***
مقدمة كتاب:
الحـق المبيـن في معرفة المعصومين عليهم السلام
بحوث مستفادة من محاضرات المرجع الديني الوحيد الخراساني مد ظله
***
مقدمة
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
المرجع الخراساني وفهم النبي وآله
تمهيد في الإتجاهات المعاصرة في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
الإتجاهات الخمسة في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
تنحصر المذاهب والإتجاهات الإسلامية المعاصرة في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله في خمسة: المذهب السني، والشيعي الإمامي، والزيدي، والإسماعيلي، وأخيراً الإتجاه الشيعي الإلتقاطي.
ولابد لنا أن نستبعد الغلاة الذين يؤلهون أحداً من أهل البيت النبوي عليهم السلام بأي نوع من التأليه وأن نستبعد النواصب الذين ينصبون العداء لأهل البيت النبوي عليهم السلام، لأنهما اتجاهان خارجان عن الإسلام، لايصح عدهما من المذاهب أو الإتجاهات الإسلامية في فهم النبي وآله المعصومين صلى الله عليه وآله.
1- الإتجاه السني في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
يرى أتباع المذاهب السنية أن النبي صلى الله عليه وآله معصوم في تبليغ الرسالة فقط، دون بقية سلوكه العام، ولا في سلوكه الشخصي.
هذا من ناحية نظرية، أما ناحية عملية فإن مصادرهم تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله ارتكب أخطاء عديدة! وأن بعضها كان يصححه له جبرئيل عليه السلام، وبعضها كان يصححه له عمر بن الخطاب، وكان الوحي يؤيد آراء عمر!
وزعمت مصادرهم أن منها أخطاءًحتى في تبليغه رسالة ربه،كقصة الغرانيق والصلاة على المنافقين، وغيرها!
وكذلك لايرون عصمة أهل بيت النبي وعترته، علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ويقولون لهم أخطاءً كما لهم فضائل، ولايعترفون بأنهم معينون من الله تعالى أوصياء للنبي صلى الله عليه وآله وأئمة للأمة، ولذا يؤولون الآيات والأحاديث التي تدل على عصمتهم وإمامتهم عليهم السلام،ويجعلون درجة علي عليه السلام رابع الصحابة لأنه كان الخليفة الرابع، ويفضل أكثرهم عليه أبا بكر وعمر وعثمان، وقد يفضلون عائشة على فاطمة الزهراء عليها السلام، كما يفضلون بعض التابعين العاديين على عظماء أئمة أهل البيت عليهم السلام أمثال الإمام زين العابدين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق عليهم السلام! ويترتب على هذا الفهم أمور عديدة، تظهر في المعالم التالية:
الأول: أن النبي توفي بزعمهم بلا وصية، والصحابة هم الأصل بعد النبي صلى الله عليه وآله، وهم الأفضل من جميع الأمة عبر أجيالها، وعنهم يتلقون دينهم، ولايهتمون بالرأي المخالف لهم، بل يعتبرونه انحرافاً عن الإسلام حتى لو كان صادراً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله!
بل تراهم يقرنون الصحابة بالنبي في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله، وقد يحذفون منها آل النبي ويكتفون بالصلاة عليه وعلى صحابته، مع أنهم رووا في صحاحهم أن النبي صلى الله عليه وآله أمرهم أن يقرنوا به آله عليهم السلام فقط!
الثاني: عندما يقولون (الصحابة) فلا يقصدون المئة ألف شخص وأكثر، الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسموهم صحابة، ولايقصدون أهل بيته علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام الذين هم أهل بيت وصحابة!
بل هم عملياً يقصدون أربعة رجال من الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومن وافقهم، ومعهم امرأتان هما: عائشة وحفصة، ومن وافقهما.
أما باقي الصحابة فهم مقبولون عندهم بشرط أن يوافقوا هؤلاء الستة، ولا عبرة بقول جميع الصحابة إن خالفوا الستة، أو خالفوا عمر وحده!
الثالث: لايقول السنيون نظرياً بعصمة هؤلاء الصحابة الستة، لكنهم عملياً يرون عصمتهم كمجموع، بل يرون عصمة عمر وأبي بكر خاصة، فهم لا يقبلون أن يوجه اليهما أي نقد! ويحاولون تصحيح أفعالهما وأقوالهما حتى في مقابل النبي صلى الله عليه وآله! ويحكمون بضلال من ينتقدهما، أو بكفره!
الرابع: أن تاريخ الإسلام في رأيهم صحيح على عمومه، ونظام الخلافة الذي أسسه أهل السقيفة نظام شرعي، وما ارتكبوه من إقصاء أهل البيت عليهم السلام وما اقترفوه في حقهم وفي حق من عارضهم، من بطش وتقتيل وتشريد وحروب.. كلها طبيعية ومغفورة، والحق فيها مع الصحابة ككل!
فإن لم يمكن جعل الحق معهم كلهم، فالحق مع أبي بكر وعمر، والخطأ والضلال في من يقابلهم!
كما أن الدعوة الى إقامة نظام إسلامي في عصرنا، تعني عندهم الدعوة الى تطبيق فقه المذاهب الأربعة، وإعادة أمجاد نظام حكم الخلافة الإسلامية عبر العصور، وخاصة خلافة أبي بكر وعمر.
2- الإتجاه الشيعي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
نعتقد نحن الشيعة بإمامة الأئمة الإثني عشر عليهم السلام وعصمتهم، وأنهم أئمة مفروضةٌ طاعتهم، لأنهم معينون من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، بل هم أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وآله، ولهم مقاماتٌ عظيمة خصهم الله تعالى بها في نشأتهم في هذه الدنيا وقبلها، ولهم مع جدهم مقام الشفاعة العظمى في الآخرة. وقد يعبر علماؤنا عن النبي وآله صلى الله عليه وآله بأنهم وسائط العطاء والرحمة والفيض الإلهي.
ويترتب على هذا الفهم أمور عديدة، تظهر في المعالم التالية:
الأول: أن العصمة التي يعتقد بها الشيعة للنبي صلى الله عليه وآله عصمةٌ كاملة عن جميع المعاصي الكبائر والصغائر، قبل البعثة وبعدها، في تبليغ الرسالة وغيره. وكذلك عصمة الأئمة من عترته عليهم السلام، مع أنهم أئمة وليسوا أنبياء.
الثاني: أن أهل البيت المعصومين عليهم السلام هم مصدر التلقي الوحيد للكتاب والسنة بعد النبي صلى الله عليه وآله، والميزان الوحيد لصلاح جميع الصحابة والأمة أو انحرافهم عن الإسلام، فهم الأفضل وهم الأصل، ولاعبرة بقول من خالفهم من الصحابة وغيرهم، وذلك لثبوت عصمتهم والأمر باتباعهم والتلقي منهم وحدهم، بنص القرآن والسنة.
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة كقوله صلى الله عليه وآله: إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما. (مسند أحمد:3 /17).
وقال السرخسي: قال عليه السلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي. وقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (أصول الفقه:1/314)
الثالث: أن مذهب أهل البيت عليهم السلام هو الإسلام كما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو استمرار خط النبوة بالأئمة الذين أمر النبي الأمة باتباعهم بعده. ويصح وصف التشيع بأنه مذهب، لكن بمعنى أشمل من المذاهب الفقهية والكلامية التي أنشئت في القرن الأول والثاني، في العصرالأموي والعباسي.
الرابع: أن قضية أهل البيت النبوي عليهم السلام هي لبُّ الإسلام، وظلامتهم هي ظلامة الإسلام، وفضائلهم فضائل الإسلام، وأن الأولوية في العمل الإسلامي لتعريف المسلمين والعالم بهم، ورد الشبهات عنهم وعن شيعتهم، والدفاع عن حقهم ودفع ظلامتهم، وتطبيق الإسلام الذي تلقيناه منهم.
الخامس: أن مسار التاريخ الإسلامي على عمومه غير صحيح، ما عدا ما أمضاه الأئمةالمعصومون من أهل البيت عليهم السلام وأقروه من الفتوحات، التي خطط لفتحها النبي صلى الله عليه وآله وأدار فتوحها علي عليه السلام وقاد أكثرها تلامذته.
ونظام الحكم الذي أسسته قبائل قريش في السقيفة غير شرعي، ما عدا خلافة أمير المؤمنين، وخلافة الإمام الحسن عليهما السلام التي عاشت ستة أشهر.
والذي صنعته قبائل قريش وارتكبته مع النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله هو أسوأ أنواع الإنقلابات التي قامت بها أمة في حياة نبيها وبعده، ضده وضد أوصيائه! وقد فتحوا بذلك أبواب الظلم والصراع في الأمة، وحرفوا مسيرة الإسلام عن خطها الصحيح، حتى يظهر المهدي عليه السلام فيعيد الحق الى نصابه!
ومن هنا كانت البراءة من ظالمي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أصول مذهبنا الى جنب ولايتهم ومودتهم وطاعتهم عليهم السلام.
3- الإتجاه الزيدي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
وهم يعتقدون أن الإمامةفي ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، وأن الإمام بعد الحسين هو الإمام زين العابدين عليهم السلام، وبعده زيد بن علي بن الحسين، ثم يضعون ثلاثة شروط للإمام الواجب البيعة والطاعة عندهم وهي: أن يكون من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، وأن يكون عالماً، وأن يقوم بالسيف. ولكنهم يعتقدون بعصمة أهل الكساء عليهم السلام، دون بقية أئمتهم.
4- الإتجاه الإسماعيلي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
يرى المذهب الإسماعيلي أن الإمامة في ذريةعلي وفاطمة عليهما السلام، ويشتركون معنا في إمامة الأئمة من العترة الطاهرة الى الإمام الصادق عليه السلام، ثم يقولون بإمامة ولده إسماعيل بن الإمام الصادق، ثم بإمامة العشرات من أئمتهم، ومنهم كل الخلفاء الفاطميين. وبعضهم يعتقد بعصمتهم جميعاً.
5- الإتجاه الشيعي الإلتقاطي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
وهو الإتجاه المتأثر بأفكار السنيين وأحياناً بأفكار الغربيين، وقد توسعنا فيه لأنه يتصل بموضوعنا مباشرة. وأصحاب هذا الإتجاه ليسوا فرقة متميزة عن الشيعة، بل هم أفرادٌ أو كتلة في أوساطهم، ويظهر اتجاههم من أقوالهم وبعض كتاباتهم.
وأبرز معالم هذا الإتجاه في الأمور التالية:
الأول، أن أصحابه ينكرون عدداً من فضائل الأئمة ومقاماتهم عليهم السلام، مثل أن الله خلق نورهم قبل خلق العالم، وأنهم وسائط عطاء الله تعالى وفيضه، وأن لهم ولاية تكوينية على العالم.. الخ. ويحرصون على تقديم شخصياتهم عليهم السلام بعيدةً عن عناصر الغيب التي فيها، كأنهم مجرد أئمة مذهبٍ من المذاهب! بينما هم عليهم السلام أئمةٌ ربانيون معينون من الله تعالى، وعلمهم منه سبحانه، فهم ورثة الكتاب والعلم الإلهي، وعندهم مواريث الأنبياء عليهم السلام، وهم ملهمون من الله تعالى، فلا يقاس بهم أحد، ولا تقاس شخصياتهم بغيرهم، ولا مذهبهم ببقية مذاهب الدول التي اضطهدتهم وأقامت مقابلهم علماء أسسوا لها هذه المذاهب، وجمعوا أصولها وفروعها خليطاً من مصادر الإسلام، ومقولات أهل الكتاب، وظنون مؤسسيها!
الثاني: يدعو أصحاب هذا الإتجاه الشيعة الى تركيز اهتمامهم على الولاية دون البراءة، وأن يكتفوا بذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام دون ذكر مظالمهم والبراءة من أعدائهم وظالميهم، حتى لايثيروا بذلك حساسية أتباع المذاهب السنية، وغيرتهم على أئمتهم وحكامهم الذين ظلموا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله!
وقد يفرط بعضهم في التنازل عن ظلامة أهل البيت عليهم السلام فيعتبر أنها مسألة تاريخية لايصح أن نهتم بها كثيراً، وأن الإهتمام بالقضايا العامة أولى منها!
الثالث: يشارك أصحاب هذا الإتجاه السنيين في نظرتهم الى تاريخ الإسلام على العموم، ويرون أن الدعوة الى إقامة النظام الإسلامي في عصرنا تعني الدعوة الى إعادة ما يسمى بأمجاد الحضارة الإسلامية، وأمجاد نظام حكم الخلافة الإسلامية في صدر الإسلام، وتطبيق ما يختاره الحاكم من فقه المذاهب الأربعة أو الخمسة.
كما أن نظرتهم الى نظام الخلافة الذي أسست بطون قريش في السقيفة، وما نتج عنه من صراعات الخلفاء على الحكم، أقرب الى نظرة السنيين. وإذا ذكرت أمامهم الجرائم التي ارتكبها الخلفاء مع أهل البيت عليهم السلام، فقد يقرون بهولها، لكنهم يريدون الإغماض عنها وترك مناقشتها!
والأمر الأسوأ في آرائهم أنهم يريدون من الشيعة أن يقدموا أهل البيت عليهم السلام الى الأمة ويربُّوا أبناءهم على أنهم شخصيات قيادية ضمن المسار العام للأمة وكأن الأئمة عليهم السلام ارتضوا هذا المسار وعملوا في تقويته! مع أنهم أدانوا كل المسار، وحكموا بأنه انحراف عن الإسلام، وتعاملوا معه من باب الضرورة، لحفظ كيان الأمة، وما يمكن حفظه من الإسلام، وتثبيت خطه الصحيح!
الرابع: يتبنى أصحاب هذا الإتجاه مفهوماً خاطئاً للوحدة الإسلامية، فيتصورون أنها تعني الوحدة الفكرية بين المسلمين على القواسم المشتركة بين المذاهب في العقيدة والفقه، وأنه يجب إهمال ماعدا المشتركات!
مع أن الوحدة بهذا المعنى هدف خيالي لايمكن تحقيقه إلا بالتنازل عن مجموعة من عقائد المذاهب وأحكامها!
والوحدة الإسلامية الصحيحة هي وحدة المسلمين السياسية في مواجهة أعدائهم، ووحدتهم بتعاونهم لتحقيق النهوض بشعوبهم، وهذا لايتنافي مع المحافظة على حرية المذهب، وحرية البحث العلمي المذهبي مع حفظ الأدب الاسلامي، ولا مع العمل لبيان ظلامة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله.
لهذه الأسباب وغيرها، صحت تسميتهم أصحاب الإتجاه الإلتقاطي التركيبي.
***
تجربتي في فهم المعصومين عليهم السلام
أحمد الله تعالى حيث وفقني في نشأتي لأن أعيش في أجواء المرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدينقدس سره، فقد كان يقضي شهور الصيف في قريتنا ياطر من جنوب لبنان، وكان يفيض على القرية والمنطقة من روحانيته الصافية، وعمق ولائه لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام.
وكان من فضله عليَّ رحمه الله أن شجعني على طلب العلم في سن مبكرة، وهيأ لي أستاذي آية الله الشيخ ابراهيم سليمان حفظه الله، الذي كان يعيش نفس أجواء السيد شرف الدينقدس سرهفي الولاء، فدرست عنده نحو ثلاث سنوات.
ثم عشت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في أجواء هذا الفهم والولاء لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وكنت مهتماً الى جانب دراستي، بقراءة سيرتهم عليهم السلام والتعرف عليهم أكثر، فكنت أقضي ساعات طويلة في مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام في قراءة السيرة من كتاب البحار وغيره، وكنت أشاهد العلامة الأمينيقدس سرهمشغولاً في تأليف موسوعة الغدير، أو أراه في حرم أمير المؤمنين عليه السلام مستغرقاً في الصلاة أو في الزيارة.
في تلك الفترة عايشتُ في النجف الصراع الضاري، بين الحوزة العلمية وموجة الشيوعيين (1377-1381 هجرية 1958ـ1962 ميلادية)، وشاهدت معاناة الشعب العراقي منهم، وتحملتُ بعض ما تحمله المتدينون، خاصة طلبة الحوزة، من تحديات وإذلال وخطر، الى أن استطاع المرجع السيد الحكيم قدس سرهأن يصدر فتواه في الشيوعية، ويحدث ضدهم موجةً شعبيةً قويةً.
ثم رأيتُ كيف اتجهت الحوزة بعد فتواهقدس سرهلانتهاج طرق جديدة في التوعية الإسلامية، لمواجهة الأخطار الشرسة على الدين والمتدينين.
فقد تصدى الناس والحوزة بكل فئاتها لهذه المهمة، التقليديون منهم والمثقفون أو الواعون كما كنا نسميهم، لكن الذين واصلوا العمل شخصيات من المثقفين يكثر فيهم الإتجاه التركيبي في فهم الأئمة عليهم السلام، وكنت أتأثر بهم في بعض الأفكار، وأناقشهم في أفكار.لم تُقنع أعماقي بسبب ما فيها من إسقاط في تصور أدوارهم وعملهم عليهم السلام، فبقيت في داخلي أبحث عن رؤية أكثر إقناعاً.
***
كانت رحلتي في البحث عن الفهم الصحيح للنبي والمعصومين عليهم السلام من أصعب الرحلات الفكرية! لأني قطعت مسافتها وأنا في وسط يتبنى الإتجاه الإلتقاطي ويعمل به!
وقد أنعم الله تعالى عليَّ بحب القراءة، فقرأت الكافي بمجلداته الثمانية، والبحار بمجلداته المئة، وكتب الصدوق كلها، وعشرات الدورات في التفسير والحديث والتاريخ والكلام، من مصادر الشيعة والسنة، مضافاً الى الكتب الجديدة، التي قرأت أكثرها، أو تصفحته!
كنت يوماً أقرأ في روضة الكافي حديثاً عن الإمام محمد الباقر عليه السلام يفسر قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ».(سورة الأنبياء:30) يقول فيه الإمام الباقر عليه السلام: «إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض كانت السماوات رتقاً لاتمطر شيئاً، وكانت الأرض رتقاً لاتنبت شيئاً، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام، ثم أمرها فأرخت عزاليها، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها».
قرأت ذلك، فقلت في نفسي: ما أغبانا! ركضنا وراء ثقافة الإخوان المسلمين وابتعدنا عن ثقافة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام الذين عندهم علم الكتاب!
لقد مضى علينا سنين ونحن نأخذ بقول سيد قطب وأمثاله، ونفسر الآية في تدريسنا ومحاضراتنا بأن السماء والأرض كانتا قطعة واحدة، ففصَّلَهما الله تعالى الى أرض ونجوم وكواكب… الخ.
تأملْ في الآية لتراها تنطق بصحة تفسير الإمام عليه السلام لأن المخاطب فيها الكفار لينظروا فصول السنة، وموضوع الآية نظام التبخير والإمطار، ولا علاقة له بفصل الأرض عن السماء، فانظر الى قوله: «فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ..!»
وقد جاء كلام الإمام الباقر عليه السلام هذا ضمن هذه الرواية التي أوردها لفوائدها:
في الكافي: 8/120، بسنده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (أي الإمام الباقر عليه السلام) في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطاب (من علماء النصارى وكان ناصبياً يميل الخوارج)، فنظر نافع إلى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس؟!
فقال: هذا نبيُّ أهل الكوفة، هذا محمد بن علي!
فقال: إشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله!
فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لايجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي!
قال: فرفع أبوجعفر عليه السلام رأسه فقال: سل عما بدا لك. فقال:
أخبرني كم بين عيسى وبين محمدمن سنة؟
قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟
قال: أخبرني بالقولين جميعاً.
قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة.
قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه: «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ». (سورة الزخرف:45) مَن الذي سأل محمدٌ وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟
قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس، أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل عليه السلام فأذن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم، فلما انصرف قال لهم: على مَ تشهدون، وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا!
فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر، فأخبرني عن قول الله عز وجل: «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَئٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُون؟»
قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقاً لاتمطر شيئاً، وكانت الأرض رتقاً لاتنبت شيئاً، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام أمر السماء فتفطرت بالغمام، ثم أمرها فأرخت عزاليها، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار، وأثمرت الثمار، وتفهقت بالأنهار، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها.
قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَالأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِد ِالْقَهَّار» (سورة ابراهيم:48) أي أرض تبدل يومئذ ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب!
فقال نافع: إنهم عن الأكل لمشغولون؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار؟
فقال نافع: بل إذ هم في النار.
قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم، ودعوا بالشراب فسقوا الحميم!
قال: صدقت يا ابن رسول الله ولقد بقيت مسألة واحدة.
قال: وما هي؟
قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟
قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ؟! سبحان من لم يزل ولا يزال، فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه.
قال: وما هو ؟
قال: ما تقول في أصحاب النهروان؟ فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت ؟!
قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً!
فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك! هذا والله أعلم الناس حقاً حقاً وهو ابن رسول الله حقاً، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً. انتهى.
وقد ذكر سيد قطب تفسير الآية بفتق الأرض عن السماء في عدة مواضع من تفسيره: قال في أحدها (ص2376). وقد يشير القرآن أحياناً إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وإن كنا لانعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض أو فتق السماوات عن الأرض، ونتقبل النظريات الفلكية التي لاتخالف هذه الحقيقة) انتهى.
وقد أخذ سيد قطب هذا التفسير من مفسري الدولة الأموية، كما تجده في مصادره!
إن تفسير هذه الآية ما هو إلا نموذج بسيط ليس فيه معاناة تذكر، لكن المعاناة كانت عندما تصطدم النصوص بتصورنا الذي غرسناه في أذهاننا عن الأئمة عليهم السلام!
فكم فكرت في نظريتنا في فهمهم عليهم السلام التي كنا نتصورها فلم أستطع تطبيقها على نصوص سيرتهم عليهم السلام، ولاعلى أصول فعل الله تعالى العليم بعلمه المطلق، الحكيم بحكمته المطلقة.
نظرية الأدوار الثلاثة للأئمة عليهم السلام
خلاصة الدراسة التي تبناها أساتذتنا الحركيين، واجتهدنا في استخراج النصوص المؤيدة لأفكارها، وفرحنا بها وحملناها الى الناس: أن الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام أئمة مختارون من الله تعالى، وأن حياتهم تنوعٌ في الأدوار ووحدةٌ في الهدف، والهدف هو نفس هدفنا ومشروعنا في الدعوة وإقامة دولة الاسلام العالمية. أما الأدوار فثلاثة فهي:
الدور الأول: تكميل مرحلة التغيير والإنقلاب في الأمة وتثبيت أسس الإسلام في أذهانها لأن النبي صلى الله عليه وآله لم يستكمل هذه المرحلة! وقد واصلها بعده الإمام أمير المؤمنين والأئمة: الحسن والحسين، وزين العابدين عليهم السلام.
والدور الثاني: بناء الكتلة الواعية من الأمة وتحديدها وتمييزها، أو الفرقة الناجية، لا فرق. وقد قام بهذا الدور الأئمة: محمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم عليهم السلام.
والدور الثالث: العمل لتسلم السلطة، وقد قام بهذا الدور الأئمة: الرضا، والجواد، والهادي، والعسكري عليهم السلام، فلم يتيسر لهم بلوغ هدفهم! وسيتحقق هدفهم على يد الإمام المهدي عليه السلام، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
الملاحظة الأولى على هذه النظرية
أن المنهج العلمي الذي قامت عليه ضعيف، فهو منهج يضع أمامه مسبقاً مشروعنا في فهم الإسلام والدعوة اليه، ويعتبره أمراً مفروغاً عنه في حياة الأئمة عليهم السلام ويحاول تطبيقها عليه!
والدليل على ضعف المنهج أن مواد الإستدلال فيه انتقائية، لأنا لم نكلف أنفسنا جمع النصوص في الموضوع، ثم تقسيمها الى طوائف، ثم دراسة التعارض بينها للوصول الى نتيجة، كما نصنع في أبحاث الفقه المعمقة! بل كنا نكتفي بانتقاء المواد من الروايات والتاريخ، بقطع النظر عن أسانيدها وعن إشاراتها المخالفة أحياناً، وهذا يشبه انتقائية خصوم الشيعة في بحوثهم!
ويكفي دليلاً على ضعف مشروعنا أنه بَشَّرَ بدراسة حياة الأئمة عليهم السلام التكاملية المجموعية، ونعى منهج الدراسة التجزيئية الإفرادية، ومع ذلك أهمل أكثر الأحاديث التي تتحدث عن مشروعهم التكاملي وخطة الله تعالى فيهم بعد النبي صلى الله عليه وآله الى ظهور قائمهم عليه السلام، مثل حديث اللوح الذي نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله هديةً الى الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام، وفيه أسماء الأئمة من أولادها عليهم السلام وخلاصة دور كل منهم وما يجري عليه. وهو حديث معتبر السند ومن أهم الأحاديث لمن أراد أن يدرس عقيدة الشيعة في الأئمة عليهم السلام.
الملاحظة الثانية
أن إثبات أصل هذ الأدوار الثلاثة والتمييز بين أعمال الأئمة عليهم السلام الذين سميناهم لكل دور منها، فيه مناقشات جذرية، كافية لزعزعة أسس الدراسة!
فما معنى: تكميل مرحلة التغيير والإنقلاب في الأمة..الخ.؟
وما معنى أن النبي صلى الله عليه وآله توفي ولم يكن الإسلام كدين قد تثبت في أذهان الأمة، فكان بحاجة الى جهود لتثبيت مفاهيمه في أذهانها ونفوسها.
فهل معنى هذا أن المشكلة في انحراف الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله مشكلة نظرية هي نقص فهمها للإسلام، بسبب قصر مدة النبوة، وليست تعمد الإنحراف والبغي بينهم طمعاً في الحكم كما في قوله تعالى: «وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (سورة الجاثـية: 17).
وقوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (سورة البقرة:253).
وهل معناه أن مدة حياة الأئمة الى الإمام زين العابدين عليهم السلام لو تسلموا الحكم كانت ستكفي لوصول الأمة الى فهم الإسلام، فلاتنحرف عنه بعدهم؟
وهل معناه أن عمل الأئمة الى الإمام زين العابدين عليهم السلام قد ثبَّتَ الإسلام كدين في أذهان الأمة فتهيأت للإنتقال على يد الإمام الباقر عليه السلام الى الدور الثاني؟!
وكيف يكون الإسلام قد ثبت في أذهان المسلمين، ورسخ في قلوبهم، وقد استطاع عبد الملك بن مروان في زمن الإمام زين العابدين عليه السلام أن ينقل الحج من مكة الى بيت المقدس عندما غلبه عبدالله ابن الزبير على الحجاز، فأمر الناس بالحج الى بيت المقدس فأطاعوه وحجوا، وطافوا حول قبة الصخرة، وذبحوا أضاحيهم هناك؟! (النهاية لابن كثير: 8 / 309)
وكيف يمكن القول إن الأئمة من الإمام الرضا الى العسكري عليهم السلام عملوا للوصول الى الحكم والسلطة، مع أنهم عليهم السلام أخبروا مراراً بأن دولتهم آخر الدول، في آخر الزمان، وأن أحداً منهم لن يحكم غير الإمام المهدي عليه السلام؟!
وما هو الفرق الحقيقي في وضع المسلمين الفكري والسياسي، بين عصر الإمام الكاظم والإمام الرضا عليهم السلام وهل هو فرقٌ يبرر القول بأن الإمام الرضا عليه السلام بدأ بدور جديد هو العمل لتسلم السلطة، بينما لم يقم به الإمام الكاظم عليه السلام ؟! مع أن الناظر في سيرة الإمام الكاظم عليه السلام يجد أنه أقرب الى الثورة على هارون الرشيد من الإمام الرضا عليه السلام على الرشيد أو المأمون؟!
وهل يمكننا أن نتعقل أن أربعة أئمة معصومين عليهم السلام عملوا في الدور الأول لتثبيت الإسلام كدين في الأمة، ثم عمل بعدهم واستثمر جهودهم ثلاثة أئمة معصومون من أبنائهم عليهم السلام في بناء الكتلة الواعية، ثم عمل بعدهم أربعة أئمة معصومون عليهم السلام لتسلم السلطة.. فعجزوا عن تحقيق ما عملوا له؟!!
هل يعقل ذلك في تلك الظروف المؤاتية للأئمة عليهم السلام أكثر من غيرهم، فقد امتدت شعبيتهم في زمن الأمويين وطبقت شهرتهم الآفاق، وكان الحكام الأمويون يعبرون عن الإمام الباقر عليه السلام بأنه نبي أهل العراق، في حين أن أناساً مغمورين كالعباسيين عملوا مدة قصيرة للوصول الى الحكم، ووصلوا؟!
إن هذا الكلام لايعقل في حق معصوم واحد، مُوجَّهٍ من رب العالمين، في تخطيطه وتنفيذه، فكيف بأحد عشر إماماً عليهم السلام عملوا في ثلاثة قرون؟!
الى آخر التساؤلات والإشكالات التي لايتسع لها هذا التمهيد.
الملاحظة الثالثة
يبدو أن حاجة المؤسسين للحركة الى التنظير، دفعتهم دفعاً الى افتراضها في شخصيات الأئمة عليهم السلام وسيرتهم، فقد كانوا يرون ولو باللاشعور أنهم ملزمون بربط عملهم الإسلامي بالأئمة عليهم السلام ليثبتوا للناس أن عملهم عليهم السلام كان حركياً من نوع عملهم!
لكن إصرارهم على هذا الربط أوقعهم في خطئين كبيرين:
أولهما، المنهج الإسقاطي!
وثانيهما، أنهم تجاوزوا الفقه كمصدر للعمل الحركي، مع أنهم ينادون بأنه المصدر لكل عمل!
كان علينا أن نستوعب أن الأئمة عليهم السلام لايقاس بهم أحد، فلا يصح أن نقيسهم بنا فنختزل كل عظمتهم والمخطط الإلهي فيهم، الضارب في التاريخ والمستقبل، ونجعلهم أصحاب مشروع كمشروعنا!
وكان علينا أن نفهم عملياً لا نظرياً، أن المنطلق للعمل الإسلامي لايصح أن يكون فهماً معيناً ًللأئمة عليهم السلام من بين أفهام متعددة، أوتصوراً فرضياً من بين فرضيات متعددة لشخصياتهم وسيرتهم وأهدافهم عليهم السلام!
وأنه يجب أن يكون أساس العمل الإسلامي: الفقه، والشريعة التي ندرسها صباحاً ومساء، ونقضي أعمارنا في أبحاثها، وندعو الأمة لأن تجعلها منطلقها في سلوكها، والتي يُدَوِّن مراجعنا نتيجة أعمارهم من بحوثها في فتاوى محددة، مضبوطة المعنى والعبارة، في رسائلهم العملية.
فبدل التنظير الضعيف لعملنا بإسقاطه على الأئمة عليهم السلام، كان يجب أن نتجه الى التأسيس الفقهي لمشروعنا من ألفه الى يائه، ما يجب من العمل للإسلام وما يحرم، وما يجب في دولته وما يحرم..الخ.
وهذا ما لم نقم به مع الأسف، بل قامت نظرتنا الى الإسلام على الأدبيات والعواطف! والتعامل العاطفي مع القضايا جيد بشرط أن يتقن أساسه العقلي والفقهي، أما بدون أساسه العقلي فهو عاطفة في الهواء لاتستند الى أرض صلبة!
كنا نكتفي بالتلقي من الأستاذ والمسؤول بدون بحث فقهي، ثم ندرَّس ما نتلقاه الى تلاميذنا ودعاتنا، فيتلقوه منا بدون مناقشة!
فالاسلام في فهمنا دينٌ ومشروعٌ سياسي معاً، لكنا لم نبحث حدود هذا المشروع ولا مواصفاته، وهل هو مشروع مباح للعموم كالماء والكلأ والرمل والحصى، فيحق لكل مكلف أن يجتهد فيه ويدعو الأمة اليه، ويتصدر لقيادتها، أو هو خاص بالمعصوم عليه السلام، وبعده بمرجع التقليد؟
والأسس التي درسناها وأعجبتنا كثيراً، لم يكن فيها بحثٌ فقهي ولو مختصر عن وجوب إقامة الدولة الاسلامية في عصر الغيبة، ولا عن مشروعية إنشاء التنظيم لذلك، ولا عن شرعية قيادته وشروطها وحدودها، مع أنها مشروع لقيادة كل الأمة، بمن فيها الفقهاء والمراجع!
فتلك الأسس وما تلاها من مواد ثقافية اعتبرت هذا الموضوع أمراً مفروغاً عنه كأنه متفق عليه، مع أنه موضوع خطير، يدعي دعاوي فقهية كبيرة!
إنه يطرح الولاية والبراءة بمستوى من المستويات من كل فئات الأمة على أساس موقفها من هذه الدعاوي وأصحابها!
فما هو الدليل الفقهي على أن العمل الإسلامي لإقامة الدولة، فريضة على المراجع والحوزة والعلماء والناس؟ وأنه حق شرعي لكل أحد حتى لو كان حافياً من الفقه، فله أن يرفع صيصيته، ويوالي الناس ويعاديهم على رأيه؟!
وما هو الحكم الشرعي لإنشاء تنظيم لهذا الغرض؟ والعمل لأن يقود التنظيم الأمة؟
وما هو الحكم في حالة تعارض تنظيمين أو عشرين تنظيماً، كل منهم يدعي أنه يمثل الإسلام ويتولى الناس ويتبرأ منهم على ولايته…الخ؟
بل ما هي صيغة نظام الحكم الاسلامي أساساً وكيفية إدارة الدولة، والموقف الفقهي من أهم القضايا الداخلية والخارجية..الخ؟
لايتسع المجال للإفاضة في هذا الموضوع، وإنما غرضنا أن نبين مدى الفراغ الفقهي والفكري الذي ساد الحوزة في النجف بسبب الهجمة الشيوعية التي أنتجت الإندفاع للعمل، وما وقعنا فيه من إسقاط في فهمنا للأئمة عليهم السلام!
وبسبب هذا الفراغ والإسقاط، صِرْتَ لاتجد إجابةً واحدةً عند المندفعين للعمل الإسلامي إذا سألتهم عن فقه عملهم وشرعية قيادتهم للأمة، ولاتصوراً موحداً عندهم لشخصيات الأئمة عليهم السلام وسيرتهم!
وهذا يعني أن مشروع العمل حمل معه (جينات) الإنقسام في أصحابه، سواء في العقائد، أو في الفقه، أو في أساليب العمل! وهذا ما وقع ويقع مع الأسف!
وهذا يعني أن ردة فعلنا المتحمسة على الموجة الشيوعية الطاغية، دفعتنا الى مغامرة على كل صعيد، حتى صعيد الفكر والفقه والعقائد!
وقد كان خيراً لنا من خوض هذه المغامرة المأساة أن نحافظ على الفهم التقليدي للمذهب والأئمة عليهم السلام، وأن نسير في خط المعارضة المطلبية، الذي انتهجه مراجعنا الذين كانوا أعمق منا فقهياً، بل فكرياً، رحم الله الجميع!
الملاحظة الرابعة
كان الإيمان بوحدة الأمة الإسلامية، من العوامل الأساسية التي دفعتهم رحمهم الله الى تبني هذا الفهم العملي السياسي للأئمة عليهم السلام.
فقد كانوا يفكرون كأصحاب مشروع للنهوض بالأمة الإسلامية كلها، أنهم لابد أن يخاطبوها إسلامياً بعموم الإسلام، ولايصح أن يخاطبوها مذهبياً.
وأن أئمتنا عليهم السلام أئمة لكل الأمة، فيجب أن نقدمهم الى المسلمين بصفتهم قادة عملوا لإغناء المسار الإسلامي وتصحيحه.
لكنه تصور ترد عليه إشكالات:
منها: أن مخاطبة الأمة بالإسلام بدون مذهب أو بإخفائه، قد يصح من شخص يحتاج الى إخفاء مذهبه مثل السيد جمال الدين الأفغاني، لأن إظهار مذهبه يضر بهدفه الذي نذر له حياته، وهو المحافظة على الأمة من الغزو الغربي، والعمل لتقوية قيادتها المتمثلة بالخلافة العثمانية.
أما الحركة التي تنطلق من علماء في الحوزة العلمية في النجف، وتعمل في وسط شيعي، وأحياناً نادرة في وسط سني، فلا يمكنها أن تواصل مخاطبتها للأمة بدون مذهب إلا مدة قصيرة! لأن مذهبها معروف من سلوك أفرادها، وسوف ينظر أتباع المذاهب الأخرى بريبة الى أسلوبهم في إخفاء مذهبهم، ويطلبون منهم تحديد موقفهم من المذاهب.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد تم تصنيف الحركات الإسلامية المرتبطة بعلماء الشيعة الى حركات مذهبية، سواء من الحكومات أو الجمهور السني، وصار ذلك لازمةً لها لاتنفك عنها ولم ينفعها ابتعادها عن إعلان مذهبها، ولا تحاشيها الخطاب المذهبي في ثقافتها!
ومنها: أن من أقوى عوامل نجاح الوحدة بين المسلمين، صدق الداعية الى الوحدة في طرحه وممارسته، فداعية الوحدة سيكون أقدر على تحقيق هدفه إذا أظهر مذهبه الذي يعتقد به، فقال إني شيعي أتبع مذهب أهل البيت عليهم السلام أو إني سني أتبع المذهب الشافعي، ومع ذلك أدعو وأعمل لوحدة المسلمين وتآخيهم، للنهوض بواقعهم الى واقع أفضل.
فهذا الصدق في الشخصية، في الشخص أو الحركة، أدْعَى الى ثقة الموافق والمخالف.. بينما إخفاء المذهب أو تعويمه، يعني وجود ظلال مبهمة تؤثر سلبياً على الثقة، وقد يخطر في بال الذين يدعوهم الى الوحدة والتعاون، أن هذا لو كان مخلصاً لمذهبه لأظهره، وحيث لم يظهره ولم يكن صادقاً مع مذهبه، فكيف يكون صادقاً في دعوته لوحدة المسلمين؟!
ومنها: كنا نقول إن أئمتنا عليهم السلام أئمةٌ لكل المسلمين، وأنهم حملوا همَّ الإسلام والأمة كلها، مَنْ وافقهم منها ومن خالفهم، وعملوا لمصلحة الجميع. وأننا يجب أن نقدمهم الى الأمة بأفضل صيغة، وأحسن أسلوب.
وهذا كله صحيحٌ، لكنه لايجيز لنا بحال أن ننسب الى هؤلاء المعصومين الطاهرين المطهرين عليهم السلام أنهم أقروا مسار الأمة المنحرف، أو نحمِّلهم شيئاً من أوزار أنظمتها وجرائم طغاتها في صراعهم على السلطة، أو نحملهم سهماً من أنهار الدماء التي أجراها الحكام من أوداج ملايين المسلمين، ممن لم يسبح بحمد السلطان!
وكيف يجوز لنا أن نحمِّل المعصومين الأطهار عليهم السلام، الذين دفعوا حياتهم ثمناً للمعارضة، شيئاً من أوزار الإنحرافات الخطيرة عن الإسلام، التي سببت أسوأ الكوارث في الأمة، وفي الشعوب التي كانت تحت نفوذها، حتى أدت الى انهيار كيانها بالكامل، وتسليط الغربيين على شؤونها ومقدراتها؟!
الملاحظة الخامسة
إن أحد أسباب تبنيهم لهذه الرؤية للأئمة عليهم السلام هو تضخيمهم تاريخ الأمة وأمجادها، وتصورهم أنه يجب عليهم العمل لإعادتها!
ومن جهة أخرى تقليلهم من مقام الإمام المعصوم عليه السلام وقضية أهل البيت عليهم السلام وموقعها في منظومة الإسلام كما أنزله الله تعالى!
كانت أنشودتهم الفكرية هي النظرة السنِّية الىأمجاد تاريخ الاسلام في فتوحاته وشمول دولته لكل آسيا وإفريقيا ووصولها الى فرنسا، وإقامته الحضارة (الاسلامية)..
هذه النظرة التي تكاد تعتبر كل ما حدث صحيحاً بل معجزة، وتقول إن الأمة ابتعدت عن ذلك الإسلام الصحيح، فتسلط عليها أعداؤها وقوضوا كيانها السياسي المتمثل بالخلافة، وأن علينا إعادة دولة الخلافة مجدداً، مع تحسينات تجعلها تتسع لجميع مذاهبه.
كنا جميعاً متأثرين بأسلوب الإعتزاز بمفاخر التاريخ الإسلامي وأمجاده، فهذا الفكر أو الشعور كان هو السائد عند المتدينين في مطلع القرن العشرين، على أثر انهيار الخلافة العثمانية سنة 1925ميلادية، وقد بلغ أوْجَهُ على يد الإخوان المسلمين في أواسط القرن، وما زال هو جواب المتدينين في العالم الإسلامي، للغربيين والمتأثريتن بهم وللشيوعيين، عندما ينتقدون المسلمين.
لكن هذا الفكر إن صح جواباً في مواجهة الثقافة الغربية والشيوعية، فلا يصح أن يؤثر علينا فنعطي الشرعية لمسار هذا التاريخ وأنظمته، وننتقص من مقام أهل البيت النبوي الطاهرين عليهم السلام بصفتهم أصحاب المشروع البديل لكل التاريخ الإسلامي، وإن لم يطبق مشروعهم بعدُ.
فلا بد لنا أولاً أن نركز على قضيتهم عليهم السلام بصفتها البرنامج الرباني الذي تركته الأمة، فتخبطت في صراعاتها وضلالها، وعانت من النتائج، أكثر مما نَعِمَتْ بما بقي فيها من زخم نبوي وهداية، سلمت من شر برنامجها الأرضي!
ولابدلنا أن نتعامل بدقة مع مفردات الفتوحات والإنجازات المدنية والحضارية التي حققتها الأمة قبل أن تضعف وتنهار، فننظر الى كل مفردة على حدة، ونقيِّمها بميزان الإسلام من وجهة نظر أهل البيت عليهم السلام.
مثلاً دخول النعمان بن مقرن رحمه الله الذي اختاره علي عليه السلام، على كسرى يزدجرد، ودعوته إياه الى الإسلام أو الجزية! أمرٌ يعتز به كل مسلم، فإنَّ من أمجاد الإسلام أنه جعل واحداً من شيوخ قبيلة مزينة الصحراوية كالنعمان، يخاطب رئيس ثاني أمبراطورية في العالم بهذا الخطاب القوي الواثق! (تاريخ اليعقوبي:2/143).
وقصةُ الحمامة التي عششت على خيمة للجيش الإسلامي الذي فتح مصر، فتركوا لها الخيمة عندما أرادوا أن يرحلوا، فسميت المنطقة بفسطاط مصر!
هذه القصة أيضاً من أمجاد الإسلام لأنها رمزٌ للتحول الإنساني الذي أحدثه في نفوس العرب الذين كانوا يدفنون بناتهم وهن أحياء! (معجم البلدان:4/263)
وحقيقةُ أن المسلمين كانوا أرحم الفاتحين، حتى أن كثيراً من أهل البلاد المفتوحة والتي كانت مستعمرة للروم والفرس، طلبوا منهم فتح بلادهم!
هذه أيضاً من أمجاد الإسلام التي تخفف من الأخطاء، والقتل، والنهب، التي ارتكبها المسلمون في عمليات الفتح.
وعلى صعيد الحضارة، والمدنية، والقوة السياسية للدولة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى وفي العهد العثماني، تكثر قائمة الإنجازات الإيجابية…
لكن ذلك لايجيز لنا أن نغمض عيوننا عن السلبيات الكبرى في تاريخ الإسلام، التي جرَّت الأمة الى أسوأ نتائج الضعف والإنهيار!
ولو لم يكن منها إلا مواجهة الأمة لنبيها صلى الله عليه وآله في حياته، ورفضها التعهد بتنفيذ كتابه الذي يؤمنها من الضلال والإنحراف والإنهيار.. لكفى!
ولو لم يكن منها إلا رفض الأمة منظومة الترتيب الإلهي للحكم بعد نبيها صلى الله عليه وآله وإقصاؤها آل نبيها صلى الله عليه وآله عن الحكم، وجعلها الخلافة لقبائل قريش، لمن غلب منها بالسيف.. لكفى!
ولو لم يكن منها إلا الحكم الديكتاتوري ومصادرة حريات الأمة، وتشريع بيعة الحاكم بالتهديد بالسيف، من يوم السقيفة الى يومنا هذا.. لكفى!
أليس عجيباً لك أن ترى أن الإسلام أعطى الإنسان قيمته الإنسانية، وضمن له حرياته المشروعة، ثم ترى أنه بمجرد أن أغمض النبي صلى الله عليه وآله عينيه صادروا حريات المسلمين في سقيفة قريش، وبدأوا سُنَّة البيعة بالإجبار والتهديد بالقتل وحرق البيوت! فلم نجد بعد ذلك اليوم في تاريخ الأمة حاكماً لم يجبر المسلمين على بيعته غير الإمامين علي والحسن عليهما السلام؟!
خلاصة الأمر:
أنا عندما ننظر الى أمجاد الإسلام العظيمة، علينا أن نرى أيضاً ما قابلها من جرائم عظيمة، أدت الى تبخير كل ذلك الكيان، وجعله حكايةً في خبر كان!
فعندما نتحدث عن أزهى عصور الإسلام وقوة دولته في عصر هارون الرشيد، علينا أن نعرف أيَّ سفاح كان هذا الخليفة، الذي رأى بأم عينيه كرامات الإمام الكاظم عليه السلام ومعجزاته وشاهد آيات الله على يديه، فازداد قلبه قسوة وحسداً، ولم يقنع بسجنه الطويل، حتى قتله!
هذا الشخص(الخليفة الرشيد) الذي ظل يتلذذ بسفك الدماء وتقطيع الناس الى أشلاء أما عينيه، الى آخر دقيقة من حياته كما يرويه محبوه وليس مبغضوه!
قال الطبري في تاريخه:6/525، في قصة (رافع) حاكم المنطقة الصغيرة في خراسان الذي خرج على الرشيد:
(عن ابن جامع المروزي عن أبيه قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخ رافع، قال فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك أو قال أكثر، وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه، قال فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ونظر إلى أخ رافع فقال: أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو أن لا يفوتني خامل، يريد رافعاً، كما لم تفتني!
فقال له: يا أميرالمؤمنين قد كنت لك حرباً وقد أظفرك الله بي، فافعل ما يحب الله، أكن لك سلماً، ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت عليَّ!
فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت أقتلوه!
ثم دعا بقصاب فقال: لاتشحذ مداك، أتركها على حالها! وفَصِّلْ هذا الفاسق وعجل لايحضرنَّ أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه!
ففصله حتى جعله أشلاءً!
فقال: عُدَّ أعضاءه، فعُدَّت له أعضاؤه فإذا هي أربعة عشر عضواً!
فرفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه! ثم أغمي عليه وتفرق من حضره! ). انتهى.
إن الذين حكموا الأمة من مخالفي أهل البيت عليهم السلام مَثَلُهُمْ كقراصنة بحرٍ سَطَوْا على سفينة نبيٍّ فاعتقلوا ربانها ومعاونيه، وأبحروا بالسفينة وأهلها، وحاربوا لصوصاً آخرين في طريقهم، وحققوا عليهم انتصارات.
وفي المقابل اضطهدوا أهل السفينة، واتخذوا بعضهم أعواناً، لكنهم لم يوصلوا السفينة الى الساحل، بل اختلفوا فيما بينهم وتقاتلوا فرسَوْا بها في جزيرة، فاستلمها لصوص أجانب غنيمةً باردة!
الملاحظة السادسة
من الأسباب التي دفعت هؤلاء الى هذه الرؤية المسطحة للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، بل لعله أهم الأسباب على الإطلاق، تأثير الإتجاه المادي على أذهانهم، وغلبته على الإيمان بالغيب!
وهي مشكلة لاتختص بهم، بل تشمل كل الذين يعيشون الإسلام بالفكر الظاهري من أهل المذاهب والإتجاهات المختلفة، خاصة السلفيين!
إن الإسلام دين قائم بكله على أساس الإيمان بالغيب.
فنبيه صلى الله عليه وآله إنسان مبعوث من رب العالمين، وهذا غيب.
وقرآنه منزل من رب العالمين، وهذا غيب.
ووجود العالم الآخر داخل في نسيج عقيدته وشريعته، وهذا غيب.
وأئمته عليهم السلام مختارون من رب العالمين، وهذا غيب.
فما لم يستوعب الذهن البشري قضية الغيب، ويؤمن بها الى حد اليقين والمعايشة، فلا يستطيع أن يفهم الإسلام ولانبيه صلى الله عليه وآله ولا أئمته عليهم السلام! ولذا حصر الله تعالى من يستفيد من تبليغ نبيه الإسلام بمن يؤمن بالغيب نظرياً ويتفاعل معه عملياً: «إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» (سورة يس:11).
وعليه فإن أول أسس التفكير التي يجب على أحدنا أن يتفهمها، أن يدرك أنه يتعامل مع حقائق وقضايا لايشكل الظاهر منها إلا جزءً يسيراً، في مقابل غيبها الكبير.
وهذا ما فاتنا التركيز عليه، وفات بعض أساتذتنا بناءه فينا.
نتائج فهمنا الخاطئ للأئمة عليهم السلام
1- الخلل في فهمنا للتشيع:
من الطبيعي أن يؤثر فهمنا للأئمة عليهم السلام سلبياً على فهمنا للتشيع والعمل له. فقد تعاملنا مع التشيع على أنه مذهب كبقية مذاهب المسلمين، وليس على أنه منهج متكامل في فهم الاسلام، فقد كان المهم عندنا العمل للإسلام كما نفهمه، وقد تصورنا أن أساليب العمل وأولوياته، لايختلف أمرها سواء كان التشيع منهجاً في فهم الاسلام، أو مذهباً عادياً كبقية المذاهب.
فلم نبحث يوماً موقف الأئمة عليهم السلام من الخروج على الحاكم، بل لعل طلبة العلم منا لم يقرؤوا رواياته المانعة والمجيزة، ولا فتاوى الفقهاء في المسألة!
فقد اعتبرنا أن الثورة بالاسلام فريضةٌ متفقٌ عليها، وأن الذين لايرونها فريضةً موالون للسلطات، أو خائفون لايملكون الشجاعة، أو من الخط المجمِّد للطاقات، كما كان يعبر عنهم أستاذنا الشهيد الصدر قدس سره.
ولهذا السبب كانت نظرتنا الى البحث العلمي المذهبي سلبية، لأنه في تصورنا إشغالٌ للأمة ببعضها، ناتجٌ عن عدم الوعي، أو عن تحريك أعداء الإسلام، وأنَّ واجبنا الإبتعاد عنه، ونُصح أصحابه، وأحياناً مقاومتهم!
وبما أننا لانستطيع منع حملات الأعداء والخصوم على مذهب أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وقد تعمدنا أن نترك مقاومتها، فقد اتجهنا عن قصد وغير قصد، الى مقاومة الدفاعات المتواضعة من علماء الشيعة وكتَّابهم، ومنها كتاب فدك الذي كان ألفه الأستاذ الشهيدقدس سرهفي مطلع شبابه، وكان ينظر اليه البعض على أنه مؤلفٌ (قبل مرحلة الوعي)!
بل اتجه بعضنا الى منع المناقشات العقيدية من عوام الشيعة، بحجة أنها أعمال مذهبية تضر بمسيرة الأمة نحو وحدتها ومقاومة أعدائها وإقامة حياتها على أساس الاسلام!
وبذلك لم تقتصر خسارتنا على فقداننا الكثير من ثقافتنا المذهبية اللازمة، بل تحولنا عن غير قصد الى عامل مساعد يعضد تلك الحملات الضارية التي يشنها النواصب والأجانب على مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباعه، بمن فيهم نحن!!
2- تكبير مشكلة الغلو وتصغير مشكلة التقصير:
يتصور البعض أن المشكلة الوحيدة في قضية أهل البيت عليهم السلام هي الغلو، مع أن الغلو محصورٌ في حفنة من الناس غَلَوْا في بعض أهل البيت عليهم السلام وألَّهُوهُمْ مع الله تعالى، والعياذ بالله! وقد حسم المسلمون موقفهم منهم وأجمعوا على كفر كل من ألَّهَ مخلوقاً، أو أشركه مع الله تعالى.
لقد غفل هؤلاء أو تغافلوا عن أن المشكلة في قضية أهل البيت عليهم السلام ليست الغلو، بل هي تقصير المسلمين في أداء فرائض الله تعالى في حقهم، من وجوب ولايتهم ومحبتهم، ومعرفتهم، والتلقي منهم، والإهتداء بنورهم..
فالمشكلة في الحقيقة أن أكثر المسلمين أعرضوا عن عمد أو عادة، عن أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله وابتعدوا عن ولايتهم، وحتى عن فهمهم، وابتلوا بمرض حب مخالفيهم وظالميهم وأعدائهم!
والأسوأ من التقصير أن بعض المقصرين أخذوا على أنفسهم محاربة المسلم الذي يؤدي فريضة ربه في حق أهل بيت نبيه صلوات الله عليه وعليهم! فتراهم يصفون محبيهم وشيعتهم بالضلال والغلو، وقد يحكمون عليهم بالكفر! فقد توارثوا هذا الموقف الظالم للشيعي الصريح، من أسلافهم أتباع الخلافة القرشية، كما وصفهم الشاعر الكميت رحمه الله، بقوله:
وطائفـةٌ قـد كفَّرَتْنِي بحُبَكُـمْ وطائفـةٌ قالـوا مسـئٌ ومذنـبُ
فما ساءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ ولا عيبُ هاتيكَ التي هي أعْيَبُ
يعيبونني من خِبِّهم وضلالهمْ على حبكم، بل يسخرونَ وأعجب
وقالـوا ترابيٌّ هواهُ ورأيـهُ بذلـك أدعـى فيهـمُ وألَقَّـبُ
فلا زلتُ منهم حيث يتهمونَنِي ولا زلتُ في أشياعكمْ أتقلب
وأحمل أحقادَ الأقارب فيكم وينصب لي في الأبعدين فأنصب
بخاتمكم غصباً تجوز أمورهم فلم أرَ غصباً مثله حين يغصب
فقل للذي في ظل عمياءَ جونةٍ ترى الجور عدلاً أين لاأينَ تذهب
بـأي كتاب أم بأيـة سنـة ترى حبهـم عاراً عليَّ وتحسب
فما ليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ وما ليَ إلا مذهبَ الحق مذهب
يقول هؤلاء المعترضون أن اعتقادنا بمقامات أهل البيت عليهم السلام وكلامنا فيها يشبه كلام الغلاة، لأنه يخرج بهم عن حدود البشرية التي أكد عليها الله تعالى بقوله: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (سورة فصلت:6).
لكن الأولى بهؤلاء أن يتهموا فهمهم بالسذاجة، حيث أخذوا الجزء الأدنى من وصف الآية للنبي صلى الله عليه وآله: بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وتركوا جزءَ شخصيته الأعلى: يُوحَىإِلَيَّ!
نعم إنه صلى الله عليه وآله بشر مثلنا، تجري عليه القوانين التي تجري علينا إلا ما شاء الله، لكن هذه جَنْبَةٌ من شخصيته فقط، أما الجَنبة الأخرى فهي أن له قدرةً على تلقي الوحي من رب العالمين سبحانه! وهل هي حقيقة بسيطة أن يكون في شخصية إنسان على الأرض نافذة على خالق الكون يتلقى منه؟!
وقد يتصور بعضهم أن هذا الوصف يختص بشخصية النبي صلى الله عليه وآله فلايصح توسيعه الى الأئمة عليهم السلام، لكن فاتهم أن اختصاص وحي النبوة بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله لاينفي أن يكون للأئمة المعصومين من عترته عليهم السلام جنبة انفتاح على الغيب والتلقي من الله تعالى، بما يشاء من وسائل غير وحي النبوة.
فاتهم أنهم أوصياء النبي الربانيون الذين بَشَّرَ بهم، وأمر الأمة بمودتهم وطاعتهم، وجعلهم عِدْلَ القرآن في وجوب التمسك بهم!
لقد حاول الحكام القرشيون أن ينكروا هذه الجنبة في شخصيات الأئمة عليهم السلام لكنهم عجزوا! لقوة نصوصها وقوة واقعها، فقد واجهتهم معجزات الأئمة عليهم السلام وأفحمتهم، ومازالت تواجه أتباعهم، حتى يظهر الله خاتمهم الموعود عليه السلام فيعيد به الحق الى نصابه، ويظهر به دينه على الدين كله!
3- التنقيص من مقام المعصوم عليه السلام:
توجد مسألتان متقدمتان رتبةً على دراسة حياة الأئمة الإثني عشر عليهم السلام وهما مسألة مقام الإمام المعصوم عليه السلام، والعلاقة الجدلية بين الأئمة عليهم السلام وبين خلافة أبي بكر وعمر خاصة.
وقد أهمل فهمنا للأئمة هاتين المسألتين، أو قررنا أن نتجاوزهما لعدم الحاجة اليهما في عملنا، أو لضرر طرحهما على مخاطبنا الذي هو كل الأمة الإسلامية!
لعلنا كنا نتصور أن فهم مقام المعصومين عليهم السلام وعلاقتهم بالخلافة القرشية، سوف لايؤثر على فهمنا الذي توصلنا اليه لحياتهم وأدوارهم عليهم السلام!
فاتنا أن فهم مقام المعصوم يعني فهم برنامج عمله الرباني. وأن فهم موقفه من نظام حكم أبي بكر وعمر، يعني مفردات تطبيقه لبرنامج عمله الرباني!
وكلاهما يؤثران على معرفة شخصية المعصوم عليه السلام وعمله، أبلغ التأثير!
المعصوم عليه السلام إنسان اختاره الله تعالى بعلمه وحكمته المطلقين، وجعله إماماً للناس وحجةً على خلقه، وعصمه من الخطأ والهوى!
فماذا تعني للمسلم الشيعي هذه الصفات الثلاث المتفق عليها في مذهبنا ؟!
إنها تعني أن حلم جميع المفكرين والعقلاء، والمعذبين في الأرض، قد تحقق! وقد انحلت مشاكلهم الفكرية والعملية.
وأن علينا جميعاً أن نترك فذلكاتنا ونعطل فلسفاتنا ونطيعه ونطيف حول بيته الذي أذن الله أن يرفع، ونؤدي فروض الإحترام لمقامه الشامخ، ونتفكر فيه لعلنا نفهمه!
تعني أن علينا أن نفتح عقولنا وقلوبنا لقول المعصوم عليه السلام وفعله وسلوكه، حتى الفتات منها إن كان عنده فتات، ففتاته خير من كل خبزنا!
أجل، ما دام ثبت لنا بالنص القطعي وبدليل العقل القطعي، أن الله تعالى قد اختار، فقد انتهى الأمر، وانحسمت القضايا، وبدأ ما يجب علينا! وأول ما علينا أن نرضى بالذي اختاره رب العالمين وجعله علينا إماماً، ونحبه، ثم نفهمه، ونصغي اليه ونطيعه مهما كلفنا ذلك، ثم لانلتفت الى من خالفه كائناً من كان شخصه، وكائناً ما كان موقعه، فكل شخص مقابله وكل مقام بعد الذي اختاره الله رب العالمين، هوى وهواء وهباء!
المعصوم، ليس قضية صغيرة، بل هو أكبر قضية عملية للأمة بعد نبيها!
إمامٌ مفتوحةٌ له نوافذ الغيب، مهديٌّ من ربه، يملك الخريطة للبشرية، وليس كمن أضاعوا قضية خلقهم، وخريطة طريقهم، أو ضاعوا فيها!
الإمام عالمٌ يملك العلم القطعي، وليس كعلماء الأرض ومفكريها، الذين جمعوا بضاعتهم من الظنون والإحتمالات، وقليل قليل منها اليقين!
كثيراً ما كنت أفكر كيف لم يهتم أساتذتنا بفهم شخصية المعصوم عليه السلام ؟!
وكيف كنا نبني فكرنا بقطع النظر عن مقامه، ونحن نعتقد أن مشروع المعصومين من عترة النبي صلى الله عليه وآله، مازال موجوداً فعلاً ولم ينته بعدُ، فلم يتركه الله تعالى بسبب ترك الأمة له! وما زال سبحانه يقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ..
وما زال قراره تعالى أن يملأ الأرض بخاتمهم عليه السلام قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً..
وما زال هذا الإمام موعوداً من ربه وجده، حياً يرزق، مدَّ الله في عمره، فهو يعمل في برنامجه مع الخضر وجنود الله في الغيب، حتى يأذن الله له ربه بالظهور، فيكمل مشروع الاسلام، ويظهره على الدين كله، ويعيد مسيرته الى نصابها..
ما دام الأمر كذلك، فرؤيتنا للتاريخ تختلف كثيراً، وللمستقبل أيضاً!
ومشروعنا في الدعوة الى الاسلام لابد أن يكون منسجماً مع المشروع الالهي للإسلام الذي نعتقده في المعصومين من العترة عليهم السلام وأن يكون مشروعاً ممهداً لخاتمهم الموعود صلوات الله عليه. ومن أول شروط الإنسجام أن ينص المشروع على مقام المعصوم عليه السلام في ثقافته.
ما دمنا نعتقد أنه قد وجد هذا المعصوم عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله، وأن النبي دل الأمة عليه وأعلنه لها ولياً وإماماً، وأخذ منها البيعة والمواثيق على اتِّباعه، فالمسألة تختلف كثيراً!
ولو أردنا أن نضرب لها مثلاً مصغراً، لقلنا إن مثلها كجماعة في صحراء قاحلة، فيهم شخص واحد يملك الخريطة لنجاتهم ويجيد قراءتها، فائتمروا عليه وعزلوه ورفضوا خريطته، واتخذوا بدله أئمة ضلال تاهوا بهم يميناً وشمالاً، تيهاً بعد تيه، وضلالاً في ضلال، حتى شتتوهم في كل واد، ومزقوهم شر ممزق!
ونترك بيان مقام الإمام المعصوم عليه السلام لهذا الكتاب القيم.
4- عدم فهم العلاقة بين المعصومين عليهم السلام وغاصبي سلطتهم:
من الواضح أن الجدلية بين نبي صادق عليه السلام ومُدَّعٍ للنبوة، أو بين إمامٍ مختارٍ من ربه عليه السلام وبين غاصبٍ لسلطته، لايمكن أن تكون إلا جدلية النفي التام!
فالقيادة المعصومة والغاصبة ضدان يستحيل أن يجتمعا. ومهما بدا لنا من إمضاء المعصوم عليه السلام لوضعٍ من الأوضاع، فلا بد أن يكون رحمةً بالأمة من أجل تقليل الضياع، وتأخير الإنهيار، وحفظ ما يمكن من المهدور، وتصريف ما يجب تصريفه من الأمور.
ومحالٌ أن يكون إعطاءَ روحٍ لميت، أو منحَ شرعيةٍ لغاصب!
لكن هذه الرؤية كانت غائبةً عن بنائنا الفكري مع الأسف، فقد كان أستاتذتنا برغبون في العبور عن نقاطها، وعن الوقوف في محطاتها!
بل لعل بعضهم كان يتصور أن مبايعة المعصوم لحاكم عصره بالإجبار، وإمضاءه عليه السلام لبعض الأمور، يعتبر إعطاء نوع من الشرعية بالعنوان الثانوي أو الأولي لخلافة أبي بكر وعمر!
فبهذا فقط يمكننا أن نفسر الكلام الذي يردده البعض شبيهاً بكلام سيد قطب عن جيل الصحابة الفريد، وعن الخلافة الراشدة!!
ومن ذلك مقولة أن جيل الصحابة كان بمستوى الإمامة والقيمومة على الدعوة، الذي يعطي نوعاً من الشرعية للسقيفة ودولة أبي بكر وعمر، وحتى لدولة عثمان، لولا أنه سلط عشيرته بني أمية على الدولة والأمة!
وما أدري كيف تنسجم هذه المقولات عندهم مع إسِّ أساس المذهب الذي هو بيعة الغدير، وبقية نصوص النبي صلى الله عليه وآله القاطعة على إمامة علي عليه السلام والعترة الطاهرة وعصمتهم عليهم السلام، أومع موقف أمير المؤمنين والصديقة الزهراء وجميع الأئمة عليهم السلام الذي يؤكد على أن كل ترتيب يزعمه أحد في قبال المعصوم فهو ردٌّ على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ومَعْلَمٌ من معالم الضلال البشري في مقابل الهدى الإلهي، وخطُّ انحرافٍ في مقابل الصراط المستقيم.
إن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام مهما أمرونا أن نسكت على نظام حكم من غصبهم سلطانهم الرباني أو أن نتعاون معه في المشتركات، فلم يجيزوا لنا أن نعطي نظامه حرفاً من الشرعية، إلا ما جاز في خوف وتقية.
5- النقص الذريع في التعمق في مصادر المذهب:
من الآثار الخطيرة لهذا الإتجاه على ثقافة أتباعه ضعف اطلاعهم على مصادر التشيع، خاصة في التفسير والحديث والكلام، مع أن بعضهم كثير القراءة والمطالعة لأنواع الكتب، لكنه منصرف عن دراسة مصادرنا وقراءتها، ومغرم بأجواء ثقافية مشبعة بالمفاهيم السنية والغربية!
وبعضهم مشكلته شخصية، فهو من صغره لم يتجه الى التدين والأجواء الروحية، ولم يستوعب من أسرته ومحيطه مذهب التشيع وعقيدته في النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام.
وعندما كبر لم يتدبر في أن التدين بالمذهب يوجب عليه أن يبذل جهداً لاستيعابه من مصادره وعلمائه ومتدينيه، فاختار لنفسه تركيبية متضادة، والتقاطية متناقضة!
ومن الواضح أن درجة استيعاب أي مذهب ومنه التشيع، تتبع المستوى العلمي للشخص، ومستوى تدينه ومعايشته الفكرية والروحية للمعصومين عليهم السلام.
6- استناد خصوم الشيعة الى آراء أصحاب هذا الإتجاه
ومن النتائج السيئة لهذا الإتجاه على التشيع، أن بعض خصوم مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباعه، أخذوا آراء أصحابه على أنها تمثل مذهب علماء الشيعة وهاجموا بها التشيع والشيعة وأثاروا بها الشبهات على التشيع!
مع أنهم يعرفون أن الملاك في آراء المذهب ليس فهم عوامه، ولا فهم الشاذ من أتباعه، بل ما دَوَّنه مراجع المذهب وفقهاؤه المعترف بعلمهم ومرجعيتهم، وما هو ثابت من سيرة المتشرعين من أتباعه جيلاً فجيلاً، وصولاً الى جيل الرواة والفقهاء من تلاميذ الأئمة عليهم السلام.