س: قدّم الإمام الخميني(رض) نموذج حكم الفقيه، وطرح الشهيد الصدر(رض) مشروع المرجعية الصالحة، ما هو تعليقكم على المشروعين، وما هو مشروعكم في هذا الخصوص؟
ج: إنّ الإمام الخميني(رض) انطلق في مسألة المرجعية من وعيه لمسألة الإسلام، فلم يفكّر بأنّ من الممكن لأية مرحلة من المراحل، مهما كانت طبيعتها، أن تختلف عن مرحلة أخرى في شمولية الإسلام وفي حركيته ومسؤوليته عن حكم الحياة، ومن خلال ذلك، فإنه لم يفرّق بين حالة حضور الأئمة(ع) وحالة غيبتهم، باعتبار أنّ الإسلام لم يأتِ لمرحلة خاصة على مستوى الدولة، ويمكن له أن يبقى ويعيش في المراحل الأخرى على مستوى الأفراد. البعض يجعل الإسلام خاضعاً للقيادة، بحيث تكون ظروف الإسلام هي ظروف القيادة في إمكاناتها، بدلاً من أن تكون القيادة خاضعة للإسلام، بحيث تكون ظروف الإسلام هي التي تحدّد للقيادة ظروفها وحركيتها.. نحن نعرف بأنّ الإسلام هو دين الله، وأن عظمة الرسول(ص) هو أنه بلّغ رسالة الله، وأراد أن يكون الدين كلّه لله، لذلك كان الرسول(ص) هو خادم الدين، ولم يكن الدين خادماً للرسول.
فالله تعالى لم يرسل الإسلام ليعطي للرسول وظيفة.. وإنما أرسل الرسول وشرّع القيادة لمن بعده من أجل أن يكونوا دعاةً للإسلام وقادةً له.
لذا، الإسلام أولاً والقيادات ثانياً، وعندما أطلّ الإمام الخميني على هذا الأفق الواسع، فإنه اعتبر أن مسألة الحكومة الإسلامية التي تعني حركيّة الإسلام في نظام الحياة وفي نظام الناس بشكل شامل، اعتبرها قضية الحياة. وإذا كانت المسألة، بحسب الفقه الإسلامي الشيعي انطلقت من خلال القيادة الواحدة للنبي(ص) ثم بالنسبة للأئمة(ع)، فإنها لا بدّ أن تتحرّك في هذا الخطّ على المستوى الشمولي الذي كان يحدث، ولذلك فليس هناك فرقٌ بين مهمة الفقيه العادل المؤهّل للقيادة من خلال العناصر الأساسية، وبين مهمة الإمام، وإن لم يصل هو إلى مرتبة الرسول أو إلى مرتبة الإمام، ما يجعل مسألة المرجعية تتسع حسب اتساع مهمات الإسلام، ومسؤولياتها تكبر حسب مسؤوليات الإسلام، فليست هناك حدودٌ لمسؤوليات المرجعية ما دام الإسلام لا يعيش مثل هذه الحدود.. ومن هنا، يمكن أن نلاحظ أن موقع المرجعية في نظر الإمام الخميني(قده) هو موقع الإسلام في كلّ المجالات، فلا بدّ أن تتحرك حيث يتحرّك الإسلام، وهذا هو الذي يجعل المرجع المؤهّل للقيادة وللولاية منفتحاً على كلّ الحياة والواقع وعلى كلّ المسؤولية.
أما السيد الشهيد الصدر (رضوان الله عليه)، فإنه في أفقه الإسلامي ليس بعيداً عن هذا الخط، وقد لاحظنا كيف استقبل الثورة الإسلامية في إيران، ونجاح الإمام في قيادته، بالكلمات الرائعة في ضرورة الذوبان في مرجعية الإمام، لأنه يلتقي بهذا الأفق الواسع الذي انطلق منه الإمام الخميني، وحاول أن يتحرّك في هذا الخطّ في رسالته “الإسلام يقود الحياة”، ولكنّه عندما كان يتحدّث عن المرجعية في ما أسماه “المرجعية الرشيدة”، كان يقصد الجانب التنظيمي الإداري للمرجعية، وبتعبير آخر، كان يريد أن يحدّد الوسائل العملية لأن تتحرك المرجعية كمؤسسة ولا تبقى كشخص، ولذلك لا نستطيع أن نقول إن الشهيد الصدر قد ابتعد عن خطّ الإمام الخميني في هذا الأفق الواسع، ولكنه لم يعش هذه التجربة، ولم يرافق حركة الثورة الإسلامية بهذه الشمولية، وأعتقد أن الله لو مدّ في عمره لما اختلف مع الإمام الخميني في أيّ جانب من الجوانب وفي هذا الأفق الواسع.
أما رأينا في هذه المسألة، فنحن نعتقد أن المسألة تتحرك في هذا الخط، ويمكن لنا أن نفكر في الجوانب الواقعية للمسألة عندما لا نستطيع أن نتحكّم في الظروف السياسية الواسعة التي يمكن أن تدفع بالمرجعية إلى أن تكون قوة فاعلةً تهز العالم.
إننا نتصوّر أنه لا بدّ لنا، بالإضافة إلى ما ذكره السيد الشهيد، من التخطيط الإداري للمرجعية الرشيدة من حيث الحقوق العامة، لأننا لسنا الآن في صدد بحث التفاصيل التي يفكّر الإنسان بأنّ من الممكن أن تتوسّع وتضيق.
إننا نتصوّر أن المرجعية الإسلامية الشيعية قد تحتاج في ظروفها المحدودة أو في طبيعة أوضاعها الخاصة، إلى أن تتحرّك في دائرة ألاّ تكون شخصاً يرث أولاده تراثه وتجربته، أو أن تكون أجهزته خاضعة لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعية مؤسسة، بحيث إن المرجع عندما يأتي، يأتي إلى مؤسسة تختزن تجارب المراجع السابقين، بحيث تكون كلّ الوثائق التي تمثّل علاقات المرجعية بالعالم وتجاربها وخصوصيات القضايا التي عالجتها، حتى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفّرة للمرجع الجديد الذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسسة المرجعية، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كلّ التجارب السابقة.
وفي هذا المجال، نحن لا نمانع أن يكون له معاونون يختارهم لحركته، ولكن على ألا يكونوا هم كلّ المؤسسة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا بد للمرجعية أن تطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتخاذ المواقف السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية التي تطلّ على كلّ مواقع المرجعية، أو تمتدّ إلى أبعد من هذه المواقع وتؤثر به سلباً أو إيجاباً..
وهناك نقطةٌ ثالثة في هذا المجال، وهي مسألة أن يتحرّك المرجع في أنحاء العالم، وألا يبقى في موقعه بعيداً عنها، لأنه لا بدّ للمرجع تبعاً لظروفه الخاصة والمرحلة التي يعيش فيها، أن يطلّ على مواقع مرجعيته ليخاطب الناس، ولينفتح عليهم، وليتحدّث في شؤونهم.. إنّ هذا هو الذي يمكن أن يحقّق للمرجعية حيويتها وحركيتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ الناس الذين ينتمون إليها ويتبعونها ويتخذون مواقف منها.. ومن الطبيعي أن الجوانب التنظيمية في هذه المؤسسة لا بدّ أن تخضع لتخطيط معيّن، بحيث تتكامل كلّ المواقع في داخل الموقع الكبير.. إنني أتصور أن طبيعة تحديات العصر وشمولية قضاياه والأوضاع والمتغيّرات التي تتحرك بين يوم وآخر، والحيرة التي يعيشها الناس فيما هو تكليفهم الشرعي في كلّ القضايا التي تتصل بحياتهم السياسية والاجتماعية، تحتاج إلى أن تُخرج المرجعية من عزلتها، وأن يكون المرجع إنساناً منفتحاً على الإسلام كله وعلى العالم كله وعلى كلّ المتغيّرات التي تتحرك في ساحته بانفتاح الموقف لا انفتاح الثقافة فحسب.
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله