كثيرهم الرجال الذين انتصبت قامة التاريخ لهم إجلالا و احتراماً لما أسدوه للبشرية من أياد بيضاء نقية و قدّموه للعلم و المعرفة من خدمات جليلة لكن ما يميز السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن غيره أنه كان يشتمل على صفات يندر اجتماعها، إذضمّ إلى سعة معلوماته، و تنوّع اهتماماته، عمق النظرة، و منهجية الفكرة، و دقة التحليل، و عرفية النتيجة، وسعة البحث و عصرية الموضوع، و جزالة اللفظ، فلم يضحَ للفقه و الاصول آلفاً حتى صار فى سائر العلوم كالمعرفة و الفلسفة و الاقتصاد مؤلّفاً، و لم يُمس بالعلوم عالماً حتى غدا فيها ناقداً، فمفكّراً، فمنظّراً.
و مع كل هذا فلم يشغله العلم عن مجتمعه، بل ادرك أوضاع عصره، و تحسس حاجات مجتمعه، و واستشعر ما يراوده من شك، و مايختلج في نفسه من ريب فبادر إلى موضع الشبهة و مكمن الداء فعالجه بما علم معالجة الحكيم الحاذق فكان أن ترك من الكتب في العقيدة و الفلسفة و المنطق و الاقتصاد و السياسة ما أثرى به الفكر و أبدع فيها بما لايدانيه به أحد فضلا عن أن يضاهيه.
لكن بعض هذه العلوم طبعه بآرائه، و طوّره بنظراته و أشبعه ببحثه، و بعضها لم تسمح له يد القدر و الخيانة با تمامه و إن أشار فيه إلى مبانيه و آرائه.
و من جملة ما تركه ناقصاً مبتوراً نظريته في نظام الحكم فإنه لم يتناول ذلك ببحث في كتبه و مؤلّفاته و إنما تعرض له في مقالات أواخر أيامه و قد طبعت تحت سلسلة الاسلام يقود الحياة.
لكن هذه المقالات لم يلحظ فيها أن تكون بحثاً فقهياً و استدلالياً، بل كان الغرض منها تثقيف الطليعة المؤمنة و الجيل الواعي على الفكر الاسلامي الأصيل و اعطاءه نظرة مختصرة عن شكل النظام الاسلامي و ركائزه و أبعاده.
و من هنا فقد رأينا ـ و نحن على أعتاب الذكرى السنوية العشرين لاستشهاده ـ أن نتناول بعض الخطوط و الملامح التى رسمها السيد الصدر (قدس سره) لنظام الحكم الاسلامي برأيه بالبحث و استكشاف مبانيه الفقهية فيها، علّنا نقدّم بذلك خدمة في سبيل إحياء و تجديد بعض أفكاره في ذكراه العطرة.
نظام الحكم إدارة و إشراف:
البحث عن نظام الحكم في الإسلام لايمثل عند السيد الصدر (قدس سره) مجرد بحث عن الآلية التي يطرحها الاسلام لإدارة امور المجتمع، و لاكيفية تخريجها من الناحية النظرية شرعاً، و رسم الاُطر القانونية المحدّدة لطبيعة العلاقة بين الجهاز الحاكم و الرعية و بين العاملين في الجهاز الحاكم أنفسهم و بين أفراد الرعية أنفسهم أيضاً و حقوق و واجبات كل طرف فى هذه الأطراف تجاه سائر الأطراف، بل يرتبط كل ذلك بالمبادئ والغايات و الأهداف الربوبية لمسيرة المجتمع البشري كلّه القائمة على أساس من رؤية تصوّرية كونية جامعة، فكل بحث ينصبُّ على تحديد آليات الحكم و اُطره الظاهرية مع قطع النظر عن الاهداف المرسومة له بحث شكلي لايتجاوز القشرة إلى اللُّب ولا الظاهر الى الأعماق.
و من هنا حاول السيد الصدر (قدس سره) في بحوثه التنظيرية لرسم معالم الحكومة الاسلامية صبّ البحث منذ البداية على محورين هما: خطّ الخلافة و خطّ الشهادة يعبّر الاوّل عن حكم وضعي يجعل نوعاً من السلطنة بمقتضى قول الله للملائكة: (اني جاعل فى الارض خليفة) لجميع أفراد النوع البشري المتمثّل بآدم على اختلاف مذاقاتهم و اهتماماتهم في كلّ ماحوته ارجاء هذا الكون الفسيح المعبر عنه بالأرض في الآية، و المستلزم اعطائهم قدرة تكوينية على التصرف فيه أوّلا و إصدار حكم تشريعي بجواز التصرف و الانتفاع بما في الكون في الجمله ثانياً أن لم يُستفَد من ذلك أصلٌ و قاعدة فقهية يرجع إليها لإثبات جواز الانتفاع و التصرف في كل ما يشكَّ في جواز ها فيه و عدمه كأصالة الإباحة و البراءة مثلا بالضبط كما يستفيد من «الناس مسلّطون على أموالهم» جواز لتصرف صاحب المال في ماله تكليفاً و وضعاً أوتكليفاً أو وضعاً فقط.
و يعبر الثاني عن حكم وضعي آخر يمنح المولى بموجبه حق الإشراف و التدخل بل و التعديل و التصحيح لمسيرة البشرية بمقتضى قوله تعالى (و يوم نبعث في كل أُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم و جئنابك شهيداً على هؤلاء) و قوله (فكيف إذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنابك على هؤلاء شهيداً) للعارفين بمقاصد الشريعة و أحكامها العامّة و الخاصة.
فنظام الحكم عند السيد الصدر (رض) ينفكّ منذ البداية إلى وظيفتين: إحداهما وظيفة إدارة المجتمع و تمشية اُموره، و الاخرى إحراز انطباق هذه الإدارة على الموازين والمعايير و الاحكام الشرعية و انصبابها ضمن محور الغايات و المبادى والاهداف الإلهية.
و يتولّى كُلُّ واحدة من هاتين الوظيفتين جهاز محدّد له خصائصه و برامجه و إمكاناته.
و قدّ تجتمع خصائص كلا الجهازين في أفراد معّينه: فيتحّد القائم بالوظيفتين كما قد تفترق فيتعدّد.
و كيفما كان فالسيد الصدر (رض) قائل بالتفكيك بين السلطات منذ البداية فهو يقول: «وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة ـ خلافة الانسان على الارض ـ خطّ الشهادة الذي يمثّل التدخّل الرّباني من أجل صيانة الانسان الخليفة من الإنحراف و توجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة»
آيات الكتاب و خلافة الامة:
جرت عادة الفقهاء لدى البحث عن ولاية الفقيه خصوصاً و نظام الحكم في الاسلام بصورة عامة على عدم التعرّض للآيات، بل ربما مطلق الأدلة الدالة على خلافة الاُمّة ولعلّ الدافع إلى ذلك، ارتكاز منهج النيابة و النصّ في أذهانهم لماله من خلفيّات قويّة ترتبط بخلافة الأئمة (عليهم السلام) مع ما استتبع ذلك من تميّز في المنهجية الفكريّة و العاطفية لعلماء الشيعة فضلا عن عوامّها مما ساقهم بنحو شعوري أولا شعوري إلى البحث عن الدليل في أحاديث السنّة و الروايات بعد وضوح عدم النصّ في الكتاب على التنصيب في عصر الغيبة، أو لسريان غلبة الاعتماد على السنة في الاستدلال الفقهي عموماً إلى هذه المسألة فلم يستند فيها إلى آيات القرآن غفلة رغم وجود الدليل عليها منه، او لعدم حمل الفقهاء الاستخلاف المذكور على معنى الحاكمية و إدارة المجتمع.
و أيّاً كان السبب فلم يتعرّض من فقهائنا إلى الاستدلال بالآيات على خلافة الاُمة غير السيد الصدر (رض) الذي استدلّ عليها بآيات الاستخلاف و توريث الارض و الحدود الاوليان بإرادة الغلبة و تسلّم زمام الحكم كما يدلّ على ذلك تفريعه الحكم فى بعضها كقوله تعالى (يا داود إنا جعلنا خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالعدل) و قوله: (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون من الاستخلاف و به يندفع: إرادة معنى آخر غير ما ذكر، والاخيرة باستفادة الولاية للامة من؟ الاوامر فيها بضمير خطاب الجماعة المراد بها المسلمين الدالّ على أنها المكلّفة بإجراء الحدود التي هي من وظيفة الحاكم ولا يرد على الاستدلال احتمال إرادة الجعل التكويني لاالتشريعي من الجعل الالهي فيها فيكون بمعنى الإيصال إلى سدّة الحكم غير الدالّ بحال على المشروعية، فإنه لوفرض لم يضرَّ باستفادتها إن لم تكن من إسناد الجعل حتى التكويني إلى الله في كلامة الكاشف لاعن موافقة ذلك لارادته التشريعية حسب، بل عن امتنانه أيضاً فلا أقل من دلالة قوله (لننظر كيف تعملون) على عدم سخطه من أصل الوصول إلى السلطة المساوق للامضاء المثبت للاباحة الاقتضائية على اقل التقادير، واناطة رضاه وسخطه بما يعمله المستخلف بعد ذلك، وانما الوارد كون الآيات المستدل بها لادلالة لها على المطلوب اما آية استخلاف آدم الارض: لابّد من استظهار كون المراد بآدم فيها النوع البشري اوّلا: ثم على سبيل الاستغراق ثانياً و بالاستخلاف حاكمية تشريعية معناها كون كلّ فرد من أفرادِ الانسانِ هو خليفة الله في أرضه بما يقتضي سلطنة له على الكون مطلقة و غير محدودة إلاّ من قبل الله المستخلف او لمزاحمتها لسلطنة الانسان الآخر مالم يتنازل عنها لصالح غيره ثالثاً، لكي ينتج عن ذلك ثبوت الولاية للاُمّة بمعنى دخالة رأي كل فرد في تعيين الحاكم عليه و هي كما ترى إذ لئن قبلنا الأوليّن كما هوالظاهر من القرائن المحتفة بالآية لكون الله بصدد الخلقة و اعتراض الملائكة على الطبيعة البشرية غير المختصة بفرد دون آخر فلا تقبل الاستخلاف إلاّ بِمعنى الحاكمية و السلطنة بالنسبة إلى سائر الكائنات الموجودة في الكون غير الداخل فيها المشتركون معه في النوع من ابناء الانسان على سبيل الجزم لعدم خروجهم عنه بعد فرض كون المقصود بآدم هو النوع البشري أَوّلا و لكون الحاكمية المفترضة للإنسان على الكون بالقياس إلى سائر الأنواع من الكائنات فيه كما تدلّ عليه القرائن المتقدمة ثانياً.
وأمّا الآيات الاخرى فمضافاً إلى ورودها في وقائع خاصة مما لايستفاد منها كبرى كلية قاضية بتعلق أمر الحكومة بالامة دائماً عدم بعد إرادة الاستخلاف التكويني المساوق ـ كما تقدم ـ بمعنى الظهور و الغلبة و السلطنة على مقدرّات الامور في الأرض المقتضي مع كون الخطاب لاُمة معينة استئثارها بها دون غيرها من الامم، و هو لا يعنى ثبوت الحاكمية التشريعية للاُمة بالأصالة.
نعم، تبقى ايات الحدود التي قد لا يقصد من خطاب جماعة المسلمين بها إلاّ تكليفهم بإجرائها لا لأنَّ الولاية ثابتة للامة بالأصالة، بل لأنها من تكاليف الأمّة على كل حال أي و إن كان الحاكم و اصلاّ من طريق غير الامّة كالتسلّط بالقهر و الغلبة لكون موجبها آفة اجتماعية مع أن التكليف المعبر عنه بـ«عليه»، غير معنى الولاية المعبر عنها بـ «له».
ثم لوفر ضنا تمامية ذلك كله واجه القول بخلافة الامة اصطدامها بخلافة الانبياء والائمة(عليهم السلام) المعجولة لهم بالنصب لامن طريق الامة، و هو ماجعله السيد الصدر (قدس سره) استثناء من الأصل الكلي القاضي بكون ولاية أمر المجتمع بيد الامة فهو يقول: «وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الذي يمارسه النبي باسم السماء ثابتة مبدئياً من الناحية النظرية إلاّ أنها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل و النبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية و هو المسؤول عن الارتفاع بالاُمّة إلى مستوى دورها في الخلافة».
و قد يورد عليه بانه استثناء غالبي لعدم خلوّ الارض من لدن خلقة آدم و إلى عصر الغيبة من نبي أو إمام (ع) كما دلّت على ذلك الروايات أيضاً، لكن المستثمر من كلام السيد الصدر (رض) انكار كونه كذلك فإن دور النبي و الامام دور المصلح لمسيرة المجتمع عند انحرافها و هو ما يحصل على فترات متباعدة نسبياً و خلالها يكون الخلافة بيد الامة.
و كيفما كان فإن جعل الله سبحانه و تعالى الولاية، للانبياء و الائمة كما في قوله تعالى في ولاية نبينا محمد(ص) (النبي اولى بالمؤمنين من أنفسهم) و قول رسول الله(ص) في ولاية علي (ع): «من كنت مولاه فعلي مولاه » إن حملت على جعل الخلافة لهما فهو مناف لجعلها للامة مالم تعالج بايقاع الطولية بينهما أو إعمال تقييد فيهما، أو ايقاع التزاحم بينهما و إن حملت على جعل الشهادة لهما و الولاية لممارسة التغيير الثوري المطلوب فلا منافاة حينئذ لكنه ربما بلغ مرتبة اقتضى من النبي و الامام استلام زمام الامور بيده عملياً و لعلّ كلام السيد الشهيد (قدس سره) ناظر إلى الأخير، و معه فلامجال للاشكالين السابقين.
ولاية الفقية و خلافة الامة:
اختلف الفقهاء في ثبوت الولاية للفقيه و عدمها بين قائل بالثبوت كالشهيد الثاني والمحقق الكركي و النراقي و النجفى و غيرهم، ادّعى الكركي الاتّفاق عليه حيث قال: «اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الاحكام الشرعية نائب من قبل ائمة الهدى صلوات الله و سلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ماللنيابة فيه مدخل… وبين قائل بعدمها كالشيخ الانصاري و السيد الخوئي. و حينئذ فيجوز اتخاذ اي نظام من انظمة الحكم لايتعارض مع الاحكام الشرعيه لعدم الدليل على لزوم العمل بنظام معين، و الأصل الإباحة. نعم لابدّ للجهاز الحاكم أياً كان شكله من الرجوع إلى الفقيه في كل قضية يشك في منافاتها لحكم من احكام الشريعة من باب رجوع الجاهل الى العالم لئلايبتلى بمخالفة الاحكام الشرعية.
و كيفما كان فالشهيد الصدر (رض) لايعتقد بثبوت الولاية بمعنى الخلافة للفقيه في مرحلة تحرّر الامة من سلطان الطاغوت و ملكها أمر نفسها بناء على مااسسه من أصل اوّلي من أن الخلافة حق الاّمة و اثبته بالآيات القرآنية الكريمة حيث يصرح في كتاب خلافة الانسان قائلا: «و اما إذا حرّرت الامة نفسها فخط الخلافة ينتقل إليها فهي التي تمارس القيادة السياسية و الاجتماعية في الامة بتطبيق احكام الله و على أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الرّباني».
و كذا في كتاب اللمحة حيث يقول: «إن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية قد اسندت ممارستها إلى الامة، فالامة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور. و هذا الحق حق استخلاف و رعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي و هو الله تعالى»
لكن ربما توهم البعض ذهاب الشهيد الصدر (قدس سره) الى ثبوت الولاية بمعنى الخلافة للفقيه و لعلّه استفادذلك من بعض عباراته الموهمة في كتاب اللمحة مثلا حيث ذكر نيابة الفقيه العامة للامام(ع) في اكثر من موضع منه متمسكاً في بعضها بالتوقيع الشريف الذي رواه اسحاق بن يعقوب.
لكن و خلافاً للتصور المذكور لم يكن الشهيد الصدر (رض) بصدد إثبات منصب الولاية لمعنى الخلافة والادارة للفقيه بذلك، نعم هويرى ثبوت الولاية بمعنى الشهادة له، و قد صرح بذلك عدّة مرات: فهو يقول في احدى نقاط خلاصة اللمحة بعد ذكر التوقيع الشريف: «فإن هذا النص يدل على أنهم المرجع في كل الحوادث الواقعة بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة لأن الرجوع إليهم بما هم رواة أحاديثهم و حملة الشريعة يعطيهم الولاية بمعنى القيمومة عى تطبيق الشريعة و حق الإشراف الكامل من هذه الزاوية» و في اخرى: «الخلافة العامة للامة على أساس قاعدة الشورى التي تمحنها حق ممارسة امورها بنفسها ضمن إطار الإشراف و الرقابة الدستورية من نائب الامام».
و في نقطه ثالثة يقول: «فكرة أهل الحل و العقد التي طبقت في الحياة الاسلامية و التي تؤدّي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى و قاعدة الإشراف الدستوري من نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الامة و ينبثق عنها بالانتخاب. فهو يصرّح بوضوح بأن الفقيه نائب الامام (ع) في الإشراف و الرقابة دون أن يكون له حق التصرف في امور الامة و لا في تغيير تشريعاتها الذي لا تتنافي مع الشريعة و مقاصدها.
و فى الحلقة الرابعة صرّح الشهيد الصدر(رض) بذلك أيضاً حيث قال: «و يتميز في هذه المرحله. «مرحلة غيبة الامام(ع)» خط الشهادة عن خط الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أوالامام وذلك لأن هذا الاندماج لايصبح إسلامياً إلاّ في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معاً و حين تخلو الساحة من فرد معصوم فلا يمكن حصر الخطين في فرد واحد.
فخط الشهادة يتحمل مسؤولية المرجع على أساس أن المرجعية امتداد للنبوة و الإمامة على هذا الخط.
و هذه المسؤولية تفرض:
اولا: أن يحافظ المرجع على الشريعة و الرسالة و يردّ عنها كيد الكائدين و شبهات الكافرين و الفاسقين.
ثانياً: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الاسلام و مفاهيمه و يكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للامة من الناحية الاسلامية و تمتدّ مرجعيته في هذا المجال الى تحديد الطابع الاسلامى لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الاسلامي فقط، بل للعناصر المتحركة الزمنية أيضاً باعتباره هو الممثل الأعلى للايديو لوجيةِ الاسلامية.
ثالثاً: أن يكون مشرفاً و رقيباً على الامة، و تفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخل لإعادة الامور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلامياً، و تزعزعت المبادئ العامة لخلافة الانسان على الارض… واما خط الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه فـ… إذا حررّت الامة نفسها فخط الخلافة ينتقل إليها فهي التي تمارس القيادة السياسية و الاجتماعية في الامة بتطبيق أحكام الله و على أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الربانى.»
و من هنا يتضح أن السيد الشهيد(قدس سره) لا يرى للفقيه حق تولّي القيادة السياسية و لا الاجتماعية في الامة و لا هو مسؤول عن عملية تطبيق احكام الله سبحانه فيها و تشريع القوانين التي يحتاج إليها نظام الامة ممالم يردِ فيها نصّ في كتاب اوسنة ولا دليل من إجماع او عقل فإن السلطتين التنفيذية و التشريعية يجب أن تنبثقان عن الامة باعتبارهما حقاً خوّله الله تعالى إياها كما تقدم في المحة غاية الأمرأن الفقيه مشرف رقيب عليها من أن تزيغ و تنحرف و تضلّ عن الطريق بمخالفتها الأحكام الاولية و الثانوية و اتجاهات الشريعة فيتدخل لإعادة الامور الى نصابها و هذا أيضاً نوع في الولاية كما هو واضح فما اشكل عليه به بعض اساتذتنا من أن ممارسة الامة ملء منطقة الفراغ انكار لولاية الفقيه رأساً غير صحيح.
نعم، السيد الصدر (رض) يرى ثبوت الولاية للفقيه على الامة بمعنى ممارسته صلاحيات كلا الخطين اعني خط الخلافة و الشهادة معاً ما دامت الامة محكومة للطاغوت و مقصية عن حقها في الخلافة كما صّرح به نفسه في الحلقه الرابعة من حلقات الاسلام يقود الحياة حيث قال: «و اما خطّ الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه فمادامت الامة محكومة للطاغوت و مقصية عن حقّها في الخلافة العامة فهذا الخط يمارسه المرجع و يندمج الخطّان حينئذ ـ الخلافة و الشهادة في شخص المرجع والملاحظ مما أفاده الشهيد الصدر (رض) بكلماته المتقدمة إدعاؤه ثلاثة مناصب للفقيه:
الاول: التمثيل الاعلى للدولة.
الثانى: الإشراف و الرقابة على حركة الامة.
الثالث: الولاية العامة ـ خلافة و شهادة ـ على الامة في زمان قصورها.
والظاهر أن مستند المنصبين الاول و الثانى هو التوقيع الشريف الذين رواه اسحاق بن يعقوب كما تقدمت الاشارة الى ذلك مما نقلناه من عبارة اللمحة.
والتوقيع الشريف رواه الكليني عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمدبن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت علىِ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام أمّا ما سألت عنه ارشدك الله و ثبتك «الى أن قال» و اما الحوادت الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم و أنا حجة الله».
لكن الفقهاء استدلوا به على الولاية و قرّبوا الاستدلال بالتوقيع المذكور باحد تقريبين هما.
الاول: أن الظاهر من الحوادث مورد الارجاع جميع الحوادث لا حوادث مخصوصة للعموم المستفاد من لام الجنس الداخلة عليها، و من الواقعة ما يقع لاحقاً لا سابقاً أولا لاحقاً من باب استعمال المشتق فيما يحصل منه التلبس بالمبدأ فيما بعد، و من رواة الحديث المرجوع إليهم الفقهاء لابماهم رواة و لا فقهاء أمّا الاوّل فلعدم الرواية فيما لم يتبع. وأمّا الثاني فلو ضوح الرجوع فيه إليهم عند الشيعة بما لايستدعي السؤال، فلم يبق إلاّ الرجوع إليهم بماهم ولاة فالرواية أمرت المؤمنين تكليفياً بالرجوع إلى الفقيه بالمطابقة، و جعلت له الولاية وضعاً بالملازمة.
و هذا البيان يمكن أن يناقش فيه من جهتين:
الاولى: إن كون اللام الداخلة على الحوادث لام الجنس غير معلوم فلعلها كانت لام العهد أي حوادث وردت فى سؤال السائل، و مع وجود مثل هذا الاحتمال فالرواية مجملة.
لكن هذه المناقشة مردودة باستبعاد إرادة ذلك فيها لتعارف الإجابة عن مثلها من قبل الامام (ع) أوالاحالة على فقيه بعينه كما صنع في غيرها من الاسئلة لا أن يحيلها على عموم الفقيه فالظاهر أن السؤال عن عموم ما يقع من الحوادث في مستقبل الزمان بنحو ناسب إحالتها على عموم الفقيه.
الثانية: أن استظهار كون المرجوع إليهم الفقهاء بماهم ولاة غير متعنين إذ لعلّ السائل كان بصدد استبيان المرجع ـ في عصر غيبة الامام (ع) ـ في مستحدثات المسائل و مستجّدات الامور ممالم يردبه نصّ خاص بعد إذكان الامام (ع) هو الناهض ببيان أحكامها إذ أن فقهاء عصر الحضور و إن كان يرجع إليهم لمعرفة الاحكام الشرعية، لكن بمقدار لايتجاوز حدود النصّ بحيث يكون الرجوع إليهم بماهم رواة أقرب منه بما هم فقهاء و مستنبطون فإن وجود الامام(ع) كان يغني عن إعمال النظر و انتزاع القواعد الاصولية و الفقهية و الخوض في حيثيات المسائل ولذا صرّح غير واحد ممن كتب في تاريخ الفقه و الفقهاء و مراحل الاجتهاد بأن الاجتهاد المعروف لدنيا اليوم إمّالم يكن موجوداً في عصر الائمة، أو كان بعدما اشكاله. هو عليه فربما أثار قرب وقوع الغيبة الكبرى للإمام (ع) قلقاً في ذهن السائل حول من يجيب على المسائل المستجدة و الامور الحادثة فيها، فأرجعه الامام إلى الفقهاء مرشداً بتعبيره رواة أحاديثنا إلى كفاية ما يحملونه من تراث روائي ضخم بهذا الفرض المهم.
فالانصاف أن المناقشة في الاستدلال بهذه الفقرة في محلّها.
الثاني: تتميم الدليل السابق بالقول بأن اطلاق التعليل الوارد في ذيل الفقرة بـ “أنهم حجّتي عليكم و أنا حجة الله” يثبت الحجية لهم في تمام ما الإمام فيه حجة حتى الامور الولائية.
والجواب: إن التعليل المذكور لم يعلم استفادة الإطلاق منه لا تصاله بما يصلح لتقييده فإن الحجية ليست من قبيل العلل الحقيقية او الاعتبارية ذات المفهوم المحدّد بل هي مفهوم اعتباري كلىّ مشكلك تابع لجعل الجاعل سعة وضيقاً و إطلاقاً و تقييداً كإذن المالك في التصرف فيما يملكه فإنه العلة لجواز التصرف فيه لكن تحديد مورده يؤدي مع اتصاله الى تقييد علّته أيضاً بنحو يستكشف منه عدم إطلاقها أو إجمالها فيقتصر على القدر المتقين و هو المورد المذكور و معه فلا يثبت بضم ذيل التوقيع إلى صدره تعميم للأمر بالرجوع في جميع الامور حتى الولائية.
الثالث: تتميم الاستدلال المتقدم بالذيل المذكور بنحو آخر كأن يقال إن جعل الامام(ع) الحجية للفقهاء من قبله يقتضي كونه حكماً و لائياً بنصبهم نواباً عنه فيماله من الصلاحيات. فإن الأمر بالرجوع إليهم لا يعدو أن يكون إرجاعاً لهم بماهم مبينونللاحكام الشرعية أوبماهم حاكمون، والاوّل لا يقتضي النصب من قبله بل من قبل الله سبحانه مباشرة و بلا واسطة لأنهم يؤدّون ذلك إليه فامّا يكون ذلك جائزاً بحكم الله أو حراماً بخلاف الاحتمال الثاني حيث أنهم يؤدون عنه(عليه السلام) فيما هو متروك له.
و هذا النحو من الاستدلال لا إشكال عليه فهو تام على الظاهر.
لكن قد يورد على الرواية المذكورة بضعف السند باسحاق بن يعقوب فإنه لم يوثق صريحاً في الروايات و لا فى كتب الرجال.
و أجاب عن ذلك استاذ تا السيد الحائرى ـ أدام الله بقاءه ـ بالقول بأن الكليني روى التوقيع المذكور عن إسحاق بن يعقوب مباشرة. فروايته عنه مع ملاحظة أن التوقيع لم يكن يرد إلاّ على الخواصّ من أصحاب الائمة ـ لا تكون إلاّ عن معرفة بوثاقة الرجل و جلالته و إطلاع منه عليه إذ المحدّث عن توقيع ورد إليه ـ مع ملاحظة ماللتوقيع من خصوصية ـ لا يكون إلاّ في أسمى مراتب الوثاقة، أو احطّ درجات الخباثة و الخيانة و احتمال الجهالة فيه منتف لأن التوقيع لم يكن يرد إلاّ على الخواصّ من الاصحاب، و لو فرض ادعاؤه من مجهول طولب بإراءته من قبل المحدّثين.
و حينئذ فمن غير المعقول للمحدث الكلينى (ره) أن يروي التوقيع عن إسحاق بن يعقوب مالم يكن موثوقاً لديه فإن روايته عن كذّاب أو مجهول دون التأكّد من صحّة ادعائه بعيد غايته عن مثل الكليني.
ولنا على ما ذكره السيد الحائري ملاحظات:
الاولى: إننا بحثنا في كتب الحديث و منها الكافي فوجدنا عدداً كبيراً من الروايات المتضّمنة لتواقيع وردت على بعض الاشخاص. و لا حظنا أن اكثر من روي عنهم ورود التوقيع عليهم من المجاهيل، و كثير ممن رواها أجلّة معروفون، فلو فرض وجود التزام من الرواة الاجلاّء بعدم الرواية عمّن أخبر بورود التوقيع عليه إلاّ إذا كان ثقة لزم ـ مضافاً إلى بُعد الالتزام بتوثيقهم حتى من قبل صاحب المبنى نفسه ـ بُعد كونهم ثقاة في أنفسهم مع عدم ورود توثيقهم في كتب الرجال.
الثانية: إن ما ذكر من وجود خصوصية للتواقيع تميّزها عن سائر الروايات لم يثبت لأن كثرة ورود الروايات المتضمنة لورود تواقيع على بعض من عاصر الائمة في كتب الحديث، و بلوغها هذا الكمّ الهائل مع اتّصاف اكثر رواتها بالجهالة ينفي وجود الخصوصية المذكورة، فالظاهر على هذا أن الرواة كانوا يتعاملون مع التوقيع كالرواية بلا فرق بينهما.
الثالثة: إن جملة من التواقيع المذكورة سيقت لغرض خاص كبيان وجود بعض الائمة ممن شك في تولّدهم أو اثبات الامامة لهم عن طريق نقل الكرامات التي اظهروها. و هذا المقدار يفي بإثباته تحقق التواتر الاجمالي الذي لايعنى فيه بصحة سند الروايات المساقة لعموم تعلق الغرض باثبات كل واقعة بخصوصها كي يتوقف في اسناد أدلتها.
ولهذا السبب نجد اكثر هذه التواقيع مروية في الكتب المؤلّفة لمحاججة الخصم في الامامة كتاب الغيبة للطوسي و الاحتجاج للطبرسي و إكمال الدين للصدوق و دلائل الامامة للطبري و كشف الغمة للأربلي و غيرها.
و عليه فلا ينبغي التعويل كثيراً على مثل هذه الروايات خصوصاً التوقيع المبحوث عنه باعتباره لم يرد في الكافي و إنما هو نقل نقله الشيخ و الصدوق عنه في كتبيهما المتقدمة غير المعدّة للفتوى الكاشف عن عدم الاعتماد عندهم عليه.
الرابعة: إن ما ادّعي من عدم ورود التواقيع الشريفة إلاّ على الخواص من ثقاة أصحاب الأئمة غير تامّ إذا لاحظنا وجود بعض الروايات الصحيحة التي جعلت الجواب على الكتاب واجباً كوجوب رد السلام.
ففي الكافي عن عدة من الاصحاب عز أحمدبن محمد و سهل بن زياد جميعاً عن ابن محبوب عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه اسلام قال: ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام و البادي بالسلام اولى بالله و رسوله» (الكافي 2:688)
و الرواية مطلقة شاملة لعصر الغيبة الصغرى و غيرها و للخواصّ و الثقاة و غيرهم. و زمان الغيبة الكبرى خارج تخصّصاً من جهة عدم وصول الكتاب الى المكاتب كي يجب الجواب.
و مع وجود مثل هذه الرواية لامجال للقول بأن التواقيع الشريفة لم تكن ترد إلاّ على خواصّ الثقات إذ بموجبها يجب على إلامام (ع) الردّ على كل كتاب يرفع اِليه، و لو فرضنا عدم التزام الفقهاء بمثل هذا الوجوب فلاأقل من ان ردّ جواب الكتب هو مقتضى الخلق الاسلامى الرفيع الذى لاريب يتحلى الائمة (عليهم السلام) به نعم ربما منعت من ذلك ظروف التقية لكن لامع غيبة الامام (عليه السلام) فإنه لاخوف عليه حينئذ.
و على كل فالظاهر أن المبنى المذكور غير تام و معه يسقط التوقيع عن الحجية.
لكن الشهيد الصدر (قدس سره) يرى صحة التوقيع المذكور و اعتباره ولعله لما ذكره السيد الحائري اولغيره لكنه يراه. أن الحجية التي أثبتها الامام (ع) للفقهاء ثابتة لهم بماهم علماء بالدين وحملة للشريعة فتكون الحجية الثابتة لهم مقيّدة بما لو كان تدخلهم و نظرهم منبعثاً عن هذه الصفة لا مطلقاً.
إلاّ أن نصب الامام (ع) رواة الحديث حجة من قبله على الناس هل يلزم منه توليتهم منصب الشهادة و الإشراف و الرقابة على حركة الامة و تطبيقها الاحكام الشرعية في الجانب التنفيذي و ملء منطقه الفراغ بقوانين تناسب مقتضيات العصر و الزمان في الجانب التشريعي كما ذهب إليه الشهيد الصدر (رض) أم توليتهم المنصب المذكور مع جعل ملء منطقة الفراغ بيد الفقيه الشهيد المنصوب من قبل الامام(ع) أم يقتضي فوق ذلك بحيث يكون الفقيه منصوباً من قبل الامام(ع) في كل ما يرتبط بالجماعة البشرية من امور؟
الحق أن ما ذهب إليه الشهيد الصدر (رض) ينسجم مع مبناه في الجملة لأن مقتضى ايات الاستخلاف للانسان و توريث الارض للعباد الصالحين بنظره ثبوت حق التصرف اعني السلطة التنفيذية لهم من الله سبحانه كما أن مقتضى آية الشورى و غيرها إناطة ما يتعلق بهم من امور لهم.
و أمّا ملء منطقة الفراغ فتارة تكون فيما توجد في حوزته عناصر ثابتة مستنبطة من الكتاب و السنة كالسياسة الخارجية و السياسة الاقتصادية العامة و اخرى فيما لا توجد كقوانين المرور و الاحوال المدنية و غيرها.
فالقسم الثاني مما لاإشكال في دخوله تحت عنوان «وامرهم شورى بينهم» و خروجه عن صلاحيات الفقيه بالكامل.
و اما القسم الاوّل فقد يقال بدخوله ضمن صلاحيات الولي باعتباره المطلع على العناصر الثابته يه الشريعة فوضع العناصر المتحركة ضمنها ميسور له دون غيره.
لكن هذا غير صحيح فإن ترك هذه المنطقة فراغاً من قبل الشارع إنما هو مراعاة لمقتضيات الزمان و طبيعة العصر مما هو مناط تشخيص العرف. و من هنافإن هذا القسم من التشريع ينطوى على جانبين جانب الثبات الذي يرتبط بالشارع المقدس و جانب الحركية الذي لوحظ فيه مراعاته لمتطلبات العصر و يرتبط بالناس و عليه فمانراه أن الفقيه عليه أن يرسم و يحدد العناصر الثابتة المذكورة ليتم سن القوانين و التشريعات في إطارها ثم عرضها عليه مرة اخرى لملاحظة مدى تطابقها مع العناصر الثابتة المحدّدة أوّلا و هذا المعنى قد حقّقه سماحة ولي أمرِ المسلمين آية الله الخامنئي (دام ظله) بعد التعديل الذي أدخله على مجلس تشخيص مصلحة النظام.
لكن الشهيد الصدر (قدس سره) يرى كفاية أن تقوم الامة بملء منطقه الفراغ بالقوانين المناسبة ضمن إطار مجلس الشورى و مجلس الحل و العقد بتعبير السيد الشهيد (رض) حتى في هذا القسم، و لعلّه ملاحظة لجانب الحركية من هذا القسم، ثم تعرض على الولي الفقيه فإن وجدها ضمن إطار العناصر الثابتة للشريعة الاسلامية اقرها وإلاّ أعادها لتعاد صياغتها من جديد.
و مهما يكن فالصورتان لا تعارض بينهما لأن المهم تحقيق وقوع العناصر المتحركة ضمن العناصر الثابتة للشريعة مع إناطة جانب الحركية بالامة أومن يمثلها سواء كان بتحديد العناصر الثابتة من قبل الفقيه قبل تشريعها من قبل مجلس الشورى ثم إقرارها او بملاحظة وقوعها كذلك بعد التشريع و امضائها.
و كيفما كان فالشهيد الصدر(قدرس سره) إن كان قائلا بالولاية و النيابة فإنما يقول بها فيما يخصّ الشريعة و الحفاظ عليها وجعل الامام (ع) له حجة يأتي في هذا السياق. و هو ما يستلزم أن يكون لرأيه حكومة على سائر القوانين و التشريعات والتطبيقات الجارية في البلاد لوضوح أن مادلّ على منح الامة حق الخلافة و التشريع ضمن مبدأ الشورى غير مطلق لتقيد الخلافة بعدم مخالفتها لأوامر المستخلف و اغراضه، و الشورى بكونها في الامور الراجعة لهم المستفاد من قوله «و أمرهم» لا ما كان أمراً راجعاً لله سبحانه.
وتوهم أن عدم ممارسة الفقهاء التشريع أصلا و لو في ملء منطقة الفراغ يؤدى إلى انكار ولاية الفقيه رأساً غير صحيح لوضوح أن السيد الصدر (قدس سره) يثبت الإشراف و حق التدخل الفقيه وهو ما يحتاج الى نصب من الامام(ع) أيضاً.
و نصب الامام (ع) الفقيه كحامل للشريعة يتطلب وقوع الفقيه في موقع أعلى السلطات و تمتعه بحق الإشراف و الرقابة على السلطتين التنفيذية و التشريعية و التدخل حيث يتطلّب المقام ذلك.
و بذلك يثبت وفاء التوقيع المذكور بكلا المنصبين الاوّلين للفقيه.
و أمّا المنصب الثالث و هو تولّي الفقيه نيابة عن الامة جميع الامور الثابتة لها زمان تحرّرها فلعله لأدلة الامور الحسبيةِ التي يشكل الفقيه القدر المتقين ممن له التصدي لها.
لكنا نرى بمقتضى الارتكاز المتشرّعي و بمعونة روايات مثل “الفقهاء امناء الرسل” و «الفقهاء حصون الاسلام» و غيرها أن الفقيه لايتمتع بمجرد الإشراف و الرقابة على سير الامة لئلا تخرج عن الخط الذي رسمته الشريعة لها، بل يتمتع مضافاً إلى ذلك بمنصب المحافظ الامين على الاسلام و الشريعة الذي يستشرف المستقبل و يحدد الاهداف و المقاصد بل و الوسائل أيضاً في حركة الامة و مسيرتها عبر التاريخ.
و من هنا فنحن نرى أن مارسمه السيد ولي امر المسلمين من توسعة صلاحيات مجلس تشخيص مصلحة النظام ليشمل رسمه السياسة العامة للبلاد تدخل ضمن ما قرره الشارع من وظائف و اختيارات للفقيه.
و بنفس الملاك نرى ثبوت الولاية للفقيه في زمان قصور يد الامة عن ممارسة حقّها في الحكم فإنه أيضاً مسؤول عن تولّي كل الامور الكفيلة بإيصال الامة الاسلامية المعتقدة بالإسلام الى مرحلة استلام السلطة من دون حاجة إلى الاستدلال بالامور الحسبية.
و هكذا نثبت بالارتكاز المتشرعي الولاية للفقيه بمعنى أنه الامين الحفيظ على الاسلام معزّزاً ذلك بسيرة فقهائنا الاعلام خلال المدّة الماضية منذ زمان الغيبه و إلى وقتنا الحاضر حيث كانوا هم المدافعين عن حياض الاسلام و بيضته والذابين عن حماه، و المتحملين اعباءه و مخاطره و الممارسين لجميع التصرفات المتوقف عليها ذلك.
هذا و للبحث في نظام الحكم برأي الشهيد الصدر (رض) تتمة آثرنا الوقوف فيما يرتبط بالمؤتمر عند هذا الحد سائلين المولى الرحيم أن يوفق الاسلام و المسلمين لكل سبيل الخير و الصلاح إنه نعم الموفق و الحمد لله رب العالمين.
قاسم الابراهيمى
قم المقدسة
26 ربيع الاول 1419
عضو هيئة تحرير مجلة فقه اهل
البيت(ع) و شورى تحقيقات مؤسسة
دائرة معارف الفقه الاسلامية
طبقاً لمذهب اهل البيت(ع)