التفسير الموضوعي الأستاذ العلامة السيد محمد باقر الحكيم

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

التمهيد

التعريف بالتفسير الموضوعي:

حينما نطالع الدراسات التفسيرية منذ العصور الإسلاميّة  الأولى نجد بينها اختلافا كثيرا في الانطباعات وتفاوتا كبيرا في الموضوعات ذات العلاقة في البحوث القرآنية. حيث نرى بعض المفسرين يتجه إلى التأكيد على الجانب التشريعي والفقهي من القرآن، وبعضهم يتجه إلى التأكيد على الجانب العقيدي أو الأخلاقي أو العلمي التجريبي أو الجانب العرفاني منه، وهكذا بالنسبة إلى بقية الموضوعات القرآنية كالقصة وغيرها.

وبالرغم من هذا الاختلاف الكبير لا نكاد نجد اختلافا مهما في منهج الدراسة والبحث، ذلك أنهم اعتادوا على أن ينهجوا في البحث طريقة تفسير الآيات القرآنية بحسب تسلسل عرضها في القرآن الكريم، وتنتهي مهمة تفسيرها عند تحديد معنى الآية موضوعة البحث مع ملاحظة بعض ظروف السياق أو بعض الآيات الأخرى المشتركة معها في نفس الموضوع، ويمكن أن نسمي هذا المنهج بالتفسير التجزيئي أو الترتيبي للقرآن الكريم.

نعم، نلاحظ أن مجموعة من الآيات اهتم المفسرون بها بشكل خاص لوجود قاسم مشترك بينها كآيات الأحكام أو القصص القرآني أو الآيات الناسخة والمنسوخة أو غيرها ولكن لم تدرس كموضوع مستقل، بل باعتبار وجود الجامع والخصوصية المشتركة.

وفي الفترة المتأخرة من تأريخ التفسير أخذت تنمو بوادر منهج جديد في التفسير أو البحث القرآني يقوم على أساس محاولة استكشاف النظرية القرآنية في جميع المجالات العقيدية والفكرية والثقافية والتشريعية والسلوكية من خلال عرضها في مواضعها المختلفة من القرآن الكريم.

فحين نريد أن نعرف رأي القرآن الكريم في (الألوهية) يستعرض هذا المنهج الجديد الآيات التي جاءت تتحدث عن هذا الموضوع في مختلف المجالات وفي جميع المواضع القرآنية سواء في ذلك ما يتعلق بأصل وجود الإله أو بصفاته واسمائه، ومن خلال هذا العرض العام والمقارنة بين الآيات، وحدودها يستكشف النظرية القرآنية في (الإله).

ونظير هذا الموقف يتخذه في كل المفاهيم والنظريات أو بعض الظواهر القرآنية، فيبحث عن (الأسرة) أو (التقوى) أو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (المجتمع) أو (الجهاد) أو (فواتح السور) أو (القصص القرآني) أو (الإنسان) أو غير ذلك من الموضوعات القرآنية.

وقد يقتصر البحث على مقطع قرآني واحد، لأن القرآن لم يعرض لموضوع البحث إلاّ في هذا المقطع. ومع ذلك نجد هذا الاختلاف بين المنهج الجديد والمنهج السابق في دراسة هذا المقطع الواحد حيث تكون مهمة المنهج الجديد استخلاص الفكرة والنظرية من خلال هذا المقطع دون المنهج السابق.

فالتفسير الموضوعي ـ إذن ـ يقوم على أساس دراسة موضوعات معينة تعرض لها القرآن الكريم في مواضع متعددة أو في موضع واحد وذلك من أجل تحديد النظرية القرآنية بملامحها وحدودها في الموضوع المعين، وفي مقابل ذلك يكون (التفسير التجزيئي) الذي يتناول المفسر في أطارة القرآن  الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.

ومن أجل عقد المقارنة بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي أو ترجيح أحدهما على الآخر لابد أن يتضح المراد من التفسير الموضوعي، وهنا يحسن بنا أن نفهم مصطلح (الموضوعية).

فقد ذكر أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) ثلاثة معان لمصطلح الموضوعية:

أولا: (الموضوعية) في مقابل (الذاتية) و(التحيز)، والموضوعية بهذا المعنى عبارة عن الأمانة والاستقامة في البحث[1]. والتمسك بالأساليب العلمية المعتمدة على الحقائق الواقعية في نفس الأمر والواقع، دون أن يتأثر الباحث بأحاسيسه ومتبنياته الذاتية ولا أن يكون متحيزا في الأحكام والنتائج التي يتوصل إليها.

وهذه (الموضوعية) أمر صحيح ومفترض في كلا المنهجين (التجزيئي) و (الموضوعي) ولا اختصاص لأحدهما بها.

ثانيا: (الموضوعية) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الذي هو (الواقع الخارجي)، ويعود إلى (القرآن الكريم)[2]. لمعرفة الموقف تجاه الموضوع الخارجي.

فيركز المفسر ـ في منهج التفسير الموضوعي ـ نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني، ويبدأ معه حوارا، فالمفسر يسأل والقرآن يجيب، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح[3].

وقد يسمى هذا المنهج أيضا بالمنهج (التوحيدي) باعتبار أنه يوحد بين (التجربة البشرية) و(القرآن الكريم) لا بمعنى أنه يحمل التجربة البشرية على القرآن، بل بمعنى أنه يوحد بينهما في سياق واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية[4].

ثالثا: وقد يراد من (الموضوعية) ما ينسب إلى الموضوع، حيث يختار المفسر موضوعا معينا ثم يجمع الآيات التي تشترك في ذلك الموضوع فيفسرها. ويحاول استخلاص نظرية قرآنية منها فيما يخص ذلك الموضوع.

ويمكن أن يسمى مثل هذا المنهج منهجا توحيد يا أيضاً باعتبار أنه يوحد بين هذه الآيات ضمن مركّب نظري واحد[5].

ولاشك أن المعنى الأول ليس موضوع البحث إذ لا يختلف التفسير الموضوعي عن التفسير التجزيئي في ضرورة توفر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا المعنى الثاني والثالث.

مرجحات منهج التفسير الموضوعي على منهج التفسير التجزيئي

ونذكر ثلاثة مرجحات رئيسية للمنهج الموضوعي على المنهج التجزيئي أشار إليها أستاذنا الشهيد الصدر رضي الله عنه في بحوثه القرآنية، وهي:

الأول: أن التفسير الموضوعي يرجح على التفسير التجزيئي لأنه يمثل حالة من التفاعل مع الواقع الخارجي، إذ أن المفسر يبدأ من خلاله بالواقع الخارجي ثم ينتقل إلى القرآن الكريم ثم يعود إلى الواقع الخارجي مرة أخرى بنتاج بحثه داخل القرآن، مما يجعل القرآن الكريم ملبيا وبشكل مستمر لكل متطلبات الحالة الإنسانية والاجتماعية التي تفرضها حركة التأريخ والحركة التكاملية لهذا الإنسان.

ومن هنا تبقي للقرآن قدرته الدائمة على القيمومة والعطاء المستجد الذي لا ينفد والمعاني التي لا تنتهي؛ التي نص عليها القرآن نفسه ونصت عليها أحاديث أهل البيت عليهم السلام[6].

ولا توجد مثل هذه الخصوصية والميزة في منهج التفسير التجزيئي والذي يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن، حيث يفترض الشهيد الصدر رضى الله عنه هذا النوع من التفسير ما يشبه التفسير اللغوي ويتوقف فيه على المعنى والمفهوم اللغوي واللفظي للقطعة القرآنية التي يراد تفسيرها دون التعمق في تفسير المعنى من أجل الوصول إلى المصاديق المرتبطة بحركة الواقع وظروفه، مما يجعلنا غير قادرين على الإجابة على كثير من المسائل التي تواجهنا في الواقع المعاش.

وعلى هذا الأساس كانت طاقات التفسير (التجزيئي طاقات محدودة) لأن طاقات التفسير اللغوي طاقات محدودة بمحدودية طاقات اللغة، إذ ليس هناك تجدد في المدلول اللغوي، ولو وجد فلا معنى لتحكيمه على القرآن[7].

الثاني: إن هدف التفسير التجزيئي في كل خطوة من خطواته هو فهم مدلول الآية القرآنية أو القطعة القرآنية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة.

وعلى هذا فإن حصيلة التفسير التجزيئي للقرآن الكريم تساوي وعلى أفضل التقادير مجموع مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضاً، أي أنه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط بها ودون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة.

نعم، من الممكن استنباط نظرية قرآنية من التفسير التجزيئي، ولكن هذا العمل ليس مستهدفا بالذات في التفسير التجزيئي، وإن حصل أحيانا[8].

أما منهج التفسير الموضوعي فإنه يرجح على منهج التفسير التجزيئي بتجاوزه خطوة تكاملية إلى الأمام، لأنه لا يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية، بل يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية من أجل الوصول إلى مركّب نظري قرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بـ(النظرية)، فيصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، والمذهب الاقتصادي، وسنن التاريخ والسماوات والأرض…[9].

وقد يقال: ما الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الأساسية، بحيث يكون ذلك ميزة للمنهج الموضوعي على المنهج التجزيئي مع أننا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يعط هذه المفردات على شكل نظريات محددة وبصيغة عامة، وإنما أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين؟[10].

وجواب هذا: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يكتفي بإعطاء المفردات على هذا الشكل لأن كل فرد مسلم كان يفهم هذه النظرية ولو بشكل إجمالي من خلال التطبيق ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه الرسول (صلى الله عليه وآله) في الحياة الإسلاميّة.

وأما حيث لا يوجد ذلك الإطار، وذلك لعدم تطبيق هذه النظريات عمليا وبالتالي فقدان الوجود الارتكازي لها في أذهان المسلمين، فإننا نكون بحاجة لدراسة هذه النظريات القرآنية وتحديدها.

وستكون هذه الحاجة حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، إذ وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لابد وأن يستنطق نصوص الإسلام ويتوغل في أعماقها لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية سلبا وإيجابا، ولكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة[11].

الثالث: إن حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي أدت إلى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلاميّة، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع كما وقع في كثير من المسائل الكلامية، كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا. بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطا خطوة أخرى، ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نرى ذلك في الاتجاه الموضوعي[12].

وقد نفهم من حديث السيد الشهيد رضى الله عنه السابق أنه يضيف إلى جملة مرجحات المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي أمرا آخر وهو أن التفسير التجزيئي يمثل حالة من السطحية النسبية في التفسير قياسا إلى العمق الموجود في المنهج الآخر، وهذه الحالة هي حالة التفسير اللغوي واللفظي، بخلاف التفسير الموضوعي الذي يمثل الحالة العميقة في البحوث التفسيرية، وبذلك يمثل التفسير الموضوعي الخطوة التكاملية لمسيرة التفسير من هذه الناحية أيضاً، بالإضافة إلى تلك الخطوة التكاملية التي خطاها في محاولته لاستحصال أوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات من أجل الوصول إلى النظرية القرآنية.

وقد حاول الشهيد الصدر رضى الله عنه أن يفسر مسألة شيوع منهج التفسير التجزيئي وسيطرته على الساحة التفسيرية لقرون عديدة، بافتراض وجود النزعة الروائية والحديثية في التفسير، حيث أن التفسير لم يكن في البداية إلاّ شعبة من شعب الحديث بصورة أو بأخرى، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريبا مضافا إلى بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن[13].

وهذا الاعتماد على النصوص والروايات جعل شكل التفسير تفسيرا تجزيئيا، وذلك لأن المفهوم العام للقرآن كان موجودا في الصدر الأول لدى المسلمين عدا مفردات محدودة ومعينة جاءت النصوص في تفسيرها.

وعلى هذا فإن منهج التفسير بدأ بالتفسير بالمأثور وهو تفسير تجزيئي ثم تطور وانتهى إلى التفسير الموضوعي فيما بعد.

المرجح العملي

وبالإضافة إلى ذلك، ذكر السيد الشهيد الصدر(رضى الله عنه) مبررا عمليا لإيثاره التفسير الموضوعي على التفسير التجزيئي عندما بدأ في بحث التفسير، وهو أن شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لأنه يبدأ من(الفاتحة) وينتهي بسورة (الناس).

وهذا الشوط الطويل بحاجة إلى فترة زمنية طويلة لإكماله. ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الأعلام إلاّ عدد محدود بهذا الشرف العظيم[14].

ملاحظات حول المنهجين

ولنا بعض الملاحظات حول حديث السيد الشهيد الصدر(رضى الله عنه)، وهي:

أولا: فيما يخص المرجحات الثلاثة لمنهج التفسير الموضوعي على التفسير التجريئي. حيث لابد لنا أن نعرف مدى صحة هذه المرجحات واختصاصها بالتفسير الموضوعي.

أما المرجح الأول:[15] فإننا لا يمكن أن نعتبر خصوصية ملاحظة الواقع الموضوعي القائم والإثارات التي يثيرها هذا الواقع وتساؤلاته ومحاولة الحصول على الإجابة والمعالجة لهذا الواقع من خلال القرآن، لا يمكننا أن نعتبر هذه الخصوصية ميزة ومرجح لمنهج التفسير الموضوعي على المنهج التجزيئي، وذلك لأن هذا المرجح قائم وموجود في منهج التفسير التجزيئي أيضاً.

وبمراجعة كتب التفسير لمختلف العصور، نجد أن هذه المعالجة للواقع الموضوعي الخارجي في التفسير قائمة وموجودة، وغاية ما في الأمر أن مستوى هذه المعالجة قد يختلف باختلاف المفسر والإثارات التي يثيرها الواقع الموضوعي وقدرة المفسر على معالجة الموضوعات والقضايا المختلفة.

فعندما وقع الاختلاف والصراع في تفسير العقيدة الإسلاميّة  بين(المعتزلة) و(الاشاعرة) وهو صراع قائم في الواقع الموضوعي لذلك العصر، فإن ذلك الصراع قد انعكس على كتب التفسير في زمانه، وكان المسلمون والباحثون يرجعون إلى القرآن الكريم للحصول على أجوبة للمسائل والمشاكل التي تعترضهم.

ومن الواضح أن المنهج الذي كانوا يتبنونه آنذاك كان هو(المنهج التجزيئي) إذ كانوا يأخذون من القرآن الكريم مقطعا ويحاولون في كل مقطع منه أن يجيبوا على التساؤلات المرتبطة به أو يحلوا المشكلات التي يعيشها الواقع الموضوعي على ضوء ما يقرره ذلك المقطع.

وكمثال آخر، فإنه وفي بداية تقنين علم النحو والبلاغة وأثناء قيام العلماء بمحاولات استكشاف القوانين التي تحكم هذه العلوم، نجد أن كتب التفسير في ذلك الوقت قد تأثرت بهذه الإثارات والتساؤلات، وقد أصبح القرآن الكريم هو المصدر الأساسي لاستكشاف هذه القواعد والدليل الذي يستشهد به هذا العالم أو ذاك.

وحتى في عصرنا الحالي، فإننا نجد مصاديق هذا المدعى وبوضوح في تفسير(المنار) أو(الميزان) أو(في ظلال القرآن) أو غيرها.

إذ نجد أن هناك محاولات يبذلها هؤلاء المفسرون بحسب مستوياتهم للإجابة ومن خلال تفاسيرهم على التساؤلات والإثارات التي يشهدها الواقع الموضوعي الخارجي.

وعلى هذا، فإننا نرى أن هذا المرجح أمر مشترك وميزة مشتركة يمكن أن تنعكس على كلا المنهجين.

ولا ينبغي للفظة (الموضوع) هنا أن تحدد مسألة التفاعل مع الواقع الخارجي ومحاولة الإجابة على التساؤلات والإثارات التي يطرحها هذا الواقع من خلال القرآن، بمنهج التفسير (الموضوعي) وحده دون التفسير التجزيئي.

وأما المرجح الثاني: فهو مرجح إيجابي وصحيح لصالح المنهج الموضوعي في التفسير، وذلك لأن ميزة هذا المنهج الأساسية ـ بحسب تصورنا ـ هي في إمكانية الوصول من خلاله إلى النظريات القرآنية بمختلف القضايا التي تناولها وتحدث عنها القرآن الكريم. بخلاف المنهج التجزيئي الذي تفترض فيه التجزئة وتناول القرآن الكريم آية آية، أو مقطعا مقطعا، وبمنهج يراد منه فهم تلك الآية أو المقطع دون استخلاص النظريات القرآنية التي يمكن استفادتها منه.

ولابد أن نشير هنا إلى أنه وإن كان بالإمكان استخلاص بعض النظريات القرآنية من خلال آية واحدة، إلاّ أن هذا لا يعني أن المنهج المتبع هنا هو منهج تجزيئي، بل هو منهج موضوعي، وذلك لأن المنهج الموضوعي هو منهج استخلاص النظرية الكلية ذات الحالة الشمولية والتي تمثل القاعدة الأساسية، وأما المنهج التجزيئي فهو المنهج الذي تتم خلاله محاولة فهم المضمون الكلي لهذه الآية أو تلك دون استخلاص النظرية الشمولية منها.

وأما المرجح الثالث: فلا يمكن اعتبار هذا المرجح مرجحا للمنهج الموضوعي على التجزيئي، وذلك لأنه كما يمكننا أن نفترض وجود الاختلافات والتناقضات على أساس المنهج التجزيئي يمكننا أن نفترض ذلك على أساس المنهج الموضوعي أيضاً، وكما هو قائم وموجود فعلا، إذ أن هناك الكثير من الباحثين والمفسرين في العصور المتأخرة اعتمدوا المنهج الموضوعي ومع ذلك توصلوا إلى نتائج مختلفة ومتناقضة.

إن التناقضات العقائدية يمكن إرجاعها إلى سببين لا علاقة لهما بمنهجية التفسير، وهما:

الأول: فرض المتبنيات الذاتية للإنسان والتي يتبناها من خارج القرآن الكريم على القرآن الكريم ومعناه ومفهومه، وهذا هو التفسير المتحيز.

وهذا التحيز إما أن يكون ناشئا من متبنيات عقائدية أو ميول نفسية، أو ترجيحات واستحسانات ظنية، أو التزامات معينة في أدوات الإثبات، أو اتجاهات ومصالح سياسية.

الثاني: وهو سبب موضوعي ومرجعه إلى أن المفسر لا يبذل الجهد المناسب أثناء القيام بعملية التفسير، أو لا تكون لديه القدرة المناسبة على استيعاب المضمون القرآني في التفسير.

ومن الواضح أن هذين السببين ليس مما يختص بهما المنهج التجزيئي دون المنهج الموضوعي:

كما أنه لا دليل على أن هذا المنهج من التفسير، وهو أن يفسر القرآن الكريم آية آية أو قطعة قطعة ينتهي إلى آراء مختلفة، لأننا اشترطنا في التفسير التجزيئي عدم تفسير هذه الآية أو هذه القطعة إلاّ بعد الرجوع إلى الآيات الأخرى من القرآن الكريم والى كل القرائن المؤثرة في فهم هذه القطعة ومن ثم استخلاص النتيجة منها، لا أن تؤخذ القطعة معزولة عن كل ما حولها مما قد يؤدي إلى وقوع النتائج السلبية المذكورة.

سبب شيوع التفسير التجزيئي

ذكر السيد الشهيد الصدر(رضى الله عنه) أن التفسير بالمأثور هو الذي أدى إلى أن يسبق التفسير التجزيئي التفسير الموضوعي بعدة قرون.

إن هذا التفسير لهذه الظاهرة غير واضح ـ لدي ـ على أقل تقدير، ففي تصوري أن سبب شيوع الاتجاه التجزيئي في التفسير وسبقه للاتجاه الموضوعي يرجع إلى أمرين:

الأول: القدسية التي أحاطت بالنص القرآني الكريم:

القرآن الكريم ككتاب مقدس وضع ضمن ترتيب ونص معين ـ من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) على الأصح، أو في زمن عثمان ـ كما يحتمله البعض ـ ويبدأ هذا الترتيب بـ (فاتحة الكتاب) ويختتم بسورة (الناس).

وقد بقي المسلمون وحتى يومنا الحاضر يحترمون هذه الصيغة وهذا الشكل التركيبي للقرآن الكريم، الأمر الذي أدى إلى التقيد بهذا الترتيب في قراءة القران وفي تفسيره ودراسته.

وهذا هو السبب الرئيسي ـ في تصورنا ـ الذي أدى إلى ظهور النزعة التجزيئية في التفسير وشيوعها. وهذا الشئ هو ما نشاهده أيضاً وفي كل النصوص التي تتصف بقدسية خاصة في ترتيبها ـ من ناحية ورودها وحفظها ضمن تسلسل معين ـ وإن كانت بدرجة أقل من القرآن الكريم، كنهج البلاغة والصحيفة السجادية، فشروحهما وفي مختلف العصور، شروح سارت وفق المنهج التجزيئي.

ولعل انتهاج الدراسات الفقهية للمنهج الموضوعي منذ بداية نشأتها والتطور الذي حصل فيها مرده إلى أن الحديث النبوي لم يوضع لا من قبله (صلى الله عليه وآله) ولا من قبل الصحابة في الصدر الأول ضمن نص معين وتسلسل مقدس معين، يبدأ برواية خاصة وينتهي برواية معينة أخرى، بحيث يصبح هذا الشكل موضوعا للأبحاث والدراسات بعد ذلك، بل جاء ومنذ البداية على هذا الشكل المتفرق، وإنما تم جمعه في عصور متأخرة وكعمل وجهد إنساني محض.

الثاني: عدم الحاجة للبحث الموضوعي:

هو ما أشرنا إليه سابقا، وما ذكره السيد الشهيد الصدر(رضى الله عنه)، حيث ذكر وجود الحاجة الاجتماعية إلى البحث الموضوعي في هذا العصر أكثر من غيره. وذلك لأن المسلمين كانوا قد عاشوا النظريات الإسلاميّة  ـ سابقا ـ من خلال التطبيق، وقد كانت موجودة بينهم بشكل إجمالي وعام. وعلى هذا الأساس لم يكونوا ليشعروا بأهمية البحث الموضوعي خصوصا في القضايا الاجتماعية.

ولذا نلاحظ أن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم على مستوى العقائد والفقه، قد برز منذ القرن الأول وذلك لبروز الحاجة إليه من خلال الصراعات العقائدية التي اجتاحت المجتمع آنذاك، ولأن العقائد لا يعيشها الإنسان من خلال الممارسة الخارجية، بل من خلال المفاهيم والتصورات التي يعتقد بها. وكذلك بروز الحاجة إلى الفقه ولو على مستوى التطبيق، لأن المجتمع كان مجتمعا إسلاميا.

وأما في عصرنا الحاضر، وباعتبار وجود النظريات الأخرى في الواقع الخارجي، فقد برزت الحاجة إلى المنهج الموضوعي في التفسير لسد هذه الحاجة.

فيما يخص حالة العمق والسطحية في المنهجين:

فقد ذكر السيد الشهيد الصدر(رضى الله عنه): أن التفسير التجزيئي تفسير لفظي سطحي نسبيا، بينما التفسير الموضوعي تفسير عميق وتفسير للمعنى يتم من خلاله التعرف على مصاديق المفاهيم وتطبيقاتها الخارجية.

والواقع: إن هذا الأمر غير واضح، إذ يمكن أن يكون كلا التفسيرين عميقين، ولا داعي لافتراض اقتصار التفسير التجزيئي على المعنى اللغوي السطحي واستخلاص المفهوم للآية القرآنية أو المقطع القرآني وحده، وإنما يمكن التعمق والتعرف على كل مداليل تلك الآية حتى المرتبط منها بالمصاديق والتجسيدات الخارجية.

ولذا، لا يمكن أن تكون هذه الملاحظة ـ حسب رأينا ـ ميزة للتفسير الموضوعي على التفسير التجزيئي.

المقارنة بين منهج التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي

من خلال المناقشة السابقة أثبتنا ميزة واحدة يرجح بها منهج التفسير الموضوعي على المنهج التجزيئي وهي إمكانية استخلاص النظريات القرآنية من خلاله.

فهل بالإمكان إثبات ميزة يرجح بها المنهج التجزيئي على المنهج الموضوعي؟ وحينئذ لابد من الجمع بينهما، لأن كلا منهما يؤدي غرضا مهما لا يمكن أن يؤديه الآخر، أو لابد من التزام المنهج الموضوعي في التفسير بدعوى: إن التفسير التجزيئي لا يمتاز على التفسير الموضوعي بشيء، وبالتالي نصل إلى نفس النتيجة التي توصل إليها السيد الشهيد الصدر t من ترجيح التفسير الموضوعي على التفسير التجزيئي، لأنه يمثل محاولة متقدمة وخطوة تكاملية في مسيرة التفسير، لأن كل ما هو موجود في التفسير التجزيئي موجود في التفسير الموضوعي مع امتياز لصالح التفسير الموضوعي.

وأما المبرر العملي فهو قضية اختيار ومراعاة المصلحة الذاتية التي يواجهها المفسر، فهو مبرر ذو طابع ذاتي يرتبط بالظروف التي تحيط المفسر نفسه، ولهذا نجد بعض المفسرين الذين يلتزمون المنهج التجزيئي يعمدون إلى تفسير سورة واحدة يختارونها نتيجة للظروف الخاصة التي أحاطت بهم أو لشعورهم بعدم توفر الفرصة لتفسير جميع القرآن.

ونحن نعتقد أن لمنهج التفسير التجزيئي ميزة تجعله منهجا يحقق هدفا لا يمكن تحقيقه من خلال منهج التفسير الموضوعي. ومن أجل معرفة حقيقة هذه الميزة لابد من الرجوع إلى مقدمة معرفة الهدف من نزول القرآن الكريم، والتي أشرنا إليها سابقا.

أسلوب القرآن الكريم في العرض:

قلنا بأن هدف النزول الرئيسي هو إيجاد عملية التغيير الاجتماعي الجذري وخلق القاعدة الثورية المناسبة لحمل الرسالة مع بيان المنهج الصحيح لهذه العملية.

وقد انعكس هذا الهدف بآثاره وظلاله على القرآن الكريم وأثر في أسلوبه ومنهجه في عرض الأفكار والمفاهيم.

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم لم يوح من قبل الله تعالى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) مصنفا، كما هو متبع في الكتب العلمية المصنفة إلى فصول وأبواب، ولكل باب موضوعه الخاص به، وهكذا…

فلم يتناول القرآن ـ مثلا ـ مسألة التوحيد في سورة، والنبوة في أخرى، وهكذا.. بل طرح الموضوعات والمفاهيم طرحا متداخلا ومزدوجا، فنجده وفي قطعة واحدة ـ بل وحتى في آية واحدة أحيانا ـ يتعرض إلى مسألة التوحيد والوحي وخبر نبي ما، وتهديد قوم ما، وبشارة آخرين…

وفي أحيان كثيرة يكرر القرآن الكريم هذه المفاهيم كلها أو بعضها وفي مواضع متعددة وبأشكال مختلفة.

وقد شكلت هذه الطريقة في عرض المفاهيم والأفكار سمة من سمات القرآن الكريم  ولم تكن مسألة عادية، بل هو منهج استهدف القرآن من خلاله هدفا معينا، وهو هدف التغيير الاجتماعي الجذري، وذلك لأن طرح الأفكار والمفاهيم على الإنسان وبهذا الشكل يؤثر عليه تأثيرا خاصا ويبني روحه ونفسه بناء محكما متداخلا من خلال عملية تربوية موضوعية يعيشها الإنسان أثناء تفاعله مع القرآن الكريم ومفاهيمه.

وقد كان للقرآن الكريم بالإضافة إلى هذه الطريقة العامة في العرض أسلوب خاص في العرض أيضاً، هذا الأسلوب الذي جعل هذه الآيات مقطعة وبهذا الشكل، وذات بداية ونهاية معينة.

ميزة التفسير التجزيئي الخاصة

وبعد معرفة هذا يمكن أن نفهم الدور الذي يقوم به التفسير التجزيئي الذي يتابع منهج القرآن في التفسير والهدف الذي يحققه والذي لا يمكن تحقيقه  من خلال التفسير الموضوعي، وهذا الهدف يمكن تلخيصه بما يلي:

أولا: يمكن من خلال هذا المنهج معرفة الحالة التي كان يعيشها المجتمع في عصر النزول بشكل دقيق وكذلك بعض الحالات الخاصة بالمجتمعات الأخرى، كحالة النفاق لدى اليهود مثلا وذلك من خلال ملاحظة حركة الواقع المعاش وكيفية معالجته في طرح المفاهيم.

ثانيا: معرفة طريقة وأسلوب معالجة القرآن الكريم لتلك الظواهر والحالات الاجتماعية الخاطئة من خلال دراسة المقطع القرآني الذي تعرض لهذه الحالات واستهدف معالجتها وتغييرها، وهذا لا يمكن أن يتم من خلال دراسة موضوع الأسلوب القرآني إلاّ إذا كانت دراسة مستوعبة لكل الآيات أو ما يشبه هذا النوع من الاستيعاب.

ثالثا: تطبيق تلك الحالة المشخصة وطريقة معالجتها على الواقع المعاش في هذا العصر، وذلك لأن حركة التاريخ محكومة بسنن تاريخية ثابتة جعلها الله تعالى مسيطرة على حركة الإنسان وحاكمة عليها وعلى طول خط حركة البشرية، ولذا أثار القرآن الكريم القضايا والقصص المعاشة في القرون السابقة من أجل استخلاص وانتزاع الموعظة والعبرة منها.

ومع أن التفسير الموضوعي أيضاً يهتم بالواقع الموضوعي ومشاكله، إلاّ أنه لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور، وذلك لأن جوابه يكون جوابا تجريديا، أي يجرد فيه النص القرآني من خصوصياته كنص له سياقه الخاص، وظروفه الخاصة في النزول، وطريقته المعينة في المعالجة من خلال طرح المفاهيم المتعددة، وبصورة متداخلة، ومن مقطع قرآني واحد.

ولذا نعتقد أن دراسة القرآن الكريم دراسة تجزيئية وعلى أساس هذا المنظور سيكون لها دور في إحداث حالة تغييرية في المجتمع، من خلال التفاعل مع المفاهيم القرآنية، ومن خلال معرفة مصاديقها، ومعرفة تطبيقاتها المعاصرة التي نعيشها الآن.

إذن فهذه المدرسة التفسيرية المعروفة، والتي استجابت للنص القرآني ووفق الطريقة التي كتب وثبت بها، هذه المدرسة لها ميزتها وفلسفتها، وذلك باعتبار استجابتها للهدف القرآني الرئيسي، والذي فرض أن تكون طريقة طرح القرآن الكريم للمفاهيم المتعددة بهذا الشكل المتداخل، وليكون مزيجا يحقق حالة الشفاء للبشرية.

﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خسارا﴾[16].

حاجة العصر إلى التفسير الموضوعي

لقد عرف الإسلام في أنظمته وتشريعاته طريقه إلى المجتمع في بداية الأمر من خلال التطبيق، وذلك لأن الجانب الاجتماعي من الإسلام لم يطرحه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كنظريات عامة ومبادئ دستورية عن المجتمع وعلاقاته المختلفة ثم جاء التشريع والتقنين بناء فوقيا لها ليشمل جميع مناحي الحياة… وإنما طرحه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في كثير من الأحيان من خلال التقنين والتشريع وبيان الأحكام المختلفة في قضايا المجتمع التفصيلية.

ومن هنا لا نجد البحث الموضوعي النظري يدخل في الشريعة الإسلاميّة  إلاّ في العصور المتأخرة من تاريخ المسلمين، لأن المجتمع الإسلامي كان يباشر التطبيق للقانون الإسلامي على أساس أنه تشريع وأحكام من قبل الله سبحانه لابد من الالتزام بها ضمن نطاقها المعين وفي حدودها الخاصة بلا حاجة إلى معرفة النظرية التي يقوم عليها الحكم الشرعي وكيفية معالجتها لمشاكل الحياة الاجتماعية.

ويكاد يختص هذا الأمر بالشريعة فقط دون الجانب العقيدي للإسلام فإنه كان ولا يزال مجالا للبحث النظري بسبب أن جانب التطبيق فيه هو فهم النظرية والإيمان بها. وهذا ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانه طرح في العقيدة النظرية الإسلاميّة  بشكلها العام.

وحين انحسر الإسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريات المذهبية المختلفة ظهرت الحاجة الملحة إلى البحث الموضوعي القرآني في مختلف المجالات لأن الإسلام أصبح بحاجة إلى أن يعرض كنظرية مذهبية جاء بها الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)  عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النظرية المذهبية الأخرى، ومن أجل أن يتضح مدى صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وصلته بتلك النظريات المذهبية كما أن فهم الإسلام كنظرية عامة هو الذي ييسر لنا سبيل أن نتبناه نظاما للحياة ندافع عنه ونكافح من أجل تطبيقه وصيانته.

فالحاجة إلى التفسير الموضوعي في هذا العصر تنبع ـ في الحقيقة ـ من الحاجة إلى عرض الإسلام ومفاهيم القرآن عرضا نظريا يتكفل الأساس الذي تنبثق منه جميع التفصيلات والتشريعات الأخرى، حيث من الممكن أن نستكشف النظريات العامة من خلال التشريع والقانون الإسلامي لوجود الارتباط الوثيق بين النظرية والتطبيق[17].

الموضوعات التي عرض لها القرآن إجمالا وطريقته في هذا العرض:

لقد عرض القرآن الكريم إلى موضوعات كثيرة حيث تناول فيما تعرض له أكثر الجوانب الفكرية والثقافية المرتبطة بالحياة والكون والمجتمع سواء ما يتعلق منها بالعقيدة أو التشريع أو بالأخلاق أو الحكم والعلاقات الاجتماعية أو التاريخ أو غير ذلك من الجوانب الأخرى.

وهنا نشير إلى فهرست عام للنقاط الرئيسية التي تناولها القرآن الكريم، علما بأن أكثر هذه النقاط تتفرع إلى نقاط أخرى وموضوعات ثانوية وهذه النقاط هي كالتالي:

الألوهية ـ أفعال الله ـ عالم الغيب ـ الإنسان قبل هذه الدنيا ـ الإنسان في هذه الدنيا الإنسان بعد هذه الدنيا ـ الأخلاق الإنسانية ـ التشريع الإسلامي ـ الكون والحياة، وحركة الدعوة الإسلاميّة.

وتتناول النقطة الأولى: كل المعلومات التي ترتبط بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر… وغيرها.

وتتناول النقطة الثانية: كل المعلومات التي ترتبط بالخلق والإرادة والأمر والمشيئة والهداية والإضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط والحب وغيرها.

وتتناول النقطة الثالثة: كل المعلومات التي ترتبط بالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن، وغير ذلك.

وتتناول النقطة الرابعة: كل المعلومات التي ترتبط بآدم وكيفية خلقه وخلافته وخلق إبليس وعلاقته بآدم وذريته وحياته في الجنة مع زوجه وغيرها.

وتتناول النقطة الخامسة: كل المعلومات التي ترتبط بتاريخ الإنسان ومزاجه النفسي والروحي والعقلي والقوانين الاجتماعية العامة التي تتحكم في سلوكه وعلاقاته وحركته الاجتماعية والتاريخية ومدى صلته بالسماء وأساليب هذه الصلة من النبوة والوحي والإلهام والدين والكتاب والشريعة وجميع صفات الأنبياء التي تستنبط من قصصهم.

وتتناول النقطة السادسة: كل المعلومات التي ترتبط بالبرزخ والمعاد والجنة والنار.

وتتناول النقطة السابعة:  كل المعلومات التي ترتبط بالقيم والمثل والصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان والتي ترتفع به في عالم الإنسانية وتوصله إلى الكمال المنشود، وكذلك الأمثال والمواعظ التي لها دور في تربية هذا الإنسان وتكميله وتوجيهه.

وتتناول النقطة الثامنة:  كل المعلومات التي ترتبط بالشريعة الإسلاميّة  بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والفردية والتجارية والحربية وغيرها[18].

وتتناول النقطة التاسعة:  كل المعلومات المرتبطة بالسماء والأرض والجبال والماء والحيوان والنبات والمطر والرياح والعوالم التي تحيط بالإنسان في هذا الكون الواسع.

وتتناول النقطة العاشرة: كل الأحداث التي واجهها النبي والمسلمون والمواقف التي اتخذها القرآن الكريم تجاهها وكذلك الإثارات والأسئلة والشبهات والمشكلات التي كانت تطرح من قبل أعداء الرسالة أو المسلمين أنفسهم ومعالجتها والتطورات والمراحل التي مرت بهذه الرسالة والقضايا ذات العلاقة ببناء القاعدة الإنسانية الثورية التي حملت أعباء الرسالة بعد ذلك.

وقد سلك القرآن الكريم لتبيان هذه الموضوعات منهجا فريدا يكاد يتميز عن سائر مناهج الكتب الدينية الأخرى حيث نرى أنه لا تكاد تمر سورة من القرآن الكريم أو جزء منه إلاّ وقد تناول الكثير من هذه الموضوعات بأسلوب هو غاية في التناسق والربط والانسجام.

كما نجد القرآن الكريم من ناحية أخرى يعمل على إيضاح بعض المفاهيم والأفكار غير المادية (الغيبية) عن طريق الأمثلة والصور المادية ليقرب بذلك (الفكرة) إلى ذهن الإنسان الذي لا يدرك إلاّ من خلال هذه الصور ويحدد الفكرة عن طريق تكرار الأمثلة وتكثير الصور لتخلص مما قد يعلق بها من شوائب المادة وحدودها.

ونحن نعرف أن الهدف الأساس الذي ابتغاه القرآن الكريم من نزوله هو: التربية والتغيير الاجتماعي لا التثقيف والتعليم فحسب، ولذا نجد الأسلوب القرآني يخضع في جميع مراحله إلى هذا الهدف ويأتي بهذا الشكل الذي قد يبدو متداخلا ولكنه يؤدي إلى الغاية والهدف..

وقد أوضحنا في بعض أبحاثنا[19]. جوانب متعددة من هذه الطريقة في العرض والبيان.

[1]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الثانية : 29.

[2]. نفس المصدر : 28.

[3]. نفس المصدر : 29.

[4]. نفس المصدر : 28.

[5]. نفس المصدر : 28.

[6]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الأولى ـ ص 22.

[7]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الأولى ـ ص 23.

[8]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الأولى ـ ص 11 ـ 12.

[9]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الثانية ـ ص 27.

[10]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الثانية ـ ص 33.

[11]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الثانية ـ ص 34 ـ 36 ـ 37.

[12]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الأولى ـ ص 12.

[13]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الأولى ـ ص 13.

[14]. المدرسة القرآنية ـ المحاضرة الثالثة ـ ص 41.

[15]. في هذا المرجع أخذ الشهيد الصدر بالاصطلاح الثاني (الموضوعية) وجعله مختصا بمنهج التفسير الموضوعي.

[16]. الإسراء / 82.

[17]. راجع بهذا الصدد اقتصادنا لأستاذنا السيد محمد باقر الصدر، 2 : 16.

[18]. راجع بهذا الصدد الميزان، مقدمة تفسير الميزان 1 : 11.

[19]. يراجع كتابنا ـ الهدف من نزول القرآن.