الخصائص والسِمات العلمية والثقافية لمدرسة الشهيد الصدر (قده):
1ـ الأصالة
2ـ الموضوعية (الحيادية)
3ـ السعة والشمول
4ـ التنظير (فقه النظرية)
5ـ المنهجية
6ـ العصرنة
7ـ الواقعية
8 ـ القيمة الحضارية
9ـ الأبداع والتجديد
10ـ الروح الأجتماعية
11ـ العالمية
12ـ النزعة المنطقية والوجدانية
13ـ الذوق الفني والأحساس العقلائي
14ـ الدقة والعمق والتحقيق
15ـ الأخلاقية
16ـ الهدفية
17ـ الوضوح
18ـ الشجاعة الأدبية
يعتبر فقيدنا الشهيد الصدر (قده) بحق صاحب مدرسة علمية لها معالمها وسماتها الخاصة بها، ونحن فيما يأتي نستعرض أبرز هذه السِمات كما وردت في كتاباته وكما تحدث عنها أصحاب الخبرة والاختصاص من المفكرين والعلماء:
1ـ الأصالة: يُقال فكر إسلامي أصيل، وثقافة إسلامية أصيلة، أي لهما أصول إسلامية يقومان عليها ويستمدان منها وجودهما، فلا هجانة فيهما ولم يخلطها فكر غريب عن الأصول والمنابع[1]، وعلى هذا فنحن نقصد بالأصالة في أفكار الشهيد الصدر (قده) النقاء وعدم التبعية والتأثر بالأفكار الجاهلية، إنها أفكار نابعة من الاسلام ومصادره الصافية المتمثلة بالقرآن والسنة الشريفة.
إن الأصالة الفكرية المطلوب توفرها تتحدد في ثلاث مراتب هي:
1ـ مرتبة التمييز: بين ما هو إسلامي، وما هو غير إسلامي، وما هو صحيح وما هو غير صحيح.
2ـ مرتبة النقد والمحاكمة: للأفكار والمفاهيم والنظريات الغريبة على روح الاسلام وأسسه الفكرية.
3ـ مرتبة الاستنباط وتأسيس النظرية: تأسيس الفكر والنظرية واستنباطها من أصولها الاسلامية.[2]
ونحن عندما ندرس فكر الشهيد الصدر(قده) ـ أنظر إقتصادنا، فلسفتنا، الأسس المنطقية للاستقراء ـ نجد أن هذه المراتب تواكبنا في كتاباته، سواء مع الدائرة غير الاسلامية والفلسفات، المذاهب، النظريات، ـ الخ»، أو ضمن الدائرة الاسلامية «الفرق، المذاهب، النظريات ـ الخ» نجده يحلل ويناقش مختلف الأفكار والنظريات تارة، وأخرى يقدم الدليل تلو الدليل على صحة الفكرة أو على بطلانها…، وثالثة يقدم لنا البديل الاسلامي على مستوى نظرية أو مفهوم أو مذهب أو ماشابه ذلك… فقد سئل الشهيد (قده) عن البواعث التي دعته لتأليف كتاب الأسس المنطقية للاستقراء فأجاب (إن مرحلة الاستيراد في العالم الاسلامي من الغرب يجب أن تنتهي، وعلينا أن نصدر إبداعنا الى الغرب)[3]
(لقد أسهم العطاء الفكري للشهيد الصدر (قده) في التبشير بخط جديد من الوعي بالاسلام ومناهج التفكير الاسلامي، واكتشاف تهافت المرتكزات المادية للفكر الغربي الحديث، وتفنيد التصور الذي قدّمه هذا الفكر عن الكون والانسان والتأريخ، وتحديد الحدود الدقيقة لمساحته التي يمكن أن يقول فيها كلمته، ونقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الأوربية الحديثة، وانهاء هذه الأسطورة في المادية الديالكتيكية، باعتبارها الفلسفة الوحيدة ذات الرؤية العلمية)[4]
2ـ الموضوعية «الحيادية»: ونعني بها التعامل مع الموضوعات والقضايا الفكرية بامانة وصدق بعيداً عن التعصب أو العوامل الذاتية «فعندما يطرح مسألة علمية للبحث والنقاش يتخذ مسبقاً موقفاً محايداً، ثم يبحث بروح الحياد المطلق، حتى ينتهي الى نتيجة موضوعية ليس فيها شائبة الانحياز الذاتي إلى إتجاه خاص، بل كان ينتهي أحياناً في بعض المسائل العلمية الى خلاف ما كان يميل إليه في تلك المسألة قبل البحث والنقاش، كما حصل ذلك في بحث (الحسن والقبح العقليين)، حيث كان يميل أولاً إلى إنكار الحسن والقبح بحسب إدراك العقل المجرد عن العادات العقلائية، ثم إنتهى إلى قبول ذلك ضمن البحث العلمي المفصل الذي طرحه في علم الأصول)[5]
لقد كان الشهيد الصدر (قده) حيال النظريات والمذاهب والأفكار التي يطرحها الخصوم لايصدر أحكامه إلا بعد الدراسة والمناقشة لها، وإلا بعد التثبت من صحة صدورها عن أصحابها ثم يختار أوفق المعاني التي يريدها أصحابها، فقد كتب د.شرارة حول هذا الموضوع قائلاً. (ان الذي يرجع إلى ما كتبه الشهيد الصدر (قده) يجد إلتزاماً صارماً بالموضوعية، وأمانة قل مثيلهما، وإحالة صحيحة إلى المصادر والمظان المعتمدة، ودقة متناهية في عرض الرأي بأشد ما يحرص عليه الآخر. ولقد أتيح لي من خلال تحقيق بعض دراساته في هذا المجال أن أتحقق من ذلك بنفسي، فما وجدتُ قولاً ولا رأياً ينسبه الى مذهب أو إلى أحد إلا وعثرتُ عليه بنصه وفي الأصول المعتمدة والمعتبرة لديهم»[6]
وفي هذا الصدد كتب السيد محمد الحسيني قائلاً «وتتميز دراسات الشهيد الصدر (قده) بالموضوعية والحياد النفسي تجاه خصومه، فهو لايستبق النتائج ويحكم على مذهب خصمه بالفشل قبل مناقشته والبرهنة على ذلك، ولذلك يقول في مناقشته للمادية: «والمادية التاريخية إذا أدت إمتحانها العلمي ونجحت فيه كانت هي المرجع الأعلى في تحديد المذهب الأقتصادي والنظام الاجتماعي لكل مرحلة تأريخية من حياة الانسان وأصبح من الضروري أن يدرس كل مذهب إقتصادي واجتماعي من خلال قوانينها وفي ضوئها، وأما إذا فشلت القوانين الصارمة الأبدية للمجتمعات البشرية فمن الطبيعي عندئذ أن تنهار الماركسية المذهبية المرتكزة عليها ويصبح من الممكن عملياً عند ذاك أن يتبنى الشخص المذهب الذي لاتقره قوانين المادية التأريخية كالمذهب الاسلامي ويدعو إليه بل وان يزعم له من العموم وقدرة الاستيعاب ما لايتفق مع منطق الماركسية في التاريخ، ولهذا نجد لزاماً على باحث مذهبي في الاقتصاد أن يلقي نظرة شاملة على المادية التاريخية لكي يُبرر وجهة نظره المذهبية ويستطيع أن يحكم على الماركسية المذهبية حكماً أساسياً شاملاً».
فالسيد الشهيد (قده) يسمح لمذاهب خصومه أن تدافع عن نفسها فإذا عجزت عن ذلك حكم عليها بالفشل، ولكن لايقفز إلى إصدار هذا الحكم قبل سماع الدفاع».[7]
3ـ السعة والشمول: «كان الشهيد الصدر (قده) واسع الأفق في المجالات العلمية التي بحث فيها، وقد ظهرت هذه السِمة العلمية حتى في أحاديثه الأعتيادية…» مستوعباً لكل الاحتمالات والشقوق حتى يخيل لمن يستمع إليه أنه أمام تحليل نظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مبرراتها وأدلتها المنطقية.
إن ظاهرة السعة والشمول في فكر الشهيد الصدر (قده) إتخذت عدة أنحاء نذكرها كالآتي:
أولاً: من ناحية خوضه الواسع في شتى العلوم والمعارف الاسلامية، كعلم (الفقه) و(الأصول) و(العقائد) و(الفلسفة) و(الاقتصاد) و(التفسير) و(المنطق) و(التاريخ) وغير ذلك من المجالات العلمية التي لها صلة من قريب أو بعيد بالمعارف الاسلامية.
حيث أنه خاض جميع هذه المجالات خوض الانسان المتبحر، ولم يكتف بمجال عِلمي (الفقه) و(الأصول) الذي هو مجال تخصصه من حيث الأساس، حتى أن مَن يتابعه في أيّ مجال من المجالات العلمية المذكورة يجده متخصصاً بارعاً واسع النطاق في ذلك.
ثانياً: من ناحية توسعة البحث والتحليل العلمي في كل مسألة خاصة من المسائل العلمية في أيّ مجال كان، فعندما يتعرض لمسألة علمية معينة لايدع فيها البحث والتحليل إلا بعد إستيعاب جميع شقوقها وتفريعاتها وأبعادها المختلفة، بحيث لاتظل فيها ثغرة إلا ويملؤها بالبحث والنقاش العلمي الرصين.»[8]
4ـ التنظير (فقه النظرية): «إتسمت أعمال الشهيد الصدر (قده) بأنها تعبير عن محاولات منهجية جادة، لتأصيل نظرية إسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية التي إهتم بالكتابة فيها.
ولو حاولنا أن نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه، للاحظنا بوضوح أنها تنتظم في مشروع واحد، وهو محاولة تحديد اطار نظري في بحث ودراسة الفكر الاسلامي، وتحديد منهج آخر في البحث يتواءم مع متطلبات الحياة المعاصرة.
وبكلمة أخرى أن الهم الأساسي الذي يضطلع به مشروع الشهيد الصدر (قده)، هو الحرص على إكتشاف نظريات الاسلام في التاريخ، والأقتصاد والسياسة والمجتمع…
الخ فهو مكتشف كبير دأب على الأخذ بمنهج التفكير الاسلامي نحو آفاق جديدة لم يعهدها هذا التفكير من قبل، إلا بصورة محدودة في أعمال بعض المفكرين المسلمين ممن سبقوه، فما كان هذا التفكير يتحرك في دائرة المنهج المتوارث في معاينة مشكلات الحياة، والتعرف على مواقف الشريعة منها، ولذلك ظلّ يكرر الاجابات ذاتها على هذه المشكلات، من دون أن يتمكن من إكتشاف فضاءات أخرى يغور من خلالها في واقع الحياة، ويستنطق القرآن والسنة الشريفة، لكي يقول الاسلام كلمته المطلوبة إزاء تلك الوقائع.[9]
«إذن لابُدّ من التركيب بين الأحكام للخروج بصيغة عامة تترابط عبرها أحكام التشريع، والنظرية ليست شيئاً آخر سوى هذه الصيغة والاطار الشامل الذي ينبغي إكتشافه، والسؤال الذي طرحه الشهيد الصدر (قده) هنا هو: كيف يتم صياغة هذه النظرية وما هي المقاييس التي ينبغي إعتمادها في عملية الاكتشاف هذه؟
وكانت إجابته لابُد من عمل فقهي فكري إجتهادي، يتم في ضوئه الاكتشاف على أساس مقاييس ومعايير. وقد بذل السيد الصدر (قده) جهداً جديراً بالأكبار في سبيل تحديد آلية هذا العمل الفقهي، والكشف عن أصوله…، فالصدر http://mbsadr.ir/biography/قده) هو صاحب هذا المصطلح، حيث إستخدمه في نص، وجدتُ من الملائم أن أنقله هُنا»[10] «أما حين يريد هذا الفقيه أن يتخطى فقه الأحكام إلى فقه النظريات، ويمارس عملية إكتشاف المذهب الاقتصادي في الاسلام، فإن طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها، وتحتم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام، فإن إستطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمه إجتهاده الشخصي من أحكام، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للأقتصاد الاسلامي، دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة، فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً، يستنبط الأحكام، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريات، وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة، ولم يسعفه إجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة، فإن هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية، ولا على إيمانه، بأن واقع التشريع الاسلامي يمكن أن يفسر تفسيراً نظرياً متسقاً شاملاً.»[11]
5ـ المنهجية: والمنهجية مأخوذة من المنهج الذي هو مجموعة من القواعد العامة يعتمدها الباحث في تنظيم ما لديه من أفكار أو معلومات من أجل أن توصله الى النتيجة المطلوبة».[12]
ولتوضيح سمة المنهجية في فكر الشهيد الصدر (قده) نستمع إلى ما كتبه تلميذه آية الله السيد محمود الهاشمي بهذا الصدد:
(ومن معالِم فكر سيدنا الشهيد منهجيته الفنية الفريدة، والمتماسكة لكلِ بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح، ومن هنا نجد أن طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث.
فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين، خصوصاً في المسائل المعقدة، التي تعسرُ على الفهم ويكثر فيها الألتباس والخلط، ويوضح الفكرة وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لايجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين.
كما كان يُميز بدقة طريقة الاستدلال في كل موضوع، وهل أنها لابدَّ وأن تعتمد على البرهان أو أنها مسألة إستقرائية ووجدانية؟[13]
ويقول السيد ابراهيم الموسوي (لقد قدّم الأمام الصدر (قده) عطاءً علمياً أصيلاً ورصيناً ومركزاً وشاملاً في آن واحد، وابتكر منهجاً جديداً وأعطى البحوث الاسلامية طابعاً علمياً، ودشن أسلوباً في البحث لم يسبقه إليه أحد، وهذه الأمور لاتتأتى إن لم يكن هناك إطار فكري، إذ لا تتحقق هذه الصفات إن لم يكن هناك منهج علمي خاص يمكن مقارنته بأحدث الأساليب العلمية المعاصرة.
ولم يقتصر الأمام الصدر (قده) على منهج واحد في عرض أفكاره وأطروحاته، بل استخدم عدة مناهج للوصول الى الحقيقة حسب المداخل المعرفية التي طرقها، وحسب المواد العلمية التي عالجها، فقد استخدم المنهج النقلي في دراسة النصوص الشرعية وطعمّه بالأفكار العلمية الحديثة…
كما استخدم المنهج العقلي في دراسة الأفكار والمباديء الفلسفية…، إن المنهج الذي إعتمده السيد الصدر (قده) في أطروحاته الفكرية هو المنهج التجريبي وهو طريقة دراسة الظواهر سواء في العلوم الطبيعية أو العلوم الأنسانية ويعتبر المنهج التجريبي، المنهج العلمي الحديث، وأهم ما تمخضت عنه النهضة العلمية الحديثة في أوربا من معطيات فكرية.[14]
ويقول الأستاذ عبدالجبار الرفاعي «… بينما تغلب الشهيد الصدر(قده) على هذه المشكلة المنهجية في ضوء الاتجاه المنهجي العام، الذي ترسم خطاه في تمام أعماله، والذي يهدف الى تجاوز أسلوب الدراسات التجزيئية في الفكر الاسلامي، وتبني أسلوب النظرة الكلية الموضوعية، وما تنتهي إليه هذه النظرة من تأصيل الموقف النظري العام للاسلام من شؤون الحياة الاجتماعية المختلفة.[15]
6ـ العصرنة: ونعني بها مراعاة موضوعات العصر الساخنة، وإدخال أدوات العصر العلمية المناسبة في صياغة تلكم الموضوعات، وفي هذا المجال يقول الأستاذ عبدالجبار الرفاعي «… إستطاع الشهيد الصدر (قده) أن يتجاوز الاهتمامات التقليدية والمشاغل المعروفة بين الاسلاميين الى الاهتمام بالاشكاليات الراهنة التي تواجه الاسلام والمجتمعات الأسلامية، فشمر ساعدهُ لمنازلتها، من خلال مشروع معرفي متكامل، بدأ بقراءة المذاهب والمناهج الغربية الوافدة، وتحليلها وتفكيكها ونقضها، وبالتالي ردّ الغرب الى حدوده الطبيعية التي وُلد فيها، وبيان أن منظومة معارفه هي نتاج بيئته وتاريخه الخاص، بما يكتنف هذا التأريخ من منعطفات، وما يتحكم به من مسار خاص، إنحرف عن هدي السماء وارتكس في أوحال المادية، ودراسة فكره على أنه جزء منه، وانه محكوم بتأريخه هذا وليس خارج التاريخ، ومن ثمّ إعادة الأعتبار (للأنا) والقضاء على عقدة النقص وروح الأنبهار التي وقع في أسرها بعض رواد الأصلاح في القرن التاسع عشر في العالم الاسلامي، حين إلتقوا المدنية الغربية أول وهلة، فأضحوا غير قادرين على إكتشاف الأنا (الذات) إلا من خلال مرآة الآخر.
وانتهى الشهيد الصدر(قده) إلى إعادة تشييد الأسس والمقومات الأساسية لفلسفة إسلامية معاصرة، تجد فيها الأنا صورتها الحقيقية، بعد أن تعرضت هذه الصورة للمسخ والتشويه بفعل ما كان يحدده الباحثون الغربيون من أبعاد مُزيفة لهذه الصورة… لقد أسهم العطاء الفكري للشهيد الصدر (قده) في التبشير بخط جديد من الوعي بالاسلام ومناهج التفكير الاسلامي، واكتشاف تهافت المرتكزات المادية للفكر الغربي الحديث، وتفنيد التصور الذي قدّمه هذا الفكر عن الكون والأنسان والتأريخ، وتحديد الحدود الدقيقة لمساحته التي يمكن أن يقول فيها كلمته، ونقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الأوروبية الحديثة، وانهاء هذه الأسطورة في المادية الديالكتيكية بإعتبارها الفلسفة الوحيدة ذات الرؤية العلمية.»[16]
ويقول الدكتور عبدالجبار شرارة في حديثه عن توظيف الشهيد الصدر (قده) لمعلومات عصره:
(الافادة من المعطيات والانجازات العلمية وتوظيفها بطريقة صحيحة وحذرة لخدمة الأطروحة الاسلامية، والأمام الصدر (قده) هنا لم ينبهر بمطلق المعطيات لحركة النهضة العلمية، وبما جاءت به من نظريات بعضها لم يدم طويلاً، حتى سقط أمام حركة التقدم العلمي المضطرد…
لقد كان الشهيد الصدر(قده) يتعامل بحذر بالغ مع النظريات العلمية وانجازات الحضارة والعلم فلا يستأنس إلا بما تحول الى يقين علمي أو ما يشبه اليقين.[17]
7ـ الواقعية: ومعناها، الاهتمام بما هو عملي وميداني، وترك ما هو خيالي وقليل الجدوى، «… وهكذا تحرر الوعي في خطاب الشهيد الصدر(قده)، وتخلص من الاستغراق الخيالي في مفاهيم تجريدية ظل الخطاب الاسلامي في أسرها فترات طويلة يجري ويعوم في حالة ذهنية غير واقعية. ويراوح في متاهات نظرية لاتتصل بالحياة الاجتماعية واشكالياتها بشكل مباشر. وانما تغوص في وقائع السماء وأحوال عوالمها وأحوال عوالم أخرى مفترضة من قبيل عوالم العقول والمثال، فيما تُغيّب وقائع الأرض وأحوال حياة الانسان فيها وما يكتنفها من تحديات وإرهاصات معرفية وعملية.
وان فكر الشهيد الصدر(قده) كان حواراً حافلاً مع الواقع، وتحليلاً دقيقاً لمشكلات الحياة، واستكشافاً رائداً للنظريات الاسلامية إزاء هذه المشكلات، من خلال إستنطاق القرآن الكريم والسنة الشريفة فيما يحمله لها من أسئلة الواقع، وما يطرح عليهما من مسائل الاجتماع البشري.[18]
ويقول الباحث السيد ابراهيم الموسوي «… ولغة الحوار التي واجه بها تلك النظريات كانت لغة علمية، إذ إبتعد عن العبارات الطنانة الفارغة من المعنى، وتحاشى التعميمات الجوفاء فكل كلمة لها مدلول علمي، ووضعت بإسلوب منطقي، كما أنه لم يفسر الواقع بالتفسيرات الغيبية البعيدة عن أذهان الأخرين، وقدّم حلولاً واقعية للمشاكل التي تعاني منها الانسانية، فلم يكن يخاطب الانسانية بلغة لم تفهمها وبأفكار لم تعرفها، بل تعمق في أبعاد المشكلة الاجتماعية وقدم حلولاً إنسانية للواقع الذي تعيشه المجتمعات. وبما أن العصر الذي نعيشه هو عصر العلم، فقد استخدم اللغة العلمية في طرح المشكلات، وتقديم الحلول المناسبة لها، كما أنه عرض الاسلام بطريقة مناسبة لروح العصر»[19]
فمثلاً (لقد عرض الشهيد الصدر(قده) النظرية الاقتصادية الاسلامية في كتابه (إقتصادنا) بشكل عملي وواقعي، معتمداً في عرضه ذلك على إستيعابه الرائع لمفاهيم وقيم ومباديء الرسالة الاسلامية)[20]
8 ـ القيمة الحضارية: كان الاسلام ولايزال حضارة أصيلة تتحدى مختلف الحضارات الوضعيه في كل زمان ومكان، وقد جسدّت مدرسة الشهيد الصدر(قده) الحضارة الاسلامية في مختلف الميادين، يقول سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي في هذا المجال:
«لقد كان سيدنا الشهيد الصدر(قده) تحدياً حضارياً معاصراً، وكانت من مميزات مدرسته أنها إستطاعت التصدي لنسف أسس الحضارة المادية لانسان العصر الحديث، وأن يقدّم الحضارة الاسلامية شامخة على أنقاض تلك الحضارة المنسوفة. وعلى أسس علمية قويمة وضمن بناء شامل ومتماسك ومتين، استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل الى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاض في غمار هذا المعترك ووفق لتفنيد كل مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة وأن يخرج من ذلك ظافراً مظفراً وبانياً لصرح المدرسة الاسلامية العتيدة والمستمدة من منابع الاسلام الأصيلة والمتصلة بوحي السماء ولطف الله بالأنسان)[21]
يقول محمدحسن الأمين «لذلك فإن منهج الشهيد الصدر(قده) للبديل الاسلامي لمشروع النهوض والتنمية إتسم بطابع السجال الشامل مع الفكر الغربي ومناهجه وأطره. ورأى أن الأمة لايمكن أن تنتزع إستقلالها الاقتصادي ونموذجها المستقل للتنمية وأن تنتصر في معركتها ضد التخلف والتخلف الاقتصادي إلا من خلال تعبئة فكرية وروحية ونفسية شاملة تستطيع من خلالها أن تواجه كل أشكال الضغط والمصادرة التي مارسها وسوف يمارسها الأقتصاد الرأسمالي الغربي ـ ضد أي محاولة لأنتاج تنمية إسلامية مزدهرة ومستقلة).[22]
9ـ الابداع والتجديد: من المعالِم البارزة في تحقيقات وبحوث الشهيد الصدر(قده) (الابداع) ونريدُ بالابداع:
1ـ عرض البحوث وصياغتها وطرحها بطريقة جديدة
2ـ خلق الموضوع وابتكاره وإيجاده وانشائه[23]
(تعدد إبداع الشهيد الصدر(قده) بعدد الحقول التي كتب فيها، ومع أن هذه الحقول إمتدت لتشمل غير واحد من المعارف الاسلامية، فإن إبداعه تجلى في سائر مؤلفاته، ففي كل واحد منها تلتقي بإبتكار يصلح أن يطور كمنهج للبحث في ذلك الموضوع، وان كنا لانزعم أنه جاء بجديد في تمام ما كتب، لأنه ليس هناك مبدع أو مفكر يبدأ في كل ميدان بداية جديدة، وانما المبدع هو الذي يستأنف المشوار الذي تراكمت في مساره جهود الاخرين، وهو عندما يواصل، فتارَةُ يقدم تفسيراً جديداً لبعض المفاهيم والمقولات الموروثة، واُخرى يعيد بناء وترميم بعضها الاخر، وثالثة يتوسل لبيانها وتحليلها ببراهين وأساليب مختلفة، ورابعة يلتقط لمعات واضاءات متناثرة، فينظمها ويؤلف منها منظومة واحدة متماسكة. وخامسة ربما يبتكر طريقة جديدة في التفكير يفضي عبرها إلى نتائج مغايرة لما ألفه السلف»[24]
و«التجديد عند السيد الشهيد(قده) بناء يرتكز على أربعة أركان، وتلك الأركان الأربعة هي: اللغة والاسلوب والمنهاج والفكر، لذا نجد السيد الشهيد(قده) قد إنفرد من بين علماء عصره بظاهرة مميزة تتمثل بأن التجديد لديه لم ينحصر في بُعد معين، بل استوعب جميع أبعاده وثبت جميع أركانه، فتراه مجدداً في اللغة (اللغة الحديثة المبسطة، لغة المثقفين، اللغة الدراسية، لغة التأليف) كما هو مجدد في المنهاج (التدرج في الكم، التدرج في الكيف، التدرج في العَرض) وتراه مجدداً في الاسلوب العلمي، الاسلوب الأدبي) بنفس الدرجة التي جدد بها في الفكر (كالتفسير الموضوعي) مثلاً»[25]
«… بين هؤلاء تميز مفهوم الشهيد الصدر(قده) للحداثة بالأصالة والشمول والهيكلية فهو ـ بالتأكيد ـ ليس نهجاً تحديثياً غريباً بل يتضمن نقداً شاملاً وجذرياً للحداثة الغربية في أسسها الفكرية والفلسفية وتجلياتها في السلوك والعقيدة… وهو ـ أي نهج الشهيد الصدر(قده) ـ ليس نهجاً متعلقاً بدليل أن بلورته جاءت ثمرة سجال عميق وشامل مع الحداثة الغربية من جهة، وجاءت متضمنة لكثير من تقنيات الحداثة الغربية، ولكن بعد نقد هذه التقنيات واخضاعها لمقتضيات العقيدة الاسلامية».[26]
ويقول آية الله السيد محمود الهاشمي «إن حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ترتكز على ظاهرة التجديد والابداع، التي تمتاز بها أفكار العلماء، والمحققين في كل حقل من حقول المعرفة، وقد كان سيدنا الشهيد الصدر(قده) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواء على صعيد المعطيات أو في الطريقة والاستنتاج، ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة انه إستطاع أن يفتح آفاقاً للمعرفة الأسلامية لم تكن مطروقة قبله، فكان هو رائدها الأول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها، وخطوطها العريضة، وستبقى المدرسة الاسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول، وخصوصاً في بحوث الاقتصاد الاسلامي ومنطق الاستقراء والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت»[27]
10ـ الروح الاجتماعية: «وتلمح هذا المنحى فى مؤلفات الشهيد الصدر(قده) الاولى، فقد أوضح أثر فاعلية الايمان بالله تعالى في الحياة في كتاب «فلسفتنا» عندما كشف عن الترابط الوثيق بين الفهم الفلسفي للعالم (الرؤية الكونية) والمسألة الاجتماعية، فالمسألة الاجتماعية مادامت تتصل بواقع الحياة فإنها: «لاتتبلور في شكل صحيح إلا إذا أُقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها… فالانسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة، عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه، قائمة على تنظيمه وتوجيهه، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لأنها أبصر بأمره وأعلم بواقعه، وأنزه قصداً واشدُ إعتدالاً منه… إذن فمسألة الأيمان بالله وانبثاق الحياة عنه، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتُفصل عن مجالات الحياة، ويشرع لها طرائقها ودساتيرها، مع إغفال تلك المسألة وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً»[28]
«إستطاع الشهيد الصدر(قده) أن ينتقل بالفقه من فقه الفرد الى فقه المجتمع والدولة. بعد أن حدد الاطار العام لكل واحد من هذين الاتجاهين في التفكير الفقهي، وحث على تنمية وترسيخ المنحى الموضوعي في الفقه، وأوضح أن إنكماش الفقه من الناحية الموضوعية نجم عنه «تسرب الفردية الى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها، فإن الفقيه بسبب ترسخ الجانب الفردي من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة في ذهنه، واعتياده أن ينظر الى الفرد ومشاكله، عكس موقفه هذا على نظرته الى الشريعة، فاتخذت طابعاً فردياً، وأصبح ينظر الى الشريعة في نطاق الفرد، وكأن الشريعة ذاتها كانت تحمل في حدود الهدف المنكمش الذي يعمل له الفقيه فحسب، وهو الجانب الفردي من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة»[29]
11ـ العالمية: ونعني بها صلاحية الفكر لملائمة الزمان والمكان والانسان وبإطراد; وليس بغريب أن نجد مدرسة الشهيد الصدر(قده) تتسم بهذه السِمة، ذلك لأن أفكاره هي أفكار الاسلام الأصيلة، والاسلام في صفائه خالدٌ متطور لأنه جاء مواكباً للفطرة الانسانية.
لقد كان السيد الصدر(قده) عالمياً في محاولة تغيير الأوضاع الاجتماعية، فلم يكن في أطروحاته الفكرية يخاطب المسلمين فقط، أو يوجه أفكاره الى فئة معينة وطبقة فكرية خاصة، إنما كان يوجه أحاديثه الممتعة الى الانسانية جمعاء، وامتدت الرقعة المكانية لتأثير الامام الصدر(قده) ومدرسته الفكرية لتشمل عموم البلدان العربية والاسلامية وكذلك البلاد الأجنبية التي اتصلت بالفكر الاسلامي سواء في الغرب أم في الشرق»[30]
12ـ النزعة المنطقية والوجدانية:
يقول السيد محمود الهاشمي:
«ومن معالم فكر سيدنا الشهيد(قده) نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح في الوقت الذي كانت تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الاقناع وتحصيل الاطمئنان النفسي بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أو كمصادرة، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حتى ما يتعسر صياغة برهان موضوعي عليه، كالبحوث اللغوية والعقلائية والعُرفية، وهذه السِمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة، يتعذر توجيه نقد إليها بسهولة، كما جعلتها أبلغ في الاقناع والقدرة على إفهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى. وجعلتها أيضاً قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناءً منطقياً وعلمياً، بعيداً عن مشاحنة النزاعات اللفظية أو التشويش والخبط واختلاط الفهم، الخط الذي تُمنى به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في اكثر الأحيان.
وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية، التي قد تتغير على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصاً في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي، التي تحتاج الى منهج خاص للاستدلال والاقناع. فكنتَ تجده دوماً ينتهي من البراهين الى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان، وكان يدرك المسألة أولاً بحسه الوجداني والذاتي ثم كان يصوغ في سبيل دعمها علمياً ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي. ومن هنا لايشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحس الوجداني للمسألة، الأمر الذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى»[31]
13ـ الذوق الفني والاحساس العقلائي:
يقول السيد محمود الهاشمي:
«الذوق حاسة ذاتية في الانسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها، والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الانسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف العقلائي، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية… وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لايمكن إخضاعها للبراهين المنطقية أو الرياضية أو التجريبية، وانما تحتاج الى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحس العرفي الأدبي. ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد(قده) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف، ونجد أنه كان يتناول المسائل في المجال الأول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والادراك العقلائي المستقيم حتى استطاع أن يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأن يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها، خصوصاً في البحوث الفقهية التي تعتمد على الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائية فأبدع نهجاً فقهياً موضوعياً في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية الى مُدعيات ونظريات يمكن تحصيل الاقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية.
وتحسن الاشارة الى أنه قلّما تجتمع البرهانية المنطقية في الاستدلال، مع الذوق الفني والحس العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة، فإننا نجد أن العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لايحسّون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية. ولايبنون معارفهم وأنظارهم إلا على أساس تلك المصطلحات البرهانية، التي إعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي. وكذلك العكس فالباحثون في علوم الأدب والقانون وما شاكل نجدهم لايجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد أن مدرسة سيدنا الشهيد قد إمتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلّما تجتمعان معاً، وتمكنت من التوفيق الدقيق فيما بينهما واستخدم كل منهما في مجاله المناسب والسليم، دون تخبط أو إقحام ما ليس منسجماً»[32]
14ـ الدقة والعمق والتحقيق:
(و قد بدت بوضوح ظاهرة الدقة والعمق في جميع أفكاره ومعطياته العلمية، وذلك بالرغم من صعوبة الجمع بين هاتين الظاهرتين، حيث أن الاهتمام بكل منهما يكون على حساب الاهتمام بالآخر عادة، فلم يخض مجالاً علمياً إلا وقد دفع بالمستوى العلمي في ذلك المجال الى مرحلة جديدة لم يتوصل إليها الآخرون، وذلك من خلال النظريات العلمية الجديدة التي توصل إليها، والبراهين العلمية المعقدة التي أقامها في هذا العلم)[33]
«والذي نقصده من الدقة والتحقيق، هو إستقصاء الفروض والاحتمالات المنطقية للمسألة موضوعة البحث ومناقشتها واستبعاد ما يفرض البحث العملي! استبعاده واستبقاء ما يفرض استبفاءه، ثم إسناده بالدليل المنطقي إستناداً موجباً للاطمئنان. ومما يتميز به شهيدنا الصدر(قده) في مجال الدقة والتحقيق من غيره من المحققين أنه لم تنحصر ملكة التحقيق لديه في باب خاص من أبواب هذا العلم، أو نوع خاص من أبحاثه، فكل بحث طرقه من أبحاث هذا العلم سواءً البحوث اللفظية أو الشرعية النقلية أو العقلية أجال فيه ذهنيته التحقيقية الثاقبة حتى استوعبه تنقيحاً وأسبغه تحقيقاً».[34]
15ـ الأخلاقية: ونعني بها إحترام آراء الآخرين في المطارحات العلمية وعدم التوهين أو إطلاق الكلمات المشينة عليهم، وكذا عدم الشعور بالتفوق والتعالي مهما كان المستوى العلمي للعالِم… فقد كتب السيد محمد الحسيني في هذه الصفة قائلاً:
«ومن أبرز ملامح شخصيته إحترامه لآراء الآخرين وعدم الاستهانة بهم والسخرية بما يتوصلون إليه من نتائج حتى لو كانت تلك النتائج خاطئة بدرجة عالية من الوضوح، وهذا ما ينفرد به الصدر(قده)، فقد تعارف لدى أكثر علمائنا الأعلام ـ مع ما هم عليه من خُلق رفيع ـ أنهم يوصمون أفكار مخالفيهم بالجهل وعدم الوضوح فإذا إختلف عالم مع نظير له فإنه يوصم فكرته وما توصل إليه بالسخف أو أنه مما يضحك الثكلن، ومن الطريف جداً أن أحد اكبر علماء الأصول يُعلق على أفكار نظيره الذي عاصره فيقول بعد نقل آرائه: هذا ما يُنسب الى بعض مَن يدعي العلم!
أما شهيدنا الصدر(قده)، فلا يعمد الى مصادرة آراء الغير ولايثير عليها بمثل ذلك بل يثني على العلماء وان كان يرى خطأ آرائهم ويشيد بجهودهم، ومن أروع مصاديق احترامه هذا ما كتبه في مقدمة كتابه (غاية الفكر في الأصول) الذي كتبه وهو في عنفوان الشباب، وقد خالف فيه المشهور من كلمات العلماء، كتب يقول:
(… ولئن كان أكثر مطالب هذا الكتاب مخالفاً لما هو المسموع من الكلمات فليس ذلك لأني قد إهتديت الى ما لايصل إليه الأساتذة والأكابر، وهيهات لذهني القاصر أن يرتفع الى ذلك وانما هو لأني لم أوفق للعروج الى آفاق تفكيرهم ومجاراتهم في انظارهم الدقيقة، وكل رجائي من المولى سبحانه أنْ يشملني بعنايته ولطفه ويوفقني لاقتفاء أثرهم ويعدني للتشرف بإتباع خطواتهم المباركة)[35]
16ـ الهدفية: بمعنى تحديد الأهداف من خلال كلماته ومؤلفاته، فلم تكن أفكاره للترف الفكري فحسب ولا لأعراض آنية، وانما كانت تتحرك بإتجاه إعداد الانسان الخليفة في الأرض ليقوم بدوري الخلافة والشهادة من خلال الانشداد بالمطلق وهو الله تعالى شأنه.
(في كل الكتابات والنشاطات التي قام بها شهيدنا العزيز خلال حياته الكفاحية المبدعة، كانت ترتسم أمامه الأهداف الكبيرة الثابتة والمقدسة لمسيرة الأنسان في الوجود، والغايات التي خلقها الله لأجلها، وأراده أن يكدح سعياً باتجاهها…، فالأنسان كائن مستخلف في الأرض، تحمل ثقل الأمانة الربانية، وهو ممتحن ازاءها بإخلاص وايمان، وهو متضامن مع الجماعة البشرية في نتائج هذا الكدح على طريق رضا الله تعالى، لذلك فهو يرمي إلى تغيير قيم الفرد والجماعة بشكل يتفق والهدف من عملية الاستخلاف الرباني للجماعة البشرية، إذ أن وعي ظاهرة الاستخلاف على حقيقتها المطلوبة يعني القضاء على كل العوائق المصطنعة والقيود التي تجمد الطاقات البشرية وتشلها وتعمل على هدر إمكانات الأنسان ومواهبه التي جاء الله بها لتصبح فرص النمو متوفرة توفراً حقيقياً. فالأساس من الحركة الاجتماعية للمجتمع والنمو الفردي للشخصية المسلمة عنده أن يحققا الأهداف الربانية الكبيرة «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله» النساء/135.
إذ أن الرسالة الاسلامية عنده لم تعد مجرد نظرية تصلح للتباحث على أساسها في المدارس الاسلامية والحوزات العلمية، أو قيماً مثالية يكال لها المديح والثناء في المناسبات والمحافل، إنما هي مسيرة ذات منهج وأهداف، والذي يتشرف بالانضواء تحت لوائها لابُد أن يتفانى بصدق في تمثلها سلوكاً عملياً متحركاً في ذاته، وثورة أخلاقية عامة تترسمها الجماعة المؤمنة سُنناً وأعرافاً ماثلة في البيت والشارع والمؤسسات المجتمعة المختلفة)[36]
17ـ الوضوح: «ويراد به أن يكون الباحث واضحاً في الهدف من البحث، خطوات البحث، نتائج البحث، فيبتعد عن الغموض، ويتجنب الانغلاق»[37]
وهكذا كان شهيدنا الصدر(قده) في عرضه لمختلف الموضوعات العلمية والثقافية، فقد كان مراعياً لمقتضى الحال، حيث يخاطب أهل الاختصاص بلغتهم، ويخاطب جمهور الأمة بلغتها، كما يخاطب الدارسين بما يناسبهم من الكم والكيف والمنهج…»
«ومن الواضح أن شهيدنا الكبير تحرك في مشروعه الفكري على أساس أنه لايكتب للنخبة المتعلمة تعليماً عالياً وذات التخصص الكبير، بل إنه كان يضع الأمة كلها في الحساب، فقدم مستويين من الفكر، الفكر الذي يخاطب النخبة، والفكر الذي يخاطب السواد الأعظم من المتعلمين، ومثلما خاطب الشهيد الصدر(قده) المسلمين، فإنه كان يخاطب الانسان الآخر ليقدم رؤية الاسلام لحل المشكلة الاجتماعية والايمانية المعاصرة».[38]
18ـ الشجاعة الأدبية: ونعني بالشجاعة الأدبية، الجرأة وعدم الخوف بالتصريح عن الحقائق في المجال العلمي والثقافي…
«وتتميز مدرسة الشهيد الصدر(قده) بالجرأة والأقدام في طرح الحقيقة والنظريات التي يتوصل الى إستنتاجها ولا يحاول إخفاءها خشية الرد عليها من المشهور، لأنه يعتقد أن الحقيقة العلمية لابُد أن يكشف النقاب عنها، واذا ما تجلت لأحد وجب عليه إبرازها الى حيّز الوجود، وان كان في ابرازها تخطئة للسلف والمشهور وذلك في كل المجالات التي بحثها السيد الصدر(قده)»[39]
ميثم الدباغ
[1]. الفكر الاسلامي، ص46، مؤسسة البلاغ.
[2]. الفكر الاسلامي، ص48، 52، مؤسسة البلاغ، بتصرف.
[3]. الأمام السيد الشهيد محمدباقر الصدر(قده)، ص98، محمد الحسيني.
[4]. محمدباقر الصدر(قده)، دراسات في حياته وفكره، ص129، نخبة من الباحثين.
[5]. دروس في علم الأصول، ج1، ص53ـ54، الشهيد الصدر(قده) المقدمة.
[6]. مجلة قضايا إسلامية، ع4، س1417، ص46.
[7]. الأمام السيد الشهيد محمدباقر الصدر(قده)، ص160ـ161، محمد الحسيني.
[8]. دروس في علم الأصول، ح1، ص50ـ51، الشهيد الصدر(قده) المقدمة.
[9]. مجلة قضايا إسلامية، ع3، س1417، ص15ـ16.
[10]. مجلة قضايا إسلامية، 34، ص1417، ص34.
[11]. إقتصادنا، ص421ـ422، الشهيد الصدر(قده).
[12]. د. الفضلي، أصول البحث، ص51.
[13]. الهاشمي، آية الله السيد محمود. مباحث الدليل اللفظي، ج1، ص9ـ10.
[14]. محمدباقر الصدر(قده)، دراسات في حياته وفكره، ص152ـ153، نخبة من الباحثين.
[15]. مجلة قضايا إسلامية، ع3، س1417، ص17.
[16]. محمدباقر الصدر(قده)، ص132ـ133، نخبة من الباحثين.
[17]. مجلة قضايا إسلامية، ع3، س1417هـ، ص43ـ44.
[18]. مجلة قضايا إسلامية، ع3، س1417، ص22.
[19]. محمدباقر الصدر(قده) دراسات في حياته وفكره. ص156ـ157، نخبة من الباحثين.
[20]. مجلة التوحيد، ع10، س1404هـ، ص145.
[21]. مباحث الدليل اللفظي، ج1، ص12 /آية الله السيد الهاشمي.
[22]. محمدباقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، ص124، نخبة من الباحثين.
[23]. مجلة الحوار الفكري، ع30ـ31، س1985، ص111.
[24]. مجلة التوحيد، ع88، س1418، ص178ـ179.
[25]. مجلة الفكر الجديد، ع17، س1419، ص274ـ289.
[26]. محمدباقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، ص119، نخبة فى الباحثين.
[27]. مباحث الدليل اللفظي، ج1، ص9، آية الله السيد محمود الهاشمي.
[28]. قضايا إسلامية، ع3، س1417، ص512.
[29]. مجلة قضايا إسلامية، ع4، س1417، ص507.
[30]. محمدباقر الصدر(قده)، دراسات في حياته وفكره، ص156، نخبة من الباحثين.
[31]. مباحث الدليل اللفظي، ج1، ص10، السيد محمود الهاشمي.
[32]. مباحث الدليل اللفظي، ج1، ص11ـ12، السيد محمود الهاشمي.
[33]. دروس في علم الأصول، ج1، الشهيد الصدر(قده)، المقدمة.
[34]. مجلة الفكر الاسلامي، ع18ـ19، س1418، ص126.
[35]. الأمام الشهيد السيد محمدباقر الصدر(قده)، ص83 ـ84، محمد الحسيني.
[36]. مجلة التوحيد، ع10، س1404هـ، ص140ـ148.
[37]. محمدباقر الصدر(قده)، دراسات في حياته وفكره، ص154، نخبة من الباحثين.
[38]. مجلة قضايا إسلامية، ع3، س1996، ص453.
[39]. الأمام السيد الشهيد(قده)، ص102ـ103، محمد الحسيني.