منهج البحث العلمي عند الامام الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة

ان دراسة علم المنهجية، والعمل على بيان مفرداتها وادواتها، لا شك انه يشكل عموداً فقرياً للدراسة العلمية والاكاديمية، لان هذه المنهجية ستوضح للدارس الطريق، وتنير له الدرب، وتبلور له المقصد، وتوصله الى غاياته بجهد اقل.

يقول الدكتور عبد الهادي الفضلي: يرتبط تاريخ المنهج بتاريخ التفكير. ذلك ان البحث يعني التفكير، والمنهج يعني الطريقة، وكل تفكير لا بد من اعتماده على طريقة تساعده في الوصول الى النتيجة. ان المنهج توأم التفكير، فهو قديم قدم التفكير.

فعندما بدأت الانسانية تحاول النهوض لتشق طريقها، كان المنهج رائدها ودليلها نحو حياة افضل، ولم يكن البعد المنهجي غائباً عنها وهي تكافح وتواجه ظروف، وتحاول التغلب على العوامل الطبيعية عبر مختلف المراحل الانسانية.

ومع حركة التحضر السريع الذي شهدته البشرية اعتمد الانسان على المنهج لتحقيق النقلاب الحضارية، لان المنهج هو القادر على تغيير مسار الشعوب، وخلق الحضارة الرائدة التي تهيمن وتسيطر على ثقافات الامم الاخرى. وكان المنهج هو العامل الرئيسي في تحقيق التقدم العلمي.

ان الغرب لم يخرج من عصور الظلام الى عصر النهضة الا باتباع المنهج العلمي كما انه لم يحقق انتصاراته العلمية الا على اساس المنهج.

ولا يزال الغرب يوجه نخبة علمائه وأفضل مراكز ابحاثه للدراسات التي تتعلق بالمنهجية و(النمذجة) لان هذه الدراسات تتنبأ بالمستقبل. وأي مجتمع يريد التقدم لا بد له من الاهتمام بالمنهج. لانه البداية الفعلية لعملية النهوض والتقدم الحضاري، «وهذا يعني اننا لا نعيش اللحظة الراهنة وحدها. بل نعيشها ونتفاعل معها ونتواصل مع ماضينا ونعد العدة لمستقبلنا»[1].

وكل هذه الامور بحاجة الى منهجية للتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل. والرؤية المنهجية اصبحت علماً يستخدم جميع نتاجات العلوم كلها. لذلك فان الاهتمام بمثل هذه العلوم ومنهجيتها وفعالياتها ونتائجها تعد البداية الصحيحة لعملية الوثوب الحضاري. وان تجربة الوعي العربي والاسلامي عن مثل هذه العلوم تؤدي الى تكريس التخلف، والى التنمية المعكوسة. وفي هذا الاطار يأتي الاهتمام بدراسة اصول البحث العلمي عند الامام الشهيد الصدر رضوان الله عليه.

لقد قدم الامام الصدر عطاء علمياً اصيلا ورصيناً ومركزاً وشاملا في آن واحد. وابتكر منهجاً جديداً واعطى البحوث الاسلامية طابعاً علمياً. ودشن اسلوباً في البحث لم يسبقه اليه احد. وهذه الامور لا تتأتى ان لم يكن هناك اطار فكري. اذ لا تتحق هذه الصفات ان لم يكن هناك منهج علمي خاص يمكن مقارنته بأحدث الاساليب العلمية المعاصرة.

ولم يقتصر الامام الصدر على منهج واحد في عرض افكاره واطروحاته، بل استخدم عدة مناهج للوصول الى الحقيقة حسب المداخل المعرفية التي طرقها، وحسب المواد العلمية التي عالجها. فقد استخدم المنهج النقلي في دراسة النصوص الشرعية وطعّمه بالافكار العلمية الحديثة. وهذا المنهج له اصوله وقواعده في كتب الفقه الاسلامي وعلم اصول الفقه والحديث.

كما استخدم السيد الشهيد المنهج العقلي في دراسة الافكار والمبادئ الفلسفية، ويقوم هذا المنهج على قواعد المنطق الارسطي فيلتزم الحدود والرسوم في التعريف (تعريف المصادرات او الافكار الاولية) وفي هذا المنهج يستخدم القياس والاستقراء والتمثيل في الاستدلال. ولا يمكن هنا عرض الافكار الفلسفية او مبادئها مثل مبدأ الذاتية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية لانها تعرض في مجال فلسفة العلوم، او نطق البحث العلمي، وفي مجال مناقشة المدارس الفلسفية وافكارها.

ان المنهج الذي اعتمده السيد الصدر في اطروحاته الفكرية هو المنهج التجريبي، وهو طريقة دراسة الظواهر، سواء في العلوم الطبيعية او العلوم الانسانية، ويعتبر المنهج التجريبي: المنهج العلمي الحديث.. وأهم ما تمخضت عنه النهضة العلمية الحديثة في اوربا من معطيات فكرية.

ويقوم هذا المنهج على الاستقراء عن طريق الملاحظة والتجربة، ومجاله المعرفة الحسية، اما خطواته فهي:

1ـ تحديد المشكلة، موضوع البحث.

2ـ صياغة الفرضية، وهي مقولة موقتة عن صلة بين مفهومين او اكثر، والفرضيات هي نوع من التصميمات او الافكار الرئيسية.

3ـ اجراء الملاحظة العلمية، او التجربة، لاثبات صدق الفرضية.

4ـ التنبؤ: اي التنبؤ بحدوث النتيجة متى توفرت الشروط والظروف الموضوعية لحدوث الظاهرة.

اما صفات الباحث فهي باختصار كما يلي[2]:

1ـ الموهبة: ويراد بها الاستعداد الفطري لدى المرء للبراعة فيما يريد القيام به من سلوك فكرياً كان ام عملياً.

2ـ الذهنية العلمية: وهي القدرة على التفكير تفكيراً علمياً، والعامل الذي يساعد على تكوين وصياغة الذهنية العلمية لدى الفرد هو ممارسة عملية النقد العلمي باستمرار.

3ـ المنهجية: وهي ان يكون الفرد عارفاً بأصول المنهج العلمي الذي يناسب موضوع بحثه، ولديه القدرة على هندسة بحثه وفق قوانين المنهج ليصل الى نتائج سليمة في بحثه.

4ـ المعرفة العلمية: وهي ان يكون الباحث متخصصاً في موضوع بحثه او ملماً الماماً كافياً بموضوع بحثه.

5ـ الرصيد اللغوي للباحث وهي القدرة على التعبير عن الافكار بدقة ووضوح او القدرة على التعبير المميز. وكلما كان الرصيد اللغوي اكبر كان الباحث اقدر على اصابة الهدف.

6ـ الامانة في النقل: وهي ان يكون اميناً فيما ينقله من النصوص او الاداء او غيرهما، فلا يزيد ولا ينقص منها، او التغيير بشكل او اخر.

7ـ الصدق في القول: وان يكون صادقاً في كل ما يقوله في بحثه صدقاً يحمله مسؤولية المخالفة او التزوير او ما اليهما.

8ـ الصراحة في الرأي: وان يكون صريحاً في ابداء ما يتوصل اليه من رأي، لان الباحث ناشد حقيقة، والحقيقة لا تقبل الضبابية في الرؤية او الغموض.

9ـ الموضوعية: وهي ان يكون الباحث مع موضوع بحثه فقط، فلا يقحم في مبادئه او مطالبه اي اعتبار شخصي، وانما ينظر الى الاشياء ويتصورها على ما هي عليه. اي من غير ان يشوبها بنظرة ضيقة او بتحيز خاص.

10ـ الوضوح: ويراد به ان يكون الباحث واضحاً في:

الهدف من البحث، خطوات البحث، نتائج البحث.

فيبتعد عن الغموض ويتجنب الانغلاق.

11ـ الاسلوبية: وهي ان يلتزم الباحث الاسلوب العلمي في بحثه. يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد: اسلوب، فالاسلوب: الطريق والوجه والمذهب.

والاسلوب: الفن.

علم الاسلوب: هو دراسة طريقة التعبير عن الفكر من خلال اللغة. ان المعارف والوقائع والاكتشافات تتلاشى بسهولة، وقد تنقل من شخص لآخر، ويكتسبها من هم ادنى مهارة، فهذه اشياء تقوم خارج الانسان، اما الاسلوب فهو الانسان نفسه فالاسلوب اذاً لا يمكن ان يزول، ولا ينتقل ولا يتغير. والاسلوب الجيد يتجسد في التعبير المميز.

ويطلق الشكل البلاغي على الصيغة الكلامية التي تتسم بحيوية اشد من اللغة العادية، وتهدف الى جعل الفكرة محسوسة عن طريق المجاز كما تلفت النظر بدقتها واصالتها، وترتفع بمستوى الاسلوب. كانت هذه مقدمة لا بد منها للدخول في صلب الموضوع.

الموسوعية عند السيد الشهيد

الامام محمد باقر الصدر كان عالماً موسوعياً، ورائداً من رواد الفكر الانساني. فهو اول من كشف زيف الفكر الغربي باسلوب علمي، واول من واجه النظريات الغربية، بمنطق اسلامي، وأول من تناول الافكار والمناهج المستوردة بالنقد والتحليل وبمعالجة علمية على جانب كبير من الدقة والموضوعية.

وقد تأثر بما قدمه الامام الصدر عدد كبير من المثقفين والاساتذة ورجال العلم، اذ كان التأثير بالنسبة للبعض بمنهجية الامام الصدر وباسلوبه في طرح القضايا ومعالجتها، في حين كان التأثير بالنسبة الى البعض الآخر فيما قدمه الامام الصدر من نتاج ومن مادة علمية في مختلف حجقول المعرفة سواء في مجال الفقه والاصول والتفسير، او في مجال المنطق والفلسفة والاقتصاد.

اما القسم الآخر فقد تأثر باسلوب السيد الصدر (اسلوب التحليل النقدي) وتراوحت صيغ الاستفادة بين الاقتباس، والاشارة الى الفكرة التي استفيد منها. كما وأستفاد البعض من طريقة عرض المادة (التبويب والتنظيم، ورسم الهدف من الدراسة ونظام المراحل وأمتد التأثير ليشمل الاهتمام بمنهج البحث العلمي، من تحديد المفاهيم، ووضع الفرضيات، وتدقيق الاستنتاجات، وتوثيق المعلومات، وعدم الاطالة بدون طائل، اضافة الى اعتماد العديد من المفاهيم والتصورات والقضايا التي طرحها الامام الصدر.

تأتي صيغ التأثير المختلفة، وبدرجاتها المتباينة من خلال الاطلاع على ما قدمه الامام الصدر من عطاء وانتاج علمي غزير. اذ ان للابداعات والريادات التي قدمها الشهيد تأثيراً في توسيع افق التفكير الانساني والتعامل مع افكار الآخرين من زاوية موضوعية بعيداً عن التشنج والتحيز والانغلاق على الذات. والتعامل مع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية باسلوب علمي.

لقد فتح الامام الصدر باباً جديداً، للدخود الى عالم جديد في البحث والتحليل والاستنتاج، اذ ربط بين المشاكل العصرية وبين الحل الاسلامي. فقد ولج باب العصرية، وفتحه على مصراعيه لكل باحث مسلم يستلهم روح الابداع والابتكار، ويحاول ان يقدم حلولا جذرية لمشاكل تعاني منها المجتمعات الانسانية.

لقد كان السيد الصدر عالمياً في محاولة تغيير الاوضاع الاجتماعية. فلم يكن في اطروحاته الفكرية يخاطب المسلمين فقط، او يواجه افكاره الى فئة معينة وطبقة فكرية خاصة، انما كان يوجه احاديثه الممتعة الى الانسانية جمعاء، وامتدت الرقعة المكانية لتأثير لامام الصدر ومدرسته الفكرية لتشمل عموم البلدان العربية والاسلامية، وكذلك البلاد الاجنبية، التي اتصلت بالفكر الاسلامي سواء في الغرب ام في الشرق، وتحولت الدراسات الاسلامية بتأثيره من موقف الدفاع الى موقف الهجوم، من موقع الضعف الى موقع القوة، ومن موقف الاعتذار والهزيمة الى موقف التحدي والمواجهة. وبفضل انتشار موجات تأثيره انحسر اثر الحرب النفسية التي استخدمها اعداء الاسلام، تلك الحرب المفاهيمية التي استخدمت السلاح الثقافي لتنفيذ عملية غسيل الدماغ، واخضاع الشعوب الاسلامية للافكار الغربية.

واذا كان الامام الخميني رحمه الله قد عبأ الامة للجهاد والثورة وقلب الاوضاع بالجهاد والدفاع عن الاسلام، فان الامام الصدر عبأ الامة تعبئة علمية ثقافية، وهي ضرورة ملحة جداً للتعبئة العسكرية لان النصر المادي لا بد له من السلاح الثقافي والبعد المعنوي وكل منهما متمم للآخر ومكمل له، لتحقيق النصر والحاق الهزيمة بالعدو مادياً ومعنوياً.

«السيد الشهيد ظاهرة حضارية، ومعلم من معالم عصرنا، والمرآة الصافية لهذا العصر، ان ابرز المعالم في شخصية السيد الشهيد هو التحدي والمواجهة، ان عصرنا هو عصر العلم، وعصر المواجهة الحضارية»[3].

وعبقرية الشهيد الصدر تتجلى في توظيف منهج البحث العلمي بكل دقة وامانة في اطروحته الفكرية «اقتصادنا» وفي لغة الحوار المقنع والاسلوب العصري الذي عرض فيه ارائه، وفي روعة الاسلوب الذي واجه به الافكار الغربية.

لقد تحدث الامام الصدر بلغة اكاديمية، وبالسوب رصين وتمكّن ان يثبت ان الفكر الاسلامي باستطاعته ان يقتلع من الجذور دعائم الفكر المادي الذي يتظاهر بالموضوعية ويلبس ثوب العلم. اذا ثبت ان ذلك الفكر الزائف لا يمكن ان يثب امام التحليل والنقد، اذ سرعان ما ينهار امام التحليل العلمي والنقد الموضوعي.

والامام الصدر اول مرجع ديني واجه الفكر الغربي بلغة العصر وتنبأ بانهيار النظريتين الشيوعية والرأسمالية حيث نسفهما بطريقة حديثة، ولغة الحوار التي واجه بها تلك النظريات كانت لغة علمية اذا ابتعد عن العبارات الطنانة الفارغة من المعنى، وتحاشى التعمكيمات الجوفاء، فكل كلمة كان لها مدلول علمي، ووضعت باسلوب منطقي. كما انه لم يفسر الواقع بالتفسيرات الغيبية البعيدة عن اذهان الآخرين، وقدم حلولا واقعية للمشاكل التي تعاني منها الانسانية. فلم يكن يخاطب الانسانية بلغة لم تفهمها، وبافكار لم تعرفها، بل تعمق في ابعاد المشكلة الاجتماعية وقدم حلولا انسانية للواقع الذي تعيشه المجتمعات.

وبما ان العصر الذي نعيشه هو عصر العلم، فقد استخدم اللغة العلمية في طرح المشكلات، وتقديم الحلول المناسبة لها. كما انه عرض الاسلام بطريقة مناسبة لروح العصر.

طبيعة المنهج العلمي

ان طريقة البحث العلمي، وتحديد المفاهيم، ليست هدفاً في حد ذاتها وانها ليست الا وسيلة وتحليل، واداة كشف. وليس لها قيمة الا بمقدار ما تؤدي من نتائج. فالمفاهيم وطرق البحث قيمتها في تطبيقها بشكل ملائم، ولا تستمد اي قيمة الا من جدوى البحوث الجارية.

لذلك نجد ان الشهيد الصدر لم يحاول ان يقوم بتصريف النظريات على حساب العلم، والمنهج العلمي. ولم يحاول ان يطبق النظرية على الواقع وينفذ الواقع في ضوئها، كما هو حاصل في الكثير من الدراسات الحديثة. انما كان ينفذ مناهج البحث وطرق الاستدلال على ضوء الواقع. وفي ضوء الحقائق الاجتماعية.

لقد كان ينقد النظريات الغربية، ويناقش المنهج الذي سارت عليه، اذ يحلل خطوات البحث، وينقدها ليبين موضع الخطأ من تلك النظريات ثم يقوم بتمحيصها وغربلتها، ثم ينسقها باسلوب مقنع.

وقد اتبع منهجاً نقدياً في عرض الافكار، ودراسة النظريات الغربية، والتحليل النقدي او الرؤية النقدية في البحث العلمي لا تتأتى لكل واحد، ولا يستطيع اي باحث ان يتبع المنهج النقدي وان يواجه افكاراً ونظريات لاقت رواجاً وازدهاراً في الاوساط الجامعية. فقد وقف اغلب الباحثين والاساتذة موقف الاجلال والاكبار والانبهار امام الاطروحات الماركسية والرأسمالية. حتى انهم لم يجدوا بديلا عنها في مجال البحث، وطبقوها. اذ طبقت في بلادنا باسم العصرية، والحداثة والتقدم فلم تحقق اي تقدم يذكر. وجاء الامام الصدر، واثبت باسلوب رائع خطأ هذه النظريات، وانهارت تلك الصروح الفكرية وتهاوت بمعول النقد ونسفت من الاساس. والطريف ان تلك النظريات التي البست ثوب العلم نسفت بنفس الطريقة التي عرضت بها، اذ لم يناقشها الامام الصدر بالمناهج الغيبية التي لا تؤمن بها، ولم ينظر اليها من الزاوية الدينية البحتة. انما عرض ايجابياتها وسلبياتها وناقشها باسلوب موضوعي. ولم يعالجها الا بأسس علمية وبمنطق البحث العلمي الذي تدعيه.

وأثبت بما لا يقبل الشك ان طرق البحث التي اتبعتها تلك النظريات لم تكن نقية، وانها تنطوي على فجوات علمية لا يمكن ردمها بالتحايل على منطق البحث، وانها بحاجة الى عملية تصفية وتدقيق وغربلة، وتحتاج الى عملية تطهير وانتقاء وان النتائج التي توصلت اليها لم تكن الا نتائج مبتسرة بعيدة عن الواقع. اذ ان تلك النظريات كانت كالمنظار المقرب او المبعد او المشوه للحقائق الاجتماعية.

واستطاع الامام الشهيد ان يكشف خفايا الفكر الغربي، وان يعرّيه ويفضح اساليبه الملتوية في اخفاء الحقائق وتشويهها. اذ قام باستقصاء سبل البحث العلمي الدقيق من ملاحظة، وتحقيق، واجتهاد واستقراء، وحفظ، فكان لا يثبت اي فكرة الا بعد مطابقتها لطبيعة البحث العلمي.

وهذه الدراسة المتواضعة ما هي الا محاولة لعرض ما قدمه الامام الصدر والكشف عن اسلوبه العلمي، وابراز جوانب الابداع فيه، واستلهام الرؤية النقدية ومواصلة الابداع. والسير على خط السيد الشهيد في اخذ روح المبادرة واستلهام روح التحدي والمواجهة والنضال ضد الهيمنة الغربية في الفكر.

ان اهم معالم المنهج عند الامام الصدر هي تحديد اهداف البحث، ودقة المعلومات، والتبويب، والتركيز، والاختصار، والتقويم او النقد الموضعي، والواقعية العلمية، والتجديد، والتعمق والاستقلال العلمي، واعتماد اسلوب واضح، وتوثيق المعلومات والتواضع العلمي، وشمولية المعالجة، واللغة العلمية المعاصرة، وقوة الاستدلال، والمناظرة اي مقارعة الحجة بالدليل والبرهان.

تحديد المفاهيم:

بدأ السيد الصدر منهجه العلمي بتحديد وتعريف مفاهيم البلحث وركز على هذه النقطة باذات، لان كثيراً من المفاهيم التي تحمل دلالات لغوية معينة حملّت معاني سياسية واقتصادية وايديولوجية جديدة، وهذه المعاني الجديدة طغت على المفهوم اللغوي او اندمجت معه على اقل تقدير، حتى ضاع المعنى اللغوي في زحام الدلالات الجديدة، فاحتاج المفهوم الى تنقية معناه مما علق به من شحنات فكرية، ولذلك ركز السيد الصدر على هذه النقطة قبل ان يدخل في صلب الموضوع.

وفي الحقيقة ان المنهج العلمي الحديث يركز عبلى هذه النقطة، ويبدأ البحث العلمي دائماً، بتعريف مفاهيم البحث، لان من اهم خصائص البحث الوضوح والدقة والتحديد، اي تحديد المعنى اللغوي للمفاهيم المستخدمة في البحث.

والباحث يكون ملزماً عند صياغة مشكلة بحثه ان يحدد بدقة ووضوح معنى كل مفهوم من المفهومات العلمية التي استخدمها، والتي يظن انها لا تحمل معنى واحداً متفقاً عليه، وهنا تختلف العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية في ان المفاهيم لها تعريف واحد فقط في العلوم الطبيعية، ولها اكثر من تعريف في العلوم الاجتماعية، نظراً لتعدد النظريات في العلوم الاجتماعية.

اذ ان بعض المفاهيم العلمية قد يكون لها معنى محدد واضح مستقر ومتفق عليه بين المتخصصين في علم ما، كالاصطلاحات التي لها معاني مكحدد. وبعض المفاهيم قد لا يكون هناك اتفاق بين المتخصصين حول معناه، بحيث يفهم كل واحد منهم معنى مختلفاً، مثل اغلب مفاهيم علم الاجتماع كالوعي الاجچتماعي والطبقة، والتدرج الاجتماعي والتنمية والتحديث والتحضر.. الخ.

والتعريف هو همزة الوصل بين البحث الذي يجريه الباحث وبين النظرية التي يستند اليها. وكل بحث لا يكتسب صفته العلمية الا اذا كان موضوعه قد تم اختياره على اسس سليمة، وكانت اهدافه محددؤ. وتكتمل الصفة العلمية بوضع المنهاج السليم له. وأول رط من شروط استخدام المنهاج اى دقته وضبطه، ان تكون مفهوماته معرفة تعريفاً دقيقاً واضحاً يعبر تعبيراً صحيحاً عما في ذهن الباحث، فلا يجعل مجالا لاي لبس او غموض[4].

والمفهومات في الواقع اكثر العناصر اهمية في موضوع البحث فهي تحمل بين طياتها مصطلحاته، ولذلك كانت المفهومات اكبر معين في وضع منهاج البحث اي رسم خطته.

ومن مواصفات المفهومات الاجتماعية المحددة الواضحة ان تكون موجزة في غير اخلال بالمعنى او تقصير فيه. وان تكون المعاني التي تشير اليها محددة وواضحة في حسم، يقطع الشك باليقين، وان يكون المفهوم ذا صفة تعميمة تجعله صالحاً للاستعمال لاداء المعنى نفسه في مجالات اخرى. والمفهوم هو الوسيلة الرمزية المختصرة والواضحة التي يستعان بها للتعبير عن معنى او فكرة معينة يراد ايصالها الى الآخرين.

وكل مفهوم علمي يستند الى نظرية، ويستمد منها معناه، وليست له قيمة ذاتية، والمفاهيم قيمتها في تطبيقها بشكل ملائم.

وقد كان الامام الصدر دقيقاً وواضحاً في تحديد المفاهيم التي استخدمها. اذا اشار الى ان بعض المفاهيم حملت شحنة تاريخية من مجتمعات اخري، وتطبيقها على واقعنا يؤدي الى مسخ الحقائق وتشويهها. كما ان بعض المفاهيم حمل شحنة ايديولوجية بشكل مستتر او بشكل ضمني غير واضح، لذلك لا بد للباحث ان يدقق في معاني المفاهيم. وان لا يستخدم المفهوم في غير معناه الذي وضع له.

يقول الامام الصدر في هذا الصدد: «وبودي ان اقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة «اقتصادنا» وما اعنيه بهذه الكلمة حين اطلقها. لان كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الانساني. وقد اكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرت بها. وللاذدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد ان نعرّف مدلول الاقتصاد الاسلامي بالضبط، يجب ان نميّز علم الاقتصاد عن المذاهب الاقتصادي. لننتهي من ذلك الى تحديد المقصود من (الاقتصاد الاسلامي)»[5].

هنا يحاول الشهيد الصدر ان يزيل الغموض والالتباس فيعرف علم الاقتصاد تعريفاً دقيقاً واضحاً ثم يعرّف المذهب الاقتصادي فيقول: علم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الاحداث والظواهر بالاسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها.

وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكله العملية.

ويستمر في تعريف كلمة «الاقتصاد الاسلامي» فيقول: « نحن حين نطلق كلمة الاقتصاد الاسلامي لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لان هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الاسلام دين دعوة، ومنهج حياة، وليس من وظيفته الالية ممارسة البحوث العلمية. وانما نعني بـ «الاقتصاد الاسلامي » المذهب الاقتصادي للاسلام الذي تتجسد فيه الطرقة الاسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري[6].

وهناك مفاهيم اخرى اكد على معانيها بدقة ووضوح منها مفهوم الاقطاع، ومفهوم الطبقة، ومفهوم الاشتراكية وغيرها.

«اما مفهوم الاقطاع فقد اشرط في تاريخ القرون الوسطي وبخاصة في تاريخ اوروبا بمفاهيم ونظم معينة، حتى اصبحت نتيجة لذلك تثير في الذهن لدى استماعها كل تلك المفاهيم والنظم التي كانت تحدد علاقات المزارع بصاحب الارض.

وفي الواقع ان هذه الاثارة والاشراط باعتبارهما نتاجاً لغوياً لحضارات ومذاهب اجتماعية لم يعشها الاسلام ولم يعرفها.. فمن غير المعقول ان تحمل الكلمة الاسلامية هذا النتاج الغريب عنها.

ونحن لا نريد ولا يهمنا الحديث عن رواسب الكلمة التاريخية والتركة التي تحملتها نتيجة لعصور معينة من التاريخ الاسلامي، لاننا لسنا بصدد المقارنة بين مدلولين للكلمة. بل لا نجد مبررا لهذه المقارنة اصلاقاً. بين مفهوم الاقطاع في الاسلام ومفهومه الغربي، لانقطاع الصلة بين المفهومين نظرياً كانفصال احدهما عن الآخر تاريخياً[7].

ويحدد الشهيد الصدر مفهوم العدالة ليميز بين العلم والمذهب فيقول: «.. ففكرة العدالة هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تميز بها الافكار المذهبية عن النظريات العلمية، لان فكرة العدالة نفسها ليست علمية، ولا امراً حسياً قابلا للقياس والملاحظة، او خاضعاً للتجربة بالوسائل العلمية، وانما العدالة تقدير وتقويم خلقي».

«فالعدالة اذاً ليست فكرة علمية بذاتها، وهي لذلك حين تندمج بفكرة تدمغها بالطابع المذهبي، وتميزها عن التفكير العلمي». «وكل القوانين العلمية لا ترتكز على فكرة العدالة، وانما ترتكز على استقراء الواقع، وملاحظة مختلف ظواهره المتنوعة»[8].

ان وظيفة العلم لا تقتصر على الوصف والتقرير فقط. فالعلم يهدف الى فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية. اما عملية تغيير الواقع وتقويمه بالمقاييس الاخلاقية فليست من العلم في شيء. انها ترتبط بالمذهب الاقتصادي. وعلى الباحث ان يكون حذراً في استخدام المفاهيم وتعريفها. فقد تكتسب المفاهيم مدلولات جديدة.

«..فالكلمة حتى اذا كانت محتفظة بمعناها اللغوي الاصيل على مر الزمن، قد تصبح خلال ملابسات اجتماعية معينة، بين ملدولها فكر خاص او سلوك معين، مشروطة بذلك الفكر او السلوك حتى ليطغى احياناً مدلولها السيكولوجي على معناها اللغوي الاصيل»[9].

«خذ مثلا كلمة الاشتراكية فقد اشرطت هذه الكلمة بكتلة من الافكار والقيم والسلوك، واصبحت هذه الكلمة تشكل الى حد ما جزءاً مهماً من مدلولها الاجتماعي اليوم. وان لم تكن على الصعيد اللغوي تحمل شيئاً من هذه الكتلة.

ويناظرها كلمة (الرعية) التي حملّها تاريخ الاقطاع تبعة كبيرة، واشراطها بسلوك الاقطاعي صاحب الارض مع الاقنان الذين يزرعون له ارضه فاذا جئنا الى نصوص تشتمل على كلمة الرعية كالنص القائل: ان للوالي على الرعية حقا، نواجه خطر الاستجابة للاشراط الاجتماعي، في تلك الكلمة. واعطائها المعنى الاجتماعي الذي عاشته بعيداً عن جو النص، بدلا من اعطائها المعنى اللغوي الاصيل.

وقد حدد الامام الصدر معاني الكثير من المفاهيم مما لا مجال لعرضها في هذه الدراسة، ومن امثلة تلك المفاهيم: مفهوم (الحمى) ومفهوم الطبقة ومفهوم الحرية الى غير ذلك.

وقد اشار الامام الصدر الى المفاهيم التى انبثقت من الارضية الثقافية والمناخ العلمي الذي عاشته المجتمعات الاسلامية. اشار اليها باعتبار انها تصورات وأفكار اسلامية عن الكون والحياة والمجتمع. وانها وجهات نظر اسلامية تفسير واقعاً كونياً او ظاهرة اجتماعية او حكماً تشريعياً.

ومن تلك المفاهيم مفهوم الربح والخسارة.

مفهوم الربح في الرأسمالية يعني زيادة الرصيد المالي، بغض النظر عن الطريقة التي بها تتحقق تلك الزيادة ولا فرق في ذلك بين العمل التجاري او الفائدة الربوية.

اما في المجتمع الاسلامي فان الربح ليس بالضرورة معناه زيادة الرصيد. لان الفرد المسلم لا يعمل لمصلحته الذاتية فقط، ولا يعمل لهذه الحياة الدنيا ويهمل الحياة الآخرة ـ انما يعمل لمصلحة الجماعة ويقدم لحياته الثانية، لذلك قد يضحي بكل ثروته او بجزء منها لاقامة مشروع خيري كبناء مستشفي او فتح قناة لري الارض الزارعية او اقامة جسر او بناء سد الى غير ذلك. ومفهوم البر لا يقتصر على مساعدة فقير، انما يسكل كل عمل اجتماعي فيه منفعة ويحقق الفائدة المعنوية لاكبر قدر من الناس مثل بناء المدارس للتعليم وبناء المساجد الجامعة الى غير ذلك من اعمال البر والاحسان.

بين المنهج التاريخي والمنهج العلمي

والآن وبعد ان انتهينا من الاشارة الى ضرورة تحديد المفاهيم نأتي الى نقطة اخرى، اشار اليها الامام الصدر. وهي التمييز بين البحث التاريخي او الاجتماعي وبين البحوث الطبيعية، اذا ان لكل منهما اسلوبه وادواته ومنهجه. ولكل منهما دليله.

وبشكل عام هناك اختلافات كثيرة بين العلوم الانسانية وبين العلوم الطبيعية. تتعلق بالمنهج وطريقة البحث والنتائج. وكذلك في طريقة الاستدلال.

الدليل العلمي:

«يسير التفسير العلمي للظواهر الطبيعية في خط متدرج، فهو يبدأ بوصفه فرضية، اى تفسيراً افتراضياً للواقع، الذي يعالجه العالم، ويحاول استكشاف اسراره واسبابه، ولا يصل هذا التفسير الافتراضي، الى الدرجة العلمية الا اذا استطاع الدليل العلمي، ان يبرهن وينفي امكان اي تفسير آخر، للظاهرة ـ موضوعة البحث، عداه. فما لم يقم الدليل على ذلك، لا يصل التفسير المفترض الى درجة اليقين العلمي، ولا يوجد مبرر لقبوله، دون سواه من الافتراضات والتفاسير»[10].

وبتطبيق الاسلوب العلمي على «المادية التاريخية» فاننا نجد ان هذا التفسير الماركسي للتاريخ لا يكتسب الدرجة العلمية او الوثوق العلمي ما لم يحصل على دليل علمي يحدض كل افتراض عداه، فهو مجرد فرض في تفسير التاريخ على اساس العامل الاقتصادي والتناقض الطبقي. وهذا الفرض يخضع للتجربة والتحليل، فان استطاع ان يصمد فانه يرقى الى درجة الحقائق العلمية، اما اذا استطعنا ان نفسر قيام المجتمعات ونشوء الدولة على اساس آخر ولم يحدض الدليل العلمي ذلك، فعنذاك يثبت ان التفسير الماركسي مجرد فرض وهمي لا يمكن قبوله على حساب العلم.

«فلن يكون التفسير الماركسي، تفسيراً علمياً اذا امكن ـ مثلا ـ ان نفسر نشوء الدولة، على اساس تعقد الحياة المدنية. ونبرر بذلك قيام الدولة في كثير من المجتمعات البشرية»[11].

ولا يعد التفسير الماركسي للدولة حقيقة علمية اذا امكن ان نفترض ان هناك علاقة بين الدين كنسق اجتماعي عمراني وبين تكوين الكثير من الدول والسلطات. وان هناك علاقة بين الدين وبين نشأة المجتمعات الانسانية. اي اعطاء تفسير ديني لظهور المجتمع والدولة.

وهناك فرضيات اخرى تفسر هذه الظاهرة ولا يوجد دليل علمي يدحضها.

«ولا اريد ان استقصى كل الفرضيات، التي يمكن تفسير الدولة على اساسها، وانما ارمي من وراء هذا، الى القول بان تفسير الماركسية للدولة، لا يمكن ان يكتسب طابعاً عليماً، ما لم يستطع ان يدحض سائر تلك الافتراضات، ويقدم الدليل من الواقع على زيفها»[12].

«وقد سقنا تفسير الماركسية للدولة، كنموذج لسائر مفاهيمها وفرضياتها التاريخية، التي تفسر المجتمع الانساني على اساسها. فان جميع تلك الفرضيات تتطلب من الماركسية ـ لكي تصبح نظريات علمية جديرة بالقبول ـ ان تقدم الدليل على خطأ كل فرضية سواها. ولا يكفي لقبولها ان تكون فرضيات ممكنة صالحة للانطباق على الواقع وتفسيره»[13].

فماذا قدمت الماركسية من دليل علمي بهذا الصدد؟ ان اول وأهم عقبة تواجه الماركسية في هذا المجال، هي العقبة التي تضعها في طريقها، طبيعة البحث التاريخي، ذلك ان البحث في المجال التاريخي (نشوء المجتمع، وتطوره، والعوامل الاساسية فيه) يختلف عن البحوث العلمية في مجالات العلوم الطبيعية، التي يستخلصها العالم الفيزيائي ـ مثلا ـ من تجاربه العلمية في المختبر.

فالباحث التاريخي الفيزيائي كلا منهما يحاول ان يعطي تفسيراً للظواهر التي يلاحظها ملاحظة علمية. ويحاولان تنظيم تلك الظواهر بصفتها مواداً للبحث، واستكشاف اسبابها والعوامل المؤثرة فيها، مع اختلاف تلك الظواهر طبعاً، غير انهما يختلفان في موقفهما العلمي. لان الباحث التاريخي الذي يريد ان يلاحظ ظواهر المجتمع كالدولة ونظام الطبقات والملكية فانه لا يستطيع ان يلاحظ هذه الظواهر بشكل مباشر، انما هو مضطر لاخذ فكرة عنها تعتمد على النقل والرواية وشتى الدلائل العمرانية وغيرها من الآثار ذات الدلالة الناقصة.

اما الباحث الفيزيائي الذي يلاحظ ظواهر طبيعية ويتعامل معها فانه يلاحظها بشكل مباشر، فالحرارة والضغط والجاذبية مواد معاصرة للباحث يستطيع مشاهدتها او مشاهدة آثارها وتسليط الضوء العلمي عليها. كما يمكنه ان يجري تجاربه عليها وحصر الظاهرة في المختبر وملاحظتها بدقة. واضافة او حذف احد العوامل المؤثرة لمعرفة النتائج، ولاعطاء تفسير كامل لها. والتنبؤ بحدوث الظاهرة مع ظهور اسبابها، والشروط الملائمة لحدوثها.

اما الباحث التاريخي فانه لا يملك تلك المواد، لذلك فهو مضطر الى الاعتماد عل يالظواهر التاريخية، التي لا يستطيع مشاهدتها وملاحظتها بدقة. لانه لا يلاحظها ملاحظة حسية، ولا يشاهدها في مجال الحس والتجربة، بل يأخذ فكرة عنها من خلال النقل والرواية او من خلال بعض الآثار التاريخية الباقية.

وهكذا يختلف البحث التاريخي، عن البحث العلمي من ناحية المادة التي يملكها الباحث، ويقيم عليها تفسيره واستنتاجه، كما يختلفان من ناحية الدليل الذي يمكن للباحث استخدامه في سبيل تدعيم هذا التفسير العلمي او ذاك[14].

«وعجز الباحث التاريخي عن القيام بتجارب على الظواهر التاريخية والاجتماعية يعني عدم تمكنه من تقديم دليل علمي على نظرياته، التي يفسر بها التاريخ.

«فلا يستطيع ان يستعمل الطرق العلمية الاساسية التي يقررها منطق البحث العلمي ويساتعملها الباحث التجريبي، لان الباحث في العلوم الطبيعية يستطيع ان يتحكم في الظاهرة التي تقع تحت الملاحظة والتجربة. اما الباحث التاريخي فلا يتمكن من تغيير الظواهر الاجتماعية، او التاريخية. ولا يتمكن حتى من نقل الظاهرة من جوها وشروطها التاريخية الى جو آخر او بيئة اخرى. لان الظاهرة الاجتماعية تفقد قيمتها بمجرد نقلها الى مكان آخر او ظروف تاريخية ثانية. «ولنأخذ ـ مثلا على ذلك الدولة بوصفها ظاهرة تاريخية، والحرارة بوصفها ظاهرة طبيعية، فان العالم الطبيعي اذا حاول ان يفسر الحرارة، تفسيراً علمياً ويستكشف السبب الرئيسي لها، امكنه ان يتفرض ان الحركة هي سبب الحرارة، اذا ادرك اقترانهما في حالات عديدة. فيحاول ان يقوم بتجربة يفصل فيها الحركة عن الحرارة، ليتبين ما اذا كان من الممكن ان توجد حرارة بدون حركة، فاذا كشفت التجربة ان الحرارة توجد متى ما وجدت الحركة، مهما كانت الظروف والاحجداث الاخرى وانها تختفي في الحالات التي لا توجد فيها حركة ثبت علمياً ان الحركة هي سبب الحرارة.

واما الباحث التاريخي، حين يتناول الدولة بوصفها ظاهرة تاريخية فهو قد يفترض انها نتاج مصلحة اقتصادية، لفئة معينة من المجتمع، ولكنه لا يستطيع ان يدحض الافتراضات الاخرى بالتجربة. فلا يمكنه ان يبرهن بالتجربة على ان الدولة ليست نتاجاً لنزعة سياسية في نفس الانسان او الحالة تعقيد معينة في الحياة المدنية والاجتماعية، لان غاية ما يتاح للباحث التاريخي ان يضع اصبعه على عدد من الحالات التاريخية، التي اقترن فيها ظهور الدولة بمصلحة اقتصادية معينة، ويحشد عدداً من الامثلة التي وجد فيها الدولة والمصلحة الاقتصادية معاً وهذا ما يسمى في المنطق التجريبي او العلمي بـ «طريقة التعداد البسيط». وهذه الطريقة لا تبرهن علمياً على ان المصلحة الاقتصادية الطبقية هي السبب الاساسي الوحيد، لظهور الدولة. اذ من الجائز ان يكون للعوامل الاخرى اثرها الخاص، في تكوين الدولة.

وعلى هذا الاساس نعرف ان الماركسية لم تكن تملك حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ سنداً علمياً لها، سوى الملاحظة التي رأتها الماركسية كافية، للتدليل على وجهة نظرها. وأكثر من هذا انها زعمت: ان الملاحظة المحدودة في نطاق تاريخي ضيق، تكفي وحدها لتفسير قوانين التاريخ كلها، واليقين العلمي بها.

ان الفرضية التي وضعتها الماركسية لتفسير المجتمع والتاريخ لم يدعمها الدليل العلمي، ولم يؤيدها البرهان، ولم تنطبق على الواقع فهي مجرد فرض وهي و لا يمكن قبوله على حساب العلم.

وهكذا اثبت الامام الصدر باسلوب علمي وبالمنهج التجريبي ان المادية التاريخية التي تتظاهر بالعلم بعيدد عن الحقائق العلمية وانها لا تقف على ارض صلبة، ولا تستند على قاعدة علمية، ويستمر الامام الصدر في دحض الافكار التي طرحتها باسلوب متين، مما لا مجال لعرضه بكامل مفرداته في حدود هذه الدراسة الموجزة. ولكن هذه الاشارة السريعة تكفي لبيان وعرض الطريقة العلمية التي واجه بها السيد الصدر الفكر الماركسي.

ونقول باختصار من الضروري التأكد من صحة الفرض العلمي حتى يصل الى درجة اليقين، اذ لا يوجد مبرر لقبول الفرض اذا لم تدعمه الادلة ولم يؤيده الواقع الموضوعي.

«فلا يمكن للماركسية حين تقدم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع ان تزعم لهذا المفهوم القدرة على تصوير الواقع، وانما كل ما تستطيع ان تقره هو انه يعكس ما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع. فمعيار الحقيقة عندها هو مطابقة الفكرة مع المصالح الطبقية التي تدافع عنها وبهذا تصبح الحقيقة نسبية»[15].

وفي هذه النقطة تظهر الماركسية انها بعيدة عن الموضوعية. اذ ان الموضوعية تعني مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي. وليس للافكار المسبقة التي يحملها الفرد ويسطلها على الموضوع. فالحقيقة عند الماركسية نسبية طبقية تختلف باختلاف الطبقات ومصالحها. وليست نسبية موضوعية كما يصورها الواقع.

تفسير الحركة العلمية:

الماركسية تفسر ظهور الحركة العلمية تفسيراً مادياً. يتعلق بالوضع الاقتصادي فالحياة العلمية ليست الا نتيجة من نتائج الظروف المادية. والعلوم الطبيعية تنمو وتتطور طبقاً للحاجات المادية. فاكتشاف العلم للقوة البخارية المحركة في نهاية القرن الثامن عشر مثلا كان وليد الظروف الاقتصادية. ونتيجة لحاجة الانتاج الرأسمالي الى قوة ضخمة لتحريك الآلات التي يعتمد عليها الانتاج. وكذلك سائر الكشوف والتطورات التي يحفل بها تاريخ العلم.

والامام الصدر يناقش المادية التاريخية في تفسيرها للعلم ويبدي ملاحظاته القيمة في هذا الشأن فيقول ان المجتمعات التي سبقت العصر الحديث كانت متقاربة الى حد كبير في وسائل الانتاج واساليبه، فالزراعة البسيطة، والصناعة التقليدية هما الشكلان الرئيسيان للانتاج في مختلف تلك المجتمعات. وبرغم ذلك فانها اختلفت كثيراً في مستوياتها العلمية. فلماذا تطورت الحركة العلمية في مجتمع دون آخر. وما هو مبرر ازدهار العلم في بعض تلك المجتمعات ما دامت وسائل الانتاج وادواته واحدة في الجميع.

فلماذا ظل المجتمع الاوروبي يعيش عصور الظلام كما يسمونه في القرون الوسطى؟ ولماذا ازدهرت المعارف والعلوم والفنون في المجتمعات الاسلامية في قرطبة واشبيلية وبغداد والقاهرة، ولم يوجد لها اي تباشير في اوروبا الغربية التي هالها ما رأته في حروبها الصليبية من علوم المسلمين ومدنيتهم؟

ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها، ان تخترع الطباعة، ولم تتوصل اليها سائر المجتمعات الاخرى الا عن طريقها. فقد اخذ المسلمون هذه الصناعة، عن الصين في القرن الثامن الميلادي، ثم اخذته اوروبا عن المسلمين في القرن الثالث عشر. فهل كانت القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها الصين القديمة، تختلف في جوهرها عن قاعدة المجتمعات الاخرى[16]؟.

ويؤكد الشهيد الصدر خطأ الماركسية في اخضاع العلوم الطبيعية لتطور القوى المنتجة بوصفها الوسيلة التي تمون العلم بادوات البحث والتجربة والاختبار. اذ ان العلم وان كان يعتمد في نموه وتكامله على ادوات من مراقي ومجاهر وآلات رصد وما اليها، ولكن هذه الادوات نفسها ليست الا نتاجاً للعلم، يقدمه العلم بين يدي العلماء، ليتيح لهم استخدامه في الوصول الى مزيد من النظريات والقوانين العلمية.

فاختراع المجهر في القرن السابع عشر، كان ثورة في وسائل الانتاج لانه استطاع ان يزيح الستار عن دنيا مجهولة، لم يكن قد اطلّع عليها الانسان قط. ولكن ما هو المجهر؟ انه نفسه ليس الا نتاجاً للعلم، ولاكتشاف قوانين الضوء. وكيفية انعكاسه على العدسات.

«ان قصة العلم لا تتمثل كلها في الادوات، فما اكثر الحقائق العلمية التي كانت ادواتها جاهزة ولكنها ظلت في طي الكتمان ولم تظهر للعين مع ان ادوات استكشافها كانت جاهزة! وبقيت مستورة حتى بلغ النشاط العلمي من التفاعل والتكامل الى درجة سمحت له باكتشاف الحقيقة، وصوغها في اطار علمي خاص.

ويقرب الامام الصدر مثلا بفكرة الضغط الجوي، هذه الفكرة التي تعتبر من الفتوح الكبرى للعلم في القرن السابع عشر. وقد بدأ هذا الانجاز العلمي بفكرة طرأت على ذهن (تورتشيلي)، اذ لاحظ ان المضخة لا تستطيع ان ترفع الماء الى اكثر من (34) قدماً. وقد سبقه الى هذه الملاحظة الكثير من رجال العلم خلال قرون، كما سبقه اليها بوجه خاص العالم الكبير (جاليلو)، ولكن الشيء العظيم الذي قدر (لتورتشيلي)، ان يقدمه الى العلم، هو تفسير الظاهرة، التي كانت معروفة منذ قرون. فقد قال: ان الحد الذي ترفع المضخة اليه الماء لا تزيد عن (34) قدماً، وهذا قد يكون هو مقياس الضغط الجوي واذا كان الضغط الجوي قادراً على حمل عمود من الماء طوله (34) قدماً فهو لا بد حامل عموداً من الزئبق اقصر من العمود المائي لان الزئبق اثقل من الماء، وسرعان ما تأكد من صحة هذه النتيجة وأقام عن طريقها الدليل العلمي على وجود الضغط الجوي، الامر الذي قام على اساسه عدد عظيم من الكشوف والاختراعات.

ان هذا الانجاز العلمي كانت تحتاجه الانسانية منذ قرون، والظاهرة التي لاحظها تورتشيلي كانت معروفة منذ ازمان بعيدة ولاحظها الكثير من الناس، ومع ذلك لم تظهر، اذ لم يقرها احد غير تورتشيلي، فهل ذلك يعود الى تطور وسائل الانتاج؟

ان تراكم الخبرة البشرية، وتراكم المعرفة الانسانية، وتفاعل الافكار، هذه الامور هي التي تفسر تطور الحركة العلمية وتميزها بالاصالة وئتعطيها المعنى الحقيقي للعلم. اما قوى الانتاج والاوضاع الاقتصادية فهي ليست لها علاقة بالكشوف العلمية.

ونلاحظ هنا ان الامام الصدر وضع يده على حقيقة المسألة العلمية اذ ان الكشف العلمي، يبدأ أولا بملاحظة الظواهر العلمية ملاحظة دقيقة. ثم وضع فرض لتفسير وفهم هذه الظاهرة (الظاهرة المراد دراستها) ثم التأكد من صحة الفرض باجراء التجربة العلمية وتوفر الشروط الملائمة لانجاح التجربة. فاذا اثبتت التجربة صحة الفرض اصبح قانوناً او حقيقة علمية. اما اذا لم تثبت التجربة صحة الفرض فان الفرض يعد باطلا.

في المثال السابق اوضح الامام الصدر هذه الحقيقة، كما اوضح بان سبب التقدم المؤهل للعلوم الطبيعية ليس وسائل الانتاج او الوضع الاقتصادي كما تدعي الماركسية ذلك، انما السبب هو تراكم المعرفة الانسانية منذ فجر التاريخ الى العصور الحديثة.

التناقض في العلم:

في مجال البحث العلمي لا يمكن ان تتناقض النظرية مع النتائج التي تتوصل اليها لان ذلك يعني ان النظرية فقدت اهم شروط البحث، وانها سقطت من الحساب، ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير او فهم الظواهر الاجتماعية.

ان التناقض بين منطوق النظرية ونتائجها يعني ان تلك النظرية فقدت معناها. لان مبدأ عدم التناقض من اهم عناصر البناء المعرفي، كما ان مبدأ الذاتية من المبادئ المهمة للأسس العلمية.

وفي هذه النقطة نجد ان الامام الصدر اشار الى المادية التاريخية بصفتها نظرية تناقضت مع النتائج التي توصلت اليها وبذلك فقد حكمت على نفسها بنفسها. وانها تكفي بمفردها للحكم على نفسها بالتناقض في مجال المنهج العلمي.

ان الماركسية لم تشيد بناء نظريتها على اساس واقعي كما هو المفروض في البحوث العلمية ـ انما شيدت نظريتها في المعرفة على ما عندها من افكار او فروض او تعميمات لم تنطبق على النتائج التي وصلت اليها.

وبالرغم من ان الماركسية رأت ان النتائج التي توصلت اليها لم تكن متطابقة مع افكارها لم تحاول ان تطبق النتيجة على نظريتها التاريخية نفسها بل راحت تعلن عن قوانينها الصارمة بوصفها القوانين الابدية التي لا تقبل التغير والتعديل.

ولم تكلف الماركسية نفسها ان تتساءل عن اسباب التناقض بين نظريتها وبين النتائج التي توصلت اليها كما يحتم عليه الحساب العلمي. ولو انها فعلت ذلك لاضطرت الى القول: بان المادية التاريخية بوصفها نظرية معينة، قد انبثقت من خلال العلاقات الاجتماعة والاقتصادية فهي كأي نظرية اخرى نابعة من الظروف الموضوعية التي تعيشها.

«وهكذا نجد كيف ان المادية التاريخية تحكم على نفسها، من ناحية انها تعتبر كل نظرية انعكاساً محدوداً للواقع الذي تعيشه، ولا تعدو هي نفسها ايضاً، ان تكون نظرية قد تبلورت في ذهن انسان عاش ظروفاً اجتماعية واقتصادية معينة. فيجب ان تكون انعكاساً محدوداً لتلك الظروف ومتطورة تبعاً لتطورها، ولا يمكن ان تكون هي الحقيقة الابدية للتاريخ»[17].

ان الامام الصدر ناقش الماركسية  باسلوب علمي على درجة كبيرة من الدقة والتركيز. وبذلك استطاع ان يثبت زيفها وخروجها عن الطريقة العلمية المألوفة، وقد وفق الى ذلك غاية التوفيق، اذ انه لم يناقشها بما لم تؤمن به او بافكار مسبقة اخرى، انما ناقشها بما تدعيه من مداخل معرفية ووجهات نظر اجتماعية، واطر نظرية مقبولة في اوساط البحث العلمي. ولذلك استطاع ان ينسفها. وكانت مناقشته للافكار الماركسية مناقشة بناءة ايجابية. واستطاع ان يهدمها وان يبني على انقاضها الصرح الاسلامي الشامخ وان يكتشف المذهب الاقتصادي في الفكر الاسلامي.

وقد استعرض كل افكار الماركسية وكل ما تدعيه من نظريات في تفسير المجتمع والتاريخ، استعرضها واحدة بعد اخرى، ثم بدأ بمناقشتها مناقشة علمية. ولم يخرج عن الاسلوب العلمي وعن طرقه وأساليبه. بل كان لا يثبت اي فكرة ولا يقدم اي اطروحة اذا لم يستند الى اطار نظري او قانون علمي.

وقد تعرضت اراءة للتحليل والنقد الموضوعي. ولم يستطع احد ان يثبت خطأ افكاره ومنهجه او خروجه عن اساليب البحث العلمي.

وقد استعرض ايضاً ايجابيات الفكر الماركسي من جهة طرح الافكار او اللغة التي طرحت بها، او شمولها للتاريخ والمجتمع ثم ناقشها مناقشة علمية هادئة بعيدة عن العواطف والاهواء.

الذوق الفني والماركسية

«ان المادية التاريخية تفرض على الماركسية ان تفسر الذوق الفني بقوى الانتاج والمصلحة الطبقية، لان العامل الاقتصادي هو الذي يفسر كل الظواهر الاجتماعية في المادية التاريخية. لكنها لا تستطيع ذلك وان حاولته. اذ لو كانت القوى المنتجة، او المصلحة الطبقية، هي التي تخلق هذا الذوق الفني، لزال لزوالها، ولتطور الذوق الفني تبعاً لتطور وسائل الانتاج كما تتطور سائر الظواهر الاجتماعية. مع ان الفن القديم بآياته الرائعة، لا يزال في نظر الانسانية، حتى اليوم، منبعاً من منابع اللذة الجمالية. ولا يزال يتحف الانسان وهو في عصر الذرة، بما كان يتحفه به قبل آلاف السنين، من انشراح وسحر ومتعة، فكيف ظلت هذه المتعة النفسية؟

ويزعم ماركس: ان الانسان الحديث، يلتذ بروعة الفن القديم بوصفه ممثلا لطفولة النوع البشري، كما يلذ لكل انسان ان يستعرض احوال طفولته البرئية، الخالية من التعقيد»[18].

ولكن ماركس لا يقول لنا شيئاً عن سرور الانسان باحوال الطفولة، فهل هو نزعة اصلية في الانسان، او ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي ومتغيرة تبعاً له؟!

ان المسألة ليست مسألة الاعجاب بصور الطفولة، وانما هي مسألة الذوق الفني الاصيل العام، الذي يجعل انسان عصر الرق وانسان عصر الحرية، يشعران بشعور واحد.

نلاحظ ان الامام الصدر في رده على الماركسية يتبع المنعج التجريبي ويناقش النظرية المارسكية من زاوية علمية، اذ يظهر جوانب الضعف في النظرية الماركسية من ناحية المنهاج الذي وضعت فيه والمنهج العام الذي صيغت فيه. ثم ينتقل بعد ذلك الى مناقشتها من الجوانب الاخرى، ويحاول ان يقدم الدليل العلمي على الاخطاء المنهجية ونقاط الضعف في بناءها النظري العام. تمهيداً لقلعها من جذورها ونفسها باسلوب هادئ رصين.

العوامل الطبيعية والماركسية:

والامام الصدر حينما يناقش الماركسية لا يأخذها على انها فكرة واحدة ويناقش تفاصيلها وجزئياتها فقط، وانما يناقشها من زاوية الاطار النظري الذي عرضت فيه، ويظهر الخلل في اساسها العلمي. ويبين مظاهر النقص في قاعدتها المعرفية، فعندما تقوم الماركسية بتفسير التاريخ والمجتمع على اساس اقتصادي تفقد صفتها العلمية. اذ يقول السيد الصدر:

«من مظاهر النقصان البارزة في الفرضية الماركسية، تناسي العوامل الفيزيولوجية والسيكلوجية والفيزيائية، واهمال دورها في التاريخ، مع انها قد تكون في بعض الاحايين ذات تأثير كبير في حياة المجتمع وكيانه العام. لانها هي التي تحدد للفرد اتجاهاته العملية، وعواطفه وكفاءاته الخاصة، تبعاً لما تتحفه به من تركيب عضوي خاص»[19].

ويستشهد الشهيد الصدر بأمثلة عديدة تؤيد وجهة نظره في اهمية الدور التاريخي والاجتماعي للعوامل السيكولوجية مما يدلل على خطأ التفسير الماركسي للتاريخ، ومن تلك الامثلة سر القنبلة الذرية الذي اكتشفه العلماء الروس.

«فبم نستطيع ان نفسر اكتشاف العلماء الروس للسر، الامر الذي انقذ العالم الاشتراكي من الدمار؟

ولا يمكننا ان نقول ان قوى الانتاج هي التي ازاحت الستار عن هذا السر، والا فلماذا لم يدركه الا نفر خاص، من العدد الكبير من العلماء الذريين الذين كانوا يمارسون التجارب الذرية»؟!

«ان هذا يوضح ان الاكتشاف مدين بصورة خاصة للتركيب العضوي الخاص وشروطه الذهنية، ولو لم تتهيأ هذه الشروط، ولم يوجد النبوغ العلمي الخاص، المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط، لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى»[20] ولم تكن تنفعها قوانين المادية التاريخية كلها.

واذا كان من الممكن ان توجد لحظات في حياة الانسان، تقرر مصير التاريخ اووعية الاحداث الاجتماعية، فكيف يمكن ان تكون قوانين الانتاج هي القوانين الحتمية للتاريخ؟؟

الرأسمالية والقوانين العلمية:

يبدأ الامام الصدر مناقشته للرأسمالية من زاوية الاطار النظري او القانون العلمي فيبدأ بعرض تاريخ ظهورها، منذ وضعت بذورها العلمية في ارضية الحضارة الاوروبية. وفي فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حيث سادت يومذاك فكرتان احداهما: ان الحياة الاقتصادية مرتبطة بشكل مباشر بالقوانين الطبيعية، اذ ان هذه القوانين هي التي تتحكم في الاقتصاد فالظواهر الاقتصادية كأي ظاهرة طبيعية تسيّرها قوانينها العامة.

ثانياً: ان تلك الوقانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية. لذلك يجب على علم الاتقاصد اكتشاف تلك القوانين.

وقد وضعت الفكرة الاولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي. اما الفكرة الثانية فقد وضعت بذرته المذهبية.

وقد ارتبطت الفكرتان ارتباطاً وثيقاً، حتى خيل للبعض ان اي تدخل في الامور الاقتصادية يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، التي كفلت للانسانية رخاءها وحل جميع مشاكلها.

فكل خطوة لتنظيم الحياة الاقتصادية تعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية. وهكذا انتهت الرأسمالية الى ان تلك القوانين الخيرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي.

«ان هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكاً وطفولياً الى حد كبير، لان الخروج على قانون علمي طبيعي لا يعني ان هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وانما يبرهن على خطأ القانون نفسه. وينزع عنه وصفه العلمي الموضوعي»[21].

ان القوانين الطبيعية تعمل ولا تكف عن العمل اذا توفرت الشروط الموضوعية والظروف اللازمة لها.

وانما قد يحدث ان يختلف مفعول تلك القوانين تبعاً لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلها، كما تختلف قوانين الفيزياء في اثارها ونتائجها، طبقاً لاختلاف شروطها وظروفها

فمن الخطأ ان تدرس الحريات الرأسمالية، بوصفها ضرورات علمية، تحتمها قوانين الطبيعة لان ذلك لا يكسبها الطابع العلمي كما خيّل لاقطاب الاقتصاد.

ولا يمكن لباحث ان ينقد الرأسمالية ويناقشها باعتبارها نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده الرأسماليون، ولا يرتبط مصير الرأسمالية بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في تفسير الواقع الموضوعي.

اذ ان الباحث العلمي يواجه مذهباً لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، ليكون المنهج الضروري لدراسته هو المنهج العلمي، وانما يواجه مذهباً يستمد كيانه من تقديرات خلقية وعملية معينة.

«ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الاساس، وان كانت تتوقف ايضاً على شىء من البحث العلمي، غير ان دور البحث العلمي في هذه الدراسة يختلف عن دوره في داسة المذهب الماركسي.

فان البحث العلمي في قوانين المادية التاريخية كان وحده هو الذي يستطيع ان يصدر الحكم النهائي في حق الماركسية المذهبية، واما البحث العلمي في مجال نقد الرأسمالية المذهبية، فليس هو المرجع الاعلى للحكم في حقها لانها لا تدعي لنفسها طابعاً علمياً»[22].

ومن الاخطاء المنهجية ان يقدم المذهب الرأسمالي بوصفه حقيقة علمية، او جزء من علم الاقتصاد السياسي. وهذا يدل على عدم التمييز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية عند اولئك الاقتصاديين.

القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي:

يقوم الامام الصدر بتحليل القانون العلمي للاقتصاد الرأسمالي ويلقي الضوء على طبيعة القوانين الاقتصادية التي يدرسها لكي تعرف: كيف والى اي درجة يمكن الاعتراف لها بصفة القانون العلمي.

اذ يقسم القوانين العلمية للاقتصاد الى فئتين:

احدهما: القوانين الطبيعية التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها، لا دخل للانسان فيها، كقانون التحديد الكلي القائل: ان كل انتاج يتوقف على الارض وما تشتمل عليه من واد خام، محدود طبقاً للكمية المحدودة للارض وموادها الاولية. او قانون الغلة المتزايدة، القائل: ان كل زيادة في الانتاج تعوض على المنتج تعويضاً اكبر نسبياً مما زاده في الانفاق، حتى تبلغ الزيادة الى درجة خاصة، فتخضع عندئذ لقانون معاكس، وهو قانون الغلة المتناقصة الذي ينص على ان زيادة الغلة تبدأ بالتناقص النسبي عند درجة معينة.

والفئة الاخرى: من القوانين العلمية للاقتصاد السياسي تحتوي على قوانين للحياة الاقتصادية ذات صلة بارادة الانسان نفسه، نظراً الى ان الحياة الاقتصادية ليست الا مظهراً من مظاهر الحياة الانسانية العامة، التي تلعب فيها الارادة دوراً ايجابياً فعالا، في مختلف شعبها ومناحيها، فقانون العرض والطلب مثلا لا يعمل في معزل عن وعي الانسان كما تعمل قوانين الفيزياء والكيمياء، وكما تعمل القوانين الطبيعية في الانتاج التي سبق ذكرها.

وتدخل الارادة الانسانية في مجرى الحياة الاقتصادية، لا يعني ابعاد الحياة الاقتصادية عن مجال القوانين العلمية، واستحالة البحث العلمي فيهما، كما ذهب الى ذلك بعض المفكرين.

اذا اعتقدوا: ان طابع الحتمية والضرورة للقانين العلمية، يتنافى مع طبيعة الحرية التي تعكسها الارادة الانسانية، وهذا الوهم يقوم على مفهوم خاطىء عن الحرية الانسانية، وادراك معكوس للعلاقة بين الحرية والارادة وبين تلك القوانين، فان وجود قوانين طبيعية لحياة الانسان الاقتصادية لا يعني بأي حال ان الانسان يفقد حريته وارادته، وانما هي قوانين للارادة البشرية تفسر كيف يستعمل الانسان حريته في المجال الاقتصادي، فلا يمكن ان تعتبر الغاء لارادة الانسان وحريته.

ولكن هذه القوانين الاقتصادية، تختلف عن القوانين العلمية التي تفسر الظواهر الطبيعية في نقطة مهمة وهي ان هذه الوقانين يغلب عليها طابع الذاتية. وتتأثر بالبعد الانساني، وتتأثر بوعي الانسان، وبالعوامل المؤثرة في طبيعة الانسان وميوله وافكاره واتجاهاته ولنوعية المذهب السائد في المجتمع وللبيئة الاجتماعية. فاذا تغيرت تلك الظروف والعوامل الانسانية تغير اتجاه الافراد وسلوكهم ومواقفهم العملية. وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة التي تفسر مجرى الحياة الاقتصادي.

فلا يمكن في هذا الحالة تعميم القوانين العلمية المرتبطة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية. فليس من الصحيح علمياً ان تطبق قوانين المجتمع الرأسمالي على مجتمعات اخرى تختلف عنها في كثير من المؤثرات والعوامل، ما دامت المجتمعات الاخرى تختلف في اطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية عن المجتمعات الرأسمالية، بل يجب ان تؤخذ هذه الاطارات الفكرية كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن الطبيعي ان تتكشف نتائج البحث حينئذ عن القوانين الجارية ضمن تلك الاطارات الفكرية.

ان النظرية الاقتصادية الرأسمالية تكتسب الطابع العلمي من المذهب الاجتماعي والاقتصادي الذي تستند اليه، وليس لها قدسية القوانين العلمية المطلقة.

فهي صحيحة بالقياس الى الافكار والقيم المادية الغربية. ومطابقة للواقع نسبة الى الروح المادية والنزعة الفردية في المجتمعات الاوروبية. اذ انها تستمد شرعيتها وبناءها النظري من الابعاد المعنوية والعناصر الفكرية لتلك المجتمعات.

ومن الخطأ العلمي تعميم النظرية، واعتبارها صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان. ومن الخطأ الشائع اعتبارها نظرية ذات طابع علمي مطلق، اذ انها تفقد صفتها العلمية عند تغيير ظروفها وشروطها وبيئتها الجغرافية.

وبمجرد تغيير القاعدة الفكرية، يفقد القانون مصداقيته وصفته العلمية، لانه اكتسب الطابع العلمي من الاطار الفكري الذي استند اليه.

ولا شك ان المجتمعات البشرية قد مرت بظروف مغايرة ومختلفة من حيث النشأة والتطور وفقاً لمعطيات كثيرة متشابكة وبعض هذه المجتمعات يضرب بجذوره في اعماق التاريخ، والبعض الأخر حديث نسبياً، والبعض الأخر اكثر حداثة، والقدم والحداثة هنا لها تأثيرها على القيم والافكار والمعتقدات والسلوك الفردي والتنظيم الاجتماعي.

«ان المجتمع الاسلامي الذي عاش في ظل الاسلام، تختلف القاعدة العامة لسلوكه ومقاييسه العملية، ومحتوياته الروحية والفكرية عن المجتمع الرأسمالي كل الاختلاف. فان الاسلام بوصفه ديناً ومذهباً خاصاً في الحياة، وان كان لا يعالج الاقتصاد معالجة علمية، ولكنه يؤثر على هذه الاحداث ومجراها الاجتماعي تأثيراً كبيراً، بوصفه يعالج محور تلك الاحداث، وهو الانسان في مفاهيمه عن الحياة ودوافعه وغاياته، فيصهره في قالبه الخاص. ويصوغه في اطاره الفكري.

وبالرغم من ان التجربة التي خاضها الاسلام في سبيل ايجاد هذا المجتمع كانت قصيرة، قد اسفرت عن اروع النتائج التي شهدتها حياة الانسان، وبرهنت على امكان التحليق بالانسان الى آفاق لم يستطع ان يتطلع اليها افراد المجتمع الرأسمالي، الغارقون في ضرورات المادة ومفاهيمها الى رؤوسهم. وفي النزر اليسير مما يحدثنا التاريخ عن نتائج التجربة الاسلامية وروائعها، ماى لقي ضوء على امكانات الخير المختزنة في نفس الانسان، ويكشف عن الطاقة الرسالية في الاسلام، التي استطاع بها ان يجند تلك الامكانات ويستثمرها لصالح القضية الانسانية الكبري.

وقد جاء في وصف الاجارات والتجارات في المجتمع الاسلامي ما حدث به الشاطبي، اذ كتب يقول:

«تجدهم في الاجارات والتجارات لا يأخذون الا بأقل ما يكون من الربح او الاجرة، حتى يكون ما حاول احدهم من ذلك كسباً لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم، كأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم ـ وان جازت ـ كالغش لغيرهم».

وتحدث محمد بن زياد عن شيء من التكافل الاجتماعي فقال:

«ربما نزل على بعضهم ضيف، وقدر احدهم على النار، فيأخذ صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القدر صاحبها، فيقول: من اخذ القدر؟ فيقول صاحب الضيف: نحن اخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القدر: بارك الله لكم فيها».

وهكذا ندرك الدور الايجابي الفعال للاسلام، في تغيير مجرى الحياة الاقتصادية، وقوانينها الطبيعية، بتغيير الانسان نفسه وخلق شروط روحية وفكرية جديدة له، وكذلك نعرف مدى الخطأ في اخضاع مجتمع، يتمتع بهذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانينى التي يخضع لها مجتمع رأسمالي، زاخر بالانانية والمفاهيم المادية[23].

وظيفة العلم:

والشهيد الصدر في منهجه الرائد لحل المشاكل التي تواجه المجتمعات الانسانية، يتبع الاسلوب العلمي النقدي، وبنظرة شمولية، وأفق واسع وادراك صحيح لطبيعة البحث العلمي، يكشف عن الاخطاء المنهجية السائدة في الدراسات الاجتماعية، ويكشف عن الهفوات العلمية التي ينزلق فيها كثير من الباحثين، حين يخلطون بين العلم كأداة ووسيلة معرفية، وبين كونه وصفة سحرية تقدم حلولا جاهزة لكل المشاكل التي تعاني منها الانسانية.

«ويتردد على بعض الشفاه: ان العلم الذي تطور بشكل هائل كفيل بحل المشكلة الاجتماعية.. ان هذا الانسان الذي سجل في تاريخ قصير كل هذه الفتوحات العلمية، وانتصر في جميع معاركه مع الطبيعة لقادر بما اوتي من علم وبصيرة، ان يبني المجتمع السعيد المتماسك ويضع التنظيم الاجتماعي التي يكفل المصالح الاجتماعية الانسانية، فلم يعد الانسان بحاجة الى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي سوى العلم الذي قاده من نصر الى نصر في كل الميادين»[24].

وهذا الادعاء في الحقيقة يكشف الجهل بوظيفة العلم في الحياة الانسانية، فان العلم وأساليبه ومناهجه ما هي الا ادوات بحث ووسائل تحليل، انها ليست الا اداة لكشف الحقائق الموضوعية سواء في الظواهر الطبيعية، او العلوم الانسانية. وهدف العلم تفسير الواقع تفسيراً محايداً وكشف العلاقات بين العناصر والظواهر الاجتماعية او الطبيعية باعلى درجة من الدقة والعمق.

ان وظيفة العلم اظهار الحقائق، وكشف العلاقة بين المتغيرات المستقلة والتابعة. فمثلا في مجال الطبيعة يكشف العلم ان هناك علاقة ما بين مادة كيمياوية وبين حالة مرضية تصيب الانسان عند استعماله لها. والعلم حين يبرز هذه الحقيقة يكون قد قام بوظيفته واتحف الانسانية بمعرفة جديدة ولكن شبح هذا المرض الخطير، لا يتلاشى لمجرد ان العلم اكتشف العلاقة بين تلك المادة المعينة والمرض، بل ان الانسان يتخلص من المرض بالتجنب عما يؤدي اليه.

وفي المجال الاقتصادي يكشف العلم العلاقة بين العرض والطلب في تحديد الاسعار وهنا تنتهي وظيفته. اما تنظيم الحياة الاقتصادية والتخلص من ارتفاع الاسعار فذلك ما يقوم به المذهب الاقتصادي.

وفي المجال الاجتماعي يتحفنا العلم بحقيقة الرأسمالية:

ان الرأسمالية تؤدي الى تحكم القانون الحديدي بالاجور، وخفضها الى المستوى الضروري للمعيشة. ولا يستطيع الانسان ان يتخلص من هذا القانون بمجرد معرفته لهذه الحقيقة. بل يستطيع ان يتخلص من هذا القانون بمحو الاطار الرأسمالي للمجتمع. ان الحقيقة العلمية التي كشفت الصلة في هذه الاطار وذلك القانون، ليست قوة دافعة الى العمل وتغيير الاطار، وانما يحتاج العمل الى دافع، والدوافع الذاتية للافراد لا تلتقي دائماً بل تختلف تبعاً لاختلاف المصالح الخاصة.

«وهكذا يجب ان نفرق بين اكتشاف الحقيقة العلمية، والعمل في ضوئها على اسعاد المجتمع، فالعالم انما يكشف الحقيقة بدرجة ما وليس هو الذي يطورها»[25].

والامام الصدر لتعمقه في العلم، ولاستيعابه مناهج العلم الحديث وطرقه واساليبه، نجده قد بلغ شأوا بعيداً في ادراك خبايا الفكر الاوروبي. وانه استعرض افكاره واطروحاته بما يناسب طرق البحث العلمي.

وقد اشار الى نقطة مهمة وهي ان العلم ما هو الا وسيلة لبلوغ المعرفة وليس غاية في حد ذاته، وان وظيفته تفسير الظواهر الطبيعية في مجال الطبيعيات. وتفسير الظواهر الاجتماعية في مجال العلوم الانسانية، وانه يقف عند هذا الحد. لذلك اكد ان هناك حداً فاصلا بين العلم والمذهب. وان الاقتصاد الاسلامي لا يدعي الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي الذي يزعم لنفسه الاطار العلمي بينما هو يتهاوى وينهار امام النقد العلمي. كما ان الاقتصاد الاسلامي ليس مجرداً عن اساس ونظرية رئيسية الى الحياة والكون كالرأسمالية.

فهو لا يقف موقف الاعتذار امام العلم. فينسب الاقتصاد الاسلامي اليه. ويحاول ان يبتسر النتائج في البحث، ويضع مقدمات خاطئة من اجل الوصول الى نتائج معدة سلفاً.

انما يعلن بكل صراحة ووضوح ان الاقتصاد الاسلامي ليس علماً. لان الاسلام «ثورة على الواقع الفاسد وتحويله الى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً للواقع»[26].

«واما الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الاسلامي فيأتي دورها بعد ذلك. لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع اسلامي يطبق فيه مذهب الاسلام تطبيقاً كاملا. فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي في الاسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الاحداث فيه بعضها ببعض»[27].

ولكن متى يمكن وضع علم الاقتصاد الاسلامي؟

وكيف يتم ذلك؟

والسيد الشهيد يجيب عن هذين السؤالين، ولكنه يبدأ أولا بالطريقة العلمية في البحث فيقول:

«ان التفسير العلمي لاحداث الحياة الاقتصادية يستند على امرين:

الاول: جمع الاحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة وتنظيمها تنظيماً علمياً يكشف عن الوقانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة وشروطها الخاصة.

الثاني: البدء في البحث العلمي من مسلّمات معينة تفترض افتراضاً، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الاحداث.

اما التفسير العلمي على الاساس الاول فلا يتأتى للباحث الاسلامي بسبب غياب التجربة الاسلامية في الاقتصاد، وما دام الاقتصاد الاسلامي بعيداً عن مسرح الحياة، فان شيئاً كهذا لا يتاح لرجال الاقتصاد في الاسلام. فهم لا يملكون من حياتهم تجارب عن الاقتصاد الاسلامي من خلال التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة القوانين التي تتحكم في حياة المجتمع الاسلامي.

واما التفسير العلمي على الاساس الثاني، فمن الممكن استخدامه في سبيل توضيح بعض الحقائق التي تتميز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي. بالانطلاق من نقاط مذهبية معينة، واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض، ووضع نظريات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الاسلامي على ضوء تلك النقاط المذهبية.

والباحث الاسلامي اذا اجتهد وقدم تفسيراً للظواهر الاقتصادية في المجتمع الاسلامي، فان تفسيراته لا تكون علمية بشكل دقيق. لانه يفسر واقعاً اقتصادياً مفترضاً، اذ يفترض ظاهرة اقتصادية او اجتماعية تقوم على اسس معينة، ثم يقوم بتفسير هذا الواقع، واستكشاف خصائصه العامة في ضوء تلك الفرضيات. فلا تكون النتائج مطابقة للواقع تماماً، لانه كثيراً ما تقع مفارقات بين الواقع المحسوس وبين الفرض، او بين الواقع وبين التفسير القائم على اساس الافتراض. كما اتفق للاقتصاديين الرأسماليين الذين بنوا كثيراً من نظرياتهم التحليلية على اساس افتراضي، فانتهوا الى نتائج تناقض الواقع الذي يعيشونه، لانكشاف عدة عوامل في الحقل الواقعي للحياة لم تؤخذ في مجال الافتراض؟

البعد الانساني في الاقتصاد الاسلامي

وهناك نقطة مهمة لا بد من الاشارة اليها وهي ان الاسلام لا يكتفي بالجانب الموضوعي في تنظيم الحياة الاقتصادية، انما يهتم بالعنصر الروحي والفكري، او بتعبير آخر البعد الاخلاقي او البعد الانساني. وكما يقول السيد الصدر «هناك المزاج النفسي العام للمجتمع الاسلامي. وهذا لا يدخل في الحساب العلمي. لان هذا المزاج ليس شيئاً مادياً له درجة محدودة او صيغة معينة، يمكن ان تفترض مسبقاً وتقام على اساسها النظريات العلمية»[28].

«فعلم الاقتصاد الاسلامي لا يمكن ان يولد ولادة حقيقية، الا اذا جسّد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الاحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة»[29].

وما لم يتجسد الاقتصاد الاسلامي في مجتمع معين، ولم يطبق في الحياة الواقعية، لا يمكن وضع علم الاقتصاد الاسلامي. اذ ان العلم لا ينشأ من فراغ، والنظريات العلمية لا تصاغ على اسس افتراضية، بل يجب ان تؤخذ من الواقع المحسوس. والموضوعية في البحث تتطلب ان نقبل الواقع كما هو، وان نبني على اساس تحليل ما هو موجود، لا على ما عندنا من افكار ودراسات او اجزاء من دراسات او فروض او نظريات مسبقة. انما يجب ان تنطلق النظرية بالاستقراء العلمي وبالطريقة التجريبية من الواقع الذي نعيشه، وندرس ذلك الواقع دراسة منهجية ثم تصاغ الفكرة صياغة علمية. وذلك بملاحظة الظواهر الاجتماعية ملاحظة دقيقة والسير في البحث خطوة خطوة حتى تنتهي بالقوانين التي تفسر الظواهر الاقتصادية والاجتماعية. والعلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة او مثل اعلى للعدالة.

ملاحظات ختامية

وفي نهاية البحث، اود الاشارة الى ان هذه الدراسة لم تعالج كل ما يتعلق بطريقة البحث العلمي عند الامام الصدر، ذلك لان هذا الموضوع متشعب كثير الفروع، وفي هذا الحيز المتاح لا يمكن الاحاطة بكل تفاصيله واجزائه. فكثير من النقاط عرضت باسلوب موجز، فهو موضوع يحتاج الى دراسة متأنية، ويمكن التوسع فيه في مستوى آخر من البحث، وبطريقة اكثر شمولية، وبأفق اوسع، وبنظرة اعمق.

كما ان السيد الشهيد عرض في كتاب فلسفتنا كثيراً من الافكار تتعلق بمنطق البحث العلمي ومبادئه مثل مبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية وموضوع الشك العلمي ومبدأ الذاتية، ولم نتعرض اليه في هذا البحث التراماً بالموضوع وبهدف البحث، فالبحث يهدف الى موضوع تطبيق المنهج العلمي، اي طريقة استخدامه في عرض الافكار، اما المنهج نفسه وشروطه والمبادىء التي يستند عليها، فتلك مسألة اخرى.

وهناك فرق بين طريقة استخدام المنهج التجريبي، وبين المنهج نفسه وقيمته العلمية، وهذا يرتبط بفلسفة العلوم. ويمكن عرض هذا الجانب من البحث العلمي في دراسة اخرى.

وهناك افكار اجتماعية علمية مبثوثة في كتب السيد الشهيد وهي ايضاً خارجة عن نطاق البحث مع ارتباطها بالعلم الحديث.

وملاحظة اخيرة تتعلق بالافكار العلمية في مجال العلوم الطبيعية التي ذكرها الشهيد الصدر، تدعيماً لافكار فلسفية او لاثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهي مع اهميتها لم يتناولها البحث ويمكن تناولها وعرضها في بحث مستقل آخر ومن الله التوفيق.

إبراهيم الموسوي

* مقدمة

* الموسوعية عند الشهيد الصدر

* طبيعة المنهج العلمي

* تحديد المفاهيم

* بين المنهج التاريخي والمنهج العلمي

* تفسير الحركة العلمية

* التناقض في العلم

* الذوق الفني والماركسية

* العوامل الطبيعية والماركسية

* الرأسمالية والقوانين العلمية

* القوانين العلميه في الاقتصاد الرأسمالي

* وظيفة العلم

* البعد الانساني في الاقتصاد الاسلامي

* ملاحظات ختامية

ابراهيم الموسوي

* مواليد كربلاء ـ العراق 1951م.

* باحث اسلامي عراقي يعيش في المهجر.

* حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من كلية الآداب جامعة بغداد.

* حصل على دبلوم عام وماجستير في علم الاجتماع من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة.

* كتب عدة بحوث ودراسات منها:

– التنمية الزراعية والتغيير الاجتماعي في العراق.

– الابعاد الاجتماعية لنشأة مدينة بغداد.

* نشرت عدة مقالات ودراسات في الصحف والمجلات العربية.

[1] اصول البحث: مراجعة وتحقيق محمد قاسم، مجلة الكلمة، العدد 2، السنة الاولى شتاء 1994.

[2] عبد الهادي الفضلي، اصول البحث، دار المؤرخ العربي، بيروت، 1992

[3] الشيخ محمد مهدي الآصفي، صحيفة الشهادة، عدد خاص عن الامام الصدر، 10 ذي القعدة 1415ه.

[4] حسن الساعاتي، تعميم البحوث الاجتماعية، ص 124.

[5] محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطبعة العشرون، المقدمة ص 26.

[6] اقتصادنا، ص29.

[7] اقتصادنا، ص 482.

[8] محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص 361.

[9] اقتصادنا، ص 386.

[10] محمد باقر الصدر، اقتصادنا، الطبعة العشرون، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1987، ص82.

[11] اقتصادنا، ص 83

[12] اقتصادنا، الطبعة العشرون، ص 84.

[13] اقتصادنا،الطبعة العشرون، ص 84.

[14] انظر: اقتصادنا، ص 85 ـ 86.

[15] اقتصادنا، ص 126.

[16] اقتصادنا: ص 128.

[17] اقتصادنا: ص 62.

[18] اقتصادنا، ص 144.

[19] اقتصادنا، ص 141.

[20] اقتصادنا، ص 143

[21] اقتصادنا، ص 244 ـ 245

[22] اقتصادنا، الطبعة العشرون، ص 247.

[23] اقتصادنا، 250 ـ 251.

[24] اقتصادنا، ص 303 ـ 304.

[25] اقتصادنا، ص 305.

[26] اقتصادنا، ص 312.

[27] اقتصادنا، ص 312.

[28] اقتصادنا، ص 315.

[29] اقتصادنا، ص 315.