّ ومضمون الحقّانية أيضاً، وهو أنّ المنطبق على شيء منطبق على شيءٍ ثالث يكون منطبقاً على ذاك الشيء الثالث» .
وباعتبار مادّته ينقسم إلى خمسة أقسام سمّيت بالصناعات الخمس وهي: صناعة البرهان، صناعة الجدل، صناعة المغالطة، صناعة الخطابة وصناعة الشعر.
وباتضاح ما تقدّم نقول: إنّ المنهج الأرسطيّ في بناء المعرفة البشريّة يرى أنّ معرفة الواقع على ما هو عليه وإحراز اليقين يتمّ عن طريق البرهان، فإنّه الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في هذا المضمار، ومادة البرهان هي القضايا اليقينيّة التي سبق الإشارة إليها.
يقول الشيخ الرئيس ـ في معرض بيانه لثمرة البحث في الصناعات الخمس ـ : «فمنها ما يوقع اليقين وهو البرهانيّ، ومنها ما يوقع شبه اليقين وهو إمّا القياس الجدليّ وإمّا القياس السوفسطيقيّ المغالطيّ، ومنها ما يقنع فيوقع ظنّاً غالباً وهو القياس الخطابيّ. وأمّا الشعريّ فلا يوقع تصديقاً، ولكن يوقع تخيّلاً محرّكاً للنفس إلى انقباض وانبساط بالمحاكاة لأمور جميلة أو قبيحة» .
وبناءً عليه يكون الوقوع في الخطأ في القضايا النظريّة العقليّة ناشئاً عن عدم مراعاة علم المنطق فيما يتعلّق بقواعد الاستدلال والبرهان. إن قيل: إنّ علم المنطق يعصم من ناحية هيئة الاستدلال لا المادّة، كان الجواب: «إنّ الخطأ لا بدّ وأن ينتهي إلى الصورة لا المادّة بعد معرفة طريقة تولّد المعارف البشريّة ـ حسبما يصوّرها المنطق الصّوريّ ـ حيث إنّ الفكر يسير دائماً من معارف أوّلية ضروريّة هي أساس المعرفة البشريّة إلى استنباط معارف نظريّة جديدة بطريقة البرهان والقياس التي يحدّد صورتها علم المنطق، فأيّ خطأٍ يُفترض، إن كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه، وإن كان في مادّة القياس فإن كانت تلك المادّة أوّلية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها. وإن كانت ثانويّة مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجةً من برهان وقياس، فينقل الكلام إليه حتّى ينتهي إلى خطأٍ يكون في الصورة؛ لأنّ المعارف الأوّلية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضروريّة» .
الشهيد الصّدر وضمن قراءته لهذا المنهج، وفي محاولة لتأسيس رؤية متماسكة خالية من نقاط ضعفٍ مُنيَ بها هذا المنهج ـ بحسب وجهة نظره ـ وكان من نتائجها عدم القدرة على الإجابة عن تساؤلات كبيرة تؤرّق الذهن البشريّ، قدّم نظرية جديدة للمعرفة البشريّة «استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظريّة المعرفة لم يستطع الفكر الفلسفيّ أن يملأه خلال ألفي سنة». ولقد تعرّض لهذا الأمر مفصّلاً في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، وأشار إليه نحواً ما في أبحاثه الأصوليّة، وذلك في معرض الإجابة عن دعوى الأخباريين قصور العقل في بعديه النظري والعملي ممّا يؤدي إلى عدم إمكان الركون إليه، سواء في الاستدلالات الواقعة في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة ـ كما في العقيدة ـ أو الاستدلالات الواقعة في الرتبة اللاحقة عليهما ـ كما في استنباط الأحكام من نفس الكتاب والسنّة ـ .
ونحن إنّما نعرض لتصوّره هذا باعتبار أنّه يؤثّر في كيفيّة فهمنا لرؤيته للحسن والقبح، ويساعدنا على استيعاب قوله بواقعيّتهما، والذي سيأتي معنا إن شاء الله تعالى عند الحديث عن المحور الخامس.
ويتمحور نقده للمنطق الأرسطيّ على أمرين أساسيين ادّعاهما:
ـ الأمر الأول: ادّعاء كون اليقينيّات ستّ وهي جميعاً مضمونة الحقّانيّة.
ـ الأمر الثاني: ادّعاء كون البرهان هو الأداة الوحيدة لتوليد المعرفة اليقينية لدى الإنسان، وأنّ منشأ الخطأ في القضايا النظرية هو عدم مراعاة قواعد البرهان.
أمّا بالنسبة للأمر الأول، فقد عرض الشهيد الصّدر لتلك اليقينيّات المدّعاة ووضعها على طاولة التشريح، ودرس دعوى بداهتها وأن الشكّ لا يرقى إليها في ذاتها، ولقد خَلُصَ إلى الإيمان بضمان حقّانيّة «الأوليات» و«الفطريّات» باعتبار عدم احتياجهما للتصديق بهما إلى أكثر من تصوّر أطرافهما والنسبة بينها.
أمّا المحسوسات فهي تنقسم ـ كما هو معلوم ـ إلى قسمين: محسوسات بالحسّ الظاهريّ تسمّى «حسّيات» كالحكم بأنّ الشمس مضيئة، وأنّ الوردة طيّبة الرائحة، ومحسوسات بالحسّ الباطنيّ تسمى «وجدانيّات» كالعلم بأنّ لنا فكرةً ولذّةً وأمثالهما.
ولا كلام في حقّانيّة «الوجدانيّات» لديه لأنّها حاضرة بنفسها لدى النّفس. نعم، الكلام في «الحسّيات»، وهاهنا نظر تارةً إلى ما هو متمثّل في أفق النفس كالصورة المنعكسة في العين وهذا ملحق بالوجدانيّات فهو مضمون الصحّة، وأخرى إلى ما هو متحقق في أفق الخارج، كإثبات وجود المرئيّ خارجاً وهذا غير مضمون الحقّانية بواسطة البرهان وإنّما يُدرَك بواسطة حساب الاحتمالات.
وما ذكره في «الحسّيات» بلحاظ ما هو متحقّق في أفق الخارج ذكره أيضاً في «التجريبيّات» و«الحدسيّات» و«المتواترات» فإنّها جميعاً غير مضمونة الحقّانية، بل قد تخطئ وتصيب، ولا سبيل إلى إثباتها إلاّ بالاعتماد على حساب الاحتمالات، ودعوى الاعتماد في إثباتها على قاعدة تفيد استحالة كون الصّدفة أكثريّة أو دائميّة غير تامّة.
وأمّا بالنسبة للأمر الثاني فقد أورد عليه إيرادين:
ـ الأول: إنّ منطق أرسطو لا يزيد شيئاً على المعارف البشريّة ولا يثمر معرفة جديدة، فإنّ «كلّ ما عُرِف تفصيلاً بالاستنتاج من القياس كان كامناً في الكبرى، فمنطق أرسطو إنّما يفيد إلفات النظر تفصيلاً إلى جزئيّات الأُمور المعلومة إجمالاً» .
ـ الثاني: إنّ المعارف النظريّة تتولّد من المعارف البديهيّة بأحد طريقين:
الطريق الأوّل: عبر إقامة القياس البرهانيّ، وفي هذا المجال ينبغي مراعاة شروط كل شكل من أشكال القياس مع مراعاة الشروط العامّة للبرهان، وفي هذه الحالة سيكون هناك تنازل ـ في مقام المعرفة ـ من العالي إلى السافل مشروط بعدم الفصل بينهما وكون تطبيق العالي على ما دونه بديهيّاً. وسيُنتج هذا الطريق معارف يقينيّة بملاك التلازم الموضوعيّ بين متعلَّق المعرفتين «البديهيّة والنظرية» .
الطريق الثاني: عبر مراعاة قواعد حساب الاحتمالات، وهنا يطبّق الإنسان ـ مع الالتفات وبدون غفلة ـ شيئاً على شيء بلا فصل مع عدم كون هذا التطبيق بديهياً، بل يكون التطبيق ناشئاً من حساب الاحتمالات وتجميع القرائن إلى درجةٍ يفنى معه الشك، «وليس المقصود بذلك فناء الشك رياضيّاً فإن الاحتمال لا يفنى رياضيّاً بتجميع القرائن على خلافه، بل مهما كَثُرَت القرائن كان مقتضى الحساب الرياضيّ بقاء كسرٍ ضئيل دون أن يزول، ولكن الإنسان خُلِق بنحو يَضمُر ويزول الاحتمال الضئيل في نفسه وينتفي عند تظافر القرائن ضده …».
فحساب الاحتمالات لا ينتِج يقيناً منطقيّاً ـ مئة بالمئة ـ وإنما يقيناً أصوليّاً عن طريق قانون ذاتيّ لا موضوعيّ سمّاه بالمذهب الذاتي في نظريّة المعرفة.
يقول: «فإنّ حساب الاحتمالات لا يوجب اليقين مهما امتد وإنما ينشأ اليقين نتيجة ضعف الاحتمال إلى حد كبير حيث تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين وجزم بقانون ذاتي لا موضوعي ضمن مصادرات معينة مشروحة في أسس الدليل الاستقرائي» .
وهذا النهج في توليد المعرفة يمتاز عن القياس البرهاني بإفادته لتكثير المعارف البشريّة .
وبناءً عليه، فلا ينحصر منشأ الخطأ في القضايا النظرية بما ذكره المنطق الأرسطيّ، بل له منشأٌ آخر وهو تطبيق العالي في سلسلة المعرفة على السافل مع عدم وجود فصلٍ بينهما تطبيقاً غير بديهيّ كما هو الحاصل في حساب الاحتمالات، إذ ذكرنا سابقاً أن النتيجة المأخوذة من هذا الحساب لا تقدّم يقيناً رياضياً، ولذا فقد تخطئ الواقع.
المحور الثالث: وقفة مع أدلة المشهور على الحسن والقبح العقليين
صحيح أن السيد الشهيد من القائلين بالحسن والقبح العقليين، إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم منه القبول بالنقوض التي ذكرها المحققون لتثبيت هذا الأصل، بل إنّه وضع هذه النقوض على بساط البحث ونقدها، تمهيداً لإبراز الرؤية التي يراها مناسبةً في المقام. ومن المناسب الإشارة بدايةً إلى أنه فرز مواقف القوم إزاء هذه المسألة ضمن تيارات أربعة:
ـ التيّار الأول: وهو تيار الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين والمدّعين أنّ الحسن هو ما حسّنه الشارع، والقبيح هو ما قبّحه الشارع.
ـ التيّار الثاني: وهو تيار المحدّثين الأخباريين، المدّعين قصور العقل وعجزه عن إدراك الحسن والقبح لا بطلانهما في نفسيهما.
ـ التيّار الثالث: وهو تيار مشهور الأصوليين، المصدّقين بأصل الحسن والقبح العقليين والمؤكدين على صحة الاعتماد على العقل في دركه لهما.
ـ التيّار الرابع: وهو تيار الفلاسفة المسلمين ـ بحسب ما ينسب إليهم ويفهمه الشهيد الصدر من كلماتهم ـ القائلين بأن الحسن هو ما حسّنه القانون، والقبيح هو ما قبّحه القانون.
ولقد وجّه أصحاب التيار الثالث ـ والذي ينتمي إليه الشهيد الصدر بلحاظ النتائج المتبناة ـ نقضين أساسيين لأصحاب المسلكين الأوّل والثاني ـ وللرابع أيضاً فإنّه بناءً على هذا العرض يرجع مدّعاهم بعد التحليل إلى ما يماثل مدّعى الأشاعرة ـ وهما:
ـ النقض الأوّل: وحاصله أنّه مع إنكار الحسن والقبح العقليين يلزم بطلان أحكام العقل العملي الواقعة في طول الكتاب والسنّة، كحكم العقل بلزوم الطاعة وبوجوب المعرفة لحسنهما، وكحكمه بحرمة المعصية لقبحها.
«أمّا بالنسبة لوجوب المعرفة فواضح إذ المفروض أنّه لم يثبت بعد وجود الشارع كي يتمسّك بحكمه، وأما بالنسبة لوجوب الطاعة وحرمة المعصية فلأنه لو لم يكن ذلك مدرَكاً بالعقل وأريد تثبيته بحكم الشرع نقلنا الكلام إلى إطاعة هذا الحكم، وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور» .
ـ النقض الثاني: وحاصله أنه مع إنكار الحسن والقبح العقليين يلزم بطلان أحكام العقل العملي في الرتبة السابقة عن الكتاب والسنّة،كحكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد من يدّعي النبوّة كذباً لكونه إضلالاً. ومع إبطال هذا الحكم لا يبقى مَدرَكٌ لإثبات النبوّة .
ـ مناقشة النقضين:
أمّا النقض الأوّل فيرى أنّ بإمكان الأشعريّ والأخباريّ دفعه بأحد وجهين:
ـ الأوّل: دعوى كفاية حكم العقل باحتمال العقاب لدفع العبد نحو تحصيل المعرفة والطاعة والابتعاد عن المعصية بلا حاجة إلى توسيط حكم العقل بقبح المعصية وحسن الطاعة والمعرفة. وهذا الاحتمال مُدرَكٌ للأشعريّ عن طريق علمه بوعد الله ووعيده الثابتين بالأدلّة القطعيّة، واحتمال صدق هذا الوعد والوعيد راجحٌ على احتمال كذبه، ومدرَكٌ للأخباريّ باحتماله حسن الطاعة وقبح المعصية مع عدم احتماله للعكس.
ـ الثاني: (وهذا يختصّ فقط بمسألة وجوب الطاعة وحرمة المعصية) دعوى القطع بثبوت العقاب على المخالفة وهو حاصلٌ للأشعريّ لإيمانه بإدراك العقل للحسن والقبح بمعنى النقص والكمال، وقد ثبت أنّ المولى توعّد بالعقاب على من خالف أوامره، فلو لم يصدق في وعيده لكان كاذباً، والكذب كالجهل نقصٌ بحكم العقل النظريّ وهو محال عليه تعالى، وحاصلٌ للأخباري نتيجة الأخبار الكثيرة الدالّة على ذلك، بل الدالّة أيضاً على حسن الطاعة وقبح المعصية .
وأمّا النقض الثاني فيرى أنّه غير صحيح لإيرادين:
ـ الأوّل: إنّ المعجز إما أن يكون دليلاً على النبوة وصدق مدّعيها أو لا. فإن كان كذلك كفى مدركاً لإثبات النبوة من دون حاجةٍ إلى ضمّ مسألة قبح التضليل، وإن لم يكن كذلك لم يكن إجراؤه تضليلاً.
ـ الثاني: دعوى أنّ الدليل التام لإثبات النبوة هو القائم على أساس حساب الاحتمالات وذلك بوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: وحاصله أنّ إجراء المعجز دليل تام على النبوة وصدق مدّعيها من دون حاجةٍ إلى ضمّ مسألة قبح التضليل إليه، فتسبيح الحصى ـ مثلاً ـ خرق لنواميس الطبيعة باعتبار دلالة حساب الاحتمالات على أن سكوتها ليس من باب الصدفة، وهذا الخرق دالٌ هو الآخر على ارتباط صاحب المعجزة بما وراء الطبيعة وخالقها. وما دمنا لا نحتمل كذبه أو اشتباهه فإن دعواه تصبح ثابتة .
الوجه الثاني: ويتمّ من خلال استقراء المجتمعات المختلفة الكثيرة في الزمن الحاضر وعبر التاريخ، بحيث يحصل للمستقرئ القطع بأنّه لا يفوق أيّ نابغةٍ مجتمعه إلاّ بنسبةٍ معيّنةٍ من الفهم والذكاء. ثم يلاحظ الفرق الواسع والهائل بين مجتمع النبي صلوات الله علیه والأفكار التي جاء بها صلوات الله علیه «فيثبت بذلك أن تلك الأحكام والأفكار ليست له إن هي إلاّ وحي يوحى علّمه شديد القوى» .
الوجه الثالث: وذلك بملاحظة أحوال الرسول صلوات الله علیه وأمانته وصدقه وصموده أمام المحن والمصائب، الدالة بحساب الاحتمالات على أنّه لو كان كاذباً في دعواه لكفى ما واجهه لرفع يده عنها. «فمن لاحظ كل هذا وما إليه حصل له القطع ـ إن كان سليماً في فطرته وعقله ـ بنبوّته صلوات الله علیه» .
وبسقوط النقضين المتقدمين يبرز لدينا التساؤل التالي: ما هو الدليل الذي يراه الشهيد الصدر تاما،ً وصالحاً لمواجهة المنكرين؟
الجواب: لا بدّ أولاً وقبل كل شيء التنبُّه إلى الفارق الجوهري الكامن بين الحسن والقبح العقليين والحسن والقبح الشرعيين، فإنّ الأول يشير إلى أمرٍ واقعي أدركه العقل بخلاف الثاني الذي يحكي عن أمرٍ اعتباري جعله الشارع.
يقول: «فليست نسبة الحسن والقبح العقليين إلى الحسن والقبح الشرعيين كنسبة الموت الناشئ بفعل غير المولى إلى الموت الناشئ بفعل المولى، حيث إنّهما لا يختلفان في جوهرهما، وإنما الفرق في أن الموت تارةً يكون بسبب قتل المولى لعبده، وأخرى بسبب قتل شخصٍ آخر إيّاه مثلاً، وحقيقة الموت لا تختلف في كلتا الحالتين. وإنما نسبة الحسن والقبح الذاتيين إلى الحسن والقبح الشرعيين، كنسبة السلطنة الواقعيّة إلى السلطنة الشرعية المختلفتين جوهرياً ـ إلى أن يقول ـ فالحسن والقبح الذاتيان عبارة عن واقع الحسن والقبح ونفس المعنون، بينما الحسن والقبح الشرعيان عبارة عن عنوان الحسن والقبح الثابت بالجعل والاعتبار» .
وعليه فالأشاعرة لم يلتفتوا إلى هذا الفارق الجوهري، ولو أنّهم التفتوا إليه لأمكنهم القبول بأن إدراك العقل للحسن والقبح أمرٌ ثابت بالبداهة والوجدان.
المحور الرابع: بيان ملاك حكم العقل بالحسن والقبح
وبوصول البحث إلى هذا المستوى نصل إلى طرح التساؤل التالي: ما هو الملاك في حكم العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر؟ هل هو وجود المصلحة في بعضها والمفسدة في بعضها الآخر فيكون الأجدر حينذاك تسمية الحسن والقبح بالحسن والقبح العقلائيين ـ كما فعل المحقق الإصفهاني ـ أم أنّ للعقل إدراكهما بمعزل عن المصلحة والمفسدة، وهذا هو المناسب لتسميتهما بالعقليين؟
يؤكّد السيد الصدر على عدم تبعيّة الحسن والقبح في الأفعال للمصلحة والمفسدة فيقول: «الواقع أن الإدراك الموجود في نفوس الناس ـ سواء فرضناه حقّاً أم لا ـ غير مرتبطٍ بباب المصلحة والمفسدة …» .
وفي سبيل إيضاح متبنّاه يناقش القول بالتبعيّة من جهتين:
ـ الأولى: ما يمكن أن يُفرَض لهذا القول من أنحاء متصورة للمصلحة والمفسدة وهي ثلاثة، وفي جميعها قد يتخلّف الحسن والقبح عن المصلحة والمفسدة فلا يدور معها وجوداً وعدماً.
ـ الثانية: ما ذكره المحقق الخراسانيّ في مقام توجيه هذه التبعيّة حيث فهم السيد الشهيد منه أنّه بصدد توجيه القول بالتبعيّة، وسيوافيك نصّ كلامه فانتظر.
ـ أمّا بالنسبة للجهة الأولى، فذكر أنّ الأنحاء الثلاثة المتصوّرة للمصلحة والمفسدة هي:
1ـ المصلحة والمفسدة الشخصيّتان بالنسبة لقوة من قوى النفس.
2ـ المصلحة والمفسدة الشخصيّتان بالنسبة للنفس البشرية، ويُقصد منهما ما يوجب كمالاً للنفس أو نقصاً لها.
3ـ المصلحة والمفسدة النوعيّتان.
أمّا النحو الأول فله صورتان، إذ أمّا أن يراد منهما ـ المصلحة والمفسدة ـ ما هو علّة تامّة لانقداح الداعي إلى الفعل أو الترك، أو ما هو مقتضٍ له.
أمّا الأول، فليس بصحيح لاستلزامه أن يصدر من الإنسان ما هو حسنٌ دائماً ولا يصدر منه القبيح.
وأمّا الثاني، فغير صحيح أيضاً لإدراك الإنسان بالوجدان الفرق بين حالة ارتكابه لما يعتقد قبحه وحالة ارتكابه لما هو خلاف مصالحه، فالفرق واضحٌ بين من يمارس التدخين مع اعتقاده بأنّه خلاف مصلحته وبين من يكشف سرّ أخيه مع اعتقاده بقبحه.
وأمّا النحو الثاني فيلزم منه أن يكون الحسن والقبح في طول كمال النفس ونقصها، ووقوع المزاحمة بين الكمالات والنقائص في مقام استنتاج كون هذا الفعل حسناً أو قبيحاً والحال أنّ الأمر بالعكس.
ويمثّل لذلك بفرض كون كشف سرّ الأخ مقدّمة لتحصيل علم من أهم العلوم، فإنّه على القول بكون الحسن والقبح في طول الكمال، والنقص يلزم مقايسة المقدار الذي يزول من النفس بسبب كشف السرّ مرّة واحدة من ملكة كتمان السر،بمقدار الكمال الذي تحصل عليه النفس من كمال العلم، فإن كان الثاني أرجح حكم المرء بحسن كشف السر. أمّا على القول بكون الكمال والنقص في طول الحسن والقبح فسيبقى كشف السرّ قبيحا ً.
وأمّا النحو الثالث ـ والذي يقول به الفلاسفة ـ فغير صحيح أيضاً، إذ بناءً عليه سيقع التزاحم ـ في المثال المتقدّم ـ بين المصلحة النوعيّة المترتّبة على تحصيل العلم وبين المفسدة النوعيّة المترتبة على كشف السر، وسيتقدّم الأقوى منهما، وهذا خلاف ما يجده الإنسان بوجدانه من بقاء كشف السر على قبحه .
ـ وأمّا بالنسبة للجهة الثانية، فقد ناقش الشهيدُ الصدرُ الآخوندَ في إرجاعه الحسن العقليّ إلى ما يكون المدرَك فيه مسانخاً للقوة العاقلة، وإرجاعه القبح العقليّ إلى ما يكون المدرَك فيه مبايناً لها. وأورد عليه أربعة نقوضٍ مضافاً لما أورده على اصل كلامه.
وقبل ذكرنا لأهمّ تلك النقوض، وننقل ما ذكره الآخوند في المقام ـ على طوله ـ نظراً لما يتضمّنه من فوائد وإشارات مهمة، وإليك نصّ كلامه، قال: «إذا عرفت ذلك، فقد عرفت انه لا مجال لإنكار اختلاف الأفعال بحسب خصوصيّات وجودها سعةً وضيقاً، وخيراً وشراً الموجب لاختلافها بسبب المنافرة والملائمة للقوة العاقلة، ومع ذا لا يكاد أن يبقى مجال لإنكار الحسن والقبح عقلاً، إذ لا نعني بها إلاّ كون الشيء في نفسه ملائماً للعقل فيعجبه أو منافراً فيعذّبه، وبالضرورة إنّهما يوجبان صحة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً بما هو فاعل، كما لا يكاد أن يخفى على عاقل. ودعوى عدم اختلاف الأفعال في ذلك كدعوى عدم إيراث ذلك تفاوتاً فيها وملائمةً ومنافرةً للعقل. كدعوى عدم صحّة مدح الفاعل وذّمه على صدور الفعل الملائم والمنافر بالاختيار، مكابرة واضحة.
إلى أن يقول: ثم إنّه ظهر مما ذكر بيان ما هو سبب اتّصاف الأفعال عند العقل بالحسن والقبح اتّصافها بهما أيضاً عنده جلّ شأنه، ولا يبقى مجال لإنكار ذلك بتقريب أنه من المحتمل أن تكون ملاءمات العقل ومنافراته بالقياس إليه تعالى كملاءمات سائر القوى ومنافراتها بالنسبة إليه، فكما لا يتفاوت عنده الملائم والمنافر لها، بل هما على حدٍّ سواء، كذلك كان حال ملاءماته ومنافراته بالإضافة إليه تعالى، وذلك لما عرفت من أنّ سلب الاتصاف هو الاختلاف في السنخيّة والبينونة في الوجود بحسب سعته وكماله، وضيقه ونقصه بما له من الأثر خيراً وشراً.
ولا يخفى أن هذا كلما كان الوجود أكمل كان أظهر وأبين، ولأجل ذلك يكون كلما كان العقل أكمل كان استقلاله بهما فيها أكثر والملاءمة والمنافرة أبين وأظهر، وكلّما كان أنقص كان ذلك اقلّ، إلى أن لا يرى المنافر منافراً والملائم ملائماً، بل يرى بالعكس».
وبعد ملاحظتنا للنص المتقدّم ـ وتجدر الإشارة إلى أنّ الشهيد الصدر نقل مضمونه لا نصّه ـ نتوجّه لأهم النقوض التي سجّلها الشهيد الصدر عليه حيث ذكر أنّه يلزم من كلام الآخوند أن يكون المباح مستقبحاً في نظر الراقي على صعيد العقل النظري، وأمراً عادياً في نظر الداني؛ وذلك لأن نسبة الفعل المباح إلى الراقي كنسبة الفعل القبيح إلى الداني. والحال أنّ الأمر ليس كذلك بالوجدان.
هذا بلحاظ النقض، وأمّا ما أورده على أصل كلامه فهو عبارة عن أمرين:
ـ الأوّل: إنّه خلط بين المدرَك بالذات والمدرَك بالعرض، وملاءمة أو منافرة القوة العاقلة إنما هو مع المدرَك بالذات ـ وهو الصورة الذهنيّة للشيء ـ لا مع المدرَك بالعرض. والصور الذهنيّة للأشياء من سنخٍ واحد ودرجةٍ تجرّدية واحدة، ولذا فلا معنى للقول بأنّ بعضها ملائم للقوة العاقلة وموجب لانبساطها وبعضها الآخر منافرٌ لها وموجب لانقباضها، «ولذا ترى وجداناً: أنّ القوة العاقلة ليس الأولى بها أن تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الأولى بالقوة الباصرة أن تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والأولى بالقوة الشامة أن تشمّ الروائح العطرة دون الكريهة».
ـ الثاني: إنّ انبساط القوة العاقلة أو انقباضها ـ إن سُلِّم به ـ لا يصح جعله منشأً لصحة المدح أو الذمّ كما ادّعاه. فإنّ المنشأ إما أن يكون عبارة عن اعتبار العقلاء وجعلهم، وهذا يرجع إلى إنكار الحسن والقبح العقليين، وإما أن يكون عبارةً عن خصوصيّة ذاتيّة في الفعل أوجبت صحة المدح والذمّ، وهذا تفسيرٌ للحسن والقبح يغني عن ضمّ انبساط القوة العاقلة وانقباضها.
المحور الخامس: حقّانيّة العقل العملي؛ السلطنة، لوح الواقع
ناقش الشهيد الصدر الفلاسفة في دعواهم منشأيّة المصالح والمفاسد في الأفعال لأحكام العقل بالحسن والقبح فيها ـ وقد تقدم هذا النقاش ـ ، وفي دعواهم كون أحكام العقل العملي من المشهورات. وسنخصص هذا المحور لعرض وجهة نظره في الدعوى الثانية، لنصل من خلال ذلك إلى معرفة رأيه في حقيقة قضايا العقل العملي، وبذلك تكتمل الصورة المرتبطة برؤيته للحسن والقبح.
السؤال الأوّل الذي يطرحه في المقام هو: ما المراد من كون قضايا العقل العملي من المشهورات؟
يجيب بأنّ هاهنا احتمالين لا ثالث لهما:
ـ الاحتمال الأوّل: هو ما ذكره المحقق الإصفهانيّ من كون المراد إنكار المابإزاء الواقعيّ لهذه القضايا ـ وبعبارةٍ ثانيةٍ كون هذه القضايا إنشائيّة بحتة لا خبرية ـ فهذه القضايا لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء عليها . والبرهان على ذلك هو أن هذه القضايا ليست من مواد البرهان الست المسطورة في كتب الميزان.
إلاّ أنّ هذا البرهان إن تمَّ فإنّه لا يدلّ على أكثر من نفي ضمان حقّانيّة قضايا العقل العمليّ لعدم كونها من البديهيّات ـ وهي اُصول اليقينيّات كما أشرنا سابقاً ـ ، ولا يدلّ على مدّعى المحقق الإصفهاني من نفي المابإزاء الواقعي مطلقاً عن هذه القضايا.
مضافاً إلى أنّه غير تامٍ في نفسه، إذ حصر مواد البرهان بالقضايا الست المسطورة في كتب الميزان ليس من الضروريات، فهو ليس من الأوّليات ولا الفطريات ولا متواتراً ولا من المحسوسات أو التجريبيات أو الحدسيات، فتعيّن كونه من الاستقرائيّات. «وهذا الاستقراء موقوف على تسليم عدم كون باب حسن العدل وقبح الظلم مثلاً من الضروريات العقليّة. إذن، فلا يمكن الاستدلال على عدم ضرورية الحسن والقبح بعدم دخولها في الضروريات الست، فإنّ هذا البرهان دوريّ» .
ـ الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود نفي ضمان حقانيّة هذه القضايا. وما قد يُدّعى من كون الشهرة هي الضامن لذلك مردودٌ بأنها لا تصلح له.
وهذا الاحتمال باطلٌ هو الآخر لما سيأتي من دليلٍ على حقّانيّة هذه القضايا.
وأمّا السؤال الثاني والذي نطرحه باسمه في المقام فهو: هل يوجد برهان يثبت حقّانيّة مدرَكات العقل العملي أم لا؟
قد يقال بوجود ما يثبت العكس أي عدم حقّانيّة هذه المدرَكات وذلك ببراهين ثلاثة جميعها لا يسلم من النقد.
أما البرهان الأول، فهو ما ذكره الأشاعرة من أن الفعل إنّما يتصف بالحسن والقبح إن كان اختيارياً، والحال أن الإنسان مجبورٌ في أفعاله.
ولكن هذا البرهان غير تام ـ بنظر السيد الصدر ـ للنقاش في دعوى مجبورية الإنسان في أفعاله، إذ الثابت بداهةً هو العكس، مضافاً إلى أنّه لو تمّ فإنّه لا يثبت عدم حقّانيّة مدركات العقل العملي؛ لأنّ العقل العملي إنّما يحكم بقضيّة شرطيّة «وهي أنّ الفعل إن كان اختيارياً اتصف بالحسن والقبح، وإنكار الشرط لا يؤدي بنا إلى إنكار القضية الشرطيّة …».
وأما البرهان الثاني، فهو ما يمكن صياغته وفق مباني الفلاسفة ـ وإن لم يذكروه ـ وحاصله أن الحسن والقبح إن كانا واقعيين فهما إمّا من المعقولات الثانية الفلسفية، كالوجوب والإمكان، وإمّا من المقولات العرضيّة كالسواد والبياض ونحوهما.
والأول غير صحيح، لاستلزامه انتزاع شيءٍ واحد من أمورٍ متباينة بما هي متباينة، ذلك أنّ الأفعال المعروضة للحسن والقبح قد تكون متباينة بتمام الذات، «بل ربما ينتزع هذا الشيء الواحد من الوجود والعدم، فوجود الإكرام ـ مثلاً ـ حسن، وعدم الانتقام ـ أيضاً ـ حسنٌ، في حين لا جامع بين الوجود والعدم» .
والثاني حاله كذلك لاستلزامه عدم اتصاف الأفعال قبل وجودها بالحسن والقبح إذ لا يُعقَل وجود العرض قبل وجود المعروض. وهذا منافٍ لماهية الحسن والقبح، فإنّ الفعل الحسن يدعو الإنسان لإيجاده، والفعل القبيح يدعوه لتركه، ولازم ذلك أن يتقدّم اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح على وجود نفس الأفعال خارجاً.
يجيب السيد الشهيد هاهنا بطرحٍ جديدٍ غير معهود قبله: لا بدّ من التمييز بين لوح الواقع ولوح الوجود. وبناءً عليه، فهذا البرهان غير تامٍ لأمرين:
ـ الأوّل: إنّه مبتنٍ على مساواة لوح الواقع للوح الوجود والخارج. ولذا فما لا يكون أصيلاً فهو إمّا أمر انتزاعيٌ انتزعه العقل وإمّا أمر عرضيّ، والحال أن لوح الواقع أوسع من لوح الوجود، ومن موجوداته الحسن والقبح، كما أنّ من موجوداته الإمكان والوجوب.
يقول: «إنّ الحسن والقبح ليسا انتزاعيين ـ بمعنى يقابل الوجود في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الخارج ـ حتى يرد الإشكال الأول، ولا خارجيين حتى يرد الإشكال الثاني، بل هما من موجودات لوح الواقع» .
فقضايا الحسن والقبح العقليين، «قضايا واقعيّة دور العقل فيها هو دور المدرِك الكاشف على حدّ القضايا النظرية الأُخرى، غاية الأمر أنّ هذه القضايا قضايا واقعيّة تحققها بنفسها لا بوجودها الخارجيّ نظير مقولات الإمكان والاستحالة والامتناع من مدرَكات العقل النظري …» .
ـ الثاني ـ وهو جواب تنزّلي ـ : يمكن اختيار الشق الأوّل ـ أي أنّهما من المعقولات الثانية الفلسفيّة ـ والجامع بين الأفعال المختلفة ماهيةً وحقيقةً هو دخولها تحت السلطنة ـ أي مقدوراً عليها ـ وكونها في طولها. وبناءً عليه، فالحسن والقبح أمران واقعيّان بواقعيّة منشأ انتزاعهما وهي السلطنة ـ وسيأتي بيان معنى السلطنة تفصيلاً ـ ، وهي الجامع لحصص الحسن والقبح .
وأمّا البرهان الثالث، فهو ما ذكره بعض المتكلمين بناءً على أنّ كل ما يعرض الشيء حقيقةً فيجب أن يكون ذاتيّاً له لأنّ كل ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات. فلو كان الحسن والقبح واقعيين لكانا ذاتيين، والحال أنهما ليسا كذلك، بل يختلفان بالوجوه والاعتبارات.
وهذا البرهان غير تامٍ أيضاً ـ بنظر السيد الشهيد ـ لأنّ الحسن والقبح لا يختلفان بالوجوه والاعتبارات، بل هما ذاتيّان للأفعال المتّصفة بهما، وما «يتراءى من الاختلاف ينشأ من مسألة التزاحم».
مضافاً إلى أنّه لو سُلِّم ـ تنزّلاً ـ وقوع الاختلاف في الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات، فإنّها ـ الوجوه والاعتبارات ـ حيثيّات تقيديّة، توجب تحديد حصص الحسن والقبح، أي أنّ المتّصف بالحسن مثلاً ليس هو مطلق الصدق، وإنّما ذاك الصدق غير المحفوف بمضارٍ غالبةٍ على نفعه، والمتّصف بالقبح ليس هو مطلق الكذب وإنّما ذاك الكذب غير المحفوف بمنافع غالبةٍ على ضرّه، وهذا التحصيص لا ينافي كون الحسن والقبح ذاتيين لهذه الحصص، بخلاف ما لو أُخذت الوجوه والاعتبارات كحيثيّات تعليلية.
وبذكرنا لما يراه الشهيد الصدر مبطلاً لجميع البراهين الواردة لإثبات عدم حقّانيّة مدركات العقل العملي، نعرض لما يراه مثبتاً لحقّانيّة هذه المدركات، وذلك أوّلاً ببيان ما يراه معياراً لتلك الحقّانيّة، وثانياً ببيان الدليل على ثبوتها.
أمّا بالنسبة لمعيار حقّانية أحكام العقل العملي، فيرى أنّه عبارة عن «الضرورة الخُلقيّة الثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أيّ معتبر».
وهذه الضرورة الخُلقية مباينة للضرورة التكوينيّة ماهيّةً ورتبةً، فإنّها تعني الانبغاء والأحرائيّة في مقابل الوجوب. وهي في طول السلطنة بخلاف الضرورة التكوينيّة التي هي في عرضها.
وتوضيح ذلك أنّ السيد الشهيد يرى أن نسبة شيء إلى شيء بعد استثناء نسبة الامتناع هي واحدة من ثلاث:
الوجوب، الإمكان والسلطنة
أمّا الوجوب فهو نسبة الشيء إلى علّته التكوينيّة، وأمّا الإمكان فهو نسبته إلى قابله، وأمّا السلطنة فهي نسبة الفعل الاختياريّ إلى فاعله. وفرقٌ بين الوجوب والسلطنة، فإنّ الوجوب يعني أن الفعل واجب الصدور عن الفاعل، بينما السلطنة تعني أنّه «له أنّ يفعل وأن لا يفعل» .
وبهذا، «فالقاعدة التي تصحّ في كل المواضع هي: أنّ الشيء لا يوجد إلاّ بالوجوب أو السلطنة، لا أنّ الشيء بشكلٍ عام ما لم يجب لم يوجد …».
وباتضاح معنى نسبة السلطنة نقول: إنّ الضرورة الخُلقيّة التي هي في طول السلطنة هي المصححة للحكم بالحسن والقبح، إذ لا تتصف الأُمور غير الاختياريّة بهما.
ولا يكتفي شهيدنا بهذا المقدار من البيان، بل يتعدّى ذلك إلى القول بأنّ وجود نسبة اُخرى إلى جانب نسبة الوجوب والإمكان بحسب عالم التصوّر أمرٌ بديهيّ، وبحسب عالم التصديق يمكن البرهنة عليه بنحوٍ إبداعيّ لم يسبقه أحد إليه.
يقول: «وبالإمكان أن نقيم برهاناً على وجود نسبة السلطنة واقعاً في الجملة، ويكون هذا أوّل مرةٍ في تاريخ هذه المسألة؛ لعدم الاقتصار في مقام إثبات هذه السلطنة على الوجدان، وإثباتها بالبرهان» .
البرهان على ثبوت نسبة السلطنة خارجاً:
وحاصل هذا البرهان هو أنّنا لو بنينا على أن النسب في الخارج تنحصر في الوجوب والإمكان، فإننا نفترض مثالاً يلزم منه خرم قاعدتين عقليّتين أو على الأقلّ واحدةً منهما. وهاتان القاعدتان هما:
1ـ إنّ الممكن بالذات يستحيل أن يكون علّةً للمحال بالذات.
2ـ إنّ المحال بالذات يستحيل أن يكون معلولاً ولو لمحالٍ ذاتيّ آخر.
وهذا المثال هو أن نفترض ضدّين وجوديين لا ثالث لهما، ونلحظ نسبتهما إلى ما يمكن فرضه فاعلاً لأحدهما. «وبعد هذاٍ نقول: إنّ ارتفاع ضدين وجوديين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ بعد فرض وجود جسمٍ مثلاً كي يتّصف بالحركة والسكون ـ محالٌ بالذّات،كارتفاع النقيضين. وحينئذٍ نلفت النظر إلى ضدّين لا ثالث لهما، ونقول:
إنّ من الممكن أن لا يوجد في سلسلة العلل لهذين الضدّين مرجِّحٌ لأحدهما على الآخر. فلو ثبت هذا الإمكان … قلنا: إنّه لو بُني على انحصار النسبة خارجاً في الوجوب والإمكان،للزم كون الممكن بالذات ـ وهو عدم المرجِّح لكلّ من الضدّين ـ علّة لارتفاع الضدّين اللذين لا ثالث لهما، الذي هو محالٌ بالذات. وهذا انخرامٌ لكلتا القاعدتين العقليّتين … ولو قلنا باستحالة انتفاء المرجِّح في سلسلة العلل،لزم انخرام القاعدة الثانية فحسب، بينما لو سلّمنا وجود النسبة الثالثة في الخارج، فلا يبقى هناك إشكال، إذ يوجد أحد الضدّين حينئذٍ بالسلطنة بلا حاجة إلى مرجِّح» .
وأمّا بالنسبة للدليل على ثبوت حقّانيّة أحكام العقل العمليّ فيرى أنّ أصل الحسن والقبح أمرٌ وجدانيّ لا يمكن البرهنة عليه لا بعقل التجربة، ولا بعقل البرهان، ولا بالبداهة.
أمّا الأوّل فلعدم ارتباط أحكام العقل العمليّ بباب التجربة. وأمّا الثاني فلأنّ كلّ قياس برهانيّ يتوقّف إنتاجه على التصديق بثبوت الأوسط للأصغر والأكبر؛ لأنّه واسطة في إثبات الأكبر للأصغر، فننقل الكلام إليه، فأمّا أن يكون التصديق به بديهيّاً مستغنياً عن البرهان أو لا فيحتاج هو الآخر إلى قياسٍ يثبته. وهكذا إلى أن تنقطع السلسلة أو نقع في التسلسل. وأمّا الثالث فلأنّه لا يمكن البرهنة على أيّ بديهيّ ببداهته.
نعم، المدّعى أنّهما ـ أصل الحسن والقبح ـ من المعارف التي تنبع من حاقّ النّفس، وكلّ معرفة حالها كذلك فهي مضمونة الصحّة ويستحيل فيها الخطأ.
ولو شُكَّ في كون إدراك حسن شيء أو قبحه نابعاً من حاقّ النفس أو من تأديب المؤدّبين وتعليم المعلّمين وإيحاء المجتمع والقوانين، فغاية ما يمكن القيام به هو تنبيه النفس وإلفاتها إلى حقيقة هذا الإدراك. يقول: «الممكن في المقام هو أن يعرض هذا الشخص على نفسه في أيّ قضية من قضايا العقل العملي هذين الاحتمالين، أعني: كون هذا الإدراك ناشئاً من حاقّ النفس أو من التأديب والتلقين. فإن احتمل الثاني، أصبح هذا سبباً في الإنسان السويّ لزوال إدراكه وقطعه بتلك القضيّة. وإذا زال قطعه بذلك لم يمكن إرجاع القطع، إذ احتمال كون هذا الإدراك معلولاً للتأديب والتلقين حاله حال سائر احتمالات معلوليّة شيءٍ لشيء، ممّا لا يزول إلاّ بأحد طريقين: إمّا التجربة، بإبعاد ما يحتمل علّيته، كي يرى هل يبقى ما احتمل معلوليّته أو لا؟ وإمّا بمخالفته لقوانين العلّية، كرفض معلوليّة شيءٍ لشيءٍ أخسّ منه وأسفل في سلّم الوجود، وفيما نحن فيه لا يوجد شيء من الطريقين.
أمّا التجربة: فلأننا لم نجرّب أحداً بعزله عن المجتمع والتأديبات، كي نرى هل يدرك قضايا العقل العمليّ أو لا.
وأمّا قوانين العلّية: فلأنّ معلولية ذلك للتلقين والتأديب ليست على خلاف قوانين العلّية .
أمّا إذا لم يزل إدراكه وقطعه بذلك مع كونه إنساناً سويّاً، فعدم زواله مع استعراض هذين الاحتمالين على النفس أمّا أنّ يكون ناشئاً من عدم معلوليته للتأديب أو التلقين ـ أي واقعاً عدم كونه كذلك ـ ، أو من اعتقاده بعدم معلوليّته لذلك. ومن يعتقد بذلك يكفيه اعتقاده، ولا يحتاج إلى دليل».
تطبيقات
بعد الانتهاء من رسم الصورة الكاملة لتصوّر السيد الشهيد للحسن والقبح العقليين، لا بدّ من الإشارة إلى مطالب تطبيقيّة تفيد في تجلية هذه الصورة أكثر وفي الإجابة عمّا يمكن أن يرد من تساؤلات في مجال التطبيق.
المطلب الأوّل: في قولنا إنّ العدل حسنٌ والظلم قبيح خطأٌ منطقيٌّ
توجد العديد من الرؤى في تفسير علاقة الحسن والقبح بالأفعال الواقعة موضوعاً لهما، فمنها من يرى أنّهما ذاتيّان لها، ومنها من يرى أنّهما بالوجوه والاعتبارات، وذهب بعضها إلى أنّ الحسن والقبح ذاتيّان لعنواني العدل والظلم دون سواهما من العناوين. قال المحقق الإصفهاني: «بل المراد بذاتيّة الحسن والقبح كون الحكمين عرضاً ذاتيّاً، بمعنى أن العدل بعنوانه والظلم بعنوانه يُحكم عليهما باستحقاق المدح والذمّ من دون لحاظ اندراجه تحت عنوانٍ آخر، بخلاف سائر العناوين…».
إلاّ أنّ الشهيد الصدر يرى أنّ في قولنا: العدل حسن والظلم قبيح، خطأٌ منطقيّ. وذلك أن هاتين القضيتين ضرورتان بشرط المحمول. فنحن عندما نحكم على العدل بأنّه حسن، كان معنى ذلك أنّه ممّا ينبغي فعله. ولو حلّلنا معنى العدل لوجدنا أنّه إعطاء كل ذي حقٍ حقّه، أي أنّه قد أُخِذ ثبوت الحقّ لصاحب الحقّ في موضوع القضيّة. وهذا الحقّ أمرٌ واقعيّ وليس جعليّاً، إذ الكلام في مدرَكات العقل العمليّ التي هي أمورٌ واقعيّة. وإدراك العقل لهذا الحقّ هو الإدراك للحسن أي لما ينبغي فعله. وهذا يعني أن الحكم بالانبغاء مأخوذ في العدل الواقع موضوعاً لقضيّة «العدل حسن». وعليه فقولنا: «العدل حسن»، يرجع بالآخرة إلى قولنا: «الحسن حسن»، وهكذا الكلام في قولنا: «الظلم قبيح».
وبناءً عليه فقولنا: «العدل حسنٌ» و «الظلم قبيحٌ» هو في الحقيقة تجميعٌ للقضايا الأوليّة، وقد جُعِلَ العدل والظلم اسماً لكلّ ما فرض في الرتبة السابقة حسنه أو قبحه، ولذا فالصحيح أن يقال: حفظ الأمانة حسنٌ والصدق حسنٌ، والسرقة قبيحةٌ والخيانة قبيحةٌ وهكذا .
المطلب الثاني: انقسام العقل العمليّ إلى عقلٍ أوّل وعقلٍ ثانٍ
من الأدلّة التي يذكرها النافون لحقّانيّة أحكام العقل العمليّ هو ما ذكره الأخباريون ـ وغيرهم ـ من كثرة وقوع الأخطاء فيه بلحاظ حجم الاختلاف بين الأعراف والمجتمعات فيما يرجع إلى مدرَكات العقل العمليّ، «فكم من شيءٍ كان يراه عرف أو قبيلة حسناً ويراه الآخرون قبيحاً» .
الشهيد الصدر المصرُّ والمؤكدُّ على ذاتية أحكام العقل العمليِّ وبداهتِها، يدفع هذا الاستدلال بتقسيم العقل العمليّ إلى قسمين: عقلٍ أوّلٍ وعقلٍ ثانٍ.
أمّا العقل الأول، فشأنه إدراك حسن الأشياء وقبحها في نفسها بنحو الاقتضاء، وأنّها تنبغي أو لا تنبغي مع قطع النظر عن مسألة التزاحم.
وأمّا العقل الثاني، فشأنه إدراك حسن الأشياء وقبحها بعد تقديم الأهمّ على المهمّ في مورد التزاحم. وفي هذا المورد يقع الاختلاف بين العقلاء في تشخيص الأهمّ من المهم. وليس هذا الاختلاف موجباً للتشكيك في أصل إدراكات العقل العمليّ.
المطلب الثالث: استحقاق الثواب والعقاب مصداقٌ للحسن
المتداول على الكثير من الألسن أنّ الحسن هو ما يستحقّ فاعله المدح والثواب، وأنّ القبيح هو ما يستحقّ فاعله الذمّ والعقاب. إلاّ أنّ الشهيد الصدر يرى أن في المقام خلطٌ موجبٌ للخطأ. فإنّ الحسن هو ما ينبغي وقوعه، والقبيح هو ما لا ينبغي وقوعه. وقولنا حين مواجهة من صدر منه الحسن أو القبيح أنّه يستحقّ الثواب أو العقاب، ما هو إلاّ تطبيقٌ آخر لما ينبغي وقوعه كأمر واقعيّ تكوينيّ.
وبناءً عليه، يصير استحقاق العقاب مصداقاً لما لا ينبغي وقوعه تجاه فاعل القبيح، واستحقاق الثواب مصداقاً لما ينبغي وقوعه تجاه فاعل الحسن.
الأمر الثالث: آثار تلك الرؤية
من الطبيعيّ أن تكون لرؤية الإنسان تجاه موضوع تأصيليّ كالحسن والقبح في الأفعال أثرٌ في الكثير من أفكاره ورؤاه، فكيف إن كان هذا الإنسان مفكّرٌ عملاق كالشهيد محمد باقر الصدر!
من المؤكَّد والمحتوم أن تنعكس تلك الرؤية في الكثير من طروحاته في شتّى الميادين. ولكننا ولضيق المقام سنقتصر هاهنا على ذكر ثلاثةٍ منها على أمل أن يوفّقنا الله لإلقاء الضوء على جميعها في دراسةٍ اُخرى.
الأثر الأوّل: حقّ الطاعة
هل أن دائرة مولوية المولى الحقيقيّ تتّسع لتشمل جميع التكاليف، المقطوعة والمشكوكة، أم أنّها تنحصر فقط في دائرة التكاليف المقطوع بها؟
هذا السؤال يتكرر ذكره من السيد الشهيد في إطار تأكيده على سعة دائرة هذه المولوية. ومرجع ذلك إلى أن مالكيّة الله تعالى تشمل كل شيء، ولا بدّ لمن يريد التصرّف في تلك الدائرة أن يُحرز إذن الله له في ذلك. وما لم يحرِز هذا الإذن فإنّه يكون ممنوع التصرّف. فإنّ تصرّفَ والحال هذه فسيكون قد خرج عن رسم العبوديّة واحترام المولى.
إذن، للمولى على عبده حقّ طاعته في كل شيء، وهذا الحقّ هو أمرٌ واقعيّ أدركه العقل العمليّ إدراكاً أوّلياً باعتباره أمراً حسناً ممّا ينبغي وقوعه، لا أمراً جعليّاً واعتباريّاً كما يراه أصحاب مسلك الحسن والقبح العقلائيّين. وكما أنّ هذا الحقّ مدرَكٌ أوّليّ للعقل العمليّ، فكذلك سعة دائرة هذا الحقّ ـ وكونها تشمل التكاليف المعلومة والمشكوكة ـ هي من المدرَكات الأوّلية للعقل العمليّ، أي يكون حكم العقل بحسن طاعة المولى في كل شيء كحكمه الأوليّ بحسن طاعته.
وعليه، «فالقاعدة العمليّة الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ».
الأثر الثاني: الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
من الموضوعات الأصوليّة المهمة التي وقع البحث حولها بين المحققين قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. فهل هي تامّة على إطلاقها أم لا ؟ أم يوجد تفصيلٌ في البين؟
الشهيد الصدر وفي معرض بحثه لهذه المسألة لاحظ بدايةً أن العقل ـ باعتبار طبيعة مدرَكاته ـ ينقسم إلى قسمين: عقلٌ نظري وعقلٌ عمليّ. وينبغي البحث عن الملازمة في كلا القسمين.
أمّا على صعيد العقل النظريّ، فباعتبار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، وكون إدراك المصالح والمفاسد في الأشياء من شأن العقل النظريّ، فلا مانع من ثبوت الملازمة. ولكن الكلام كل الكلام في مدى قدرة العقل على إدراك تمام هذه المصالح والمفاسد: إنّ هذا ممّا يندر وقوعه.
وأمّا على صعيد العقل العمليّ، فباعتبار كون الحسن والقبح أمران واقعيّان يدركهما العقل، وكون هذا الإدراك يقتضي بنفسه تحريك المكلّف نحو الفعل أو الترك، فلا داعي للقول بثبوت قاعدة الملازمة. إذ قد يكتفي الشارع بهذا الإدراك في مقام تحريك العبد، وذلك فيما إذا لم يكن اهتمام المولى بالفعل أو الترك أكبر من اقتضاء إدراك العقل لهما.
وقد لا يكتفي الشارع بهذا الإدراك، وذلك فيما إذا كان اهتمامه بالفعل أو الترك أكبر من اقتضاء إدراك العقل لهما. لذلك يُبرِز شدّة اهتمامه عن طريق الحكم والجعل، وبهذا يضاف إلى الحسن والقبح الثابتين عقلاً حسن طاعة المولى وقبح معصيته.
هذا، ولكن لا بدّ من إلفات النظر إلى نكتةٍ مهمة،ٍ وهي أنّه بناءً على كون الحسن والقبح أمرين عقلائيّين، فإنّ نفي قاعدة الملازمة يؤمّن من عقاب المولى. وأمّا بناءً على كونهما أمرين واقعيّين، فإنّ نفي قاعدة الملازمة لا يؤمّن من عقاب المولى؛ لأنّ إدراك كون الشيء حسناً أو قبيحاً يعني ـ هاهنا ـ أنّ فاعله يستحقّ المدح أو الذمّ، «ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فالعقل العمليّ لم يكن مثبتاً للحكم الشرعيّ، لكنّه مثبت لنتيجته: من استحقاق الثواب والعقاب».
الأثر الثالث: التجرّي
هل يختصّ حكم العقل بالقبح بمورد المعصية أو يشمل مورد التجرّي أيضاً؟
ما دام حقّ المولى يشمل كل تكليف وصل إلى المكلّف بمنجّز شرعيّ أو عقلي،سواء كان هناك تكليف في الواقع أم لم يكن، فإنّ الفعل المتجرّى به يعدّ قبيحاً عقلاً.
والوجه في ذلك أنّ هناك بديهة يدركها العقل العمليّ وهي: «إنّ الإقدام على الظلم وسلب الحقّ قبيحٌ عقلاً وإن لم يكن ظلماً واقعاً لعدم ثبوت حقٍ كذلك». فالفعل المتجرّى به وإن لم يكن قبيحاً بحسب عنوانه الأوّلي لعدم كونه حراماً في الواقع إلاّ أنّه كذلك بعنوانه الثانويّ وهو صدوره من فاعل مختار قصد به ظلم مولاه، بل إنّ هذا العنوان في الحقيقة هو المصحِّح لاتصاف الفعل ـ سواءً أكان معصيةً أو تجرّياً ـ بالقبح، ولذا يرى الشهيد الصدر أنّ كلا موردي المعصية والتجري يتعلق القبح بهما بعنوانهما الثانوي . ومن خلال هذه الملاحظة يتضح الوجه في عدم قبول انقسام الحسن والقبح إلى فعلي وفاعلي ـ كما ادّعاه الميرزا النائيني ـ بل المتحقق هو الفعليّ فقط.
وما دام الفعل المتجرّى به قبيحاً، فإنّ فاعله يستحقّ العقاب لما تقدّم ذكره من أنّ استحقاق العقاب مترتّب على قبح الفعل، وهو تطبيقٌ آخر لما ينبغي وقوعه تجاه فاعل القبيح. صحيحٌ أنّ الفعل المتجرّى به لم تثبت حرمته لدى الشهيد الصدر، إلاّ أنّه وكما تقدّم في الحديث عن قاعدة الملازمة، ما دام الحسن والقبح أمرين واقعيين، واستحقاق العقاب هو تطبيقٌ لأحدهما، فإنّ نفي الحرمة حينئذٍ لا يستلزم رفع هذا الاستحقاق ولا يؤمّن من عقاب المولى .
الشيخ أحمد محمد جابر(*)
مجلّة المنهاج / 47